تفسير سفر المزامير – مزمور ١٢٧
عمل الرب في بناء البيوت والعائلات والمدن
عنوان هذا المزمور تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ – لِسُلَيْمَانَ. يعتقد معظمهم أن سليمان هو كاتب هذا المزمور، لكن من الممكن أن داود هو الذي كتبه لسليمان. وهنا يُعَد سليمان صاحب المزمور.
“نتجت قوة الشعب العبري في الماضي، وما تبَقّى منه اليوم، إلى حد كبير عن الإحساس القوي الثمين بأهمية البيت والعائلة. والعائلة والمدينة والعمل أمور مهمة للحفاظ على قوة العائلة.” مورجان (Morgan)
أولًا. بركة على الحياة اليومية
أ ) الآية (١): عمل الله في البناء والحراسة.
١إِنْ لَمْ يَبْنِ ٱلرَّبُّ ٱلْبَيْتَ، فَبَاطِلًا يَتْعَبُ ٱلْبَنَّاؤُونَ. إِنْ لَمْ يَحْفَظِ ٱلرَّبُّ ٱلْمَدِينَةَ، فَبَاطِلًا يَسْهَرُ ٱلْحَارِسُ.
١. إِنْ لَمْ يَبْنِ ٱلرَّبُّ ٱلْبَيْتَ: فهمَ سليمان أن لعمل الإنسان مكانه، لكنه لن يكون ذا فائدة كبيرة من دون عمل الله وبركته. ففي هذه الحالة، بَاطِلًا يَتْعَبُ ٱلْبَنَّاؤُونَ.
· “ما من بناء لبيت ينجح إن كان يسقط من حسابه الله. لقد رأينا رجالًا يبنون بيوتًا بعناية فائقة وبتكلفة عالية، لتنتهي إلى الانهيار والتمزق، لأن الله نُسِي فيها.” مورجان (Morgan)
· “كما يقول شعار لاتيني Nisi Dominus frusta وهو مأخوذ من الكلمات الأولى من المزمور. وهو يعني ’من دون الرب، إحباط.‘ وهو شعار مدينة أدنبرة في اسكتلندا وهو يظهر على شارتها، وهو مثبت على الوثائق الرسمية للمدينة. ويمكن أن يرتبط بحياة كثيرين يحاولون أن يحيوا حياتهم من دون العليّ.” بويس (Boice)
· من الممكن أن يكون البيت المبني هنا هو العائلة. “ربما يدل هذا أيضًا على إنشاء عائلة، وبشكل خاص لأن هذا القسم يسبق وحدة يتم فيها توكيد العائلة كمكافأة من الرب (الآيات ٣-٥). ومن المعتاد الحديث في العهد القديم عن عائلة كبيت حتى لو كنت تتحدث عن عائلة بارزة كسلالة.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “إنها لحقيقة أن كلمة ابن Ben وابنة Bath وبيت Beith كلها مأخوذة من جذر كلمة ’بنى‘ Banah لأن الأبناء والبنات يبنون البيت ويشكلون عائلة، كما تشكل الأحجار والأخشاب بناية.” كلارك (Clarke)
٢. إِنْ لَمْ يَحْفَظِ ٱلرَّبُّ ٱلْمَدِينَةَ، فَبَاطِلًا يَسْهَرُ ٱلْحَارِسُ: للحارس دوره، وينبغي أن يكون يقظًا. لكن عمل الله وبركته ضروريان لحراسة المدينة.
٣. يَبْنِ ٱلرَّبُّ … يَحْفَظِ ٱلرَّبُّ ٱلْمَدِينَةَ: إنه لأمر ذو معنى أن سليمان هو كاتب هذا المزمور، لأنه عرف ما معنى أن يُبنى بيت وتُحرَس مدينة. لقد فهِمَ سليمان الحكيم أنه رغم أن الله يرحّب بجهد الإنسان ومشاركته، بل أمر بهذا، إلا أن عمل الرب وبركته أكثر أهمية.
