تفسير سفر المزامير – مزمور ٤٠
الخادم يعمل إرادة الله
هذا المزمور معنون لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ، مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ.
لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ: “ربما يكون أمرًا ثمينًا للغاية أن يُهدى هذا المزمور على نحو خاص إلى أكثر الموسيقيين براعة وقداسة.” تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon)
مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ: تكهّن ج. كامبل مورجان (G. Campbell Morgan) قائلًا: “في هذه الحالة، يرجح أن سبب كتابة هذه القصيدة كان إنقاذ داود من كل الخبرة الطويلة المتسمة بالخروج عن القانون وبالمعاناة، وحقيقة أن هذا كله انتهى إلى تتويجه ملكًا.”
أولًا. إعلان خلاص بهيج
أ ) الآيات (١-٣): النتائج المباركة لانتظار الرب بصبر.
١اِنْتِظَارًا انْتَظَرْتُ الرَّبَّ، فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي، ٢وَأَصْعَدَنِي مِنْ جُبِّ الْهَلاَكِ، مِنْ طِينِ الْحَمْأَةِ، وَأَقَامَ عَلَى صَخْرَةٍ رِجْلَيَّ. ثَبَّتَ خُطُوَاتِي، ٣وَجَعَلَ فِي فَمِي تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً، تَسْبِيحَةً لإِلهِنَا. كَثِيرُونَ يَرَوْنَ وَيَخَافُونَ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَى الرَّبِّ.
١. اِنْتِظَارًا ٱنْتَظَرْتُ ٱلرَّبَّ، فَمَالَ إِلَيَّ: فكرة انتظار الرب شائعة، ولا سيما في المزامير القليلة الأخيرة (مزمور ٥:٢٥، ٢١:٢٥، ١٤:٢٧، ٧:٣٧، ٩:٣٧). وفي المزمور السابق، انتظر داود الرب من دون استجابة فورية. وهنا تبتدئ الاستجابة (فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي).
· “يقول النص الإنجليزي: ’انتظرتُ بصبر،‘ بينما يقول النص العبري: ’في انتظارٍ انتظرتُ،‘ حيث يعكس تكرار الكلمة فكرة أن داود انتظر بجِد وصبر ومثابرة إلى أن شاء الرب أن يعينه.” بوله (Poole)
· “حملت فكرة الانتظار – التي أسهب داود في شرحها في المزمور ٣٧ – تطبيقات مؤلمة في المزمورين ٣٨ و٣٩، لكننا نرى هنا حصيلتها الانتصارية.” كيدنر (Kidner)
· “فكِّروا، أيها الإخوة، ألا يمكن أن تُقرأ هذه ’انتظرتُ بفارغ الصبر‘ بالنسبة لمعظمنا؟” سبيرجن (Spurgeon)
٢. فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي: تحمل كلمة ’مَالَ‘ معنى الانحناء فوق داود في محنته، مزيلًا أية مسافة متصوَّرة بين الرب وخادمه. وعندما عرف داود أن الرب سمعه، كان واثقًا باستجابة مواتية.
· “أثمر الانتظار الصبور عن شعور المرنم بأن يهوه كان ينحني فوقه ويستمع إلى صراخه.” مورجان (Morgan)
· “كما لو أن هذا شدّ اهتمام شخص بإحكام.” كيدنر (Kidner)
٣. وَأَصْعَدَنِي… مِنْ طِينِ ٱلْحَمْأَةِ، وَأَقَامَ عَلَى صَخْرَةٍ رِجْلَيَّ: حصل داود على مزايا أخرى عندما انتظر الرب بصبر (اِنْتِظَارًا انْتَظَرْتُ الرَّبَّ). فقد أنقذه الرب من أزمته الحالية (مثل طِينِ ٱلْحَمْأَةِ)، ووضعه في مكان أفضل وأكثر مكانًا (ثَبَّتَ خُطُوَاتِي). وهكذا استُجيبت صلاة داود من أجل الإنقاذ.
٤. وَجَعَلَ فِي فَمِي تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً، تَسْبِيحَةً لِإِلَهِنَا: هذه مزية أخرى حصل عليها داود بعد انتظاره للرب بصبر. إذ أَخرجَ منه هذا الإنقاذ تسبيحًا عفويًّا، تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً جاءت من الله نفسه.
