١ صموئيل ٢٢
داود في كهف عدلّام، وقتْل شاول للكهنة
أولًا. داود في كهف عدلّام.
أ ) الآية (١أ): محنة داود في عدلّام.
١فَذَهَبَ دَاوُدُ مِنْ هُنَاكَ وَنَجَا إِلَى مَغَارَةِ عَدُلَّامَ.
١. فَذَهَبَ دَاوُدُ مِنْ هُنَاكَ: مرّ داود بأمور كثيرة. إذ حصل على شهرة عالية فورية، وتزوج حديثًا، وتعرّض لأخطار من الفلسطيين ومحاولات متكررة لاغتياله. وكسر قلبه وداعه لصديقه يوناثان، واضطر إلى الابتعاد عن الحياة العادية ليحيا طريدًا لفترة لا يعلمها إلاّ الله. ثمّ مر بفترة قصيرة لكن مكثّفة من التراجع الروحي عاد بعدها عودة درامية إلى الرب الذي أنقذه من موقف هدد حياته.
٢. وَنَجَا إِلَى مَغَارَةِ عَدُلَّامَ: كان هذا مكان ملجأ. لم يكن باستطاعة داود أن يذهب إلى بيته، أو إلى القصر، أو إلى صموئيل، أو إلى يوناثان، أو إلى بيت الرب، أو إلى الوثنيين الفجّار. لكن كان بإمكانه الذهاب إلى كهف متواضع ليجد ملجأ فيه.
تعني كلمة عدلّام ’ملجأ.‘ لكن لم يُقصد له بأن يكون ملجأ داود. فالرب أراد أن يكون هو نفسه ملجأ لداود في هذا الوقت المحبط.
يعتقد معظم علماء الآثار أن كهف عدلّام لم يكن بعيدًا عن المكان الذي هزم فيه داود جليات في تلال اليهودية. ولم يملك داود إلا أن يفكر في المدى الذي قطعه من انتصاره العظيم إلى الهروب كمجرم مختبئ في كهف.
٣. مَغَارَةِ عَدُلَّامَ: عنوان المزمور ١٤٢ هو قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ لَمَّا كَانَ فِي ٱلْمَغَارَةِ. صَلَاةٌ. ولهذا يصف هذا المزمور قلب داود المحبط: “بِصَوْتِي إِلَى ٱلرَّبِّ أَصْرُخُ. بِصَوْتِي إِلَى ٱلرَّبِّ أَتَضَرَّعُ. أَسْكُبُ أَمَامَهُ شَكْوَايَ. بِضِيقِيْ قُدَّامَهُ أُخْبِرُ. عِنْدَ مَا أَعْيَتْ رُوحِي فِيَّ، وَأَنْتَ عَرَفْتَ مَسْلَكِي. فِي ٱلطَّرِيقِ ٱلَّتِي أَسْلُكُ أَخْفَوْا لِي فَخًّا. ٱنْظُرْ إِلَى ٱلْيَمِينِ وَأَبْصِرْ، فَلَيْسَ لِي عَارِفٌ. بَادَ عَنِّي ٱلْمَنَاصُ. لَيْسَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ نَفْسِي” (١٤٢: ١-٤).
٤. مَغَارَةِ عَدُلَّامَ: عنوان المزمور ٥٧ هو مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا هَرَبَ مِنْ قُدَّامِ شَاوُلَ فِي ٱلْمَغَارَةِ. ويصف هذا المزمور داود عندما قوّاه الرب وأَعَدَّه لِما هو قادم.
يبيّن المزمور ٥٧ قلب داود المتواضع: “اِرْحَمْنِي يَا ٱللهُ ٱرْحَمْنِي” (مزمور ٥٧: ١).
يصف المزمور ٥٧ قلب داود الموجّه نحو الصلاة: “أَصْرُخُ إِلَى ٱللهِ ٱلْعَلِيِّ، إِلَى ٱللهِ ٱلْمُحَامِي عَنِّي” (الآية ٢).
يصف المزمور ٥٧ قلب داود الواقعي: “نَفْسِي بَيْنَ ٱلْأَشْبَالِ … هَيَّأُوا شَبَكَةً لِخَطَوَاتِي” ( الآيتان ٤ و٦).
