تفسير رسالة يهوذا
الجهاد من أجل الإيمان
غالبًا ما تُهمَل هذه الرسائل القصيرة من العهد الجديد، لكنَّ إهمال هذه الرسالة المهمّة يقول الكثير عنا نحن من الرسالة نفسها. “إنَّ إهمالها يدلّ على سطحيّة الجيل الذي يهملها، لا على عدم أهمية هذه الرسالة الملتهبة.” غوثري (Guthrie)
أوّلاً. الخطر الذي دفع يهوذا إلى كتابة هذه الرسالة
أ ) الآية (١): الكاتب والقُرّاء.
١يَهُوذَا، عَبْدُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَخُو يَعْقُوبَ، إِلَى ٱلْمَدْعُوِّينَ ٱلْمُقَدَّسِينَ فِي ٱللهِ ٱلْآبِ، وَٱلْمَحْفُوظِينَ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.
- يَهُوذَا: هو نفس اسم يهوذا الإسخريوطي، الرجل السيئ السمعة الذي خان يسوع.
- هناك ستة أشخاص يحملون اسم ’يهوذا‘ في العهد الجديد، لكنَّ أفضل شاهد يحّدد هويّة الكاتب هو ما جاء في إنجيل متى ٥٥:١٣ ومرقس ٣:٦: يَهُوذَا، أخو يسوع غير الشقيق.
- لم يؤمن يَهُوذَا بيسوع على أنّه المسيح إِلَّا بعد قيامة يسوع (يوحنا ٥:٧ وأعمال الرسل ١٤:١)، مَثَله مَثَل إخوة يسوع غير الأشقّاء الآخرين (بمن فيهم يعقوب).
- عَبْدُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: كان يهوذا من أقارب يسوع، لكنّه اعتبر نفسه مُجرَّد عَبْدٍ ليَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. فتعريفه لنفسه بهذه الطريقة، عِوضًا عن تقديم نفسه بأنّه ’يهوذا، الأخ غير الشقيق ليسوع‘ يُخبِرنا بشيء عن تواضع يهوذا وقلّة أهمّيّة ارتباطه بيسوع بروابط بشريّة.
- قد تكلّم يسوع عن قلة الأهمية النسبية لذلك في مقاطع مثل مرقس ٣١:٣-٣٥ ولوقا ٢٧:١١-٢٨.
- بلا شكّ، كان يهوذا يعتزّ بكونه أخا يسوع غير الشقيق وبأنه تربَّى في نفس المنزل مع يسوع. ولكنَّ الأمر الأكثر أهمّيّة بالنسبة إليه هو علاقته الجديدة مع يسوع. بالنسبة إلى يهوذا، كانت دم الصليب الذي خلّصه أهمّ من دم القرابة التي تربطه بيسوع والذي يجري في عروقه. فاستطاع يهوذا أنْ يقول مع بولس: ’وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، لَكِنِ ٱلْآنَ لَا نَعْرِفُهُ [كذلك] بَعْدُ‘ (كورنثوس الثانية ١٦:٥).
- وَأَخُو يَعْقُوبَ: كان يعقوب قائدًا مهمًّا للكنيسة في أورشليم وكاتب الرسالة التي تحمل اسمه في العهد الجديد. وكان كلٌّ من يعقوب ويهوذا من إخوة يسوع غير الأشقّاء.
- إِلَى ٱلْمَدْعُوِّينَ: كان يهوذا يكتب للمؤمنين. فهذه ليست نبذة تبشيريّة، بل تتناول أمورًا يحتاج المؤمنون إلى سماعها، لكنْ كثيرًا ما لا يرغبون في سماعها.
- ميّز يهوذا قرّاءه بأَنَّهم مؤمنون بثلاث طرق محدّدة:
- كانوا مَدْعُوِّينَ. يُقبل الشخص إلى الإيمان لأن الله قد دعاه. فالمهمّ هو الرد على الدعوة عندما تصل، تمامًا كما نرد على الهاتف عندما نسمع رنة الجرس.