· سيُلهِم الله ترانيم وكلمات تسبيح. ربما يبدو هذا أنانيًّا أو خادمًا للذات نوعًا ما. لكن عندما نفهم كم هو حسن وصواب أن يقدِّم المخلوق تسبيحًا للخالق، وأن يقدّم المفدي تسبيحًا للفادي، وأن يقدّم المخلَّص تسبيحًا للمخلِّص، عندئذٍ يكون هذا مفهومًا ومنطقيًّا. فنحن ممتنون لأن الله يعطينا القدرة على تسبيحه.
· إنه لأمر ممكن أن تكون هذه هي التَرْنِيمَة الجَدِيدَة التي وضعها الرب في فم داود. “يصبح الخادم المتألم دائمًا الخادم المرنم. فكما أن سر الترنيمة هي دائمًا سر انتظار الرب، فإن عمل إرادته من خلال المعاناة يُسفِر دائمًا عن إنقاذ. والقضية هي الترنُّم له.” مورجان (Morgan)
٥. كَثِيرُونَ يَرَوْنَ وَيَخَافُونَ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَى ٱلرَّبِّ: هذه مزية أخرى حصل عليها داود بعد انتظاره للرب بصبر. كان الإنقاذ والتسبيح اللذان جاءا من ذلك شهادة لآخرين. فقد ألهمهم هذا خوف الرب والاتكال عليه.
· يَتَوَكَّلُونَ عَلَى ٱلرَّبِّ: “الثقة بالرب هو الدليل على الخلاص. ومن الواضح أن المؤمن الحقيقي مفدي من هيمنة الخطية وإبليس.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٤-٥): الثقة بالله الذي يفكر في شعبه.
٤طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي جَعَلَ الرَّبَّ مُتَّكَلَهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْغَطَارِيسِ وَالْمُنْحَرِفِينَ إِلَى الْكَذِب. ٥كَثِيرًا مَا جَعَلْتَ أَنْتَ أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي عَجَائِبَكَ وَأَفْكَارَكَ مِنْ جِهَتِنَا. لاَ تُقَوَّمُ لَدَيْكَ. لأُخْبِرَنَّ وَأَتَكَلَّمَنَّ بِهَا. زَادَتْ عَنْ أَنْ تُعَدَّ.
١. طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلرَّبَّ مُتَّكَلَهُ: هذه فكرة طبيعية وملائمة نابعة مما سبق أن اختبره داود. فقد عرف بالخبرة أن الثقة بالله (الاتكال عليه) – كما بيَّنه انتظاره للرب – أمر مبارك (طُوبَى لِلرَّجُلِ).
· “ربما يكون شخص ما فقيرًا فَقْرَ لعازر، ومبغوضًا بُغض مردخاي، ومريضًا مَرَضَ حزقيا، ووحيدًا وحدة إيليا، لكن مع تمسُّك يد إيمانه بالرب، فإن أية محنة من هذه المحن الخارجية لن تحول بينه وبين أن يُعَد بين المبارَكين. لكن أكثر إنسان غنىً ونجاحًا – لا يملك إيمانًا – هو ملعون، رغم كل شيء آخر.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ٱلْغَطَارِيسِ وَٱلْمُنْحَرِفِينَ إِلَى ٱلْكَذِبِ: ربط داود الثقة بالله بالسلوك الأخلاقي، وفي هذه الحالة ربطها بالقدرة على تمييز المعدن الأخلاقي للآخرين والحكم عليهم، وأن يتصرف نحوهم بشكل ملائم. ربما نتجت أزمة داود عن رفضه احترام المتكبرين (ٱلْغَطَارِيسِ)، والذين يلجؤون إلى الأكاذيب (ٱلْمُنْحَرِفِينَ إِلَى ٱلْكَذِبِ).
· وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ٱلْغَطَارِيسِ: “يستخدم داود في إشارته إلى الغطاريس نفس اللقب المعطى لمصر ’رَهَبَ الجُلُوْس‘ في سفر إشعياء ٧:٣٠.” كيدنر (Kidner)
٣. كَثِيرًا مَا جَعَلْتَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلَهِي عَجَائِبَكَ وَأَفْكَارَكَ مِنْ جِهَتِنَا لَا تُقَوَّمُ (لا تُحصى) لَدَيْكَ: سبّح داود الله على أعماله العظيمة التي أجراها، ومن أجل أفكاره تجاه شعبه. عرف داود أن الله فكّر فيه (وفي شعبه) بشكل مُواتٍ، وإلاّ فلن تكون هنالك أية بركة له في هذه الأفكار.
· “الخليقة، والرعاية الإلهية، والفداء، كلها تزخر بالعجائب كما يزخر البحر بالحياة.” سبيرجن (Spurgeon)
· “الماضي ممتلئ بالمعجزات (عَجَائِبِكَ)، والمستقبل ممتلئ بخططه. وهذه هي قوة أفكار الكلمة.” كيدنر (Kidner)
· تساءل داود في مزمور ٤:٨ “فمن هو الإنسان حتى تذكره؟” وتأمّل في عظمة الكون، فاندهش كيف أن الله يمكن أن يفكر في الإنسان أصلًا. وهنا أخذ هذه الفكرة إلى نقطة أبعد، فتعجّب كيف أنه يفكر في شعبه. وبالتضمين، يتعجب كيف أن الله يفكر تلك الأفكار المتسمة بالمحبة واللطف والكرم تجاه شعبه. وهنالك أسئلة كثيرة مماثلة أخرى لا يمكن أن تُحصى.
· أفكار الله مِنْ جِهَتِنَا رائعة لأنها أفكاره. “عندما أفكر، تأتي الأفكار من رأسي المسكين الصغير الضعيف الفارغ. لكن عندما يفكر الله، فإن الفكر العملاق الذي شكّل الكون هو الذي يفكر فيّ.” سبيرجن (Spurgeon)
· أفكار الله مِنْ جِهَتِنَا رائعة لأنها كثيرة، ولا يمكن أن تُحصى. “لا يمكنك أن تحصي أفكار الله حولك. إذ تتلو فكرة لطيفة بعد أخرى بسرعة مثل أشعة الشمس بحيث يتعذّر علينا أن نعدّها.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. الخادم المستعد يطلق تسبيحًا لله
“هنا ندخل واحدًا من أروع النصوص في العهد القديم، وهو نص يُرى فيه ابن الله لا من خلال زجاج معتم، بل كما لو كان وجهًا لوجه.” سبيرجن (Spurgeon)
أ ) الآيات (٦-٨): مجيء العبد المملوك.
٦بِذَبِيحَةٍ وَتَقْدِمَةٍ لَمْ تُسَرَّ. أُذُنَيَّ فَتَحْتَ. مُحْرَقَةً وَذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ لَمْ تَطْلُبْ. ٧حِينَئِذٍ قُلْتُ: «هأَنَذَا جِئْتُ. بِدَرْجِالْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّى: ٨أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلهِي سُرِرْتُ، وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي».
١. بِذَبِيحَةٍ وَتَقْدِمَةٍ لَمْ تُسَرَّ. أُذُنَيَّ فَتَحْتَ: فهِمَ داود نسبيًّا أن الله لم يُرِد ذبائح حيوانية. فهو يريد خدّامًا مستسلمين له عن طواعية.
· يذكر مزمور ٦:٤٠ أربعة أنواع من التقدمات:
ü ذَبِيحَة (تقدمة دموية)
ü تَقْدِمَة (تقدمة غير دموية)
ü مُحْرَقَة (تقدمة تكريس كلي)
ü ذَبِيحَة خَطِيَّةٍ (تقدمة للتكفير عن الخطية)
· ما الذي كان يرغب فيه الله بدلًا من الذبائح؟ الطاعة. وكان هذا صحيحًا بالنسبة لسلف داود، شاول. فقد قدّم الملك شاول ذبائح جيدة، لكنه لم يطع الله (سفر صموئيل الأول ٢٢:١٥-٢٣). غير أن هذا أمرٌ حققه ابن داود. فقد جاء يسوع مطيعًا بشكل كامل لله، وقد حُسِبتْ طاعته لنا.
