تفسير سفر المزامير – مزمور ٤٩
ما لا يستطيع المال أن يشتريه
هذا المزمور معنون: “إِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورٌ،” شأنه في ذلك شأن مزامير كثيرة في الكتاب الثاني من سفر المزامير. كان أبناء قُورَح لاويين من عائلة قهات. وبحلول زمن داود، خدموا في الجانب الموسيقي من عبادة الهيكل (سفر أخبار الأيام الثاني ١٩:٢٠).
“تعليم هذه الترنيمة بسيط وسامٍ وحاضر ودائم.” ج. كامبل مورجان (G. Campbell Morgan). “يلمس هذا المزمور أعلى مستوى من إيمان العهد القديم في حياة أخرى.” ألكزاندر ماكلارين (Alexander Maclaren)
أولًا. حدود الثروة المادية
أ ) الآيات (١-٤): مقدمة لمزمور الحكمة هذا.
١اِسْمَعُوا هذَا يَا جَمِيعَ الشُّعُوبِ. أَصْغُوا يَا جَمِيعَ سُكَّانِ الدُّنْيَا، ٢عَالٍ وَدُونٍ، أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، سَوَاءً. ٣فَمِي يَتَكَلَّمُ بِالْحِكَمِ، وَلَهَجُ قَلْبِي فَهْمٌ. ٤أُمِيلُ أُذُنِي إِلَى مَثَل، وَأُوضِّحُ بِعُودٍ لُغْزِي.
١. اِسْمَعُوا هَذَا يَا جَمِيعَ ٱلشُّعُوبِ: يتحدث صاحب المزمور إلى الجميع، أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ سَوَاءً، آمِلًا أن يرشد المنزعجين من غِنَى الأشرار.
· توجد أربعة أنواع من الغِنى: غِنىً بما تملكه، وغِنىً بما تفعله، وغِنىً بما تعرفه، وغِنىً بشخصك – أي بمعدنك الأخلاقي. ولا يتحدث صاحب المزمور إلاّ عن النوع الأول، وهو الأقل أهمية بين الأنواع الأربعة.
· “من الواضح أنه كان واعيًا لعظمة الموضوع الذي يتناوله، حتى إنه بدأ بدعوة البشر كلهم، من كل الطبقات، إلى الاستماع إليه.” مورجان (Morgan)
· يتحدث هذا المزمور، شأنه شأن معظم أدب الحكمة، إلى كل كائن يشترك في الإنسانية، لا إلى بني إسرائيل فقط في ارتباطهم بعهد مع الله.” كيدنر (Kidner)
٢. فَمِي يَتَكَلَّمُ بِٱلْحِكَمِ: تقدم المزامير تسبيحًا وصلوات لله، لكن هذا المزمور يعلّم الحكمة ويمنح الفهم. وسيركز المزمور على حمق الثقة بالغنى أو حسد الآخرين على غِناهم. وهو يتحدث عن النجاح الحالي للذين لا يعرفون الله من منظور أبدي.
· كتب فانجيميرين (VanGemeren) ما يلي عن المقدمة الطويلة نوعًا ما لقلب هذا المزمور: “يُبقيهم صاحب المزمور في حالة تشويق بإقناعهم بأهمية النقاش.”
٣. لُغْزِي: لم يكن صاحب المزمور مهتمًا بمعرفة صوفية سرية، لكن بأشياء يصعب فهمها وإدراكها، وأمِل أن يساعد العود في تذكُّر كلامه على نحو أفضل.
· “تقول إحدى الترجمات التفسيرية: “سأخبر على العود كيف أقرأ لغزي.” كيدنر (Kidner)
· “إن عقيدة الحياة الأبدية، والدينونة الآتية، والتي تقدَّم هنا بشكل أوضح من أي موضع آخر في العهد القديم، سر.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٥-٩): ما لا يستطيع المال أن يشتريه.