- كانوا مُقَدَّسِينَ فِي ٱللهِ ٱلْآبِ. وهذا يعني أنّهم منفصلون عن العالم ومُكرّسون لله.
- كانوا مَحْفُوظِينَ في يسوع. فيسوع المسيح هو حارسنا وحامينا.
- ميّز يهوذا قرّاءه بأَنَّهم مؤمنون بثلاث طرق محدّدة:
ب) الآية (٢): يهوذا يحيّيهم تحية حارّة وتقليدية.
٢لِتَكْثُرْ لَكُمُ ٱلرَّحْمَةُ وَٱلسَّلَامُ وَٱلْمَحَبَّةُ.
- لِتَكْثُرْ لَكُمُ: في ذهن يهوذا وقلبه، لم يكن كافيًا أن تُضاف ٱلرَّحْمَةُ وَٱلسَّلَامُ وَٱلْمَحَبَّةُ إلى حياة المؤمن. بل كان يتمنّى لها التضاعف (تَكْثُر) بدلاً من الإضافة البسيطة.
- ٱلرَّحْمَةُ وَٱلسَّلَامُ وَٱلْمَحَبَّةُ: هذه ليست نفس التحية التي ترد في غالبية رسائل بولس (والتي تبدأ عادة بصيغة أو بأخرى من عبارة ’نعمة لكم وسلام‘). ومع ذلك تتطابق التحيّتان إلى حد كبير.
ج) الآية (٣): الدعوة للدفاع عن الإيمان.
٣أَيُّهَا ٱلْأَحِبَّاءُ، إِذْ كُنْتُ أَصْنَعُ كُلَّ ٱلْجَهْدِ لِأَكْتُبَ إِلَيْكُمْ عَنِ ٱلْخَلَاصِ ٱلْمُشْتَرَكِ، ٱضْطُرِرْتُ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ وَاعِظًا أَنْ تَجْتَهِدُوا لِأَجْلِ ٱلْإِيمَانِ ٱلْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ.
- كُنْتُ أَصْنَعُ كُلَّ ٱلْجَهْدِ لِأَكْتُبَ إِلَيْكُمْ: كانت رغبة يهوذا المبدئيّة أنْ يكتب عن ٱلْخَلَاصِ ٱلْمُشْتَرَكِ. ولكن حدث شيء ما – فاضطر يهوذا أنْ يكتب رسالة مختلفة. ويجوز لنا القول إن هذه هي الرسالة التي لم يُرِد أن يكتبها.
- رسالة يهوذا هي في الحقيقة عظة. وعظ فيها يهوذا ضدّ خطورة الممارسات والتعاليم التي عرّضت إنجيل يسوع المسيح للخطر. وكانت هذه قضايا خطيرة وقد تناولها يهوذا بجدّية.
- يجب أن نكون سعداء لأنَّ يهوذا كان حساسًا للروح القدس. فبدلاً من كتابة رسالة عادية من قائد مسيحي إلى كنيسة معينة، صارت هذه الرسالة، الموحَى بها من الروح القُدُس، أداة ثمينة وقيّمة لإنذارنا نحن في هذه الأيام الأخيرة.
- عَنِ ٱلْخَلَاصِ ٱلْمُشْتَرَكِ: لا يعني خلاصنا ٱلْمُشْتَرَك أنّه مِلك لجميع الناس. إنّما تعني كلمة ’ٱلْمُشْتَرَكِ‘ أننا نشترك في هذا الخلاص، كجماعة. فليس عند الله طريقة لخلاص الأغنياء وأخرى للفقراء، أو طريقة للأخيار وأخرى للأشرار. إننا نأتي إلى الله جميعًا بنفس الطريقة. وإن لم يكن ٱلْخَلَاص مُشْتَرَكًا، فهو ليس خلاص الله – وهو ليس خلاصًا على الإطلاق.
