سفر أيوب – الإصحاح ٤٠
قوة الله، وقوة أيوب، وقوة بَهِيمُوث
أولًا. تحدي الله واستجابة أيوب
أ ) الآيات (١-٢): يسأل الله أيوب: “هل تتحداني الآن؟”
١فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ فَقَالَ: ٢«هَلْ يُخَاصِمُ الْقَدِيرَ مُوَبِّخُهُ، أَمِ الْمُحَاجُّ اللهَ يُجَاوِبُهُ؟».
١. فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ: يواصل الله في هذا الإصحاح، تحديه لأيوب، حيث تكلّم الله إلى قلب أيوب دون الرد على أسئلته تحديدًا. لقد جاء هذا بعد وقت طويل من الشركة والتعجب والتعليم الموصوف في أيوب ٣٨ و٣٩.
٢. هَلْ يُخَاصِمُ الْقَدِيرَ مُوَبِّخُهُ: أيوب، الذي تكلم وفي قلبه غُصَّة بسبب غياب الله عنه، كان يتوق إلى أن يجادل الله. ولكن بعد أن ظهر الله في محبته ومجده، شعر أيوب الآن بالخجل الشديد وبسخافة طلبه السابق. لقد شعر بحق أنه ليس في مكان لمجادلة الْقَدِير، وكم بالأحرى أن يُصَحِحَهُ أو يُوَبِخًهُ.
• يمكننا القول أن أيوب والله قضيا وقتًا رائعًا معًا في أيوب الإصحاحات ٣٨ و٣٩. علّم الله أيوب كل شيء عن عظمته مستخدمًا العالم كله كغرفة صفية. ولكن في كل ذلك، بقي الله هو الله وبقي أيوب إنسانًا.
ب) الآيات (٣-٥): أيوب عاجز عن الكلام أمام الله.
٣فَأَجَابَ أَيُّوبُ الرَّبَّ وَقَالَ: ٤«هَا أَنَا حَقِيرٌ، فَمَاذَا أُجَاوِبُكَ؟ وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي. ٥مَرَّةً تَكَلَّمْتُ فَلاَ أُجِيبُ، وَمَرَّتَيْنِ فَلاَ أَزِيدُ».
١. فَأَجَابَ أَيُّوبُ الرَّبَّ: كان أيوب يُصلي كثيرًا طوال الحوار مع أصدقائه. كان الوحيد من بين الخمسة الذي تحدث إلى الله. ولكنه سيتكلم الآن بعد إعلان الله العظيم عن نفسه وسيتكلم بنبرة مختلفة تمامًا عما كانت عليه من قبل.
• لم تكن النبرة مختلفة لأن ظروف أيوب قد تغيرت بشكل كبير. كان لا يزال في بؤسه فاقدًا كل شيء تقريبًا. ولكن النبرة تغيرت لأنه شعر في السابق أن الله قد تخلى عنه، أما الآن أحس وعرف أن الله معه.
• تحدث أيوب أيضًا بنبرة مختلفة تمامًا عما كانت عليه مع رفاقه. “جاء دور أيوب ليتكلم مرة أخرى. لكن لن تكون هناك خطابات طويلة، ولا مزيد من الغضب العارم، أو التحدي لخالقه.” سميك (Smick)
• “يا لها من نبرة مختلفة هنا!… السيد قد أتى، والخادم الذي تخاصم مع زملائه يأخذ مكانًا متدنٍ من التواضع والصمت.” ماير (Meyer)
٢. هَا أَنَا حَقِيرٌ، فَمَاذَا أُجَاوِبُكَ: أراد أيوب أن يستجوب الله في السابق، وطالب بشغف عظيم بأن يمثل أمام محكمة الله (أيوب ٣١: ٣٥-٣٧). ولكنه الآن، وبعد إعلان الله واستعادة الشعور بالعلاقة معه، شعر أيوب بموقفه النسبي أمام الله، وأنه لا يستطيع أن يُجيب الله.