٥لِمَاذَا أَخَافُ فِي أَيَّامِ الشَّرِّ عِنْدَمَا يُحِيطُ بِي إِثْمُ مُتَعَقِّبِيَّ؟ ٦الَّذِينَ يَتَّكِلُونَ عَلَى ثَرْوَتِهِمْ، وَبِكَثْرَةِ غِنَاهُمْ يَفْتَخِرُونَ. ٧الأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ اللهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. ٨وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ، فَغَلِقَتْ إِلَى الدَّهْرِ. ٩حَتَّى يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ فَلاَ يَرَى الْقَبْرَ.
١. لِمَاذَا أَخَافُ فِي أَيَّامِ ٱلشَّرِّ عِنْدَمَا يُحِيطُ بِي إِثْمُ مُتَعَقِّبِيَّ؟: يقابل صاحب المزمور هنا بين نفسه والأشخاص الذين سيذكرهم في السطور التالية. فعلى خلافهم، لا يوجد لديه ما يدعو إلى الخوف فِي أَيَّامِ ٱلشَّرِّ.
· “لا يمكن أن تأتيني أيام الشر التي تأتي على الأشرار. فحضور الله يحوّل الشر إلى خير.” ميير (Meyer)
٢. ٱلَّذِينَ يَتَّكِلُونَ عَلَى ثَرْوَتِهِمْ، وَبِكَثْرَةِ غِنَاهُمْ يَفْتَخِرُونَ: هذا هو ما يعنيه صاحب المزمور عندما يتحدث عن الأغنياء. ليست المقتنيات هي التي تجعل المرء غنيًّا بالمعنى الذي يقصده المزمور ٤٩. إنها الثقة بتلك المقتنيات والتباهي بها.
· هذا ببساطة عبادة أوثان. رغم أن الكتاب المقدس يقدم لنا عدة أشخاص أثرياء أتقياء (مثل إبراهيم والملك داود، والذين كانوا أصحاب بلايين حسب مقاييسنا اليوم)، إلا أنهم اتكلوا على الرب وجعلوه موضوع افتخارهم، ولم يتكلوا على ثروتهم ولم يتباهوا بها.
ü يستطيع المرء أن يضع ثقته بالغنى إذا وجد سلامًا وأمانًا زائدًا من خلال حساباته وممتلكاته وإن كان ييأس عندما تنحسر هذه الأشياء. ويستطيع أن يسأل: أية خسارة في الحياة يمكن أن تزعجني، الروحية أم المادية؟
ü يستطيع المرء أن يعرف إن كان يفتخر بغناه إذا وجد رضًا عميقًا في كسب ثروته وإدارتها وإن بحث عن طرق لاستعراض غناه. ويستطيع أن يطرح السؤال: ما الذي أفتخر به بشكل ملائم – بأمور مادية أم روحية؟
ü وبشكل عام، فإن جواب الله على هذه الأشياء بالنسبة للأغنياء هو أن أن يمارسوا كرَمًا سخيًا – أي أن يجدوا طريقة يعلنون بها اتكالهم على الله والاحتراس من التفاخر بالغنى.
· أوضح بويس (Boice) أن هذا المزمور من بعض النواحي يمثل تعليقًا على قصة الغني الغبي في إنجيل لوقا ٥:١٢-٢١. وقد طبّق يسوع هذا المبدأ من تلك القصة: “هَكَذَا ٱلَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا لِلهِ.” ويضع صاحب المزمور هذا النوع من الناس في ذهنه.
٣. ٱلْأَخُ لَنْ يَفْدِيَ ٱلْإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلَا يُعْطِيَ ٱللهَ كَفَّارَةً عَنْهُ: يعلن صاحب المزمور المحدودية الكبيرة في عبادة الأوثان المتمثلة في الاتكال على الغنى المادي والتفاخر به. وليس هذا الوثن مفيدًا في العالم الروحي. فالمال نفسه لا يستطيع أن ينقذ نفسًا، لأن فداء النفوس مكلف، أي أنه يتجاوز القدرة على شراء أمور مادية.