٢. أُذُنَيَّ فَتَحْتَ: بدلًا من ذبائح حيوانية، يريد الله خدّامًا مستعدين أن يستمعوا إليه ويستسلموا له كما يستسلم عبد مملوك لسيّده.
· يرجح أن داود كان يشير هنا إلى وضع علامة على العبد المملوك حسب سفر الخروج ٥:٢١-٦، حيث توضع علامة على عبد يريد أن يبقى في بيت سيده وفي خدمته بثقب أذنه بمخرز (أُذُنَيَّ فَتَحْتَ)، وعندئذٍ يخدمه إلى الأبد (سفر الخروج ٦:٢١).
· إنه لأمر أن نفكر في هذا الطقس الذي كان يُعمل به في إسرائيل القديمة. يقول العبد: “أعرف أني أتممت واجباتي تجاه سيدي، وأني قدّمت له الخدمة التي كنتُ مدينًا بها له. غير أني أحب سيدي. وأنا ممتن على ما قدّمه لي حتى إني أُلزم نفسي بخدمته إلى الأبد، لا بدافع من دَين أو خزي، أو لأني مغلوب على أمري، بل بدافع المحبة.” كان هذا قلب داود تجاه الله، وكان قلبه وحياته أكثر من ذبيحة حيوانية.
· وصف الطقس في سفر الخروج ٥:٢١-٦ ثقْب (فتْح) أذن واحدة فقط. لكن المزمور ٤٠ يتحدث عن فتح أذنين اثنتين (أُذُنَيَّ فَتَحْتَ). ويَعُد بعضهم هذا دليلًا على أن صاحب المزمور كان في ذهنه شيء آخر غير طقس العبد المملوك، مثل فتح الأذن والطاعة. ويفضّل أن يُنظر إليه على أنه تعبير عن استسلام كامل من داود أبعد مما تطالب به الشريعة، كما لو أن داود يقول: “يا رب، امتلكْ أذنيّ كلتيهما!”
· يقدّم هورن (Horne) شرحًا بعيدًا عن طقس سفر الخروج ٥:٢١-٦. “يبدو أن التعبير ’أُذُنَيَّ فَتَحْتَ‘ معادل للقول: ’لقد جعلتني‘ مطيعًا.” وهكذا تقول الآية في سفر إشعياء ٥:٥٠ ’السَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ لِي أُذُنًا وَأَنَا لَمْ أُعَانِدْ. إِلَى الْوَرَاءِ لَمْ أَرْتَدَّ.‘” هورن (Horne)
٣. بِذَبِيحَةٍ وَتَقْدِمَةٍ لَمْ تُسَرَّ. أُذُنَيَّ فَتَحْتَ: كان استسلام داود مثلًا رائعًا ومثيرًا للإعجاب. غير أنه كان يقدم صورة مسبقة رائعة للاستسلام الكلي الذي قدّمه المسيّا يسوع المسيح. وتقتبس الرسالة إلى العبرانيين ٥:١٠-١٠ (من الترجمة السبعينية) مزمور ٦:٤٠-٨. وهذه نبوّة رائعة مذهلة لعمل يسوع المسيح.
· يبيّن هذا النص عدم رضا الله الكلي عن الذبائح الحيوانية في انتظار الذبيحة الكاملة. (بِذَبِيحَةٍ وَتَقْدِمَةٍ لَمْ تُسَرَّ).
· يبيّن أيضًا أن الله الابن جاء في جسد مستعد (تقول الترجمة السبعونية: وَلكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا – رسالة العبرانيين ٥:١٠).
· يبيّن أيَضًا مجيء يسوع العلني، كما لو أن يسوع قال: “انظر. ها أنا. أنا هو ذاك المقصود.” (هنَذَا أَجِيءُ).
· يبيّن هذا أن المسيّا هو موضوع الكتاب المقدس العبري – العهد القديم (فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي).
· يبيّن تكريس المسيّا لإرادة الله (أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلَهِي سُرِرْتُ).
· يبيّن محبة المسيّا لكلمة الله وطاعته لها (وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي).
