تفسير سفر المزامير – مزمور ١٤٩
تسابيح الله وسيف ذو حدّين
هذا مزمور آخر من المزامير الخمسة الأخيرة التي لا تحمل عنوانًا في النص العبري، لكن كل واحد منها يبدأ وينتهي بكلمة هللويا (سبّحوا الرب).
أولًا. تسبيح شعب الله
أ ) الآية (١): تسبيح الرب بتَرْنِيمَة جَدِيدَة.
١هَلِّلُويَا. غَنُّوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً، تَسْبِيحَتَهُ فِي جَمَاعَةِ ٱلْأَتْقِيَاءِ.
١. هَلِّلُويَا: تبدأ وتنتهي المزامير الخمسة الأخيرة من سفر المزامير بهذه الكلمة. وفي كثير من الترانيم السابقة (أو معظمها)، كان هنالك حديث عن ضيق أو أزمة أو شر يطرحه صاحب المزمور أمام الرب. لكن في هذه المزامير الخمسة، لا نجد إلا تسبيحًا.
٢. غَنُّوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً: يحب الله أن يتلقى ابتهاج شعبه به وترنيمه له معبَّرًا عن ذلك في أغنية، وبشكل خاص في تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً. ويمكن أن تأتي الترنيمة الجديدة من قديس قديم عندما يكتسب وعيًا جديدًا بمحبة الله ونعمته.
· “إنه جديد دائمًا في تجلّياته وإظهاراته. ومراحمه جديدة كل صباح. وإنقاذاته جديدة في كل ليلة حزن. فدعنا نجدد امتناننا وشكرنا له أيضًا.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. تَسْبِيحَتَهُ فِي جَمَاعَةِ ٱلْأَتْقِيَاءِ (القديسين): إنه لأمر رائع أن يقدم التقي (القديس) الفرد تسبيحًا لله. لكنه أفضل وأعظم أن يفعل هذا فِي جَمَاعَةِ ٱلْأَتْقِيَاءِ. إذ يجعل مجتمع شعب الله التسبيح أكثر غنى، وبشكل خاص عندما يقدَّم في ترنيمة.
ب) الآيات (٢-٤): لذة التسبيح الحقيقي.
٢لِيَفْرَحْ إِسْرَائِيلُ بِخَالِقِهِ. لِيَبْتَهِجْ بَنُو صِهْيَوْنَ بِمَلِكِهِمْ. ٣لِيُسَبِّحُوا ٱسْمَهُ بِرَقْصٍ. بِدُفٍّ وَعُودٍ لِيُرَنِّمُوا لَهُ. ٤لِأَنَّ ٱلرَّبَّ رَاضٍ عَنْ شَعْبِهِ. يُجَمِّلُ ٱلْوُدَعَاءَ بِٱلْخَلَاصِ.
١. لِيَفْرَحْ إِسْرَائِيلُ بِخَالِقِهِ: إذا افتقر أحدهم إلى أسباب لتسبيح الله، فإن هنالك سببًا عظيمًا واحدًا في متناول اليد. فإنه لأمر صواب ومشرّف لنا أن نسبّح خالقنا ونبتهج به.
· “يتوجب أن تكون نقطة البداية لنا نحن المخلوقات هي الاعتراف بالخالق، لأنه عندما نبدأ بمعرفة الله بصفته خالقنا، عندئذٍ فقط يمكننا أن نقدّر ما نحن مدينون به له ونفهم كيف فشلنا في تسبيحه وحمده بشكل ملائم.” بويس (Boice)
٢. لِيَبْتَهِجْ بَنُو صِهْيَوْنَ بِمَلِكِهِمْ: الله صانع كل بشر، لكنه لا يُعتَرف به ملكًا إلا على شعبه. وهذا الاعترف مصدر فرح لا يضاهى لشعبه الذي يدرك أنه لا يمكن أن يأمل في حاكم أفضل بهذه المحبة والحكمة والقوة.
· إنه لأمر شائع للناس أن يفرحوا بقائد سياسي أو برئيس دولة. وتُعَد زيارة حاكم كهذا مناسبة سعيدة خاصة. ويَعُد المؤمنون أمرًا خاصًا ومفرحًا أن يدركوا وجود ملكهم ويتمتعوا به.