· فداء النفوس عمل روحي لا ينجزه إلا ذبيحة الله الكفارية البديلية. وقد بدأت في جنة عدن (سفر التكوين ٢١:٣)، ومارسها الآباء (سفر التكوين ١٣:٢٢-١٤)، وصارت جزءًا من نظام الذبائح (سفر اللاويين ١-٧). وقد تَحَقَّق مفهوم الذبيحة الكفارية البديلية وأُكملت بعمل يسوع على الصليب (سفر إشعياء ١٠:٥٣-١١؛ رسالة العبرانيين ١٢:١٠، إضافة إلى نصوص كثيرة أخرى). والعمل الروحي هو الذي يوفر الفداء للنفوس.
· “ولهذا، نُبِذ كل المال الذي يعطى للجماهير، والطقوس، وخدمات ذكرى الأموات إلخ. في ضوء الإدراك أن المسيح هو الفادي الوحيد، وأنه ليس للمال سلطة في العالم الآخر.” تراب (Trapp)
· كان فولتير فرنسيًّا ملحدًا، وقد جعلته شعبيّته ثريًّا جدًّا. “لكن عندما اقترب من الموت، بكى لطبيبه في يأس قائلًا: ’أنا مستعد أن أعطيك نصف ما أملك إذا أعطيتني ستة أشهر من الحياة.‘” بويس (Boice). ومات فولتير في يأس.
· يَفْدِيَ… فِدْيَة: “إن صورة الفدية أمر ملائم على نحو مضاعف، حيث إن احتجاز الأثرياء من أجل الفدية أمر خطِر نفس خطورة احتياج الفقراء إلى الفداء.” كيدنر (Kidner)
٤. حَتَّى يَحْيَا إِلَى ٱلْأَبَدِ فَلَا يَرَى ٱلْقَبْرَ: سيحيا الذين نالوا الفداء إلى الأبد، ولن يروا الحفرة. نرى هنا أن مفهوم الحفرة (sheol) أكثر من مجرد قبر. فهي المصير الفارغ والنهائي الذي يذهب إليه الذين يرفضون الله.· ٱلْقَبْرَ: “أي الجحيم أو النار؛ وهو باب الفخ بالنسبة للشرير.” تراب (Trapp)
ثانيًا. الغنى الحقيقي والعالم الآتي
أ ) الآيات (١٠-١٢): غِنىً غير موثوق وكرامة محدودة.
١٠بَلْ يَرَاهُ! الْحُكَمَاءُ يَمُوتُونَ. كَذلِكَ الْجَاهِلُ وَالْبَلِيدُ يَهْلِكَانِ، وَيَتْرُكَانِ ثَرْوَتَهُمَا لآخَرِينَ. ١١بَاطِنُهُمْ أَنَّ بُيُوتَهُمْ إِلَى الأَبَدِ، مَسَاكِنَهُمْ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. يُنَادُونَ بِأَسْمَائِهِمْ فِي الأَرَاضِي. ١٢وَالإِنْسَانُ فِي كَرَامَةٍ لاَ يَبِيتُ. يُشْبِهُ الْبَهَائِمَ الَّتِي تُبَادُ.
١. كَذَلِكَ ٱلْجَاهِلُ وَٱلْبَلِيدُ يَهْلِكَانِ، وَيَتْرُكَانِ ثَرْوَتَهُمَا لِآخَرِينَ: لاحظَ صاحب المزمور، في تشابه كبيرًا مع كاتب سفر الجامعة (١:٦-٢)، أنه لا نستطيع أن نأخذ ثروتنا المادية معنا إلى العالم الآخر.
