إشعياء ٤٥
’التفتوا إليّ واخلُصوا‘
أولًا. التطلع إلى الله الذي اختار كورش
أ ) الآيات (١-٣): دعوة الله لكورش ومهمته
١هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ الَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا، وَأَحْقَاءَ مُلُوكٍ أَحُلُّ، لأَفْتَحَ أَمَامَهُ الْمِصْرَاعَيْنِ، وَالأَبْوَابُ لاَ تُغْلَقُ: ٢«أَنَا أَسِيرُ قُدَّامَكَ وَالْهِضَابَ أُمَهِّدُ. أُكَسِّرُ مِصْرَاعَيِ النُّحَاسِ، وَمَغَالِيقَ الْحَدِيدِ أَقْصِفُ. ٣وَأُعْطِيكَ ذَخَائِرَ الظُّلْمَةِ وَكُنُوزَ الْمَخَابِئِ، لِكَيْ تَعْرِفَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الَّذِي يَدْعُوكَ بِاسْمِكَ، إِلهُ إِسْرَائِيلَ.
١. هَكَذَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ: يواصل إشعياء هذه النبوة المذهلة التي بدأت في الإصحاح السابق. وهو يعلن بالاسم هوية محرر شعبه من سبي قادم. وهو يطلق هذه النبوّة قبل ٢٠٠ سنة من ولادة كورش.
• لِمَسِيحِهِ: يعني هذا أن لكورش مسحة معيّنة من الله لعمله. فقد سكب الله روحه على ملك وثني لأنه أراد أن يستخدم هذا الرجل في مباركة شعبه وتحريرهم.
• “توجد سابقة لقيام الله بمسح ملك غير إسرائيلي، مع أنه كان في نص واحد فقط (١ ملوك ١٩: ١٥-١٦). ورغم أن الإله الحي كان عادة يستخدم إسرائيليين لمثل هذه المقاصد، إلا أنه متسيّد، ويمكنه أن يستخدم من يشاء.” جروجان (Grogan)
• هَكَذَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ لِمَسِيحِهِ: يعني هذا أن هذه الكلمة كانت موجهة إلى كورش على نحو خاص. فكانت هذه رسالة إليه. وعلى ما يظهر أن كورش استمع إليها. “عرف كورش هذه الأشياء من قراءة سفر النبوة الذي تركه إشعياء قبل ٢١٠ سنة من ذلك.” جروجان (Grogan) نقلًا عن يوسيفوس في كتاب ’الآثار.‘
٢. ٱلَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ: استطاع كورش، شأنه شأن كثيرين منا، أن ينظر إلى ماضي حياته ومهنته، ورأى أن الرب كان يمسك بيده طوال الوقت. وكان لدى كورش تاريخ مجيد في مهنته العسكرية ليخضع شعوبًا ويفكك أسلحة ملوك (لِأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا، وَأَحْقَاءَ مُلُوكٍ أَحُلُّ).
• “لقد عيّنه الله ومكّنه ليخضع شعوبًا كثيرة. ويقدم زينون في أول كتاب له قائمة بهذه الشعوب: “يقول كورش إنه أخضع الآراميين، والأشوريين، والعرب، والكبدوكيين، والفريجيين، والليديين، والكاريانيين، والفينيقيين، والبابليين، والبكتريين، والهنود، والكيليكيين، والساكيانيين، والبافلوجونيين، والماريانيين، وشعوبًا كثيرة أخرى. وكانت له هيمنة على الآسيويين، واليونانيين، والقبارصة، والمصريين. ويقول المؤرخ القديم هيرودوتوس إنه كان يهزم أي بلد يغزوه.” تراب (Trapp)
٣. لِأَفْتَحَ أَمَامَهُ ٱلْمِصْرَاعَيْنِ، وَٱلْأَبْوَابُ لَا تُغْلَقُ… أُكَسِّرُ مِصْرَاعَيِ ٱلنُّحَاسِ: احتلت جيوش الماديين والفرس بقيادة كورش مدينة بابل في غارة مذهلة مذكورة في دانيال ٥. ويقول المؤرخ القديم هيرودوتوس إنه بينما كان ملك بابل بيلشاصر يقيم حفلة طائشة، قام كورش بغزو المدينة بتحويل مجرى الفرات إلى مستنقع قريب، فانخفض منسوب النهر لتتمكن قواته من السير عبر الماء وتحت بوابات النهر. لكن ما كان لهم أن يتمكنوا من الدخول لولا أن البوابات النحاسية للأسوار الداخلية تُركت غير مقفلة لسبب غير مفهوم. لقد فتح الله أبواب مدينة بابل أمام كورش، ودوّن هذا قبل مئتي سنة من حدوث ذلك.
• “في تشرين الأول من عام ٥٣٩ قبل الميلاد، تقدَّم كورش إلى المنطقة المنخفضة من بلاد ما بين النهرين، تاركًا بابل حتى النهاية، قاهرًا ومحتلًّا كل المناطق المحيطة بها. وعندما رأى الملك نبونيدوس أن الرياح لا تميل إلى صالحه، هجر مدينته تاركًا إياها تحت عُهدة ابنه بيلشاصر… وكان الاستيلاء على بابل بلا دم وبلا جهد، كما يشير دانيال ٦.” موتير (Motyer)
٤. وَأُعْطِيكَ ذَخَائِرَ ٱلظُّلْمَةِ وَكُنُوزَ ٱلْمَخَابِئِ: في الليلة التي احتل فيها كورش وجيوشه مدينة بابل، أخذوا كل كنوز بابل المذهلة. وكان أمرًا مهمًّا أن يعرف كورش أن الرب أعطاه هذا كله.