ü بِذَبِيحَةٍ وَتَقْدِمَةٍ لَمْ تُسَرَّ: “من الجدير بالذكر أن كل التقدمات والذبائح، المذكورة ذات الطبيعة التكفيرية أو التطهيرية والمقدمة بموجب نظام العهد القديم والتي يعدّدها صاحب المزمور وكاتب الرسالة إلى العبرانيين، تبيّن أن أية واحدة منها، أو كلها، لا تستطيع أن تنزع الخطايا. فالذبيحة الكبرى النهائية التي قدّمها المسيح نفسه هي وحدها تستطيع ذلك.” كلارك (Clarke)
ü “يقول نص الترجمة السبعينية الذي اقتبس بولس منه ’هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا‘: ليس سهلًا أن نتصور كيف ظهرت هذه الترجمة، لكن بما أن السلطة الرسولية أقرّت هذا التنوع في الترجمة، فإننا نقبلها على أنها بلا خطأ، لكن كحالة من القراءات الموحى بها بنفس القدر.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. بِدَرْجِ ٱلْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي: لا يستطيع أن يقول هذا عن نفسه إلا بمعنى أقل بكثير مما يقال عن المسيا يسوع، لأن صعوده إلى العرش قد تم التنبؤ به قبل وقت طويل من حدوثه. غير أن تحقيق هذا بالنسب لداود ظِلٌّ باهت بالمقارنة مع تحقيقه المذهل والكامل في ابن داود الأعظم يسوع المسيّا.
٥. أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلَهِي سُرِرْتُ: مرة أخرى، بمعنى أقل بكثير كانت هذه الكلمات تنطبق على داود أيضًا، َرجُلاً حَسَبَ قَلْبِهِ. غير أن تحقيق هذا بالنسب لداود ظِلٌّ باهت بالمقارنة مع تحقيقه المذهل والكامل في ابن داود الأعظم يسوع المسيّا. وقد قال يسوع إن عمل إرادة الآب ضروري ومسِر له مثل الطعام (إنجيل يوحنا ٣٤:٤).
· أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلَهِي سُرِرْتُ: “لم يفعل يسوع إرادة الله فحسب، بل وجد في ذلك مسرة ولذة. فقد رغب منذ الأزل أن يفعل العمل الموضوع أمامه. وكان في حياته البشرية محصورًا بتلك الرغبة إلى أن وصل إلى معمودية العذاب التي عظّم الشريعة فيها. وحتى في جثسيماني، اختار إرادة الآب، واضعًا إرادته الخاصة جانبًا.” سبيرجن (Spurgeon)
· أَنْ أَفْعَلَ: “كان يسوع فاعل الفِعل. جعل الآب ذلك الفعل (العمل) إرادته، لكن لم يكن هو الذي فعله. إذ كان يسوع هو الذي فعله، وحقّقه، وجلبه حاملًا إياه داخل الحجاب، ووضعه كتقدمة مقبولة جديرة بالتقدير عند قدمي الآب الذي سُرّ به كثيرًا. فالفعل قد تمّ. قد أُكمِل. فلا ينبغي أن نحاول أن نفعله. فلا نستطيع أن نفعل ذلك. إذ لا نستطيع أن نفعل ما قد تمّ عمله بالفعل. ولم يكن بمقدورنا أن نفعل ذلك عندما لم يكن قد عُمل.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن فرام (Frame)
· وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي: “افتح قلوب معظم البشر، وستجد أنه مكتوب عليها: إله هذا الدهر. لكن شريعة الله هي في قلوب الأشخاص الصالحين، ليحيوا بها ويموتوا بها.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٩-١٢): الإعلان الجهاري للأخبار الصالحة وتسبيح الله.