· “المال هو الملك في هذا العالم، لكن ليس في العالم الآتي.” تراب (Trapp)
· لا نستطيع أن نأخذ ثروتنا المادية معنا إلى العالم الآخر. لكن يمكننا أن نرسلها إلى هناك قبلنا بمعنى ما. فقد تحدّث يسوع عن استخدام مواردنا المادية الحالية في أن نكنز كنوزًا لنا في السماء (
مرقس ٢١:١٠). يمكن أن تنفعنا ثرواتنا المادية في العالم الآتي، لكن يتوجب أن يتم هذا من خلال كرم موجَّه من عقلية سيطر عليها الملكوت أكثر منه على تكديس المال.
٢. بَاطِنُهُمْ أَنَّ بُيُوتَهُمْ إِلَى ٱلْأَبَدِ: يميل الذين يتوقون إلى نوع من الخلود – أي الذين يتكلون على ثرواتهم – إلى الاعتقاد أن غناهم سيدوم إِلَى ٱلْأَبَدِ، ويُطلقون على ممتلكاتهم ومؤسساتهم أسماءهم (يُنَادُونَ بِأَسْمَائِهِمْ فِي ٱلْأَرَاضِي) ليخلّدوا أنفسهم.
· “هذا هو طموح كثيرين لا يهتمون بمعرفة إن كانت أسماؤهم مكتوبة في السماء، لكنهم يسعون إلى نشر أسمائهم وإذاعة صيتهم في الأرض حسب قدرتهم، كما فعل نمرود ببناء برجه، وأبشالوم بعموده، والإسكندر ببناء الإسكندرية… ’ٱسْمُ ٱلْأَشْرَارِ يَنْخَرُ‘ (سفر الأمثال ٧:١٠)” تراب (Trapp)
· “هذه ممارسة شائعة. تهدف الأساسات التي يبنونها إلى أن تحمل أسماءهم في أماكن مغمورة. وكأنهم يكتبونها على الماء. هنالك أشخاص سُمِّيت بلدان على أسمائهم، لكن أليست هذه مجاملة فارغة حتى لو خلّدوا أسماءهم في مصطلحات؟” سبيرجن (Spurgeon)
٣. وَٱلْإِنْسَانُ فِي كَرَامَةٍ لَا يَبِيتُ: ربما يكون لإنسان كَرَامَة بسبب أملاكه أو نسله أو نًصُبه التذكارية، إلا أنه سيموت، تمامًا كما يحدث للحيوان.
· وبالتالي، لا يثق الرجل الحكيم في الثروة ولا يتفاخر بها. إنه يستعد للأبدية بالثقة بالله والتفاخر به.
· يُشْبِهُ ٱلْبَهَائِمَ ٱلَّتِي تُبَادُ: “القدرة على التفكير والتحليل هي ما تميّز الإنسان من بقية الخلائق. وما أَشْبَهَنا بالحيوان عندما لا نضع في اعتبارنا قِصَر أيامنا ونستعد لكيفية قضاء الأبدية!” بويس (Boice)
ب) الآية (١٣): سبيلان للهلاك.
١٣هَذَا طَرِيقُهُمُ ٱعْتِمَادُهُمْ، وَخُلَفَاؤُهُمْ يَرْتَضُونَ بِأَقْوَالِهِمْ. سِلَاهْ.
١. هَذَا طَرِيقُهُمُ ٱعْتِمَادُهُمْ: لاحظَ صاحب المزمور أن الطريق الذي يثمّن ما هو مادي فوق ما هو روحي ولا يستعد للحياة الآتية طريق أحمق، وينبغي أن يُفضح كذلك.
٢. وَخُلَفَاؤُهُمْ (ذرّيّتهم) يَرْتَضُونَ بِأَقْوَالِهِمْ: هنالك طريق أحمق ثانٍ، وهو أن تكون نسلًا لمن اتكل على غِناه وافتخر به، وأن توافقه على تظرته إلى الحياة والعالم. وهذا طريق أحمق سيُفتضح أيضًا.· وَخُلَفَاؤُهُمْ: “ليست النعمة أمرًا وراثيًّا. لكن الدُنيوية تنتقل من جيل إلى آخر. ولا ينتهي سباق الحمقى أبدًا.” سبيرجن (Spurgeon)
· يَرْتَضُونَ بِأَقْوَالِهِمْ: “الذين يوافقونهم على كلامهم سيستفيدون من سلطتهم ومكانتهم، ووهؤلاء سيموتون أيضًا.” فانجيميرين (VanGemeren)
ج ) الآيات (١٤-١٥): هيمنة المستقيمين.