· “سيكون أمرًا رائعًا أن تُحفر هذه الكلمات على الجرانيت وتعلّق على مدخل كل بيوتنا، وأن تُنقش بالذهب في أماكن لقاء أولئك الذين في السلطة المدنية. لكن أفضل من هذا هو أن تُكتب في قلوب الذين يصنعون البيوت ويحرسون المدن ويديرونها.” مورجان (Morgan)
· “لاحظْ أن صاحب المزمور لا يطلب من الباني أن يتوقف عن العمل، ولا يقترح على الحراس أن يهملوا المدينة، ولا أن يُظهر الناس ثقتهم بالله بعدم القيام بأي شيء. لا، بل يفترض أنهم سيفعلون كل ما بوسعهم، من دون أن يضعوا ثقتهم في ما فعلوه. وهو يؤكد أن كل جهود المخلوق ستذهب سُدى إذا لم يُبْدِ الخالق قوته.” سبيرجن (Spurgeon)
· “وفوق هذا كله، ينبغي لأولئك الذين يعملون في البِناء أو الدفاع عن بيت الله الروحي ومدينته، أن يتوسلوا النعمة والبركة الإلهيتين.” هورن (Horne)
ب) الآية (٢): بطلان الاعتماد على قوة الإنسان.
٢بَاطِلٌ هُوَ لَكُمْ أَنْ تُبَكِّرُوا إِلَى ٱلْقِيَامِ، مُؤَخِّرِينَ ٱلْجُلُوسَ، آكِلِينَ خُبْزَ ٱلْأَتْعَابِ. لَكِنَّهُ يُعْطِي حَبِيبَهُ نَوْمًا.
١. بَاطِلٌ هُوَ لَكُمْ أَنْ تُبَكِّرُوا: نحن نفهم أن سليمان لم ينتقد العمل الجاد، لأنه يمتدح في عدة أمثال له العامل الجاد ذاك الذي يبكّر إلى العمل (
أمثال ٦: ٦-١١). ونحن نفهم من أول آية من هذا المزمور أن سليمان يشير إلى الثقة التي يضعها كثيرون في عملهم الشاق والقلق الذي يُظهر اعتمادهم على الذات، لا على الله. آكِلِينَ خُبْزَ ٱلْأَتْعَابِ.
· هُوَ لَكُمْ: “يوجّه المرنم خطابه إلى الأشخاص المذكورين سابقًا – البنّائين والحراس. إذ يستخدم كثيرون في هاتين الفئتين المسار التالي.” بوله (Poole)
· “لكن صاحب المزمور يشجب هذا على أنه أسلوب حياة أدنى إن كان العمل الشاق هو لغرض توفير الطعام اليومي والملبس للمرء والعائلة. وتبدأ طريق الحياة الأسمى بالثقة بالرب في عمل المرء.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “لا تعني الساعات الطويلة عملًا مزدهرًا. إذ يمكن تأجيل وجبة المساء إلى ساعة متأخرة. وعندما يجلس الشخص الذي هدَّهُ التعب ليتناول العشاء، يمكن أن يأكل طعامًا صار مرًّا بسبب كدحه. لكن كل شيء باطل من دون بركة الله.” ماكلارين (Maclaren)
· خُبْزَ ٱلْأَتْعَابِ (الأحزان): “إنه عيش حياة من البؤس والكدح والنكد بسبب خيبات الأمل، ونهْش الحسد للنفس بسبب تقدم الآخرين، والابتلاء بالخسائر والأخطاء. فلا توجد نهاية لأتعابهم.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن مانتون (Manton)
٢. لَكِنَّهُ يُعْطِي حَبِيبَهُ نَوْمًا: يعاني المبتلون بالاعتماد على عملهم الخاص من القلق المصاحب لذلك. وبركة الله هي التي تعطي حبيبه نومًا. ويمكن أن يكونوا في سلام، عارفين أن يد الله تعمل، وأن عينه تراقب حتى عندما ينامون.
· حَبِيبَهُ: “هذا تلميح إلى اسم سليمان الآخر، ياديديا، حبيب الله.” تراب (Trapp)
· “ربما تكون هنالك إشارة ملغزة هنا إلى سليمان نفسه في تعبير ’حبيبه‘ (الآية ٢). ففي العبرية، فإن هذا التعبير في واقع الأمر هو الاسم الذي أعطاه الله لسليمان في
٢ صموئيل ١٢: ٢٥. وتعني كلمة ياديديا ’حبيب الرب.‘” بويس (Boice)
· نَوْمًا: “ذهب الهمّ والقلق! دعني أرتحْ، أيها الإيمان العذب والرجاء، وأغمض عيني وأهدِّئ قلبي. يا يسوع، أعطِني نومًا، وفي نومي أعطِني سؤل قلبي، ألا وهو أن أستيقظ مُشْبَعًا بك.” ميير (Meyer)
ثانيًا. بركة على العائلة
“تجري جهود البشر أولًا في بناء البيوت والمدن، ثم في دراسة ممتلكاتهم وتأمينها، لا بنظرة إلى أنفسهم وحدهم، بل إلى عائلاتهم التي سيقيمونها ويديمونها.” هورن (Horne)
أ ) الآية (٣): مكافأة البنين.