• هَا أَنَا حَقِيرٌ: هذه كانت “ترجمة دقيقة تمامًا في زمن الملك جيمس، لأن معنى كلمة ’حَقِير‘ كان يختلف تمامًا عن مفهومنا لها الآن. في الكلمة العبرية لا يوجد ما يشير إلى الفشل الأخلاقي. بل كانت تعني حرفيًا: بلا وزن أو أهمية. وأيوب هنا بحضور جلال الله، لم يعترف بفساده الأخلاقي، ولكن بالتفاهة النسبية.” مورغان (Morgan)
• يجب علينا جميعًا أن نشعر بأننا ’بلا وزن‘ أو أهمية مقابل الله. “بالتأكيد، إذا كان لأي إنسان الحق في أن يقول إنني لست حقيرًا، فهو أيوب؛ لأنه، وفقًا لشهادة الله نفسه، كان ُرجلًا كاملًا ومستقيمًا، يتقي الله ويحيد عن الشر.‘ ومع ذلك نجد حتى أن هذا القديس الفاضل قد تلقى من اقترابه من الله نورًا كافيًا لاكتشاف حالته الخاصة، وصرخ قائلًا: ’هَا أَنَا حَقِيرٌ.‘” سبيرجن (Spurgeon)
• “قال أيوب: ’هَا أَنَا حَقِيرٌ.‘ تعني الكلمة ُها‘ أنه كان مندهشًا. كان الاكتشاف غير متوقع. فهناك أوقات خاصة يمر بها شعب الرب، عندما يتعلمون من خلالها أنهم تافهون (حقيرون).” سبيرجن (Spurgeon)
• كل مجادلات أَلِيفَاز وبِلْدَد وصُوفَر وأَلِيهُو لم تستطع أن تأتي بأيوب إلى هذه النقطة. لكن إعلان الله فقط هو الذي جعل أيوب يتواضع ويعرف مكانه الصحيح أمام الرب. أدلى أيوب بتصريحاته القوية والشائنة أحيانًا عندما أحس، في أعماق نفسه، أن الرب قد تخلى عنه. والآن مع استعادة إحساسه بحضور الرب، يمكن لأيوب أن يرى مكانته الحقيقية أمام الله بشكل أفضل.
• من المهم أن نتذكر أن الله لم يترك أيوب أبدًا؛ فعندما اختفى الاحساس بحضوره (والذي كان سبب البؤس العميق لأيوب)، كان الله حاضرًا مع أيوب طوال الوقت، يُقويه بيده غير المرئية. لم يكن لأيوب أن ينجو من هذه المحنة بدون يد الله غير المرئية وغير الملموسة التي تدعمه.
• لكي نأتي بأيوب إلى هذا المكان، لا نحتاج أن نفكر أن الله كان غاضبًا وقاسيًا مع أيوب في الإصحاحات ٣٨ و٣٩. لا يزال من الممكن تمامًا – بل من المرجح بالفعل – أن أسلوب الله مع أيوب في تلك الإصحاحات تميز بشركة دافئة ومحبة أكثر من التوبيخ القاسي. ولنتذكر أَنَّ لُطْفَ (صلاح) اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ (الإنسان) إِلَى التَّوْبَةِ (رومية ٢: ٤).
• “أقف في وسط الكون، كائنًا مدركًا لجلال الله وقوة حكمته وقدرته، أقول بأمانة ودقة تامة، ُصَغِيرٌ أَنَا.‘ وإذ أقف في حضرة ابن الله، وأستمع إلى تعاليمه، أجد أنني بقيمة أعظم من العالم كله، ولي قيمة كبيرة في قلب الله، لدرجة أنه من أجل استردادي بذل ابنه الوحيد.” مورغان (Morgan)
٣. وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي: شعر أيوب بالخجل الآن من الطريقة التي تحدث بها عن الله وعن حالته. فوضع يديه على فمه، وتوقف عن الكلام تمامًا (وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي… فَلاَ أَزِيدُ).
• “ربما تكون إحدى أكثر إيماءات العبادة على الإطلاق هي تلك التي يقوم بها أيوب هنا بشكل غير مألوف: تغطية الفم باليد. وهذا الفعل هو دليل على الخضوع التام. يمكن للمرء أن يسقط على وجهه ومع ذلك يستمر في النحيب والثرثرة. لكن اخضاع اللسان يعني التنازل عن كل شيء والاستسلام التام.” ماسون (Mason)
ثانيًا. الله يُعلّم أيوب مرة أخرى
أ ) الآيات (٦-٧): تحدّي الله لأيوب.
٦فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ مِنَ الْعَاصِفَةِ فَقَالَ: ٧«الآنَ شُدَّ حَقْوَيْكَ كَرَجُل. أَسْأَلُكَ فَتُعْلِمُنِي.
١. فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ مِنَ الْعَاصِفَةِ: كان الله لا يزال حاضرًا مع أيوب في وسط العاصفة القوية التي لا يمكن ترويضها. ولم يتحول إلى حضور ألطف.
• “تجددت الْعَاصِفَة عندما جدد الله اتهامه لأيوب، ما سيدفعه نحو مزيد من التواضع والشعور بعدم الأهمية.” بوله (Poole)
٢. الآنَ شُدَّ حَقْوَيْكَ كَرَجُل. أَسْأَلُكَ فَتُعْلِمُنِي: باستخدام نفس الصياغة التي بدأت هذا المواجهة (أيوب ٣٨: ٣)، بيّن الله لأيوب أنه لم ينته بعد. فهناك المزيد ليُري أيوب ويُعلّمه من الخليقة.