١٤مِثْلَ الْغَنَمِ لِلْهَاوِيَةِ يُسَاقُونَ. الْمَوْتُ يَرْعَاهُمْ، وَيَسُودُهُمُ الْمُسْتَقِيمُونَ. غَدَاةً وَصُورَتُهُمْ تَبْلَى. الْهَاوِيَةُ مَسْكَنٌ لَهُمْ. ١٥إِنَّمَا اللهُ يَفْدِي نَفْسِي مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ لأَنَّهُ يَأْخُذُنِي. سِلاَهْ.
١. مِثْلَ ٱلْغَنَمِ لِلْهَاوِيَةِ يُسَاقُونَ. ٱلْمَوْتُ يَرْعَاهُمْ (يتغذى عليهم): يرسم صاحب المزمور صورة مروّعة، حيث يُدفن رجل كحيوان (مزمور ١٢:٤٩) ويأتي الموت ليلتهم جسده المادي. وهكذا، فإن جسده الذي كان جميلًا ذات يوم يُلتهم في القبر.
· الفكرة هنا هي أن المستقيمين الذين لم يتكلوا على غِناهم ولم يتفاخروا به لهم جمال يتجاوز ما هو مادي، وبالتالي يتجاوز القبر. وسيجد الذين يقاس جمالهم بشكل أساسي في المرايا والحسابات المصرفية أنه سيُستهلك في القبر. ومن المؤكد أن هنالك جمالًا أفضل لنحيا من أجله.
· مِثْلَ ٱلْغَنَمِ لِلْهَاوِيَةِ يُسَاقُونَ: “هؤلاء المُسَمَّنون في العالم، هؤلاء الشباب فارغو العقول الذين لا يستمعون إلى تحذيرات الآخرين لكنهم يواصلون المسير في نفس الطرق المظلمة الخطرة.” تراب (Trapp)
· “لماذا مثل الغنم؟ وأُجيب أنه ليس من أجل حياتهم البريئة، لكن من أجل عجزهم في الموت. وكما قيل، حالما تمسك يد الموت بهم وتضعهم في القبر، لا يستطيعون أن يُبدوا أية مقاومة أكثر من تلك التي يُبديها الخروف أمام أسد أو ذئب.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن كاريل (Caryl)
٢. وَيَسُودُهُمُ ٱلْمُسْتَقِيمُونَ غَدَاةً (في الصباح): عندما يأتي الصباح أخيرًا، فإن المستقيمين، أي الذين لم يتكلوا على غِناهم ولم يفتخروا بها سيبرَّرون. وستكون لهم الهيمنة على الذين عاشوا وماتوا وهم يركزون على ما هو مادي من دون إلحاح الاستعداد للعالم الآتي.
· “لكن هنالك غلبة على الهاوية والموت، وهي تكمن في الاستقامة.” مورجان (Morgan)
٣. إِنَّمَا ٱللهُ يَفْدِي نَفْسِي مِنْ يَدِ ٱلْهَاوِيَةِ لِأَنَّهُ يَأْخُذُنِي (يستقبلني): كان صاحب المزمور واثقًا بأنه كان بين المستقيمين، وليس بين الذين اتكلوا بحمق على غِناهم وافتخروا به.
· ليس للذين اتكلوا على غِناهم وافتخروا به أية قوة على افتداء نفس (مزمور ٧:٤٩-٨). وفهِم صاحب المزمور أن الله وحده يمتلك القدرة على افتداء نفسه من قوة القبر والهاوية.