٣هُوَذَا ٱلْبَنُونَ مِيرَاثٌ مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ، ثَمَرَةُ ٱلْبَطْنِ أُجْرَةٌ.
١. هُوَذَا ٱلْبَنُونَ مِيرَاثٌ مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ: وضع سليمان في اعتباره حكمة الثقة بالله في بناء البيت (الآية ١)، لكنه فهم أيضًا أن البيت لا يُبنى بالطوب والأخشاب فقط. ولهذا دعا الجميع إلى أن ينظروا (هُوَذَا) كيف أن البنين بركة.
· “قد يسأل اليهودي: لماذا يُبنى البيت إن لم يُبنَ من أجل العائلة؟ ولماذا يحرس الحارس المدينة إن لم يكن لحماية العائلات التي فيها؟ لقد كانت العائلة، آنذاك كما هو الحال اليوم، الوحدة الأساسية وأكثر العناصر أهمية في المجتمع.” بويس (Boice)
· “دع العائلة المثمرة، مهما كانت فقيرة، تضع قلبها على هذه الحقيقة: هُوَذَا ٱلْبَنُونَ مِيرَاثٌ مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ، ثَمَرَةُ ٱلْبَطْنِ أُجْرَةٌ. وسيطعمهم ذاك الذي أعطاهم لهم. لأن هذه حقيقة لم تسقط قط، وهي ترتكز على المبدأ التالي: ’عندما يرسل الله أفواهًا، فإنه يرسل لحمًا.‘” كلارك (Clarke)
· “لم يُعطَ البنون ليكونوا عقابًا أو عبئًا، بل كفضل ونعمة. إنهم رمز للخير إن كان يعرف الناس كيف يتلقّونهم ويعلّمونهم. وهم ليسوا بركات مشكوكة فيها إلا عندما نكون أشخاصًا مشكوكًا فينا.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. ثَمَرَةُ ٱلْبَطْنِ أُجْرَةٌ (مكافأة): من المحزن أنه كان لسليمان ٧٠٠ زوجة و ٣٠٠ محظية (
١ ملوك ١١: ٣). ونحن لا نعلم إلا عن واحد فقط من نسله المعروفين. ولعل سليمان لم يعرف هذه المكافأة (الأجرة).
· “كان هذا الأخير درسًا ملائمًا لسليمان الذي، مع وجود زوجات ومحظيات كثيرة، لم يترك إلا ابنًا واحدًا نقرأ عنه، وهو ليس من بين الأشخاص الأكثر حكمة.” تراب (Trapp)
· “ضاعت على سليمان دروس هذا المزمور، شأنها في ذلك شأن معظم كتابات الحكمة التي كتبها، والمرتبطة بوضعه الشخصي. فصار بناؤه، حرفيًّا ومجازيًّا معًا، طائشًا (
١ ملوك ٩: ١٠ فصاعدًا، ١٩)، ومملكته خرابًا (
١ ملوك ١١: ١١ فصاعدًا) وزيجاته إنكارًا كارثيًّا لله (
١ ملوك ١١: ١ فصاعدًا.)” كيدنر (Kidner)
ب) الآيات (٤-٥): البنون كسهام.
٤كَسِهَامٍ بِيَدِ جَبَّارٍ، هَكَذَا أَبْنَاءُ ٱلشَّبِيبَةِ. ٥طُوبَى لِلَّذِي مَلَأَ جَعْبَتَهُ مِنْهُمْ. لَا يَخْزَوْنَ بَلْ يُكَلِّمُونَ ٱلْأَعْدَاءَ فِي ٱلْبَابِ.
١. كَسِهَامٍ بِيَدِ جَبَّارٍ: الأطفال من نواحٍ كثيرة كَسِهَامٍ بِيَدِ جَبَّارٍ.
· يتوجب تشكيلهم وصياغتهم بعناية.
· يتوجب إرشادهم بمهارة وقوة.
· يتوجب إعطاؤهم اهتمامًا، وإلاّ فلن يسلكوا باستقامة.
· يتوجب تهديفهم وإعطاؤهم اتجاهًا. إذ لن يجدوا اتجاهًا صحيحًا وحدهم.
· هم من بعض النواحي لا يُطْلَقون إلا مرة واحدة.
· هم امتداد لقوة الجبار وإنجازاته.
· لديهم إمكان للخير الكثير أو للشر الكثير.