يصف المزمور ٥٧ قلب داود المسبّح للرب والواثق به: “أَحْمَدُكَ بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ، يَا رَبُّ. أُرَنِّمُ لَكَ بَيْنَ ٱلْأُمَمِ… ٱرْتَفِعِ ٱللَّهُمَّ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. لِيَرْتَفِعْ عَلَى كُلِّ ٱلْأَرْضِ مَجْدُكَ” (الآيات ٩، ٥، ١١).
أوصل الرب داود إلى هذه النقطة بينما كان ما زال في كهف عدلام. وغالبًا ما نعتقد أن علينا أن نخرج من الكهف حتى نحصل على قلب داود في المزمور ٥٧. لكن يمكننا الحصول عليه مهما كانت ظروفنا.
ب) الآيات (١ب-٢): آخرون يأتون إلى كهف عدلّام.
فَلَمَّا سَمِعَ إِخْوَتُهُ وَجَمِيعُ بَيْتِ أَبِيهِ نَزَلُوا إِلَيْهِ إِلَى هُنَاكَ. ٢وَٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ كُلُّ رَجُلٍ مُتَضَايِقٍ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَكُلُّ رَجُلٍ مُرِّ ٱلنَّفْسِ، فَكَانَ عَلَيْهِمْ رَئِيسًا. وَكَانَ مَعَهُ نَحْوُ أَرْبَعِ مِئَةِ رَجُلٍ.
١. فَلَمَّا سَمِعَ إِخْوَتُهُ وَجَمِيعُ بَيْتِ أَبِيهِ نَزَلُوا إِلَيْهِ إِلَى هُنَاكَ: أولًا، جاءت عائلة داود إليه. فكان قدومهم هذا هبة ثمينة من الله، لأنه سبق أن عانى من مشكلات واضطهاد من أبيه وإخوته (١ صموئيل ١٦: ١١ و١ صموئيل ١٧: ٢٨). وها هم ينضمون إليه في كهف عدلّام.
٢. وَٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ كُلُّ رَجُلٍ مُتَضَايِقٍ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَكُلُّ رَجُلٍ مُرِّ ٱلنَّفْسِ: دعا الله مجموعة غير متوقعة وفريدة إلى المجيء إلى كهف عدلّام. لم يكن هولاء الأشخاص الذين يمكن أن يختارهم داود لنفسه، لكنهم الرجال الذين دعاهم الله لينضموا إلى داود.
كان هؤلاء الرجال في ضيق (كُلُّ رَجُلٍ مُتَضَايِقٍ). لم تكن حياتهم سهلة ولم يكونوا معًا. وكانت لديهم مشكلاتهم الخاصة، لكنهم الرجال الذين دعاهم الله لينضموا إلى داود في كهف عدلّام.
كانوا مديونين (كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ). لم يحرزوا نجاحًا كبيرًا في الماضي، وقد صُعقوا من إخفاقات الماضي. وكانت لديهم مشكلاتهم الخاصة، لكنهم الرجال الذين دعاهم الله لينضموا إلى داود في كهف عدلّام.
كان هؤلاء الرجال ساخطين، أو مُرّي النفس، أي أنهم عرفوا مرارة الحياة، ولم يكونوا قانعين بحياتهم أو بالملك شاول. أرادوا شيئًا مختلفًا، شيئًا أفضل. فدعاهم الله إلى الانضمام إلى داود في كهف عدلّام.
جاء كل هؤلاء الرجال إلى داود عندما كان محبطًا ومطاردًا ومحتقرًا. وحالما يصل داود إلى العرش، سيريد كثيرون أن يكونوا إلى جواره، لكن مجد هؤلاء الرجال – وهم حوالي ٤٠٠ رجل – هو أنهم جاءوا إلى داود في الكهف.