٩بَشَّرْتُ بِبِرّ فِي جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ. هُوَذَا شَفَتَايَ لَمْ أَمْنَعْهُمَا. أَنْتَ يَا رَبُّ عَلِمْتَ. ١٠لَمْ أَكْتُمْ عَدْلَكَ فِي وَسَطِ قَلْبِي. تَكَلَّمْتُ بِأَمَانَتِكَ وَخَلاَصِكَ. لَمْ أُخْفِ رَحْمَتَكَ وَحَقَّكَ عَنِ الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ. ١١أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَلاَ تَمْنَعْ رَأْفَتَكَ عَنِّي. تَنْصُرُنِي رَحْمَتُكَ وَحَقُّكَ دَائِمًا. ١٢لأَنَّ شُرُورًا لاَ تُحْصَى قَدِ اكْتَنَفَتْنِي. حَاقَتْ بِي آثامِي، وَلاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُبْصِرَ. كَثُرَتْ أَكْثَرَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي، وَقَلْبِي قَدْ تَرَكَنِي.
١. بَشَّرْتُ بِبِرٍّ فِي جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ: قال داود هذا لكي يؤكد لله ولنفسه أنه سبق أن مجّد الله بين شعبه. وكان ذلك جزءًا من الترنيمة الجديدة والتسبيح اللذين نبعا من إنقاذ الله له. فلم يكن ليقبل أن يمنع شفتيه من تقديم هذا التسبيح (هُوَذَا شَفَتَايَ لَمْ أَمْنَعْهُمَا).
· لكن كما في الآيات السابقة، كان لهذا تطبيق كامل وأعظم بكثير على يسوع بن داود، إذ كان ينطبق على خدمته الأرضية. “هذا هو ما يستطيع أن يقوله يسوع. إنه رئيس الوعاظ في الهواء الطلق، والواعظ الجوّال العظيم، ورئيس كلية وعاظ الإنجيل.” سبيرجن (Spurgeon)
· وينطبق على يسوع في الأبدية. وينطبق على يسوع، حيث يقول: “أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ” (سفر العبرانيين ١٢:٢ كتتميم لمزمور ٢٢:٢٢). إنه لأمر رائع أن نفكر في يسوع وهو يقود جماعة الله في تسبيح لله الآب!
٢. لَمْ أَكْتُمْ عَدْلَكَ (برّك) فِي وَسَطِ قَلْبِي: كان بر الله واضحًا في كلام داود وأعماله. لم يوضع في مكان سري لا علاقة له بالكيفية التي عاش بها حياته بالفعل.
· لَمْ أُخْفِ: يشير هذا إلى أن كل من يحمل على عاتقه الكرازة بإنجيل المسيح يمكن أن يجرَّب بقوة بإخفائه، لأنه يتوجب أن يُكرز به في نزاع، وفي مقاومة عظيمة.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن هنري (Henry)
٣. أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَلَا تَمْنَعْ رَأْفَتَكَ عَنِّي: رغم أن داود سبّح الله على إنقاذه السابق والحالي، فإنه لن يتجاسر في ما يتعلق بالمستقبل. إذ ظلّ في صلاة دائمة متواضعة أمام الله، طالبًا منه إمدادات متواصلة من مراحمه (رَأْفَتَكَ).
· ليس صعبًا أن نرى هذا كصلاة يوجهها يسوع بن داود. فعندما كان على الأرض، عاش كإنسان في اعتماد دائم على شركة وتواصل كاملين مع الله الآب. ونحن نرى هذا أيضًا كصلاة ليسوع، ربما في معاناته وهو معلق على الصليب على نحو خاص: أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَلاَ تَمْنَعْ رَأْفَتَكَ عَنِّي. تَنْصُرُنِي رَحْمَتُكَ وَحَقُّكَ دَائِمًا.
· كان بمقدور يسوع أن يقول على الصليب فعلًا: لِأَنَّ شُرُورًا لَا تُحْصَى قَدِ ٱكْتَنَفَتْنِي.
٤. حَاقَتْ بِي آثَامِي: احتاج داود إلى هذه الإمدادات المتواصلة من رأفة الله ومراحمه ومحبته الثابتة وحقّه، لأنه عرف خطاياه. لم يطلب من الله أن يتركه لخطاياه (كَثُرَتْ أَكْثَرَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي)، بل أن ينقذه في رحمته.
