تفسير سفر المزامير – مزمور ١٩
السماوات والكلمة ومجد الله
يخبرنا العنوان باسم مؤلف المزمور وجمهوره: لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ. ويعتقد بعضهم أنه الرب نفسه. ويفترض آخرون أنه قائد الجوقات أو الموسيقيين في أيام داود، مثل المغني (المرنم) هيمان أو آساف (أخبار الأيام الأول ٣٣:٦، ٥:١٦-٧، ٦:٢٥).
“يعكس هذا المزمور، أكثر من أي شيء آخر، جمال الشعر العبري وبهاءه في سفر المزامير. كتب سي. اس. لويس (C.S. Lewis): ’أرى أن هذا المزمور أعظم قصيدة في سفر المزامير وإحدى أعظم الأغاني في العالم كله.‘” ويليم فانجيميرين (Willem VanGemeren)
أولًا. رسالة من السماوات.
أ ) الآيات (١-٤أ): رسالة السماوات واسعة.
١اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. ٢يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَمًا، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْل يُبْدِي عِلْمًا. ٣لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ. لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ. ٤فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى الْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ.
١. اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللهِ: نظر داود إلى السماوات – لا إلى السماء الروحية حيث الله متوَّج، بل إلى السماء الزرقاء وسماء الليل – ورأى بوضوح مَجْدِ ٱللهِ مُعْلَنًا.
· رأى فيها السماء الزرقاء، مع مجد الشمس والغيوم وجمال الشروق والغروب.
· رأى فيها سماء الليل، مع سطوع القمر، وروعة السماء المرصّعة بالنجوم، وانتشار المجرات البعيدة كأنها غيوم في الفضاء.
· تصرخ هذه معًا – بحجمها وروعتها وفخامتها – لداود ولكل من يراها قائلةً: “الإله الذي خلق شيئًا كهذا مجيد، وهذا دليل على مجده.”
ü إنه مجيد في حجمه، حيث خلق أشياء بمثل هذا الحجم.
ü إنه مجيد في هندسته، حيث خلق أشياء تعمل معًا بشكل حسن.
ü إنه مجيد في فنّه، حيث خلق كل شيء بهذا الجمال.
ü إنه مجيد في صلاحه ولطفه، حيث خلق ليتمتع البشر برؤيتها.
٢. وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ: يكرر داود نفس الفكرة المتضمنة في الشطر الأول. ٱلْفَلَكُ (القُبّة الزرقاء) هنا طريقة شعرية في الإشارة إلى السماوات، أو السماء القريبة، وهي تبيّن عَمَلِ يَدَيْهِ.
٣. يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلَامًا، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْمًا: تتحدث إلينا سماء النهار وسماء الليل، وهي تكشف معرفة عن مجد الله وحكمته وعظمته الخلّاقة.
· يُذِيعُ (ينطق، يتلفّظ) كَلَامًا: “هذا النص أقوى بكثير مما هو في الترجمات، لأن الصورة الشعرية الحرفية تشير إلى نبع فوّار يدْفُق بغزارة مياهًا عذبة منعشة من الإعلان.” بويس (Boice)
· يُبْدِي عِلْمًا: “تتوافق المعرفة مع الليل بشكل حسن، لأنه من دون سماء الليل لم يعرف الإنسان، حتى وقت قريب، إلا كونًا فارغًا.” كيدنر (Kidner). ولو لم يضع الله النجوم في سماء الليل، لأوصل سواد الليل بقوة لكل البشر، قديمًا وحديثًا، هذه الرسالة: “لا شيء ولا أحد هناك.”
- “لو سكت كل الوعّاظ، وتوقَّف كل لسان بشري عن إعلان جلالة الله وعظمته، فلن تتوقّف السماوات أبدًا عن توصيل هذا الإعلان. فهي تعظ بشكل دائم، لأنها، كسلسلة غير منقطعة، توصل رسالتها من يوم (نهار) إلى يوم (نهار)، ومن ليلة إلى ليلة.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن ثولاك (Tholuck).