• في ليلة سقوط بابل، ربما لم يكن لدى كورش إحساس قوي بإرشاد الرب أو حضوره. ربما ظن أنه عبقري ومحظوظ. وغالبًا ما لا ننجح في شيء إلاّ ببركة الله ورضاه، ولا نرى أبدًا يده المعجزية وراء ذلك.
• من المؤكد أن الله أعطى كورش كنوزًا. يقول كلارك (Clarke) نقلًا عن بلايني (Pliny): “عندما غزا كورش آسيا، وجد ٤٣.٠٠٠ رطل من الذهب، إضافة إلى أوان وأشياء من الذهب.”
٥. لِكَيْ تَعْرِفَ أَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي يَدْعُوكَ بِٱسْمِكَ، إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: أعلن الله هذا لكورش قبل ٢٠٠ عام من تحقيقه لكي يعرف كورش الرب ويكرمه. لكن الرب فعل هذا لكي يُظهر كورش اللطف والإحسان تجاه شعب الله، ويعطيهم الإذن بالعودة إلى الأرض الموعودة من السبي الذي فرضه البابليون عليهم.
• نجد إعلانات كورش الملكية حول تحقيق هذه النبوة في عزرا ١: ٢ و٢ أخبار ٣٦: ٢٣.
ب) الآيات (٤-٧): القصد وراء دعوة كورش ومهمته.
٤لأَجْلِ عَبْدِي يَعْقُوبَ، وَإِسْرَائِيلَ مُخْتَارِي، دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. لَقَّبْتُكَ وَأَنْتَ لَسْتَ تَعْرِفُنِي. ٥أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلهَ سِوَايَ. نَطَّقْتُكَ وَأَنْتَ لَمْ تَعْرِفْنِي. ٦لِكَيْ يَعْلَمُوا مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمِنْ مَغْرِبِهَا أَنْ لَيْسَ غَيْرِي. أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. ٧مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، صَانِعُ السَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ. أَنَا الرَّبُّ صَانِعُ كُلِّ هذِهِ.
١. لِأَجْلِ عَبْدِي يَعْقُوبَ: يود كورش أن يعتقد أن الله اختاره لأنه كان الأذكى، أو الأقوى، أو الأكثر موهوبيةً بين الرجال المُتاحين. لكن تركيز الله في الواقع كان على شعبه. فلم يكن الأمر أن كورش هو الذي حرّك الله للعمل، لكن حالة شعبه وصراخهم إليه هو الذي حرّكه.
• “يمثّل كون كل هذه الانتصارات من أجل إسرائيل الصغيرة إحدى المفارقات في سيطرة الله على التاريخ.” جروجان (Grogan)
• “يفضَّل كورش من أجل إطلاق سراح إسرائيل. إذ سيكون لكورش مملكته، لكن فقط ليكون لشعب الله حريته. فالرب يقيم واحدًا ويضع آخر. ويوجد وراء كل دراما الأحداث البشرية إله يخطط من أجل كنيسته – من خلال المحن، والاضطهادات، والضيقات – لكي تُكَمَّل وتستعد لوراثة ملكوت الله.” ريدباث (Redpath)
٢. دَعَوْتُكَ بِٱسْمِكَ. لَقَّبْتُكَ وَأَنْتَ لَسْتَ تَعْرِفُنِي: لم يكن كورش يعرف الرب أصلًا، غير أنه كان بمقدور الله أن يمسحه، ويرشده، ويباركه، ويستخدمه. فكم بالأحرى هو قادر على العمل من خلال الذين لديهم على الأقل إيمان به بمقدار ذرة خردل.
• يقول سفر الأمثال ٢١: ١ “قَلْبُ ٱلْمَلِكِ فِي يَدِ ٱلرَّبِّ كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ، حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ.” ويستطيع الله أن يعمل في الآخرين ومن خلالهم بطرق متنوعة.
٣. لِكَيْ يَعْلَمُوا مِنْ مَشْرِقِ ٱلشَّمْسِ وَمِنْ مَغْرِبِهَا أَنْ لَيْسَ غَيْرِي: لقد تَحقق هذا بشكل عجيب في عزرا ١: ١-٣. ويبيّن النص كيف أنه، عندما أصدر كورش مرسومه سامحًا لشعب الله بالعودة إلى الأرض الموعودة، أقرّ أمام العالم كله بعظمة الرب، إله إسرائيل، وفرادته.
• وَفِي ٱلسَّنَةِ ٱلْأُولَى لِكُورَشَ مَلِكِ فَارِسَ عِنْدَ تَمَامِ كَلَامِ ٱلرَّبِّ بِفَمِ إِرْمِيَا، نَبَّهَ ٱلرَّبُّ رُوحَ كُورَشَ مَلِكِ فَارِسَ فَأَطْلَقَ نِدَاءً فِي كُلِّ مَمْلَكَتِهِ وَبِالْكِتَابَةِ أَيْضًا قَائِلًا: «هَكَذَا قَالَ كُورَشُ مَلِكُ فَارِسَ: جَمِيعُ مَمَالِكِ ٱلْأَرْضِ دَفَعَهَا لِي ٱلرَّبُّ إِلَهُ ٱلسَّمَاءِ، وَهُوَ أَوْصَانِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا فِي أُورُشَلِيمَ ٱلَّتِي فِي يَهُوذَا. مَنْ مِنْكُمْ مِنْ كُلِّ شَعْبِهِ، لِيَكُنْ إِلَهُهُ مَعَهُ، وَيَصْعَدْ إِلَى أُورُشَلِيمَ ٱلَّتِي فِي يَهُوذَا فَيَبْنِيَ بَيْتَ ٱلرَّبِّ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ. هُوَ ٱلْإِلَهُ ٱلَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ.