· كان هنالك معنى كان بموجبه لا يستطيع يسوع أن يقول: ’حَاقَتْ بِي آثَامِي،‘ حيث كان حمَل الله الخالي من العيوب، والذي لم تكن فيه خطية أو نقيصة. لكن بمعنى آخر، يمكن أن تكون هذه الكلمات وصفًا كاملًا ليسوع، لأنه أثناء حياته، وعلى نحو خاص على الصليب، وحّد نفسه بوعي مع شعبه، آخذًا خطاياهم كأنها خطاياه. كانت هذه بالنسبة ليسوع ’آثَامِي‘ – لكن ليس لأنه ارتكب تلك الآثام، بل بدافع من محبته، اختار أن يحملها مع الخطايا التي تستحقها.
· “إذا نظرنا إلى هذا على أنه متعلق بيسوع، فإنه أكبر الخطاة بموجب نسب تلك الآثام إليه (أي أنها حُسِبت عليه) – رسالة كورنثوس الثانية ٢١:٥.” تراب (Trapp)
ثالثًا. إعلان تضرع قلبي من أجل العون
أ ) الآيات (١٣-١٥): التضرع من أجل الإنقاذ.
١٣اِرْتَضِ يَا رَبُّ بِأَنْ تُنَجِّيَنِي. يَا رَبُّ، إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ. ١٤لِيَخْزَ وَلْيَخْجَلْ مَعًا الَّذِينَ يَطْلُبُونَ نَفْسِي لإِهْلاَكِهَا. لِيَرْتَدَّ إِلَى الْوَرَاءِ، وَلْيَخْزَ الْمَسْرُورُونَ بِأَذِيَّتِي. ١٥لِيَسْتَوْحِشْ مِنْ أَجْلِ خِزْيِهِمِ الْقَائِلُونَ لِي: «هَهْ! هَهْ!».
١. اِرْتَضِ يَا رَبُّ بِأَنْ تُنَجِّيَنِي: رغم آثام داود الكثيرة، اعتمد على الرب من أجل خلاصه. وقام بصياغة هذه الطلبة ببراعة، طالبًا من الرب لا أن يخلّصه فحسب، بل أن يُسَر بهذا الخلاص أيضًا. كان بمقدور يسوع أن يقدم تلك الطلبة لأنه آمن بأن هذا يتوافق مع رضا الله.
· يمكننا أن نأخذ هذا المبدأ ونطبّقه على كثير من طلباتنا.
ü ارتضِ يا رب أن تغفر لي.
ü ارتضِ يا رب أن تقوّمني.
ü ارتضِ يا رب أن تدبّر لي احتياجاتي.
ü ارتضِ يا رب أن تشفيني.
ü ارتضِ يا رب أن ترشدني.
ü ارتضِ يا رب أن تباركني.
· لا ينبغي أن نفاجأ بأن المزمور ابتدأ بتسبيح انتصاري، ثم تحوّل إلى طلب عون باستماتة. “هل توجد حالات إنقاذ كثيرة في هذه الحياة المحفوفة بالمخاطر والناقصة بحيث لا تترك مجالًا لأية مخاطر للمستقبل؟ ألا يتوجب أن يرافق التبصّر بالأخطار الآتية شكرنا على حالات النجاة السابقة؟” ماكلارين (Maclaren)
٢. يَا رَبُّ، إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ: رغم أن داود قدّم طلبته ببراعة، إلا أنه قدّمها بشكل مُلِح. فقد فهِم أن التأخير الطويل الزائد يعني رفض تقديم العون.
٣. أَسْرِعْ. لِيَخْزَ وَلْيَخْجَلْ مَعًا ٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَ نَفْسِي لِإِهْلَاكِهَا: هذا هو العون الذي سعى داود إليه. سبق أن خلّصه الرب في نعمته (مزمور ١:٤٠-٣)، لكن التهديد ما زال قائمًا. فصلّى أن يُخزي الله أعداءه ويتسبب في إرباكهم.
· داود في ضيق هنا، كما هو الحال في كثير من مزاميره. غير أن المرء لا يمكن أن يفهم هذا الأمر من قراءته للجزء الأول من المزمور. صحيح أنه احتاج إلى حماية الله وعونه وطلبهما، إلا أنه لم ينسَ أو يهمل الإنقاذ الرائع الذي قدّمه الله له حتى تلك النقطة من حياته. ولهذا قدّم استجابة استسلام ملائمة.