· قدّم الله إعلانًا مذهلًا مشابهًا في سفر هوشع ١٤:١٣ “مِنْ يَدِ ٱلْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ ٱلْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ تَخْتَفِي ٱلنَّدَامَةُ عَنْ عَيْنَيَّ.”
· يَدِ الْهَاوِيَةِ: قوة القبر مذهلة. تخبرنا كل مقبرة عن قوة الموت وسلطته على البشر. غير أن الله أعظم من قوة القبر. ونستطيع في يسوع المسيح أن نسخر من الموت قائلين: “أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟” (رسالة كورنثوس الأولى ٥٥:١٥).
· يشترك هذا المزمور، بصفته مزمور حكمة، في خصائص كثيرة مع سفر الجامعة. “كلمة ’إِنَّمَا اللهُ‘ تبدأ فرقًا كبيرًا (مزمور ١٥:٤٩). وتشكل هذه الآية إحدى قمم الرجاء في العهد القديم… فهي تعلن توكيد النصر على الموت، وهو أمر يُبقيه سفر الجامعة مخفيًّا.” كيدنر (Kidner)
· ٱللهُ يَفْدِي نَفْسِي: “يتوجب علينا أن نتذكر أن كلمة ’يفدي‘ مصطلح تجاري تعني ’يشتري‘ [يشتري عبدًا من سوق النخاسة بحيث لا يعود إليها مرة أخرى] ومن ناحية روحية، تشير إلى عمل الله في شرائنا من سوق الخطية وإطلاقنا أحرارًا. فمن يستطيع أن يفعل هذا غير الله؟” بويس (Boice)
٤. لِأَنَّهُ يَأْخُذُنِي: هذا التوكيد والثقة أمر جدير بالملاحظة، وينبغي أن نتخذ منه مثالًا لنا. كان صاحب المزمور واثقًا بأن الله سيستقبل ذاك الذي لم يتكل على غِناه ولم يفتخر به.
· “يأخذني: ’هو يأخذني أنا.‘ يؤكد هذا أن الخلاص لا يتم عن بُعد، بل وجهًا لوجه.” كيدنر (Kidner)
· “كلمة ’يأخذ‘ أكثر إيجابية مما تبدو لنا. إنها الكلمة المشار إليها في ما يتعلق بأخنوخ، ’لِأَنَّ ٱللهَ أَخَذَهُ‘ (سفر التكوين ٢٤:٥).” كيدنر (Kidner)
د ) الآيات (١٦-٢٠): تطبيق عملي لهذه الحكمة.
١٦لاَ تَخْشَ إِذَا اسْتَغْنَى إِنْسَانٌ، إِذَا زَادَ مَجْدُ بَيْتِهِ. ١٧لأَنَّهُ عِنْدَ مَوْتِهِ كُلَّهُ لاَ يَأْخُذُ. لاَ يَنْزِلُ وَرَاءَهُ مَجْدُهُ. ١٨لأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ يُبَارِكُ نَفْسَهُ، وَيَحْمَدُونَكَ إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى نَفْسِكَ. ١٩تَدْخُلُ إِلَى جِيلِ آبَائِهِ، الَّذِينَ لاَ يُعَايِنُونَ النُّورَ إِلَى الأَبَدِ. ٢٠إِنْسَانٌ فِي كَرَامَةٍ وَلاَ يَفْهَمُ يُشْبِهُ الْبَهَائِمَ الَّتِي تُبَادُ.
١. لَا تَخْشَ إِذَا ٱسْتَغْنَى إِنْسَانٌ: ربما تكون صياغة القضية على هذا النحو أمرً غريبًا. فغالبيتنا لا تخاف بشكل واعٍ عندما يزداد مَجْدُ بَيْتِهِ. غير أن الخوف يأتي بطرق غير مباشرة أو غير واضحة:
· أخاف عندما أعتقد أن نجاحه يأتي على حسابي.
· أخاف لأن ما هو مادي ربما يَهُم أكثر مما هو روحي.