٤. مُصَوِّرُ ٱلنُّورِ وَخَالِقُ ٱلظُّلْمَةِ، صَانِعُ ٱلسَّلَامِ وَخَالِقُ ٱلشَّرِّ: يعلم إشعياء ببساطة أن كورش سيعرف ويعلن للعالم كله، ولنا اليوم أيضًا، أن الله مسيطر على الأمور. وبما أن هذه النبوّة أُعطيتْ قبل وقت طويل من ذهاب شعب الله إلى السبي الذي يعلن إشعياء الخلاص منه، فإنه يمكنهم أن يتعزوا على مدى السبي بمعرفتهم أن الله مسيطر على الأمور.
• إن فكرة إشعياء هي أنه لا يوجد إلهان – أو قوّتان – في السماء، واحد صالح وآخر شرير بالمعنى الثنائي في (yin and yang). “كان كورش فارسيًّا، وكان لدى الفُرس تصوُّر ثنائي لله والعالم. وقد أطلقوا على إلههم الصالح أشورا-مازدا، بينما أطلقوا على الإله الشرير آنجرا-مينيا، حيث خلق الأول النور، بينما خلق الثاني الظلمة.” بولتيما (Bultema)
• لكن ليس لله أي مقابل (إله نِدٌّ نقيض له). فلم يكن إبليس يومًا مقابلًا لله. فلا يوجد إلا إله واحد. وهو ليس منشئ الشر. فليس الشر “أصليًّا” أبدًا، لكنه دائمًا تحريف لما هو صالح. غير أن الله يسمح بالشر، وهو يستخدمه ليحقق قصده الأبدي في جمع الأشياء معًا في يسوع (أفسس ٣: ٨-١١ و١: ٩-١٠). فإذا كان بمقدور الله أن يعزز قصده الأبدي بالسماح لابنه بأن يموت موتًا شريرًا ظالمًا على صليب، فإنه يعرف كيف يستخدم ما يسمح به من أجل قصده الأبدي.
• “لا شك أن الله ليس ممثلًا للشر في حد ذاته، لكنه يستغله لكي يُخرج منه الخير والصلاح.” بولتيما (Bultema) نقلًا عن كالفن (Calvin).
• عندما يقوم الله بأمور معجزية، فإن من السهل أن نصدّق أنه مسيطر على الأمور. وعندما تصبح الأوقات عصيبة، والمحن ثقيلة، ينبغي أن نصدق ذلك بقوة أكبر.
ثانيًا. التطلع إلى الله الذي خلق كل الأشياء
أ ) الآية (٨): الله يدعو الخليقة.
٨اُقْطُرِي أَيَّتُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ مِنْ فَوْقُ، وَلْيُنْزِلُ ٱلْجَوُّ بِرًّا. لِتَنْفَتِحِ ٱلْأَرْضُ فَيُثْمِرَ ٱلْخَلَاصُ، وَلْتُنْبِتْ بِرًّا مَعًا. أَنَا ٱلرَّبَّ قَدْ خَلَقْتُهُ.
١. اُقْطُرِي أَيَّتُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ: يستطيع الإله العظيم الموصوف في النص السابق أن يكلم السماوات ويجلب المطر. وهذا صحيح بالمعنى الحرفي الطبيعي. لكنه صحيح أيضًا بمعنى روحي أيضًا. إذ يستطيع الله أن يرسل طوفانًا من السماء ويدع الجو يسكب بِرًّا.
٢. لِتَنْفَتِحِ ٱلْأَرْضُ فَيُثْمِرَ ٱلْخَلَاصُ: يستطيع الله أن يرسل بركته من كل صوب. وهي تنزل من السماوات وتصعد من الأرض.
٣. ٱلْأَرْضُ فَيُثْمِرَ ٱلْخَلَاصُ، وَلْتُنْبِتْ بِرًّا مَعًا: من المهم أن نرى أن الخلاص والبر ينبعان معًا. فعندما يجلب الله الخلاص إلى إنسان، فإنه يجلب البر إليه أيضًا. فهما ينبعان معًا.
٤. أَنَا ٱلرَّبَّ قَدْ خَلَقْتُهُ: ما الذي يتحدث عنه الله هنا؟ هل يقول إنه خلق العالم الطبيعي المادي، أم أنه يقول إنه خلق العالم الروحي غير المرئي؟ كلاهما صحيح، وربما كان كلاهما في ذهن الكاتب هنا.
ب) الآيات (٩-١٠): حماقة مقاومة الخالق.