· “يصلي صاحب المزمور من أجل سقوط أعدائه وخزيهم وفْق مبادئ العدالة الإلهية ووفق وعد الرب بأن يلعن كل من يلعن خاصته.” فانجيميرين (VanGemeren)
· الْقَائِلُونَ لِي: «هَهْ! هَهْ!»: “أيها القارئ غير التقي، يا من تقرأ هذه الصفحة، احذر من اضطهاد المسيح وشعبه، لأن من المؤكد أن الله سينتقم لمختاريه، وسيكلفك استهزائك بهم غاليًا. صعبٌ عليك أن ترفس مناخس!” كلارك (Clarke)
ب) الآيات (١٦-١٧): تسبيح مع تضرُّع آخر.
١٦لِيَبْتَهِجْ وَيَفْرَحْ بِكَ جَمِيعُ طَالِبِيكَ. لِيَقُلْ أَبَدًا مُحِبُّو خَلاَصِكَ: «يَتَعَظَّمُ الرَّبُّ». ١٧أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَبَائِسٌ. الرَّبُّ يَهْتَمُّ بِي. عَوْنِي وَمُنْقِذِي أَنْتَ. يَا إِلهِي لاَ تُبْطِئْ.
١. يَبْتَهِجْ وَيَفْرَحْ بِكَ جَمِيعُ طَالِبِيكَ: دعا داود شعب الله – أو على الأقل الذين يطلبونه – أن يبتهجوا ويفرحوا به، وأن يقولوا دائمًا: ’يَتَعَظَّمُ ٱلرَّبُّ!‘
· اعتقد داود أن تسبيح الله يعني تعظيمه، أي أن يجعله أوسع أو أكبر في مدارك المرء. ولا يقوم التعظيم (التكبير) بجعل شيء ما أكبر مما هو، ولا نستطيع أن نجعل الله أكبر مما هو عليه. لكن تعظيم شيء أو تكبيره يعني أن ندركه على أنه أكبر. ويتوجب علينا أن نفعل ذلك مع الرب الإله.
· لِيَقُلْ أَبَدًا مُحِبُّو خَلاَصِكَ: “يعتقد بعضهم أن محبتهم للذات وحدها هي التي تجعلنا نحب الخلاص. صحيح، لكنهم يحبون الخلاص لأنه خلاص الله (مُحِبُّو خَلَاصِكَ). إنها طبيعة المؤمن المقدسة أن تحب الخلاص ذاته، لا بصفته خلاصًا خاصًا به، بل بصفته خلاص الله، لأن الله هو الذي يخلّصه.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن جودوين (Goodwin)
٢. أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَبَائِسٌ (محتاج). ٱلرَّبُّ يَهْتَمُّ بِي: استطاع داود أن يجمع ما بين إحساسه بالفرح العظيم وتقييمه الواقعي لاحتياجه الحالي. كان آمِنًا في حقيقة أن الله يهتم به ويفكر فيه. وناشد داود مرة أخرى الله أن يكون هو نفسه عونه ومخلّصه، وأكد احتياجه إلى أن يفعل الرب هذا من دون تأخير.
· “يصرخ قائلًا: ’أَنَا مِسْكِينٌ وَبَائِسٌ.‘ فرح داود موجود في آخر، هو الله. وهو ينظر بعيدًا عن نفسه، إلى التعزيات التي أعدّها له القصد الأزلي.” سبيرجن (Spurgeon)
· أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَبَائِسٌ: “مع وجود مثل هذا الآب السماوي، ومثل هذا الصديق الإلهي، يصبح الفقر غنى، والضعف نفسه قوة.” هورن (Horne)
· ٱلرَّبُّ يَهْتَمُّ بِي (يفكّر فيّ): “لقد فكّر فيك، وما زال. فعندما يفكر الآب بأبنائه، فإنه يفكّر فيك. وعندما يفكر ديّان (قاضي) الجميع العظيم بالمبررين، فإنه يفكر فيك. أيها المؤمن بالمسيح، هل تستطيع أن تستوعب هذه الفكرة؟ الآب السرمدي يفكر فيك! ” سبيرجن (Spurgeon)