· “يدعونا اليوم (النهار) إلى العمل، بينما يذكّرنا الليل بضرورة الاستعداد إلى بيتنا الأبدي. يدعونا اليوم (النهار) إلى العمل من أجل الله، بينما يدعونا الليل إلى أن نرتاح فيه. يدعونا اليوم (النهار) إلى أن نبحث عن نهار لا نهاية له، بينما ينبّهنا الليل من الفرار من ليل أبدي.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. لَا قَوْلَ وَلَا كَلَامَ. لَا يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ: مجد الله في السماوات المنظورة متاح للجميع لكي يروه. وهو يوصَل لكل بشر، مهما كانت لغته (كَلَامَ). إنها رسالة “فِي كُلِّ ٱلْأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ (انتَقَلَتْ كَلِمَاتُهُمْ إلَى أقَاصِي العَالَمِ).”
· توسّع الرسول بولس في هذه الفكرة في رسالته إلى أهل رومية الأصحاح ١. “لِأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ ٱلْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ ٱلْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِٱلْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ ٱلسَّرْمَدِيَّةَ وَلَاهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلَا عُذْرٍ.” (رومية ٢٠:١). وقد أخبرنا بولس أنه بسبب وصول هذه الشهادة إلى كل خليقة، فإن البشر كلهم بِلَا عُذْرٍ في رفضهم لله الذي أعطانا مثل هذا الدليل الواضح والجميل على قوّته وحكمته.
· “لو عاش أحدهم تحت الأرض، واطّلع على عمل الخليقة الفني، ثم أُخرِج فيما بعد إلى العراء ورأى أمجاد السماء والأرض العديدة، فإنه سيعلن فورًا أنها أعمال فنية لكائن نعرّفه على أنه الله.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن أرسطو (Aristotle)
· “بالنسبة للعاِلم الذي عاش بإيمانه بقوة العقل، تنتهي القصة ككابوس. لقد تسلّق جبال الجهل، وهو يوشك أن يغزو أعلى قمة. إذ وهو يجرّ نفسه فوق الصخرة، ستستقبله زمرة من اللاهوتيين الذين كانوا يجلسون هناك منذ قرون طويلة.” بويس (Boice) نقلًا عن عالم الفلك والفيزياء روبرت جاسترو (Robert Jastrow)
ب) الآيات (٤ب-٦): رسالة السماوات قوية ومجيدة.
٤… جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَنًا فِيهَا، ٥وَهِيَ مِثْلُ الْعَرُوسِ الْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ. يَبْتَهِجُ مِثْلَ الْجَبَّارِ لِلسِّبَاقِ فِي الطَّرِيقِ. ٦مِنْ أَقْصَى السَّمَاوَاتِ خُرُوجُهَا، وَمَدَارُهَا إِلَى أَقَاصِيهَا، وَلاَ شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا.
١. جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَنًا (خيمة اجتماع) فِيهَا: يصف داود سماء الليل بشكل شاعري بأنها مسكن – خيمة، خيمة اجتماع – للشمس. فتخرج الشمس من خيمتها كل يوم لتعبر السماوات، ثم تعود إلى خيمة اجتماعها ليلًا.
· “لقد عيّن الله لها مكانًا لتحتله، ومسارًا لتسير فيه. والسماوات كلها خيمتها ومسارها.” كيدنر (Kidner)
٢. وَهِيَ مِثْلُ ٱلْعَرُوسِ ٱلْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ. يَبْتَهِجُ مِثْلَ ٱلْجَبَّارِ لِلسِّبَاقِ فِي ٱلطَّرِيقِ: تشق الشمس طريقها في السماوات بقوة وفرح، كرجل في أوج قوّته أو كَعَدّاءٍ في سباق.