٩«وَيْلٌ لِمَنْ يُخَاصِمُ جَابِلَهُ. خَزَفٌ بَيْنَ أَخْزَافِ الأَرْضِ. هَلْ يَقُولُ الطِّينُ لِجَابِلِهِ: مَاذَا تَصْنَعُ؟ أَوْ يَقُولُ: عَمَلُكَ لَيْسَ لَهُ يَدَانِ؟ ١٠وَيْلٌ لِلَّذِي يَقُولُ لأَبِيهِ: مَاذَا تَلِدُ؟ وَلِلْمَرْأَةِ: مَاذَا تَلِدِينَ؟».
١. وَيْلٌ لِمَنْ يُخَاصِمُ جَابِلَهُ: يفترض أن تدفعنا معرفتنا بأن الله هو خالق كل شيء إلى التردد في مقاومته بأية طريقة كانت. فهذا بنفس غباء الطين الذي يسأل جابله: مَاذَا تَصْنَعُ؟
• من الحمق أن نقاوم خالقنا، لأنه بما أنه خلقنا، يستطيع أن يكسرنا. ومن الحمق أن نقاوم خالقنا، لأنه بما أنه خلقنا، يعرف ما هو الأفضل لنا. ومن الحمق أن نقاوم خالقنا، لأنه بما أنه خلقنا، فإننا مدينون له بأكبر التزام.
• “الفكرة الشائعة هي أن اليهود تذمروا بشأن مرسوم إلهي يقوم بموجبه شخص وثني بتحريرهم. وتشكل هذه الكلمات توبيخًا لهم.” بولتيما (Bultema)
٢. أَوْ يَقُولُ: عَمَلُكَ لَيْسَ لَهُ يَدَانِ؟: الشيء الوحيد الأكثر غباوة من أن يقاوم المخلوق خالقه هو أن يعتقد أنه لا يوجد خالق. ويصور إشعياء آنية فخارية صنعها خزّاف تقول: “ليس لخزّافي يدان. وليس لي خالق!”
٣. وَيْلٌ لِلَّذِي يَقُولُ لِأَبِيهِ: مَاذَا تَلِدُ؟: ليس للمولود رأي في مجيئه إلى العالم. وإنه لغباء وغير مُوات أن نستجوب الله موجهين إليه اتهامات حول كيفية خلْقنا. فلكل واحد منا نقاط قوته ونقاط ضعفه. ولكل واحد انتصاراته وتحدياته. ونحن نحتاج ببساطة إلى أن نقبل ما نحن عليه أمام الله، وأن نبحث عن فدائه، طالبين قوته التي تحوّلنا إلى شبه ابنه، يسوع المسيح (رومية ٨: ٢٩).
ج) الآيات (١١-١٣): إله كل الخليقة يقيم كورش ويحرر شعبه.
١١هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ وَجَابِلُهُ: «اِسْأَلُونِي عَنِ الآتِيَاتِ! مِنْ جِهَةِ بَنِيَّ وَمِنْ جِهَةِ عَمَلِ يَدِي أَوْصُونِي! ١٢أَنَا صَنَعْتُ الأَرْضَ وَخَلَقْتُ الإِنْسَانَ عَلَيْهَا. يَدَايَ أَنَا نَشَرَتَا السَّمَاوَاتِ، وَكُلَّ جُنْدِهَا أَنَا أَمَرْتُ. ١٣أَنَا قَدْ أَنْهَضْتُهُ بِالنَّصْرِ، وَكُلَّ طُرُقِهِ أُسَهِّلُ. هُوَ يَبْنِي مَدِينَتِي وَيُطْلِقُ سَبْيِي، لاَ بِثَمَنٍ وَلاَ بِهَدِيَّةٍ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ».
١. أَنَا صَنَعْتُ ٱلْأَرْضَ وَخَلَقْتُ ٱلْإِنْسَانَ عَلَيْهَا: يؤكد إشعياء في هذا الجزء الممتد مرارًا وتكرارًا مكانة الله كخالق. وتبيّن الأهمية الموصوفة لهذه الفكرة أن معرفة الله كخالق ليس خيارًا، أو مجرد صراع في مناهج في المدارس أو المحاكم. فعندما نرفض الله كخالق، فإننا نرفض إله الكتاب المقدس ونخدم إلهًا من صُنعنا. لقد خلقَنا الله، وهذا أمر مهم.
• “ليس الخالق في العهد القديم هو الذي بدأ كل شيء فحسب، بل هو الذي يحافظ على تماسك كل شيء موجود، ويسيطر على كل شيء ويوجهه.” موتير (Motyer)
٢. هُوَ يَبْنِي مَدِينَتِي وَيُطْلِقُ سَبْيِي: يستخدم إله كل خليقة وقوة تلك القوة لصالح شعبه. وسيوجّه طرق المنقِذ المعلَن عنه، كورش، وسيجعله يعيد بناء أورشليم ويطلق شعبه المسبي في أرض أجنبية. ولن يفعل كورش هذا من أجل ثمن أو كمكافأة، بل اقتناعًا زرعه في قلبه الله بأنه يتوجب عليه أن يفعل هذا (عزرا ١: ١-٣).
ثالثًا. التطلع إلى الله الذي فوق كل الآلهة
أ ) الآيات (١٤-١٧): عندما يعلن الله على أنه الإله الحقيقي، يَخضع عابدو الأوثان، ويخْلص شعب الله.