“كان هؤلاء الرجال الذين جاءوا إلى داود في ضيق، ومفلسين، وساخطين. وهذا هو نوع الأشخاص الذين يأتون إلى المسيح. وهم الوحيدون الذين يأتون إليه، لأنهم أدركوا ضيقهم وإفلاسهم وعدم رضاهم. إذ تدفعهم الضغوط الهائلة الناتجة عن هذه الإحباطات إلى اللجوء إلى دم المسيح الذي سُفك من أجلهم.” ريدباث (Redpath)
٣. فَكَانَ عَلَيْهِمْ رَئِيسًا: لم يكونوا غوغاء، بل كانوا فريقًا في حاجة إلى قائد. فصار داود عَلَيْهِمْ رَئِيسًا. فلا يعمل الله من خلال الغوغاء. فهو يعمل من خلال رجال ونساء دعاهم، لكنه يدعو آخرين إلى الوقوف بجانبهم.
نَحْوُ أَرْبَعِ مِئَةِ رَجُلٍ: كانوا يائسين في ذلك الوقت. كانت هذه بداية متينة لجيش متمرد لو أراد داود له أن يكون كذلك. ويمكن للقائد غير المحكوم بالمبادئ أن يحوّل هؤلاء الرجال الأربع مئة إلى عصابة من المتمردين والسفّاحين. لكن داود لم يسمح بأن يصبحوا جيشًا متمردًا ضد الملك شاول.
جاء هؤلاء الرجال إلى داود وهم متضايقون ومديونون وساخطون. لكنهم لم يبقوا هكذا. فقد حوّلهم إلى نوع الرجال الذين تصفهم ١ أخبار ١٢: ٨: “جَبَابِرَةُ ٱلْبَأْسِ رِجَالُ جَيْشٍ لِلْحَرْبِ، صَافُّو أَتْرَاسٍ وَرِمَاحٍ، وُجُوهُهُمْ كَوُجُوهِ ٱلْأُسُودِ، وَهُمْ كَٱلظَّبْيِ عَلَى ٱلْجِبَالِ فِي ٱلسُّرْعَةِ.”
٤. وَكَانَ مَعَهُ نَحْوُ أَرْبَعِ مِئَةِ رَجُلٍ: كان داود هو الممسوح من الله ليكون الملك التالي على إسرائيل، وأصبح أعظم ملك بشري عليها. لكن كما دعا الله داود، كذلك دعا هؤلاء ليقفوا بجانبه.
كل مبدأ مهم. فالمبدأ القائل إن الله يقود من خلال رجل مدعو وممسوح مهم. فعندما كان لا بد من بناء فُلك، لم يدعُ الله أربع مئة رجل، أو لجنة. ومرة أخرى، وحسب كلمة الله، فإن عمل الله يقاد من رجل مدعو وممسوح.
وفي الوقت نفسه، فإن المبدأ القائل إن الله نادرًا ما يدعو رجلًا ليعمل وحده مهم أيضًا. فقد احتاج داود الرجال الأربع مئة، حتى ولو لم يفكر في هذا من قبل. فهم مدعوون وممسوحون مثل داود تمامًا، لكنهم مدعوون وممسوحون ليتبعوه ويدعموه. وهو مدعو وممسوح ليقودهم.
كان لداود أتباعه، وكذلك كان ليسوع المسيح، ابن داود، أتباعه: “هل ترى الحقيقة التي تمثّلها هذه القصة من العهد القديم كصورة حية؟ فكما كان الحال في زمن داود، كذلك فإن هنالك ملكًا إلهيًّا في السبي الآن يجمع حوله صُحبة من أشخاص متضايقين ومديونين وغير راضين. وهو يدرّبهم ويُعِدهم لذلك الوقت الذي سيملك فيه على الأرض.” ريدباث (Redpath)
ج) الآيات (٣-٤): داود يهتم بوالديه.
٣وَذَهَبَ دَاوُدُ مِنْ هُنَاكَ إِلَى مِصْفَاةِ مُوآبَ، وَقَالَ لِمَلِكِ مُوآبَ: «لِيَخْرُجْ أَبِي وَأُمِّي إِلَيْكُمْ حَتَّى أَعْلَمَ مَاذَا يَصْنَعُ لِيَ ٱللهُ». ٤فَوَدَعَهُمَا عِنْدَ مَلِكِ مُوآبَ، فَأَقَامَا عِنْدَهُ كُلَّ أَيَّامِ إِقَامَةِ دَاوُدَ فِي ٱلْحِصْنِ.