ü كسهام: “يتضمن هذا التشبيه أنه لا ينبغي أن يبقى الأطفال كما هم في الطبيعة. فالسهام لا تصبح سهامًا بالنمو، بل بالفن. وهكذا ينبغي أن يعامل الأطفال بفن ليصبحوا سهامًا. ينبغي أن تشذَّب العُقَد الموجودة في طبيعتهم وتُصلَح لتصبح سلسة بالنعمة. وعندئذٍ يمكن استخدامهم كسهام.” تراب (Trapp)
ü “هم جاهزون مجَنَّحون بالواجب والمحبة ليطيروا إلى الهدف، مصقولين ومتوقدين ليشرّفوا قضية والديهم ويحافظوا عليها.” هورن (Horne)
ü “سنراهم وهم منطلقون إلى الحياة لتعزيتنا وسرورنا، إن اهتممنا بهم منذ البداية ليوجَّهوا نحو الوجهة الصحيحة.” سبيرجن (Spurgeon)
ü “إن كان عملًا باطلًا أن نبني بيتًا من دون الله، أو أن نحرس مدينة من دون الاعتماد على محافظة الله عليها، فعندئذٍ تكون حماقة أكبر أن ننشئ عائلة من دون الله.” بويس (Boice)
٢. طُوبَى لِلَّذِي مَلَأَ جَعْبَتَهُ مِنْهُمْ: إن كان البنون مكافأة (أجرة) – الآية ٣، فإن هنالك بركة وسعادة عظيمتين في امتلاك أطفال كثيرين.
· لِلَّذِي مَلَأَ جَعْبَتَهُ مِنْهُمْ: “الذي له قضايا كثيرة، وهذه بركة في حد ذاتها. وقد جعل افتقار سليمان إليها أكثر قيمة في عينيه.” بوله (Poole)
· “يمكن أن تكون الجعبة صغيرة وممتلئة في الوقت نفسه. وعندئذ يتم الحصول على بركة. وعلى أية حال، يمكننا أن نتأكد من أن حياة الإنسان لا تتلخص في وفرة الأبناء الذين يمتلكهم.” سبيرجن (Spurgeon)
· “أتذكر أن رجلًا عظيمًا جاء إلى بيتي في والثام. وعندما رأيى كل أبنائي واقفين حسب أعمارهم وقاماتهم، قال: ’هؤلاء هم الذين يجعلون الأغنياء فقراء.‘ لكنه تلقّى ردًّا مباشرًا: “لا يا سيدي. هؤلاء يجعلون الفقير غنيًّا. ولن نتخلى عن أي واحد منهم مقابل كل ثروتك.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن هول (Hall)
· “يجلب الأطفال صلوات كثيرة، وتجلب الصلوات الكثيرة بركات كثيرة.” – مثلٌ ألماني استشهد به سبيرجن (Spurgeon)
٣. لَا يَخْزَوْنَ بَلْ يُكَلِّمُونَ ٱلْأَعْدَاءَ فِي ٱلْبَابِ: كانت بوابة أية مدينة قديمة مكانًا للعمل التجاري والعدالة. وتتحدث هذه الآية عن كون أبناء الأتقياء يتمتعون بمكانة بارزة وتأثير في مجتمعهم.
· “كما تحمي السهام المحارب (الجبار)، كذلك لا يلزم أن يخاف الرجل التقي عندما يباركه الله بأبناء…. يشكل البيت الممتلئ أطفالًا مولودين قبل شيخوخة الرجل حماية من الوحدة والهجران في المجتمع.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “لا يجرؤ أحد على أن يتدخل في أمور رجل جمع وفرة من الأبناء الشجعان حوله.” سبيرجن (Spurgeon)
· “كانت البوابة مكانًا لإقامة العدل والملتقى الرئيسي. ولهذا فإنه ليس من غير المرجح أن يكون المقصود هنا هو الحرب الفعلية. لكن في النزاعات التي تنشأ مع الجيران وفي علاقات حياة المدينة، يمكن أن تتولد عداوات. ويستطيع أن يصمد الرجل بينما يكون أبناؤه حوله. وهذه البركة هبة من الله.” ماكلارين (Maclaren)
· “يستطيع المرء أن يكتشف مَثَلَه الأعلى من خلال هذه الترنيمة، وهو أن المدينة المزدهرة تُبقي أعداءها خارج بوابتها. ويكمن سر ازدهارها في بناء البيت بشكل حسن، بالمعنى الروحي والأخلاقي، وفي كون العائلات التي تسكن في هذه البيوت قادرة على التعامل مع الأعداء عند البوابة.” مورجان (Morgan)