١٤هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «تَعَبُ مِصْرَ وَتِجَارَةُ كُوشٍ وَالسَّبَئِيُّونَ ذَوُو الْقَامَةِ إِلَيْكِ يَعْبُرُونَ وَلَكِ يَكُونُونَ. خَلْفَكِ يَمْشُونَ. بِالْقُيُودِ يَمُرُّونَ وَلَكِ يَسْجُدُونَ. إِلَيْكِ يَتَضَرَّعُونَ قَائِلِينَ: فِيكِ وَحْدَكِ اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ. لَيْسَ إِلهٌ». ١٥حَقًّا أَنْتَ إِلهٌ مُحْتَجِبٌ يَا إِلهَ إِسْرَائِيلَ الْمُخَلِّصَ. ١٦قَدْ خَزُوا وَخَجِلُوا كُلُّهُمْ. مَضَوْا بِالْخَجَلِ جَمِيعًا، الصَّانِعُونَ التَّمَاثِيلَ. ١٧أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَيَخْلُصُ بِالرَّبِّ خَلاَصًا أَبَدِيًّا. لاَ تَخْزَوْنَ وَلاَ تَخْجَلُونَ إِلَى دُهُورِ الأَبَدِ.
١. خَلْفَكِ يَمْشُونَ. بِٱلْقُيُودِ يَمُرُّونَ: مع أن إسرائيل اقتيدت إلى السبي بالترحيل القسري، ستكون ذات يوم بارزة بين الشعوب، وستقودها كما تشاء وكما يشاء الرب.
٢. وَلَكِ يَسْجُدُونَ… قَائِلِينَ: فِيكِ وَحْدَكِ ٱللهُ وَلَيْسَ آخَرُ: لن يكون خضوع الشعوب لإسرائيل في حد ذاتها بقدر ما هو لإله إسرائيل.
٣. حَقًّا أَنْتَ إِلَهٌ: يسكب إشعياء هنا فيضانًا من التسبيح الموحى به، واصفًا الله ومعظّمًا إياه، معلنًا الثقة به.
• حَقًّا أَنْتَ إِلَهٌ مُحْتَجِبٌ: ليس الأمر أن الله يحجب نفسه عن خاطئ يطلبه. إذ يعلن إشعياء هنا ببساطة ما سيقوله بولس لاحقًا في ١ تيموثاوس ١:١٧ وَمَلِكُ ٱلدُّهُورِ ٱلَّذِي لَا يَفْنَى وَلَا يُرَى، ٱلْإِلَهُ ٱلْحَكِيمُ وَحْدَهُ، لَهُ ٱلْكَرَامَةُ وَٱلْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. آمِينَ.
• يعلّق بولتيما (Bultema) على ’حَقًّا أَنْتَ إِلَهٌ مُحْتَجِبٌ يَا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ ٱلْمُخَلِّصَ‘: “عندما رأى إشعياء كيف أن الله حجب وجهه لقرون كثيرة عن إسرائيل، هتف بهذه الكلمات التي غلبت عليها النشوة والعاطفة. يحتجب الرب عن إسرائيل أثناء أزمنة الأمم (١٨: ٤؛ ٤٠: ٢٧؛ ٤٩: ١٤؛ هوشع ٣: ٣-٥)… ولهذا لا يمكننا أن نطبقها على خاطئ يطلب الله. فالله لا يحجب وجهه عن مثل هؤلاء الأشخاص. لكن عندما تطلبه إسرائيل في الأيام الأخيرة، ستجده.”
ب) الآيات (١٨-٢١): الرب يعلن عظمته وحماقة عبادة الأوثان.
١٨لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «خَالِقُ السَّمَاوَاتِ هُوَ اللهُ. مُصَوِّرُ الأَرْضِ وَصَانِعُهَا. هُوَ قَرَّرَهَا. لَمْ يَخْلُقْهَا بَاطِلاً. لِلسَّكَنِ صَوَّرَهَا. أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. ١٩لَمْ أَتَكَلَّمْ بِالْخِفَاءِ فِي مَكَانٍ مِنَ الأَرْضِ مُظْلِمٍ. لَمْ أَقُلْ لِنَسْلِ يَعْقُوبَ: بَاطِلاً اطْلُبُونِي. أَنَا الرَّبُّ مُتَكَلِّمٌ بِالصِّدْقِ، مُخْبِرٌ بِالاسْتِقَامَةِ. ٢٠«اِجْتَمِعُوا وَهَلُمُّوا تَقَدَّمُوا مَعًا أَيُّهَا النَّاجُونَ مِنَ الأُمَمِ. لاَ يَعْلَمُ الْحَامِلُونَ خَشَبَ صَنَمِهِمْ، وَالْمُصَلُّونَ إِلَى إِلهٍ لاَ يُخَلِّصُ. ٢١أَخْبِرُوا. قَدِّمُوا. وَلْيَتَشَاوَرُوا مَعًا. مَنْ أَعْلَمَ بِهذِهِ مُنْذُ الْقَدِيمِ، أَخْبَرَ بِهَا مُنْذُ زَمَانٍ؟ أَلَيْسَ أَنَا الرَّبُّ وَلاَ إِلهَ آخَرَ غَيْرِي؟ إِلهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ. لَيْسَ سِوَايَ.
١. لِأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: خَالِقُ ٱلسَّمَاوَاتِ: ينقر إشعياء في وعينا، من خلال التكرار، أن الله هو خالقنا، وأن لدينا التزامات تجاهه بصفته خالقنا.
٢. لَمْ يَخْلُقْهَا بَاطِلًا. لِلسَّكَنِ صَوَّرَهَا: هذه العبارة الموجزة (لَمْ يَخْلُقْهَا بَاطِلًا) هي الأساس الكتابي لعقيدة تكهنية معروفة باسم “نظرية الفجوة.”