١. وَقَالَ لِمَلِكِ مُوآبَ: «لِيَخْرُجْ أَبِي وَأُمِّي إِلَيْكُمْ: أخذ داود أبويه إلى موآب، لأن جدته لأبيه، راعوث، كانت موآبية (راعوث ٤: ١٨-٢٢؛ ١: ٤). فأراد أن يكونا آمنين في أية معارك يمكن أن يواجهها مستقبلًا.
٢. لِيَخْرُجْ أَبِي وَأُمِّي إِلَيْكُمْ حَتَّى أَعْلَمَ مَاذَا يَصْنَعُ لِيَ ٱللهُ: لم يعرف داود القصة بأكملها. فقد عرف أن الله دعاه ومسحه ليكون ملك إسرائيل التالي. لكن لم تكن لديه أدنى فكرة كيف سيوصله الله إلى هناك. فكان عليه أن يثق ويطيع، مع أنه لا يعرف ما سيفعله الله.
د ) الآية (٥): النبي جاد يوصل رسالة إلى داود.
٥فَقَالَ جَادُ ٱلنَّبِيُّ لِدَاوُدَ: «لَا تُقِمْ فِي ٱلْحِصْنِ. ٱذْهَبْ وَٱدْخُلْ أَرْضَ يَهُوذَا». فَذَهَبَ دَاوُدُ وَجَاءَ إِلَى وَعْرِ حَارِثٍ.
١. فَقَالَ جَادُ ٱلنَّبِيُّ لِدَاوُدَ: تمتّع داود بدعم وعون من الأنبياء. لكن تعامل شاول مع الأنبياء (مثل صموئيل) كان سلبيًّا دائمًا تقريبًا، لأنه كان يقاوم كلمة الله، بينما كان داود يقبلها.
٢. ٱذْهَبْ وَٱدْخُلْ أَرْضَ يَهُوذَا: أشار النبي جاد على داود أن يترك حصنه ويرجع إلى نفس حصن شاول. ولعل هذا هو ما لم يُرِد داود أن يسمعه، لكنه أطاع على أية حال. فكان على داود أن يتعلم الثقة بالله في وسط الخطر، لا على الجانب الثاني من الخطر.
“وبهذا يدرّب الله إيمان داود وحكمته وشجاعته. وبهذا يُعِدّه للمملكة، ويدعم سمعته ويعززها بين الشعب.” بوله (Poole)
ثانيًا. شاول يقتل الكهنة
أ ) الآيات (٦-٨): شاول يحس بالشفقة على نفسه، ويتهم مساعديه بالخيانة.
٦وَسَمِعَ شَاوُلُ أَنَّهُ قَدِ ٱشْتَهَرَ دَاوُدُ وَٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ مَعَهُ. وَكَانَ شَاوُلُ مُقِيمًا فِي جِبْعَةَ تَحْتَ ٱلْأَثْلَةِ فِي ٱلرَّامَةِ وَرُمْحُهُ بِيَدِهِ، وَجَمِيعُ عَبِيدِهِ وُقُوفًا لَدَيْهِ. ٧فَقَالَ شَاوُلُ لِعَبِيدِهِ ٱلْوَاقِفِينَ لَدَيْهِ: «ٱسْمَعُوا يَا بَنْيَامِينِيُّونَ: هَلْ يُعْطِيكُمْ جَمِيعَكُمُ ٱبْنُ يَسَّى حُقُولًا وَكُرُومًا؟ وَهَلْ يَجْعَلُكُمْ جَمِيعَكُمْ رُؤَسَاءَ أُلُوفٍ وَرُؤَسَاءَ مِئَاتٍ، ٨حَتَّى فَتَنْتُمْ كُلُّكُمْ عَلَيَّ، وَلَيْسَ مَنْ يُخْبِرُنِي بِعَهْدِ ٱبْنِي مَعَ ٱبْنِ يَسَّى، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ يَحْزَنُ عَلَيَّ أَوْ يُخْبِرُنِي بِأَنَّ ٱبْنِي قَدْ أَقَامَ عَبْدِي عَلَيَّ كَمِينًا كَهَذَا ٱلْيَوْمِ؟
١. قَدِ ٱشْتَهَرَ دَاوُدُ وَٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ مَعَهُ: عندما كان داود مختبئًا وحده من شاول، كان بإمكانه أن يبقى كذلك فترة طويلة. لكن لا تستطيع أن تخبئ ٤٠٠ رجل. فعندما رجع داود إلى اليهودية، اكتشفته شبكة المخبرين العاملة لدى شاول بسرعة.