· “يمكن أن يتفق الجميع على أنه إذا نظر هذا المزمور إلى الأساطير، فإنه سيرفضها ويتبرأ منها. يمكن أن تكون الشمس ’مثل‘ العروس أو الجبّار (العدّاء)، وهي لا تعدو في واقع الأمر أن تكون أكثر من جزء مجيد من عمل الله اليدوي.” كيدنر (Kidner)
٣. مِنْ أَقْصَى ٱلسَّمَاوَاتِ خُرُوجُهَا… وَلَا شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا: تغطي الشمس السماء القريبة كلها، وتمتد قوتها إلى كل مكان. إنها مثل رائع لمجد الله المعلن في السماوات.
ثانيًا. رسالة من كلمة الله
أ ) الآيات (٧-٩): وصف سبع مزايا مجيدة حول كلمة الله.
٧نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيمًا. ٨وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ. أَمْرُ الرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ. ٩خَوْفُ الرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى الأَبَدِ. أَحْكَامُ الرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا.
١. نامُوسُ ٱلرَّبِّ: ينتقل داود فجأة من تسبيح الله الذي يعلن نفسه في الخليقة إلى تسبيح نفس الإله على كلمته. فكأن داود يقول: تخبرنا الخليقة الكثير عن الله، لكن كلمته تخبرنا أكثر.
· “يقول الفيلسوف كانت (Kant): ’هنالك أمران يملآن العقل بإعجاب وخشوع على نحو جديد دائم ومتزايد، وهما السماوات المرصّعة بالنجوم والقانون الأخلاقي الذي في داخلنا.‘ ويتجاوز صاحب المزمور ثاني هاتين الفكرتين بالنظر إلى الناموس الإلهي المعلن.” كيدنر (Kidner)
· إن أحد الأسباب التي تجعل كلمة الله إعلانًا أعظم من الخليقة هو أنها تخبرنا عن الله. فهي تعلنه بصفته إله العهد والمحبة، كما ينعكس هذا في بُنْية هذا المزمور. وفي مزمور ١:١٩-٦، يشار إليه بكلمة ’إيْل (El)‘ وهي أكثر الكلمات عمومية في اللغة العبرية (حتى إنها أكثر شيوعًا من كلمة إيلوهيم المستخدمة عادة). غير أنه يشار إليه في مزمور ٧:١٩-٩ على أنه يهوه (الرب)، إله عهد المحبة والأمانة لشعبه.
· “إن أحكم الناس هو من يقرأ كتاب العالم (كتاب العلوم الطبيعية) وكتاب الكلمة (الكتاب المقدس) وكأنهما مجلّدين لنفس العمل، ويقول: ’كتبَ أبي هذين المجلدين.‘” سبيرجن (Spurgeon)
· وبعد ذلك يشرح داود سبع عبارات مجيدة حول كلمة الله، عن روعتها وكفاءتها. استخدم داود، كما هو معتاد في المزامير – ولاسيما في المزمور العظيم ١١٩ – تعابير متنوعة للإشارة إلى كلمة الله (الناموس، الشريعة، الفرائض، الوصايا، الخوف، الأحكام). وإنه أفضل لنا أن ننظر إليها بصفتها تعبيرات شعرية تشير إلى الإعلان الإلهي المكتوب بشكل عام، لا إلى نوع معين من الإعلان (مثل الشرائع المعطاة في الناموس الموسوي فقط).
٢. نامُوسُ ٱلرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ (يحوِّل، يجدد) ٱلنَّفْسَ: كلمة الله كاملة. فهي تهب “لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَٱلتَّقْوَى.” (رسالة بطرس الثانية ٣:١). ومع أنها لا تعطينا كل معرفة، إلا أن كل معرفة تعطينا إياها صحيحة وكاملة. وعندما تُفهم كلمة الله في سياقها، فإنها لا تخطئ أبدًا في العلوم أو التاريخ أو في فهم الطبيعة الإلهية أو البشرية.
· يتمثل جزء من كمال كلمة الله في حقيقة فاعليتها. فهي تردّ النفس (تحولها وتجددها وتأثر فيها). هنالك قوة في قراءة كلمة الله والاستماع إليها تتجاوز المنفعة الذهنية. فهي تغيّر ٱلنَّفْسَ إلى ما هو أفضل.