• تستند نظرية الفجوة إلى مقارنة إشعياء ٤٥: ١٨ مع تكوين ١:٢ التي تصوغها إحدى الترجمات “وأصبحت ٱلْأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً.” ويقول الله هنا في إشعياء ٤٥: ١٨ إنه لم يخلقها “باطلًا،” وهي نفس الكلمة العبرية المستخدمة في نص سفر التكوين. والفكرة هي أن الله لم يخلقها عبثًا، لكنها صارت خربة وبلا شكل من خلال هجمات شيطانية وعصور من الخراب. ويفسّر هذا العصور الجيولوجية وبقايا الأحافير التي يبدو أنها تعود إلى ما بعد تاريخ الكتاب المقدس. ووفقًا لنظرية الفجوة، فإن تكوين ١: ٣ والآيات اللاحقة تصف إعادة خلق العالم الذي أبطله إبليس.
• الشيء الأول الذي يمكن قوله ضد نظرية الفجوة هو أن ترجمة تكوين ١: ٢ “وصارت الأرض خربة وخالية” لا تتبع أبسط فهم لقواعد اللغة العبرية هنا. إنه أمر جائز، لكنه مع شيء من المطّ. فالطريقة الأكثر طبيعية لترجمة النص هي كما في الترجمة العربية: “وكانت الأرض خربة وخالية.”
• والشيء الآخر الذي يمكن قوله ضد هذه النظرية هو استخدامها كإجابة على تفسيرات حول السجل الأحفوري. فالذين يؤمنون بهذه النظرية يُرجعون هذه الأحافير القديمة المنقرضة إلى “فجوة” طويلة وغير محددة بين تكوين ١: ١ وتكوين ١: ٢. ومهما كانت ميزة هذه النظرية، إلا أنها لا تستطيع تفسير انقراض الحيوانات القديمة وتحجُّرها. فالكتاب المقدس يقول بوضوح أن الموت جاء بآدم (رومية ٥: ١٢). وبما أن الأحافير هي نتيجة للموت، فلا يمكن أن تكون قد حدثت قبل زمن آدم.
• يعلّق بولتيما (Bultema) على نظرية ’الفجوة‘: “نود أن نصرح فقط أن هذا النص وحده غير كافٍ لبرهنتها. وعلى أية حال، فإن القصد الإلهي للأرض هو أن لا تكون خربة، بل أن تُسكن من إسرائيل المتجددة والشعوب المتجددة.”
٣. لَمْ أَقُلْ لِنَسْلِ يَعْقُوبَ: بَاطِلًا ٱطْلُبُونِي: إنه لأمر شرير أن تعتقد أن الله يقول لشعبه، بَاطِلًا ٱطْلُبُونِي. فعندما نطلبه من كل القلب، لا بد أن نجده. يقول إرميا ٢٩: ١٣ “وَتَطْلُبُونَنِي فَتَجِدُونَنِي إِذْ تَطْلُبُونَنِي بِكُلِّ قَلْبِكُمْ.” وتقول عبرانيين ١١: ٦ “لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ ٱلَّذِي يَأْتِي إِلَى ٱللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي ٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ.”
٤. لَا يَعْلَمُ ٱلْحَامِلُونَ خَشَبَ صَنَمِهِمْ، وَٱلْمُصَلُّونَ إِلَى إِلَهٍ لَا يُخَلِّصُ: عندما يعلن الله عظمته وأمانته، وقوّته المخلّصة، فإن هذا يتناقض بشكل طبيعي مع أوثان الشعوب السخيفة التي يتوجب حمْلها بدلًا من أن تحمل عابديها.
٥. مَنْ أَعْلَمَ بِهَذِهِ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ: تبيّن الظاهرة النبوية التوقعية المذهلة أن الله هو تمامًا ما يقوله عن نفسه، وأنه لا يوجد إله غيره.
٦. إِلَهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ: يبيّن هذا قبل كل شيء آخر قوة الله المذهلة، وحكمته، ومحبته. وللوهلة الأولى، من المستحيل أن نرى كيف أن إلهًا عادلًا يمكن أن يخلّص بينما تتطلب عدالته إدانة الخطاة. لكن بدافع من محبته العظيمة، حقق الله مطالبه البارة في العدالة على الصليب لكي يقدم نفسه كمخلّص ويبقى مع هذا إلهًا بارًّا عادلًا.
• وكما صاغ بولس هذه الفكرة في رومية ٣: ٢٦ “لِإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلْإِيمَانِ بِيَسُوعَ.”
ج) الآيات (٢٢-٢٥): التطلع إلى الله وإيجاد الخلاص في التسليم له.
٢٢اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ، لأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرَ. ٢٣بِذَاتِي أَقْسَمْتُ، خَرَجَ مِنْ فَمِي الصِّدْقُ كَلِمَةٌ لاَ تَرْجعُ: إِنَّهُ لِي تَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ، يَحْلِفُ كُلُّ لِسَانٍ. ٢٤قَالَ لِي: إِنَّمَا بِالرَّبِّ الْبِرُّ وَالْقُوَّةُ. إِلَيْهِ يَأْتِي، وَيَخْزَى جَمِيعُ الْمُغْتَاظِينَ عَلَيْهِ. ٢٥بِالرَّبِّ يَتَبَرَّرُ وَيَفْتَخِرُ كُلُّ نَسْلِ إِسْرَائِيلَ».
١. اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَٱخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلْأَرْضِ: يبيّن هذا التصريح البسيط والقوي معًا خطة الله للخلاص.
• يبيّن هذا بساطة الخلاص. فكل ما يتوجب علينا أن نفعله هو أن نلتفت. “يستطيع المرء أن يقرأ كتبًا لاهوتية تشرح أشياء متنوعة في محاولة لإظهار الكيفية التي يمكن بها الإنسان أن يصل إلى الله. لكن هذه النظريات بعيدة عن الحق. يحتاج الروح القدس إلى خمسة حروف فقط “التفت” ليوصل إليك رسالة الخلاص. هذا كل ما في الأمر. وهذا أبسط شيء وأكثر شيء أساسيةً يمكن لأي شخص أن يفعله. لكنه أصعب شيء يمكن القيام به في الحياة اليومية.” ريدباث (Redpath)
• يبيّن هذا تركيز الخلاص. إذ يتوجب علينا أن نلتفت إلى الله، لا إلى أنفسنا، أو إلى أي شخص آخر. “التفتوا إليّ: يعني بعيدًا عن الكنيسة، لأنها لا تخلّص أحدًا، وبعيدًا عن الواعظ، لأنه يمكن أن يخيب أملك ويحبطك. وبعيدًا عن كل المظاهر الخارجية والطقوس. يتوجب عليك أن تبعد عينيك عن كل هذا لتنظر إلى العرش، سترى في قلبك هناك الرب يسوع المسيح المُقام المتسيّد.” ريدباث (Redpath)
• يبيّن هذا المحبة وراء الخلاص. فالله يناشد الإنسان: اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ.
• يبيّن هذا تأكيد الخلاص: وَٱخْلُصُوا.
• يبيّن هذا نطاق محبة الله الخلاصية: يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلْأَرْضِ.
٢. اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ: في سفر العدد الإصحاح ٢١، أصيب شعب إسرائيل بلدغات من أفاعٍ مميتة. فرفع موسى حية نحاسية ونصبها على عامود. فكان كل من ينظر إليها يحيا. لم يخلص الشعب بفعل أي شيء، بل بمجرد النظر إلى الحية النحاسية. كان عليهم أن يثقوا بأن شيئًا يبدو سخيفًا مثل النظر إلى الحية النحاسية، يمكن أن يكون كافيًا لإنقاذهم. ومن المؤكد أن بعضهم هلكوا لأنهم اعتقدوا أن من الحمق البالغ أن يفعلوا شيئًا كهذا.
• وهكذا يقول إشعياء هنا: اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلْأَرْضِ. ربما نكون مستعدين لأن نفعل ألف شيء لنكتسب خلاصنا، لكن الله يأمرنا بأن نتكل عليه فحسب، وأن نلتفت إليه.
• “أينما كنتَ، ومهما كنتَ بعيدًا، تقول الآية ’التفت‘ (انظر) فقط. ولا تقول أن عليّ أن أرى، بل أن أنظر فقط. إذا نظرنا إلى شيء في الظلام، لا نستطيع أن نراه. لكننا فعلنا ما قيل لنا. ولهذ، إذا نظر خاطئ إلى يسوع، فسيخلّصه. فيسوع في الظلام جيد كما هو في النور. ويسوع – عندما لا تستطيع أن تراه – جيد كما هو عندما تستطيع أن تراه. انظر إليه فقط. يقول أحدهم: “آهٍ. كنت أحاول أن أرى يسوع هذه السنة، لكني لم أره. لكن الآية لا تقول إن عليك أن تراه، بل أن تلتفت إليه… أن تنظر إليه!” سبيرجن (Spurgeon)
٣. اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَٱخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلْأَرْضِ: في يوم الأحد، في اليوم السادس من كانون الثاني من عام ١٨٥٠، كان شاب لم يبلغ السادسة عشرة من عمرة يمشي في أحد شوارع قرية على بعد خمسين ميلًا من لندن. وفي ذلك اليوم شديد البرودة، تساقطت الثلوج بغزارة. لكنه كان أكثر احتياجًا إلى إيجاد كنيسة، لأنه كان مدركًا بعمق لحاجته لله، وانهياره، وخطيته، وفشل حياته حتى في تلك السن المبكرة. وعندما شق طريقه عبر الشارع مع تساقط الثلوج، شعر أنه كان أبعد بكثير جدًّا من أن يصل إلى الكنيسة التي نوى أن يزورها. ولهذا سار في زقاق خلفي ودخل كنيسة منهجية (ميثوديستية). وجلس على مقعد قريب من خلف القاعة. وكان الجو في الداخل باردًا كما كان في الخارج. ولم يكن هنالك إلا ١٣ شخصًا.
وبعد خمس دقائق من الموعد المقرر لبدء الاجتماع في الساعة الحادية عشرة، لم يكن الواعظ المنتظم قد وصل بسبب سوء الطقس. فجاء أحد الشمامسة لإنقاذ الموقف، وبدأ الخدمة. وبعد قليل أعلن عن النص الذي سيعظ منه: اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَٱخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلْأَرْضِ، لِأَنِّي أَنَا ٱللهُ وَلَيْسَ آخَرَ. لم يكن الشماس يعرف الكثير، ولهذا تحدّث لمدة عشر دقائق فقط.