٢. وَرُمْحُهُ بِيَدِهِ، وَجَمِيعُ عَبِيدِهِ وُقُوفًا لَدَيْهِ. فَقَالَ شَاوُلُ لِعَبِيدِهِ ٱلْوَاقِفِينَ لَدَيْهِ: عندما كان يحمل شاول رمحًا في يده، عنى هذا في العادة أنه سيحاول أن يؤذي أحدًا.
٣. هَلْ يُعْطِيكُمْ جَمِيعَكُمُ ٱبْنُ يَسَّى حُقُولًا وَكُرُومًا؟: احتكم شاول إلى ما هو أسوأ في هؤلاء الرجال، سائلًا إن كان انضمام أي رجل منهم سيؤمّن له الغنى والامتيازات التي يقدمها له شاول نفسه الآن.
لاحظ أيضًا كيف أشار شاول إلى داود بلقب: ’ٱبْنُ يَسَّى.‘ لم يقل ’الرجل الذي قتل جليات‘ أو ’الرجل الذي قتل ٢٠٠ فلسطيي‘ أو ’الرجل الذي مسحه الله.‘ عرف شاول أن داود جاء من عائلة من المزارعين البسطاء، لذلك دعاه بأكثر الأسماء تواضعًا التي يمكن أن نخطر بباله – ٱبْنُ يَسَّى.
٤. فَتَنْتُمْ (تآمرتم) كُلُّكُمْ عَلَيَّ… وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ يَحْزَنُ عَلَيَّ: في عالم شاول الجسدي المتمحور حول الذات، كان كل شيء يدور حوله. وصار مريضًا بالارتياب والتذمر الدائم، ومارس قيادته من خلال إشعار الآخرين بالذنب والاتهامات.
٥. ٱبْنِي قَدْ أَقَامَ عَبْدِي عَلَيَّ: لم يفعل يوناثان أي شيء مما يتهمه أبوه به. لكن شاول لم يقبل حقيقة أن يوناثان وداود كانا على حق وأنه على خطأ.
ب) الآيات (٩-١٠): دواغ يخبر شاول عن أخيمالك وداود.
٩أَجَابَ دُوَاغُ ٱلْأَدُومِيُّ ٱلَّذِي كَانَ مُوَكَّلًا عَلَى عَبِيدِ شَاوُلَ وَقَالَ: «قَدْ رَأَيْتُ ٱبْنَ يَسَّى آتِيًا إِلَى نُوبَ إِلَى أَخِيمَالِكَ بْنِ أَخِيطُوبَ. ١٠فَسَأَلَ لَهُ مِنَ ٱلرَّبِّ وَأَعْطَاهُ زَادًا. وَسَيْفَ جُلْيَاتَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ.
١. أَجَابَ دُوَاغُ ٱلْأَدُومِيُّ: رأينا هذا الرجل آخر مرة في ١ صموئيل ٢١: ٧ في نوب في خيمة الاجتماع في نفس الوقت الذي جاء فيه داود.
٢. فَسَأَلَ لَهُ مِنَ ٱلرَّبِّ وَأَعْطَاهُ زَادًا. وَسَيْفَ جُلْيَاتَ: ورّط دواغ الكاهن أخيمالك كشريك لداود: “انظر إلى كل العون الذي قدمه أخيمالك إلى داود. لا شك أنهما يعملان معًا ضدك، أيها الملك. ومن المرجح أن أخيمالك يعرف مكان داود وأين سيذهب.”
كان دواغ أكثر من مجرد رجل طموح يتطلع إلى ترقية نفسه، وعرف كيف يحوّل غضب شاول على رجاله وارتيابه إلى أخيمالك والكهنة.
ج) الآيات (١١-١٥): شاول يتهم أخيمالك بالتآمر عليه مع داود.