· “لا تكمن العظمة الحقيقية للملوك في ما تفعله الشعوب من أجل ملوكهم، بل في ما يفعله الملوك لشعوبهم. وهنا يمتاز ربنا على كل الرؤساء الذين عاشوا على مر التاريخ.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. لِيُسَبِّحُوا ٱسْمَهُ بِرَقْصٍ: كان الفرح بين شعب الله بخالقهم وملكهم يتجلى بالرقص والغناء والآلات الموسيقية. كانت تلك تعبيرات سعيدة عن الامتنان، كيف أن الله راضٍ عنهم ويشجع على مثل هذه السعادة بين شعبه.
· اختلف آدم كلارك (Adam Clarke) مع معظم الترجمات التي تترجم الكلمة العبرية Mahol إلى رقص، قائلًا إنها ناي أو مزمار، لا رقص. “لا أعرف موضعًا آخر في الكتاب المقدس حيث تعني كلمة Mahol, machalath أي نوع من الرقص. فهي تدل دائمًا على نوع ما من المزمار.”
٤. لِأَنَّ ٱلرَّبَّ رَاضٍ عَنْ شَعْبِهِ: إن كان الله غنيًّا في النعمة والرحمة حتى إنه يرضى عن شعبه – رغم كل خطيتهم وضعفهم – فإن هذا سبب للابتهاج العظيم.
· “إن التعليم المستمر لكلمة الله هو الذي يرضي الله. كانت هذه شهادة عن أخنوخ قبل رفعه. ويحضّنا الرسول بولس: ’لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ، فِي كُلِّ رِضًى.‘” ميير (Meyer)
· “رضي ملك صهيون على شعبه حتى إنه اختار أن يكون مثل واحد منهم، فاشترك في اللحم والدم معهم.” هورن (Horne)
· “ما الذي يمكن أن يوجد فينا ليرضى الله عنّا؟ لا شيء إلا ما يضعه فينا. فإن رأى أي جمال فينا، فلا بد أنه انعكاس لوجهه. غير أن هذا هو ما يقوله النص، ولهذا لا بد أن يكون صحيحًا، لِأَنَّ ٱلرَّبَّ رَاضٍ عَنْ شَعْبِهِ. سبيرجن (Spurgeon)
٥. يُجَمِّلُ ٱلْوُدَعَاءَ بِٱلْخَلَاصِ: يحتقر معظم العظماء المتواضعين ويتركونهم في حالتهم البائسة. لكن الله يقاوم المتكبرين، ويعطي نعمة للودعاء (يعقوب ٤: ٦؛ ١ بطرس ٥: ٥). وهو يُجَمِّلُ ٱلْوُدَعَاءَ بِٱلْخَلَاصِ.
· “لا يهتم الله اهتمامًا شخصيًّا بكل خطوة من خطوات النفس المطيعة فحسب، لكنه أيضًا يجمّلها ويقودها من نصر إلى نصر.” ميير (Meyer)
· “إن ما يؤهّل المرء للحصول على عون الرب هو الوداعة. وتأثير ذلك العون في النفس المتواضعة هو تزيينها بجمال غريب.” ماكلارين (Maclaren)
· “يرضى الله عن أبنائه (يُسَر بهم) كما أحب يعقوب أبناءه كلهم. لكن الودعاء هم مثل يوسف، وهو يلبسهم قمصانًا زاهية الألوان، مجمّلًا إياهم بالسلامة والقناعة والفرح والقداسة والتأثير.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. قوة شعب الله
أ ) الآيات (٥-٦): الاستعداد للصراع.
٥لِيَبْتَهِجِ ٱلْأَتْقِيَاءُ بِمَجْدٍ. لِيُرَنِّمُوا عَلَى مَضَاجِعِهِمْ. ٦تَنْوِيهَاتُ ٱللهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَسَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ فِي يَدِهِمْ.
١. لِيَبْتَهِجِ ٱلْأَتْقِيَاءُ بِمَجْدٍ: تستمر روح الجزء الأول من هذا المزمور. فالأتقياء فرحون بمجد الله حتى إنهم يترنمون على فراشهم (مَضَاجِعِهِمْ). إذ لا تعطيهم ساعات الاستيقاظ وقتًا كافيًا للتعبير عن تسبيحهم وفرحهم بالله، ولهذا يواصلون هذا على فراشهم(مَضَاجِعِهِمْ).