· ربما يكون أفضل أن نفهم كلمة “يَرُدُّ” على أنها تعني “تنعش” أي أن ناموس الرب يجلب حياة جديدة للنفس. “أولًا، كلمة الله تنعش. وتعطي صفتها الاستردادية شفاء للشخص كاملًا بتوكيد الغفران والتطهير وإعطاء حياة للأتقياء.” فانجيميرين (VanGemeren)
٣. شَهَادَاتُ ٱلرَّبِّ صَادِقَةٌ (أكيدة) تُصَيِّرُ ٱلْجَاهِلَ (البسيط) حَكِيمًا: كلمة الله أكيدة، جديرة بالاعتماد عليها ويقينية. كما كتب صاحب المزمور في ٨٩:١١٩ “إِلَى ٱلْأَبَدِ يَا رَبُّ كَلِمَتُكَ مُثَبَّتَةٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ.”
· “لا تعني كلمة صَادِقَةٌ، في صيغة المجهول في العبرية، أنها راسخة ثابتة فحسب، بل إنها مُصادَقٌ عليها، أي تمّ التحقق من صحتها: انظر كلمة ’فَيَتَحَقَّقَ‘ في سفر التكوين ٢٠:٤٢.” كيدنر (Kidner)
· ولأن كلمة الرب أكيدة ويقينية، فإنها تُصَيِّرُ ٱلْجَاهِلَ (البسيط) حَكِيمًا. إذ لدى أشخاص كثيرين ذوي ثقافة بسيطة أو تعليم متواضع حكمة هائلة في الحياة والتقوى لأنهم يدرسون كلمة الرب ويثقون بها.
٤. وَصَايَا ٱلرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ ٱلْقَلْبَ: كلمة الله والوصايا المتضمنة فيها مُسْتَقِيمَة. هي مُسْتَقِيمَة أخلاقيًّا، وعمليًّا، وتشمل الجميع. وهي مُسْتَقِيمَة لأنها إعلان من إله قدوس صادق، وهي لهذا مُسْتَقِيمَة.
· مُسْتَقِيمَةٌ: “تجعل شيئًا سويًا، ناعمًا ملِسًا، منتصبًا، بالمقابلة مع الاعوجاج في الفكر أو السلوك. وهي تبيّن ما ينبغي أن يكون المرء عليه من الداخل والخارج معًا.” كلارك (Clarke)
- كل من يعرف كلمة الله وإله الكلمة يبتهج بهذا. إذ يجد فرحًا ولذة حقيقية في حق الله والعلاقة بالله المعلن في كلمته.
٥. أَمْرُ ٱلرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ ٱلْعَيْنَيْنِ: لأن كلمة الله تأتي من الله الذي هو طاهر وقدوس، فإن كلمته نفسها طاهرة. فلا يستطيع الله أن يتواصل بغير هذه الطريقة. ولسنا مضطرين إلى القلق حول إمكان قيادة كلمة الله الناس إلى الإثم والخطية. فهذا لا يحدث أبدًا. وإذا بدا أن هذا حدث، فإنه دليل على أن الكتاب المقدس قد حُرِّف (رسالة بطرس الثانية ١٦:٣).
· لا بد أن الكلمة الطاهرة تنير العيون. إنها تعطي ابتهاجًا وراحة ومعرفة وثقة بجلب نور في وسط الظلمة.
٦. خَوْفُ ٱلرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى ٱلْأَبَدِ: كلمة الرب نقية، ولهذا فإنها ثابتة إلى الأبد. فلن تتلاشى أو تذبل أو تتآكل أو تصدأ بسبب وجود شوائب. فهي نقية وتنقّي.
· هنا يشير داود إلى كلمة الله بصفتها ’خَوْفُ ٱلرَّبِّ.‘ فهي مرتبطة بعمق بروعة الله نفسه وجلالته. فلا بد لمن يقرأ ويسمع ويدرس كلمة الله، ويلتقيه في كلمته، أن يتكون لديه تقدير ملائم لروعة الله وجلاله – خَوْفُ ٱلرَّبِّ.