١١فَأَرْسَلَ ٱلْمَلِكُ وَٱسْتَدْعَى أَخِيمَالِكَ بْنَ أَخِيطُوبَ ٱلْكَاهِنَ وَجَمِيعَ بَيْتِ أَبِيهِ ٱلْكَهَنَةَ ٱلَّذِينَ فِي نُوبٍ، فَجَاءُوا كُلُّهُمْ إِلَى ٱلْمَلِكِ. ١٢فَقَالَ شَاوُلُ: «ٱسْمَعْ يَا ٱبْنَ أَخِيطُوبَ». فَقَالَ: «هَأَنَذَا يَا سَيِّدِي». ١٣فَقَالَ لَهُ شَاوُلُ: «لِمَاذَا فَتَنْتُمْ عَلَيَّ أَنْتَ وَٱبْنُ يَسَّى بِإِعْطَائِكَ إِيَّاهُ خُبْزًا وَسَيْفًا، وَسَأَلْتَ لَهُ مِنَ ٱللهِ لِيَقُومَ عَلَيَّ كَامِنًا كَهَذَا ٱلْيَوْمِ؟». ١٤فَأَجَابَ أَخِيمَالِكُ ٱلْمَلِكَ وَقَالَ: «وَمَنْ مِنْ جَمِيعِ عَبِيدِكَ مِثْلُ دَاوُدَ، أَمِينٌ وَصِهْرُ ٱلْمَلِكِ وَصَاحِبُ سِرِّكَ وَمُكَرَّمٌ فِي بَيْتِكَ؟ ١٥فَهَلِ ٱلْيَوْمَ ٱبْتَدَأْتُ أَسْأَلُ لَهُ مِنَ ٱللهِ؟ حَاشَا لِي! لَا يَنْسِبِ ٱلْمَلِكُ شَيْئًا لِعَبْدِهِ وَلَا لِجَمِيعِ بَيْتِ أَبِي، لِأَنَّ عَبْدَكَ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ كُلِّ هَذَا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا.
١. هَأَنَذَا يَا سَيِّدِي: أجاب أخيمالك بصدق رجل مرتاح الضمير. فقال ببساطة وصدق: ’لَا يَنْسِبِ ٱلْمَلِكُ شَيْئًا لِعَبْدِهِ.‘
واصل شاول في جنون ارتيابه، واتّهم أخيمالك وداود بالتآمر عليه: ’فَتَنْتُمْ عَلَيَّ أَنْتَ وَٱبْنُ يَسَّى.‘ وظنّ أن داود يحاول قتله – لِيَقُومَ عَلَيَّ كَامِنًا كَهَذَا ٱلْيَوْمِ. نظر شاول إلى نفسه كضحية واعتقد أن داود وأخيمالك عازمان على قتله.
٢. لِأَنَّ عَبْدَكَ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ كُلِّ هَذَا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا: كان أخيمالك صادقًا في ما قاله. فعندما جاء داود إلى أخيمالك، استجوبه أخيمالك بعناية، وسأل عن سبب مجيئه وحيدًا (١ صموئيل ٢١: ١). لكن داود كذب عليه بدلًا من أن يخبره الحقيقة، فوضع هذا أخيمالك في وضع ضعيف للغاية.
لم يكن أخيمالك مدركًا لكراهية شاول تجاه داود، فامتدحه أمام الملك: “وَمَنْ مِنْ جَمِيعِ عَبِيدِكَ مِثْلُ دَاوُدَ، أَمِينٌ وَصِهْرُ ٱلْمَلِكِ وَصَاحِبُ سِرِّكَ وَمُكَرَّمٌ فِي بَيْتِكَ؟” لأن داود أخبر أخيمالك أنه في مأمورية كلّفه بها الملك، بينما كان هاربًا منه للنجاة بحياته (١ صموئيل ٢١: ٢).
د ) الآيات (١٦-١٩): شاول يأمر بإعدام الكهنة وعائلاتهم على يد دواغ الأدومي.