· يذكّرنا هذا أنه رغم أن ترانيم التسبيح رائعة على نحو خاص، بين جماعة شعب الله (الآية ١)، إلا أنه لا ينبغي أن تُقتصر على الجماعة. وإنه لأمر مقدس ورائع أن يرنم القديسون على فراشهم.
٢. تَنْوِيهَاتُ (تسابيح عالية) ٱللهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَسَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ فِي يَدِهِمْ: يصوَّر شعب الله هنا على أنهم مستعدون للمعركة، مسلّحين بسلاحين قويين.
· يحملون تسابيح الله العالية (تَنْوِيهَاتُ ٱللهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ). وتشير عبادتهم إلى ولائهم واستسلامهم لإله كل انتصار. وفي ٢ أخبار ٢٠: ٢٠-٢١، عندما دخل شعب الله المعركة بالتسبيح، قدّم الله لهم نصرًا عظيمًا.
· يحملون سيفًا ذا حدّين في أيديهم (سَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ فِي يَدِهِمْ)، مبيّنًا بهذا كلًّا من استخدام الأسلحة والوسائل العملية والاعتماد على كلمة الله التي توصف بأنها سَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ (رؤيا ١٩: ١٥)، وهو أحدُّ من أي سيف ذي حدّين (عبرانيين ٤: ١٢)، وهو سَيْف الروح (أفسس ٦: ١٧).
· “لا يفترض أن يكون تسبيحهم مجرد تنغيم لكلمات، فهو أيضًا عمل إرادته. وفي حين أن تسبيحات الله العالية (تنويهاته) في أفواههم، يحملون سيفًا ذا حدّين في أياديهم ينفّذون به مقاصده بين الشعوب والملوك والنبلاء.” مورجان (Morgan)
· “في هذه الحالة الذهنية، سيمنح الرب نصره لشعبه، كما فعل مع نحميا ورجاله الذين عملوا بالسيف والمجرفة بينما كانوا يصلّون إلى الرب (نحميا ٤: ٩، ١٦-٢٣)، مؤمنين بأن ’إلهنا يحارب عنّا‘ (نحميا ٤: ٢٠).” فانجيميرين (VanGemeren)
· شاعت مقولة بين الأمريكيين جاءت من الحرب العالمية الثانية: ’سبّحوا الرب ومرِّروا الذخيرة.‘ وتحمل مزمور ١٤٩: ٦ شيئًا من هذه الفكرة.
· يفترض أن هذا الجمع بين هذين الأمرين – تَنْوِيهَاتُ ٱللهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ والسيف ذي الحدّين – يخاطب روحيًّا كل قائد في شعب الله. وينبغي أن تتفوق اجتماعات شعب الله في كل من التسبيح والكرازة بكلمة الله. إذ ينبغي دائمًا أن نضغط من أجل أن تكون لدينا تنويهات الله وتَعامُل سليم مع سيف الروح.
· “كلمة الله كلها حدٌّ قاطع. فكيفما قلّبتها، فإنها توجّه ضربة مميتة للزيف والشر. وإذا لم نسبّح، فسنصبح حزينين في صراعنا. وإذا لم نحارب، فسنكون متجاسرين في ترنيمنا. إذ تشير الآية إلى مزيج سعيد من مرنم في جوقة وجندي من أجل الله.” سبيرجن (Spurgeon)
· “إذا كان لديك سيف فولاذي، يمكنك به أن تحارب الرجال. لكن ليس هذا عملك. فلستَ مدعوًّا إلى هذا العمل القاسي. لكن عندما يكون لديك سيف الروح، تقدَّمْ وسبّحِ الله باستخدام السيف ذي الحدّين، الذي هو كلمة الله.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٧-٩): انتصار شعب الله.
٧لِيَصْنَعُوا نَقْمَةً فِي ٱلْأُمَمِ، وَتَأْدِيبَاتٍ فِي ٱلشُّعُوبِ. ٨لِأَسْرِ مُلُوكِهِمْ بِقُيُودٍ، وَشُرَفَائِهِمْ بِكُبُولٍ مِنْ حَدِيدٍ. ٩لِيُجْرُوا بِهِمْ ٱلْحُكْمَ ٱلْمَكْتُوبَ. كَرَامَةٌ هَذَا لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ. هَلِّلُويَا.
١. لِيَصْنَعُوا نَقْمَةً فِي ٱلْأُمَمِ: ستعمل قوة التسبيح وكلمة الله في نهاية المطاف إنجاز عمل الله بين الشعوب. وأما الذين يصرون على العصيان، فسيواجهون الانتقام والعقاب في نهاية الدهر. ولا يستطيع حتى الملوك والنبلاء أن يهربوا من هذه الدينونة الآتية.