· أخاف لأن الله ربما لا يتحكم بالكون كما أعتقد أنه يتحكم به.
· أخاف لأنه ربما لا توجد مكافأة للأبرار أو عقاب للأشرار في العالم الآتي. فلا يوجد حكم أخلاقي للكون.
· أخاف لأن حمقى العالم لن يواجهوا ما يستحقونه في هذا العالم.
٢. عِنْدَ مَوْتِهِ كُلَّهُ لَا يَأْخُذُ: يؤكد لنا صاحب المزمور أن أسبابنا للخوف هي بلا أساس. فالأحمق الذي اتكل بحمق على غِناه وافتخر به لَا يَأْخُذُ شيئًا معه إلى العالم الآتي. لَا يَنْزِلُ وَرَاءَهُ مَجْدُهُ. وكل المجد الذي يستحقه هو ما حصل عليه بالفعل في هذه الحياة.
· أمّا بالنسبة للمستقيمين، فإن العكس هو الصحيح. فمجده سينزل معهم. وبمعنى ما، سيُحْضَرون إلى المجد (رسالة العبرانيين ١٠:٢)، بل إنهم سيحصلون على مجد الله في العالم الآتي (رسالة تسالونيكي الثانية ١٤:٢).
· بالنسبة للذين اتكلوا على غِناهم وافتخروا به، فإن العالم هو أفضل ما يمكن أن يحصلوا عليه. وأما بالنسبة للمستقيمين الذين يتطلعون إلى الله من أجل فدائهم، فإن هذا العالم هو أسوأ ما يمكن أن يحصلوا عليه.
· لَا يَنْزِلُ وَرَاءَهُ مَجْدُهُ: “ستجد عبادته وكرامته وسيادته وشمائله ألقابها سخيفة في القبر. فلا يعترف الجحيم بالأرستقراطية. وسيجد الخطاة ذوي الكياسة وصعبي الإرضاء أن النار الأبدية لا تحترم عواطفهم وتهذيبهم (المتكلف).” سبيرجن (Spurgeon)
٣. لِأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ يُبَارِكُ نَفْسَهُ، وَيَحْمَدُونَكَ: غالبًا ما يكون الذين يتكلون على غِناهم ويفتخرون به سعداء بأنفسهم، والآخرون سعداء بهم أيضًا. لكن هذا لن يدوم طويلًا. فالجميع سيموتون وسيذهبون إِلَى جِيلِ آبَائِهِم.
· يَمْدَحُوْنَكَ: “يعبد الناس بشكل عام النجاح بغضّ النظر عن كيفية إحرازه. ولا يهمهم لون الحصان الفائز. إنه الفائز، وهذا يكفي.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. لَا يُعَايِنُونَ ٱلنُّورَ إِلَى ٱلْأَبَدِ: لم يكن لصاحب المزمور إلا فهْمٌ ضبابي للعقاب في العالم الآتي. لكنه عرف بطريقة ما أنه مكان ظلمة. وهو مكان محفوظ للذين هم فِي كَرَامَةٍ وَلكنهم لَا يَفْهَمُوْنَ.
٥. إِنْسَانٌ فِي كَرَامَةٍ وَلَا يَفْهَمُ يُشْبِهُ ٱلْبَهَائِمَ ٱلَّتِي تُبَادُ: يختتم المزمور بتكرار التحذير المقدم في مزمور ١٢:٤٩. إنه تحذير صارم للذين يمتلكون كَرَامَةٍ في هذا العالم، لكن من دون فَهْم. كرامتهم في هذا العالم لن تحفظهم في الحياة بعد الموت.
· “يتعفن مدير البنك بسرعة تعفُّن مسّاح الأحذية في الشارع، ويصبح النبيل عفِنًا مثل الفقير جدًّا.” سبيرجن (Spurgeon)
· “ليت الأثرياء الأشرار يفكرون بهذا قبل أن تضمهم القبور الباردة ويمسك الجحيم الحار بأرواحهم.” تراب (Trapp).