١٦فَقَالَ ٱلْمَلِكُ: «مَوْتًا تَمُوتُ يَا أَخِيمَالِكُ أَنْتَ وَكُلُّ بَيْتِ أَبِيكَ». ١٧وَقَالَ ٱلْمَلِكُ لِلسُّعَاةِ ٱلْوَاقِفِينَ لَدَيْهِ: «دُورُوا وَٱقْتُلُوا كَهَنَةَ ٱلرَّبِّ، لِأَنَّ يَدَهُمْ أَيْضًا مَعَ دَاوُدَ، وَلِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ هَارِبٌ وَلَمْ يُخْبِرُونِي». فَلَمْ يَرْضَ عَبِيدُ ٱلْمَلِكِ أَنْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ لِيَقَعُوا بِكَهَنَةِ ٱلرَّبِّ. ١٨فَقَالَ ٱلْمَلِكُ لِدُوَاغَ: «دُرْ أَنْتَ وَقَعْ بِٱلْكَهَنَةِ». فَدَارَ دُوَاغُ ٱلْأَدُومِيُّ وَوَقَعَ هُوَ بِٱلْكَهَنَةِ، وَقَتَلَ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ خَمْسَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا لَابِسِي أَفُودِ كَتَّانٍ. ١٩وَضَرَبَ نُوبَ مَدِينَةَ ٱلْكَهَنَةِ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ. ٱلرِّجَالَ وَٱلنِّسَاءَ وَٱلْأَطْفَالَ وَٱلرُّضُعَ وَٱلثِّيرَانَ وَٱلْحَمِيرَ وَٱلْغَنَمَ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ.
١. مَوْتًا تَمُوتُ يَا أَخِيمَالِكُ أَنْتَ وَكُلُّ بَيْتِ أَبِيكَ: لا يستطيع أي رجل في مكان الخطية والتمرد الذي كان فيه شاول أن يحتمل رجلًا بريئًا بلا أي ذنب، مثل أخيمالك، يختلف معه. ولهذا أمر بقتله.
سبق أن تردد شاول في قتل أعداء الرب عندما أُمر بذلك (١ صموئيل ١٥: ٩). لكنه لم يتردد في قتل كهنة الرب بدم بارد. ومن الواضح أن شاول سيمضي إلى آخر المشوار. “كان غضبه موجهًا ضد الرب نفسه على انتزاع المملكة منه وإعطائها لآخر. ولأنه لم يستطع إلى الوصول إلى الرب نفسه، نفَّس عن غضبه في كهنته.” تراب (Trapp)
هذا هو أسوأ أعمال شاول على الإطلاق في حياته، حيث كان حقده عنيدًا، وغضبه شديدًا، من دون أن يكون فيه دافع إلى العدالة أو السياسة يمكن أن يبرر به مثل هذا العمل.” كلارك (Clarke) “هذا حكم دموي تمّ النطق به بقسوة، وتنفيذه بتهور، من دون أي توقف أو تفكير أو مداولات، ومن دون أي ندم أو أسف. كان هذا أسوأ عمل قام به شاول في حياته.” تراب (Trapp)
٢. فَلَمْ يَرْضَ عَبِيدُ ٱلْمَلِكِ أَنْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ لِيَقَعُوا بِكَهَنَةِ ٱلرَّبِّ: يُحسب لخدام الملك أنهم خافوا الرب أكثر من خوفهم من الملك شاول. فرفضوا أن يقتلوا الكهنة.
٣. فَدَارَ دُوَاغُ ٱلْأَدُومِيُّ وَوَقَعَ هُوَ بِٱلْكَهَنَةِ: لم يتردد دواغ، الذي لم يكن يهوديًّا بل أدوميًّا، في قتل كهنة الرب وعائلاتهم. لقد ذهب إلى خيمة الاجتماع للوفاء بنذر ما، لكن هذا لم يغير قلبه على الإطلاق. (١ صموئيل ٢١: ٧).
هـ) الآيات (٢٠-٢٣): داود يحمي أبياثار، الناجي الوحيد من عائلة أخيمالك.