٧. أَحْكَامُ ٱلرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا: لخّص داود هذه السلسلة الجميلة من سبع لآلئ، حيث تصف كل واحدة منها جانبًا من كلمة الله. وهنا أعلن أنها حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا. فلا يوجد ما هو زائف أو غير بار في كلمته.
· لا يوجد أي جانب للتطبيق في هذه العبارة كما نجد في العبارات الخمس الماضية. فقد اكتفى بالقول ببساطة إنها “حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا.” وربما افترض داود أننا سنكون من الحكمة والمنطق أن نطبّقها بأنفسنا. وكأن لسان حاله يقول: “ولهذا اقرأها، وادرسْها، وتأمّلها، وأحبِبْها، وعِشْها.”
· لنتذكرْ أن داود عندما كتب ذلك، لم يكن لديه إلا جزء بسيط مما ندعوه الآن كلمة الله. لم يكن ما حصل عليه مجيدًا بشكل كامل مثل ما لدينا الآن، أي إعلان الله الكامل. ربما كان لدى داود أسفار موسى الخمسة (من سفر التكوين إلى سفر التثنية)، وسفر يشوع، وسفر القضاة، وبعض المزامير، وربما سفر أيوب، وسفر راعوث. ولا يمكننا إلا أن نتخيل فحسب أنه كتب عن سفر إشعياء وهوشع وسفر المزامير كله، ناهيك عن العهد الجديد. ويمكننا أن نقول بثقة إن كلمة الله أمجد بكثير جدًّا مما عرف داود.
ب) الآيات (١٠-١١): القيمة العظيمة لكلمة الله.
١٠أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ. ١١أَيْضًا عَبْدُكَ يُحَذَّرُ بِهَا، وَفِي حِفْظِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ.
١. أَشْهَى مِنَ ٱلذَّهَبِ: أصر الملك داود على أن قيمة الله – إعلانه المكتوب للبشر – أكثر قيمة وجاذبية من ٱلذَّهَبِ نفسه. لم يُرِد داود أية كمية من المال أو الثروة لتجتذب اهتمامه وتأسر عاطفته أكثر من كلمة الله.
· كان الملك داود رجلًا غنيًّا جدًا، لكنه نادرًا ما يُشتهر بغناه. بل اشتهر بشكل أكبر بقلبه العظيم تجاه الله. وكان ابنه سليمان أكثر غنى منه، واشتهر بغناه، لكن لم يشتهر بقلب عظيم تجاه الله ومحبة عظيمة لكلمته.
· وكأن الملك داود لم يكتف بالقول إن كلمة الله أشهى من ٱلذَّهَبِ، فأراد أن يُسهب في هذه الفكرة قائلاً: “وَٱلْإِبْرِيزِ ٱلْكَثِيرِ” أي الذهب المصفَّى بشكل كبير.
· “هذا صحيح، لكن من يصدّق ذلك؟ فمعظم الناس يفضلون الذهب على الله وأحكامه. وهم مستعدون أن يقايضوا كل حصة سماوية بالذهب والفضة!” كلارك (Clarke)
٢. وَأَحْلَى مِنَ ٱلْعَسَلِ وَقَطْرِ ٱلشِّهَادِ: كانت كلمة الله بالنسبة للملك داود أكبر من أن تقَدَّر فوق الثروة المادية، أو فوق الملذات الحسية. فالعسل لذيذ وطيّب المذاق، لكن كلمة الله ألذّ من ذلك.
٣. أَيْضًا عَبْدُكَ يُحَذَّرُ بِهَا، وَفِي حِفْظِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ: يعطي داود سببين لكون كلمة الله أعظم من الثروة المادية أو الملذات الحسية.
· تعطي كلمة الله تحذيرات أو توجيهات، وهي أمور لا يعطيها الغنى أو الملذات (يُحَذَّرُ بِهَا).