ويكمل تشالرز سبيرجن بنفسه ما حدث: “كنتُ أتجول ساعيًا إلى الراحة من دون أن أجد أية راحة إلى أن وقف واعظ عادي غير متعلم بين ’المنهجيين البدائيين‘ على المنبر، وأعطى هذا النص كنصّ لعظته: اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَٱخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلْأَرْضِ، لِأَنِّي أَنَا ٱللهُ وَلَيْسَ آخَرَ. وأشكر الله على أنه لم يكن لديه الكثير ليقوله، لأن ذلك أجبره على تكرار نصه، ولم يكن هنالك أي احتياج إلى أي شيء آخر – على الأقل بالنسبة لي – باستثناء هذا النص. وأتذكر أنه قال: ’إن المسيح هو الذي يتكلم: أنا في البستان أتعذب وأسكب نفسي حتى الموت. أنا على عود الصليب أموت من أجل الخطاة. اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَٱخْلُصُوا.‘ هذا هو كل ما عليك أن تفعله. يستطيع الطفل أن يلتفت. ويستطيع حتى الغبي تقريبًا أن يلتفت، فإن الوعد هو أنه سيحيا.” ثم توقف حيث كنتُ جالسًا تحت الرواق وقال: ’يبدو هذا الشاب تعيسًا جدًّا.‘ أتوقع أني كنتُ كذلك، لأني هكذا أحسست. ثم قال: ’لا رجاء لك، أيها الشاب، ولا توجد لك فرصة في التخلص من خطاياك إلا بالتلفُّت إلى يسوع.‘ ثم صرخ بطريقة لا يفعلها إلا منهجي بدائي فقط: ’التفتْ! التفت، أيها الشاب. التفت الآن!‘ والتفتُّ بالفعل. وعندما رنموا ’هللويا‘ قبل ذهابهم إلى بيوتهم، أنا متأكد أني انضممتُ إليهم في الترنيم. حدث هذا عندما كان الثلج يتساقط بغزارة ويرتفع. وعندما ذهبت إلى البيت، ظلت كلمات داود ترن في قلبي: ’ٱغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ ٱلثَّلْجِ.‘ وبدا لي كما لو أن الطبيعة كلها كانت منسجمة مع هذا الخلاص المبارك من الخلاص من الخطية، الذي وجدته في لحظة واحدة عندما التفتّ إلى يسوع المسيح.
وبطريقة ما، بطريقة غريبة ومدهشة، نظر الشاب من أعماق روحه إلى قلب الله ذاته. خرج من الكنيسة، وراح يسير عبر الشوارع، وقد رُفِع حِمْله عن ظهره إلى غير رجعة. سار مع ربيع في خطوته، وفرح جديد في وجهه، وإحساس جديد بالسلام في قلبه. فقد نظر وعاش!
٤. لأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرَ: لهذا يتوجب علينا أن نلتفت إلى الرب، وإلى الرب وحده. فهو وحده الله. فليست المؤسسات هي الله، وليست الكنيسة هي الله، وليس الرعاة هم الله، وليس الإخوة والأخوات هم الله. ونحن لا نلتفت إليهم. فنحن نلتفت إلى الرب، لأنه هو وحده الله.
٥. بِذَاتِي أَقْسَمْتُ: عندما يُثَبّت الله قسمًا، فبمن يُقسم؟ إنه يقسم بذاته. إذ ليس هنالك من هو أعظم منه. ولهذا يقسم باسمه القدوس ومعدنه الأدبي.
• وكما تقول الآية في عبرانيين ٦: ١٣ “فَإِنَّهُ لَمَّا وَعَدَ ٱللهُ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْظَمُ يُقْسِمُ بِهِ، أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ.”
٦. إِنَّهُ لِي تَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ، يَحْلِفُ كُلُّ لِسَانٍ: يعلن الرب هنا أنه سيأتي يوم ستجثو فيه كل وركبة، ويُقسم كل لسان بعظمته. وقد اقتبس بولس هذا النص في فيلبي ٢: ١٠-١١.
• يمثل اقتباس بولس في فيلبي ٢: ١٠-١١ لإشعياء ٤٥: ٢٣ دليلًا ساحقًا على ألوهة يسوع المسيح. ومن الواضح أن نص إشعياء هذا يتحدث عن الرب الإله (أَنَا ٱلرَّبُّ مُتَكَلِّمٌ بِٱلصِّدْقِ – إشعياء ٤٥: ١٩). والآن، يوجّه بولس هذه الكلمات السامية وهذا المديح العظيم إلى يسوع المسيح: “لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَمَنْ عَلَى ٱلْأَرْضِ، وَمَنْ تَحْتَ ٱلْأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ، لِمَجْدِ ٱللهِ ٱلْآبِ.” وفضلًا عن ذلك، فإن الاعتراف هو أن يسوع المسيح هو الرب، وأن كلمة “الرب” عند بولس هي نفس الكلمة المستخدمة في العهد القديم، والتي تشير إلى الرب يهوه.
٧. إِنَّمَا بِٱلرَّبِّ ٱلْبِرُّ وَٱلْقُوَّةُ: هذا هو إعلان المؤمن. فالبر والقوة موجودتان في الرب، لا في أنفسنا، أو في أي مكان آخر. وبالفعل، بِٱلرَّبِّ يَتَبَرَّرُ وَيَفْتَخِرُ كُلُّ نَسْلِ إِسْرَائِيلَ.