- قد لا يعرف المؤمن هذا أو يفهمه أو يستفيد منه، ولكن كونه مؤمنًا يعني أنه جزء من مجتمع، وأنّه يقف جنبًا إلى جنب مع ملايين المؤمنين الذين سبقوه. فنحن نقف مع المؤمنين الأقوياء والمؤمنين الضعفاء، المؤمنين الشجعان والمؤمنين الجبناء، المؤمنين القدماء والمؤمنين الجدد. ونحن جزء من جيش عظيم غير منظور يمتد عبر الأجيال.
- “توجد فروق بين المؤمنين في أمور أخرى، لكن هناك خلاص مشترك يتمتّع به الأرميني وكذلك الكالفيني، المشيخي وكذلك الأسقفي، ويفوز به الكويكرز وكذلك المعمدانيون. فالذين هم في المسيح هم قريبون أكثر مِمّا يدركون، ووحدتهم الشديدة في الحقّ الجوهري العميق لها قوة أكبر مما تتصوّره الغالبية العظمى. فأفسحوا لها المجال وهي تصنع المعجزات.” سبيرجن (Spurgeon)
- في ثمانينيات القرن العشرين، وجد استطلاع للرأي أنَّ ٧٠٪ من الأمريكيين الذين يتردّدون على الكنائس يقولون إنَّ بإمكانك أن تكون مؤمنًا جيدًا دون الذهاب إلى الكنيسة. ولكنَّ هذا لا يتطابق مع فكرة يهوذا عن ٱلْخَلَاصِ ٱلْمُشْتَرَكِ.
- وَاعِظًا أَنْ تَجْتَهِدُوا لِأَجْلِ (تدافعوا عن) ٱلْإِيمَانِ: كانت هذه هي الحاجة الماسّة التي قاطع يهوذا رسالته الأصليّة لكي يتناولها. فالكلمة اليونانية المترجمة ’تَجْتَهِدُوا‘ تأتي من عالم الرياضة – من حلبة المصارعة. وهي صيغة توكيدية لكلمة بمعنى ’الألم والمعاناة.‘ ولذلك فـ’الاجتهاد‘ معناه العمل الجاد والدؤوب.
- يرد الفعل المترجم تَجْتَهِدُوا (في اليونانية) في صيغة المصدر الحالي، مِمّا يدل على أن جهاد المؤمن وكفاحه عمليّة مستمرّة.
- نحن نَجْتَهِدُ لِأَجْلِ (ندافع عن) ٱلْإِيمَانِ لأنَّه ثمين. فإذا دخلت إلى معرض للفنون ولم يكن هناك حرّاس أو أي نوع من أنظمة الأمن، فلابد أن تخلُص إلى استنتاج واحد: أنّه لا يوجد شيء قيّم في معرض الفنون هذا. فكل ما هو ثمين محميّ؛ أمَّا الأشياء غير الثمينة فلا.
- وَاعِظًا [إيّاكم] أَنْ تَجْتَهِدُوا لِأَجْلِ ٱلْإِيمَانِ: قد أكّدنا على كلمة «إيّاكم»، لأننا نرى أن هذا ما كان يهوذا يريد لكل فرد مؤمن أن يعمله. فهناك العديد من الطرق التي يستطيع بها المؤمن أن يَجْتَهِد لِأَجْلِ ٱلْإِيمَانِ.
- إننا ندافع عن الإيمان بطريقة إيجابية عندما نقدّم شهادة حاسمة، ونوزّع النبذ، ونقوم بتلمذة سفراء أمناء عن يسوع، أو عندما ندعم أيدي القساوسة الأمناء الذين يُكرِمون كلمة الله من على منابرهم. وهذا عدد قليل من الطرق العديدة التي يمكننا بها أن نَجْتَهِدُ لِأَجْلِ ٱلْإِيمَانِ بمعنى إيجابي.