• “اسْتَجْمِع قوة جديدة، واستعد لمواجهة أخرى، لأني لم أنتهي معك بعد.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٨-١٤): يسأل الله، “يا أيوب، هل أنت مؤهل لإثبات خطئي أو لخلاص نفسك؟”
٨لَعَلَّكَ تُنَاقِضُ حُكْمِي، تَسْتَذْنِبُنِي لِكَيْ تَتَبَرَّرَ أَنْتَ؟ ٩هَلْ لَكَ ذِرَاعٌ كَمَا للهِ، وَبِصَوْتٍ مِثْلِ صَوْتِهِ تُرْعِدُ؟ ١٠تَزَيَّنِ الآنَ بِالْجَلاَلِ وَالْعِزِّ، وَالْبَسِ الْمَجْدَ وَالْبَهَاءَ. ١١فَرِّقْ فَيْضَ غَضَبِكَ، وَانْظُرْ كُلَّ مُتَعَظِّمٍ وَاخْفِضْهُ. ١٢اُنْظُرْ إِلَى كُلِّ مُتَعَظِّمٍ وَذَلِّلْهُ، وَدُسِ الأَشْرَارَ فِي مَكَانِهِمِ. ١٣اطْمِرْهُمْ فِي التُّرَابِ مَعًا، وَاحْبِسْ وُجُوهَهُمْ فِي الظَّلاَمِ. ١٤فَأَنَا أَيْضًا أَحْمَدُكَ لأَنَّ يَمِينَكَ تُخَلِّصُكَ.
١. تَسْتَذْنِبُنِي لِكَيْ تَتَبَرَّرَ أَنْتَ: خلال استجواب أيوب لله، يمكن القول إن أيوب بدا أكثر اهتمامًا بالدفاع عن نزاهته بدلًا من نزاهة الله. لم يكن هذا جيدًا، لكنه كان طبيعيًا (كانت نزاهة أيوب تتعرض لهجوم قاس).
• يمكن القول أن أيوب وقع في فخ التفكير أن الرب ربما لم يكن عادلًا لأنه لم يتمكن من فهم طرقه. ولكن في هذا القسم الأكبر من إعلان الله عن نفسه لأيوب، أظهر الله أن هناك العديد من الأشياء التي لا يعرفها أيوب، وبالتالي لم يكن أيوب قاضيًا مناسبًا لطرق الله.
٢. هَلْ لَكَ ذِرَاعٌ كَمَا للهِ: ذكّر الله هنا أيوب مرة أخرى بالمسافة بينه وبين أيوب. نعم، لقد أُعيد الشعور بالشركة إلى أيوب؛ ولكن هذا لا يعني أن الله وأيوب كانا على نفس المستوى. فلا تزال هناك المسافة التي توجد بين الله والإنسان.
• “على الرغم من لهجته العدوانية، فإن هذا الخطاب لا يتعارض حقًا مع أي شيء قاله أيوب. ففي كثير من النواحي، هذا الخطاب قريب جدًا من فكر أيوب، ويُؤيد ادعاءه المستمر بأن العدالة يجب أن تُترك لله. لكنه يصل بأيوب إلى نهاية سعيه بإقناعه بأنه يمكن بل ويجب عليه أن يُسلم الأمر كاملًا برمته إلى الله بثقة أكبر وبقلقٍ أقل. وأن يفعل ذلك دون الإصرار على أن الله يجب أن يُجيبه أولًا على جميع أسئلته ويمنحه تبرئة رسمية.” أندرسن (Andersen)
٣. تَزَيَّنِ الآنَ بِالْجَلاَلِ وَالْعِزّ… وَانْظُرْ كُلَّ مُتَعَظِّمٍ وَاخْفِضْهُ… وَدُسِ الأَشْرَارَ فِي مَكَانِهِمِ: تحدى الله أيوب أن يفعل هذه الأشياء التي لا يستطيع أن يفعلها إلا الله. عندما أدرك أيوب عدم قدرته، ذكّره هذا بمكانته المناسبة أمام الله.