٢٠فَنَجَا وَلَدٌ وَاحِدٌ لِأَخِيمَالِكَ بْنِ أَخِيطُوبَ ٱسْمُهُ أَبِيَاثَارُ وَهَرَبَ إِلَى دَاوُدَ. ٢١وَأَخْبَرَ أَبِيَاثَارُ دَاوُدَ بِأَنَّ شَاوُلَ قَدْ قَتَلَ كَهَنَةَ ٱلرَّبِّ. ٢٢فَقَالَ دَاوُدُ لِأَبِيَاثَارَ: “عَلِمْتُ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ كَانَ دُوَاغُ ٱلْأَدُومِيُّ هُنَاكَ، أَنَّهُ يُخْبِرُ شَاوُلَ. أَنَا سَبَّبْتُ لِجَمِيعِ أَنْفُسِ بَيْتِ أَبِيكَ. ٢٣أَقِمْ مَعِي. لَا تَخَفْ، لِأَنَّ ٱلَّذِي يَطْلُبُ نَفْسِي يَطْلُبُ نَفْسَكَ، وَلَكِنَّكَ عِنْدِي مَحْفُوظٌ.”
١. عَلِمْتُ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ كَانَ دُوَاغُ ٱلْأَدُومِيُّ هُنَاكَ، أَنَّهُ يُخْبِرُ شَاوُلَ: بيّنَ داود شعوره حول هذا الأمر في المزمور ٥٢ المعنون “قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا جَاءَ دُوَاغُ اَلْأَدُومِيُّ وَأَخْبَرَ شَاوُلَ وَقَالَ لَهُ: «جَاءَ دَاوُدُ إِلَى بَيْتِ أَخِيمَالِكَ”.
بيّن داود في مزمور ٥٢ غضبه على دواغ: “مَاذَا تَفْتَخِرُ بِٱلشَّرِّ أَيُّهَا ٱلْجَبَّارُ؟ … لِسَانُكَ يَخْتَرِعُ مَفَاسِدَ. كَمُوسَى مَسْنُونَةٍ يَعْمَلُ بِٱلْغِشِّ. أَحْبَبْتَ ٱلشَّرَّ أَكْثَرَ مِنَ ٱلْخَيْرِ، ٱلْكَذِبَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلتَّكَلُّمِ بِٱلصِّدْقِ. سِلَاهْ. أَحْبَبْتَ كُلَّ كَلَامٍ مُهْلِكٍ، وَلِسَانِ غِشٍّ” (مزمور ٥٢: ١أ-٢-٤).
بيّن داود في مزمور ٥٢ دينونات الله العادلة: “أَيْضًا يَهْدِمُكَ ٱللهُ إِلَى ٱلْأَبَدِ. يَخْطَفُكَ وَيَقْلَعُكَ مِنْ مَسْكَنِكَ، وَيَسْتَأْصِلُكَ مِنْ أَرْضِ ٱلْأَحْيَاءِ.”
بيّن داود في مزمور ٥٢ تركيزه على الرب: “أَمَّا أَنَا فَمِثْلُ زَيْتُونَةٍ خَضْرَاءَ فِي بَيْتِ ٱللهِ. تَوَكَّلْتُ عَلَى رَحْمَةِ ٱللهِ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلْأَبَدِ. أَحْمَدُكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ لِأَنَّكَ فَعَلْتَ، وَأَنْتَظِرُ ٱسْمَكَ فَإِنَّهُ صَالِحٌ قُدَّامَ أَتْقِيَائِكَ” (مزمور ٥٢: ٨-٩).
٢. أَنَا سَبَّبْتُ لِجَمِيعِ أَنْفُسِ بَيْتِ أَبِيكَ: قال داود هذا بمعنيين: فبطريقة أكبر، كان مجرد وجود داود مع أخيمالك جعله مذنبًا أمام شاول. ولم يكن هنالك شيء يستطيع أن يفعله داود أو أي شيء آخر تجاه هذا الأمر. وبطريقة أقل، جعل كذب داود على أخيمالك ضعيفًا أمام شاول.
لم تكن أكاذيب داود هي التي تسببت في موت أخيمالك والكهنة الآخرين. لكنها على الأقل منعت أخيمالك من أن يموت بشرف أكبر. فلو كان داود أخبر أخيمالك الحقيقة كلها حول الصراع بينه وبين داود، لوقف بجانبه ومات بشرف أكبر.
نحن نعرف من سفري صموئيل الأول والمزامير أن داود عاد بقلبه إلى الرب، وطلب الغفران على أكاذيبه لأخيمالك، فاسترده الله. لكن ظلت هنالك ثمار سيئة لتلك الأكاذيب. وها هو الآن يراها ويتذوقها.