ü هنالك حاجة إلى التحذير من الخطايا التي نتأثر بها بسهولة.
ü هنالك حاجة إلى التحذير من الأخطار التي لا نراها.
ü هنالك حاجة إلى التحذير من الأخطار التي لا نقدّرها.
ü هنالك حاجة إلى التحذير من الأخطار البعيدة في المستقبل.
ü غالبًا ما تُهمل التحذيرات.
· تعطي كلمة الله فائدة أو مكافأة – ثَوَابًا – أعظم من كل غنى أو لذة (ثَوَابٌ عَظِيم).
٤. وَفِي حِفْظِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ: إنه صحيح أيضًا أنه يوجد ثَوَابٌ عَظِيمٌ على حفظ كلمة الله. لكن ليس هذا ما قاله صاحب المزمور هنا. لقد لاحظ داود وجود ثواب في حِفْظِهَا. إذ هنالك معنى بموجبه تصبح الطاعة نفسها هي الثواب، لأننا نحيا بالطريقة التي يريدنا الله أن نحياها والتي صممها لكي نحياها.
· تتمثل واحدة من مكافآت حفظ كلمة الله في سلام العقل. “الضمير المرتاح جنة صغيرة. تمّ تقييد شهيد إلى عامود ليُعدَم عن قريب. وعبّر المسؤول الأمني الذي سيقوم بإعدامه عن أسفه على تمسك هذا الشهيد بآرائه، الأمر الذي سيجبره على إشعال النار في كومة الخشب فيه. فأجابه الشهيد: ’لا تزعج نفسك. فأنا نفسي غير منزعج. تعال وضع يدك على قلبي لترى أنه لا يدق بسرعة.‘ فاستجاب المسؤول الأمني لطلبه، فوجده هادئًا تمامًا. ثم قال له الشهيد أيضًا: ’والآن، ضع يدك على قلبك. وانظر إن كنت أكثر انزعاجًا مني. ثم امضِ في طريقك، وبدلًا من أن ترثي لي، ارثِ لنفسك.‘” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (١٢-١٣): الرغبة في التطهير الداخليّ.
١٢اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا؟ مِنَ الْخَطَايَا الْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي. ١٣أَيْضًا مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ احْفَظْ عَبْدَكَ فَلاَ يَتَسَلَّطُوا عَلَيَّ. حِينَئِذٍ أَكُونُ كَامِلاً وَأَتَبَرَّأُ مِنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ.
١. اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا؟ تأمّل داود في الآية السابقة في التحذيرات الموجودة في كلمة الله، وفي المكافأة المترتبة على حفظها. فدفعه هذا إلى الأوقات والطرق التي سبق أن تجاهل بها التحذيرات ولم يحفظ كلمة الله.
· عندما طرح داود هذا السؤال: اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا؟ فهمَ أنه تجاهل وعصى كلمة الله أكثر مما وعى ذلك. وكان ما عرفه كافيًا ليدفعه إلى القلق. إذ كانت اَلسَّهَوَات (الخطايا) الفعلية أمام الله أسوأ.
· من الجدير بالذكر أن عدم قدرتنا على الإحساس بشهواتنا لا تبرّرها. إذ نظل مسؤولين عن تلك الشهوات والأخطاء والأغلاط أمام الله، ويتوجب علينا أن نثق بكفارته وقدرتها على تطهيرنا من تلك اَلسَّهَوَات وٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ.
٢. مِنَ ٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي: صلى داود في حكمته هذه الصلاة، عارفًا أنه لا يستطيع أن يحسب كم خطأ قد ارتكب بحق الله. فاحتاج إلى تطهير حتى من ٱلْخَطَايَا التي كانت مستورة عنه.