• “سأله: ’هل يمكنه أن يحمل الرداء الملكي لملك يحكم العالم، هل يمكنه أن يُحيط نفسه بالشرف والجلال؟ وهل يستطيع أن يَنْظُرْ إِلَى كُلِّ مُتَعَظِّمٍ وَيُذَلّلُهُ، وَيَدُوسِ الأَشْرَارَ فِي مَكَانِهِمِ؟ هل لديه المعرفة، والحكمة، والقوة، ليجلس في كرسي الله، ويصحح أخطاء الأرض؟” برادلي (Bradley)
٢. فَأَنَا أَيْضًا أَحْمَدُكَ لأَنَّ يَمِينَكَ تُخَلِّصُكَ: وبهذا، أكد الله على فكرته الرئيسية بقوة. وبما أن أيوب لا يستطيع أن يفعل هذه الأشياء التي لا يستطيع أن يفعلها إلا الله (الموصوف في أيوب ٤٠: ٩-١٣)، فإنه لن تستطيع أيضًا أن يخلص نفسه بنفسه (لأَنَّ يَمِينَكَ تُخَلِّصُكَ).
• “بكلمات أخرى: الخلاص للرب. لا يمكن لأي إنسان أن يُخلص نفسه بأعمال البر التي قام بها أو التي يفعلها أو يمكنه فعلها إلى الأبد. بدون يسوع، مصير الإنسان هو الهلاك الأبدي. مجدًا لله على هبته التي لا توصف!” كلارك (Clarke)
• “هذه الآيات قد قُدمت على أنها تحد عدواني لأيوب … لكنها كانت مُعَدّة بمحبة لزعزعة روح أيوب لإدراك أن الله هو الخالق الوحيد والمخلص الوحيد الموجود.” سميك (Smick)
ج) الآيات (١٥-٢٤): مثال على قدرة الله وضعف أيوب النسبي: بَهِيمُوثُ.
١٥«هُوَذَا بَهِيمُوثُ الَّذِي صَنَعْتُهُ مَعَكَ يَأْكُلُ الْعُشْبَ مِثْلَ الْبَقَرِ. ١٦هَا هِيَ قُوَّتُهُ فِي مَتْنَيْهِ، وَشِدَّتُهُ فِي عَضَلِ بَطْنِهِ. ١٧يَخْفِضُ ذَنَبَهُ كَأَرْزَةٍ. عُرُوقُ فَخِذَيْهِ مَضْفُورَةٌ. ١٨عِظَامُهُ أَنَابِيبُ نُحَاسٍ، جِرْمُهَا حَدِيدٌ مَمْطُولٌ. ١٩هُوَ أَوَّلُ أَعْمَالِ اللهِ. الَّذِي صَنَعَهُ أَعْطَاهُ سَيْفَهُ. ٢٠لأَنَّ الْجِبَالَ تُخْرِجُ لَهُ مَرْعًى، وَجَمِيعَ وُحُوشِ الْبَرِّ تَلْعَبُ هُنَاكَ. ٢١تَحْتَ السِّدْرَاتِ يَضْطَجعُ فِي سِتْرِ الْقَصَبِ وَالْغَمِقَةِ. ٢٢تُظَلِّلُهُ السِّدْرَاتُ بِظِلِّهَا. يُحِيطُ بِهِ صَفْصَافُ السَّوَاقِي. ٢٣هُوَذَا النَّهْرُ يَفِيضُ فَلاَ يَفِرُّ هُوَ. يَطْمَئِنُّ وَلَوِ انْدَفَقَ الأُرْدُنُّ فِي فَمِهِ. ٢٤هَلْ يُؤْخَذُ مِنْ أَمَامِهِ؟ هَلْ يُثْقَبُ أَنْفُهُ بِخِزَامَةٍ؟
١. هُوَذَا بَهِيمُوثُ: أعطى الله أيوب مَسحًا رائعًا لعجائب الخليقة في أيوب ٣٨-٣٩، بما في ذلك نظرة إلى العديد من الحيوانات الرائعة وطرق معيشتها. وأخيرًا، يُعطي الله أيوب نظرة على مخلوقين رائعين: بَهِيمُوثُ (أيوب ٤٠: ١٥-٢٤) ولَوِيَاثَانَ (أيوب ٤١).
• لقد تم مناقشة الهوية الدقيقة لهذا الحيوان المسمى بَهِيمُوثُ. ويعتقد معظمهم أن الله كان يُفكر في ما نسميه فرس النهر(جامُوس البَحْر)، أحد أكبر وأقوى وأخطر المخلوقات البرية في العالم.
٢. يَأْكُلُ الْعُشْبَ مِثْلَ الْبَقَرِ… وَشِدَّتُهُ فِي عَضَلِ بَطْنِهِ: يبدو أن الله يبتهج بخليقته عندما يصف عجائب هذا الحيوان الرائع مشيرًا إلى قوته وحجمه وشهيته وعاداته.
• الصورة واضحة تمامًا هنا. فإذا كان أيوب لا يستطيع أن يتعامل مع هذا المخلوق الموجود معه، فكيف يمكنه أن يتعامل مع الله الذي خلق البَهِيمُوث؟