· “توصل خاتمة المزمور نغمة لا تحبها آذان كثيرة، لكنها خالية تمامًا من أية عاطفة من الانتقام الشخصي.” ماكلارين (Maclaren)
· لِيَصْنَعُوا نَقْمَةً: “… من أجل كل القسوة وأشكال الأذى تجاه شعب الله. وقد تحقق هذا حرفيًّا في ما فعله داود بالفلسطيين والعمّونيين والآراميين والشعوب المجاورة (ورؤسائها) التي أظهرت عداوة مُرّة لشعب الله.” بوله (Poole)
· نرى في هذا السياق المباشر لصاحب المزمور أن إسرائيل كانت، بطريقة ما، وسيطًا لتنفيذ الانتقام. ويعني هذا أن تسبيحا الفرِح كان محكومًا بطاعة جذرية حتى لوصايا الله الصعبة والمُكلفة. ونحن كمؤمنين في العهد الجديد لا نحارب أعداء من لحم ودم (أفسس ٦: ١٢-١٨)، غير أنه لدينا المسؤولية في أن لا نكون عابدين فحسب، بل أيضًا محاربين في حرب روحية تكون صعبة ومكلفة أحيانًا. وبمعنى روحي، يُفترض أن ننفذ انتقامًا من كل شيء يمكن أن يقاوم يسوع المسيح وعمل ملكوته في حياتنا.
· “وبالنسبة لنا نحن المؤمنين، فإن المعادل لأَسْرِ مُلُوكِهِمْ بِقُيُودٍ، وَشُرَفَائِهِمْ بِكُبُولٍ مِنْ حَدِيدٍ” (الآية ٨) هو أن نستأسر ’كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ ٱلْمَسِيحِ‘ (٢ كورنثوس ١٠: ٥).” كيدنر (Kidner)
· لِيُجْرُوا بِهِمْ ٱلْحُكْمَ ٱلْمَكْتُوبَ: “سيكون أمرًا مؤسفًا أن يحاول شخص إساءة تطبيق هذا النص: ولئلّا يقاد مؤمن ميّال إلى الحرب إلى فعل ذلك، فإننا نذكّره بأن التنفيذ لا يتوجب أن يتجاوز الحكم والتفويض الصادرين. ونحن لم نتلقَّ أي تفويض بالتنفيذ ضد إخوتنا في البشرية.” سبيرجن (Spurgeon)
· بالنسبة للمؤمن في العهد الجديد، يوجد حكم مكتوب ضد كل عدو روحي. وقد كتبه يسوع المسيح بعمله على الصليب (يوحنا ١٦: ١١؛ كولوسي ٢: ١٤).
· لِيَصْنَعُوا نَقْمَةً: “إن تاريخ هذه الترنيمة تاريخ حزن عظيم بسبب سوء التفسير الخطير وسوء التطبيق الخطير. قال ديلتزيتش (Delitzsch): ’باستخدام هذا المزمور كأداة، قام كاسبر سكوبيوس في كتابه الكلاسيكي المقدس بإلهاب مشاعر أمراء الكاثوليك البابويين لشن حرب دينية عرفت باسم حرب الثلاثين عامًا. وفي ضمن الكنيسة البروتستانتية، استخدم توماس منزر هذا المزمور ليحرك حرب الفلّاحين.‘” مورجان (Morgan)
· وبشكل خاص في ضوء كيفية استخدام هذه الآية، من المهم أن نلاحظ ما قاله مورجان (Morgan): “لا توجد في هذا المزمور إشارة إلى كنيسة الله. فهو يشير على نحو محدد إلى إسرائيل وأبناء صهيون.”
٢. كَرَامَةٌ هَذَا لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ: بطريقة ما تتجاوز استيعابنا الحالي، سيستخدم الله شعبه في تصويب مساوئ هذا العصر. وحتى لو اقتصرت مشاركتنا على كوننا جمهورًا لأحكام الله البارة، فسيكون هذا شرفًا لكل قديسيه – كَرَامَةٌ هَذَا لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ.
· “لقد افتُدوا من العبودية ليكونوا محاربين من أجل الله.والكرامة والالتزام شموليان.” ماكلارين (Maclaren)