· “نحن نرغب في التطهير الداخلي، تطهير القلب، لكن هذا هو اختصاص الله وحده. إنه عمله في تنقية أفكار قلوبنا بإلهام روحه القدوس. ’طهِّرني يا الله.‘” ميير (Meyer)
· ٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ: “من تلك التي ارتكبتها ونسيتها، من تلك التي لم أتب عنها، من تلك التي ارتكبتها في قلبي لكن لم أنفّذها في حياتي، من تلك التي ارتكبتها من دون أن أعرف أنها خطايا، خطايا جهل، ومن تلك التي ارتكبتها في السر، والتي أحمرّ خجلًا وارتباكًا لو أنها ظهرت للعيان.” كلارك (Clarke)
٣. أَيْضًا مِنَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ (الخطايا المتولِّدة عن الكبرياء) ٱحْفَظْ عَبْدَكَ: أضاف داود هذه العبارة لأنه كان يعرف أن مشكلته كانت أعظم من ٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ واَلسَّهَوَاتُ. فمن دون عون الله (الذي يصلي إليه هنا)، كان قادرًا تمامًا على ارتكاب خطايا الكبرياء (ٱلْمُتَكَبِّرِينَ).
· أشياء تجعل الخطية متجاسرة:
ü عندما نعرف أفضل (عندما نعرف أن ما نفعله حماقة).
ü عندما يكون أصدقاؤنا قد حذّرونا.
ü عندما يكون الله نفسه قد حذّرنا.
ü عندما نكون قد حذّرنا آخرين من نفس الخطية التي نرتكبها.
ü عندما نخطط للخطية ونعزّها.
· يذكّرنا وصف اَلسَّهَوَاتُ وٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ وٱلْمُتَكَبِّرِينَ (خطايا الكبرياء) بأن الخطية تتضمن عنصر التدرُّج. إذ تنتقل الخطية:
ü من الإغراء العابر إلى فكرة متأصلة (اَلسَّهَوَاتُ).
ü من الفكرة إلى التأمّل.
ü من التأمّل إلى تمنّي التحقيق.
ü من تمنّي التحقيق إلى تخطيط لاتخاذ خطوات (ٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ).
ü من تخطيط لاتخاذ خطوات إلى السعي إلى الفرص.
ü من السعي إلى الفرص إلى فعل.
ü من فعل إلى تكرار الفعل.
ü من تكرار الفعل إلى السرور به (ٱلْمُتَكَبِّرِينَ: خطايا التجاسر أو الكبرياء).
ü من السرور إلى البحث عن طرق جديدة متنوعة.
ü من البحث عن طرق جديدة إلى تكوين عادة.
ü من تكوين عادة إلى عبادة الأصنام، مطالبًا بأن يخدمها.
ü من عبادة الأصنام إلى التضحية.
ü من التضحية إلى العبودية.
· وطوال هذه السلسلة المتصلة، يقول الروح القدس، وضميرنا (كما يؤمَّل): “توقّف!” وطوال هذه السلسلة المتصلة، يعطينا الله منفذًا للهرب (رسالة كورنثوس الأولى ١٣:١٠)، إن كنا مستعدين لاتخاذه. فإذا لم ننتهز الفرصة، سينتهي بنا الأمر إلى عبودية الخطية، ما يشكك بطريقة مشروعة في حالة نفسنا (رسالة يوحنا الأولى ٦:٣-٩).
· وبسبب هذا الخطر الكبير، صلى داود: أَيْضًا مِنَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ (خطايا الكبرياء والمعرفة) ٱحْفَظْ عَبْدَكَ. “هل لاحظت أن هذه الصلاة جاءت من قديس، من رجل من رجال الله الأتقياء؟ فهل احتاج إلى أن يصلي هكذا؟ هل احتاج هذا الرجل الذي بحسب قلب الله أن يصرخ قائلًا: “ٱحْفَظْ عَبْدَكَ؟” نعم، لقد احتاج إلى ذلك.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. فَلَا يَتَسَلَّطُوا عَلَيَّ: وبالفعل، لم يكن يعرف أنه قادر على ارتكاب مثل هذه الخطايا فحسب، بل إنها يمكن أن تتسلط عليه أيضًا. كان داود محقًّا في رفع هذه الصلاة. وستساعده محبته لكلمة الله، واتكاله عليه في الصلاة في أن يبقى حرًّا من هيمنة الخطية وعبوديتها.
· هذه الصلاة أكثر ملاءمة لمن يرتبط بالله على أساس العهد الجديد. فكما قال بولس: “إِنَّ ٱلْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ، لِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ ٱلنِّعْمَةِ.” (الرسالة إلى أهل رومية ١٤:٦).
٥. حِينَئِذٍ أَكُونُ كَامِلًا وَأَتَبَرَّأُ: عرف داود أنه عندما تتم معالجة الخطية في حياته – عندما يتم التعامل مع الخطية الداخلية، الخطية السرية والخارجية، والخطية المتجاسرة، والخطية المستعبِدة – عندئذٍ سيكون كَامِلًا (بلا لوم) وَيتَبَرَّأُ مِنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ.
· لم يكن هذا ادّعاء بكمال خالٍ من الخطية تم تحقيقه بالفعل أو سيصل إليه قبل القيامة. إذ عرف داود أنه محتاج إلى التطهُّر، ووثق بذبيحة الله الكاملة – المرموز إليها مسبقًا في الذبائح الحيوانية التي قُدِّمت تحت النظام الموسوي. وقد فهمَ داود الكمال والبراءة على المستوى البشري النسبي وليس المطلق حسب القياس الإلهي.
د ) الآية (١٤): صلاة استسلام ونقاوة.
١٤لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي.
١. لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ: يختم داود مزموره باستسلام متواضع من فمه وقلبه لله. فقد عرف أن التقوى الحقيقية ليست ما يفعله المرء فحسب، بل ما يقوله ويفكر فيه في قلبه أيَضًا.
· لم يكن هذا تصريحًا فخورًا من داود أنه بريء وبلا لوم. بل كان التماسًا لكي يصبح كذلك بقوة الله المُغيرة.
· مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ: “لا ينتهي المزمور بنغمة تجنُّب الخطية، بل بتقديم استجابة ذهنية ملائمة لكلام الله كذبيحة طاهرة (انظر سفر هوشع ٢:١٤). هذا هو التضمين المقبول، وهو تعبير غالبًا ما نجده في سياقات تقديم الذبائح.” كيدنر (Kidner)
٢. يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي: تطلَّع داود إلى الرب ليكون قوّته وفداءه. عرف أنه محتاج إلى فادٍ (وَلِيِّ) وأن الله الأمين سينقذه.
· يمكن أن تترجم كلمة صخرة إلى قوة. فقوة الله مثل صخرة تنقذنا وتعطينا مكانًا راسخًا للصمود.
· تعني الكلمة العبرية (goel) المترجمة إلى ’وَلِيِّ‘ الفادي القريب. فهذا هو الوليّ الذي يشتري قريبه من العبودية، والذي ينقذه من الإفلاس والخسارة الكلية. وهكذا نظر الملك داود إلى الله بصفته وليّه، أي فاديه القريب.
· “فإن لم تكن صخرتنا فادينا، لم يكن لنا رجاء. إن لم يكن فادينا صخرتنا، فسنكون في خوف. وإنه لأمر جيد ألّا ننسى التفسير المتبادل لهذين الإعلانين لله.” مورجان (Morgan)
· قطع هذا المزمور مسارًا مجيدًا. فهو يبدأ بالإقرار بمجد الله في الخليقة، ثم ينتقل إلى مجد إعلانه المكتوب. وعرف داود أنه صغير وآثم إلى جانب هذا الإله العظيم وأعماله العظيمة. غير أن هذا الإله سيكون قوة داود وفاديه (صَخْرَتِي وَوَلِيِّي) لأن داود وضع ثقته فيه.
· كان إله الخليقة والإعلان المجيد أيَضًا الإله المجيد للعلاقة الشخصية والفداء لشعبه. لقد عرف داود ذلك، وينبغي لنا نحن أيضًا أن نعرفه.