- إننا ندافع عن الإيمان بطريقة سلبية عندما نمنع الدعم والتشجيع عن المعلمين الكذبة.
- إننا ندافع عن الإيمان بطريقة عملية عندما نعيش حياة مسيحية لا تراخِيَ فيها وننسب الفضل للرب الذي غيّرنا.
- من الواضح أن المبشريّن والمؤمنين الأمناء يَجْتَهِدُون لِأَجْلِ ٱلْإِيمَانِ. وكذلك الأمر بالنسبة إلى معلمّي الكنيسة أو قادة المجموعات المنزلية، الأمناء للكتاب المُقدَّس. فهؤلاء الناس يجاهدون من أجل الإيمان مَثَلهم مَثَل المُرسَلين الذي في الخطوط الأمامية. فعلى كل واحد منا أن يجاهد من أجل الإنجيل حيثما وضعه الله.
- تَجْتَهِدُوا لِأَجْلِ ٱلْإِيمَانِ ٱلْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ: يوصينا يهوذا هنا بالاجتهاد لأجل شيء. فهناك الكثير من الاجتهاد في العالم، ولكنه عادةً ليس من أجل الأشياء الصحيحة. أمَّا ٱلْإِيمَان ٱلْمُسَلَّم مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ فهو شيء يستحق الاجتهاد من أجله.
- لا يعني’ٱلْإِيمَان‘ هنا إيماننا الشخصي، أو ٱلْإِيمَان بمعنى ثقتنا بالله. إنّما يعني اصطلاح ٱلْإِيمَان: “الحقائق الأساسية للإنجيل التي يشترك فيها جميع المؤمنين الحقيقيين.” ويُستخدَم ٱلْإِيمَان بهذا المعنى بشكل متكرّر في العهد الجديد (أعمال الرسل ٧:٦، ٨:١٣، ٢٢:١٤، ٥:١٦، ٢٤:٢٤، رومية ٥:١، ٢٦:١٦، كولوسي ٧:٢، وتيموثاوس الأولى ٢:١ وهذه ليست إلا بعضًا من الأمثلة). يجب علينا، إذًا، أن نَجْتَهِد من أجل الحقّ. “الإيمان هو مجموع الحقائق التي اتخذت شكلًا محددًا في وقت مبكر جدًا من تاريخ الكنيسة (انظر أعمال الرسل ٤٢:٢؛ رومية ١٧:٦؛ غلاطية ٢٣:١).‘ بلوم (Blum)
- تعني كلمة ’مَرَّةً‘ أنَّ ٱلْإِيمَان قد سُلِّم مَرَّة واحدة، وليس من الضروريّ أن يُسَلَّم مَرَّة أخرى. صحيح أننا ننشر هذا الحقّ مرارًا وتكرارًا، لكنَّ الله سلّمه للعالم من خلال الرسل والأنبياء مَرَّةً واحدة فقط (أفسس ٢٠:٢). وقد يتكلّم الله اليوم، ولكن ليس بنفس الطريقة المرجعيّة التي نطق بها على لسان الرسل والأنبياء الأوائل كما هو مُسجَّل في العهد الجديد. “لا يوجد إنجيل آخر، ولن يكون هناك غيره. وسوف نفهم مضمونه بشكل أفضل، وسوف تتبلور مدلولاته، وسوف تتحقّق نبوّاته؛ لكنّه لن يُستكمَل أو يُنسَخ أو يُستَبدَل بغيره.” إردمان (Erdman)
- وطالما أنَّ هذا ٱلْإِيمَان قد سُلِّم مَرَّةً، فهو للجميع. فليس لنا الحقّ في تكوين إيمان خاصّ بنا غير الإيمان الذي سلّمه الله. ولكن الموضة اليوم أن يؤمن الناس بإيمان من تأليفهم، إيمان يفصّلونه على مقاسهم ليناسبهم. فما أكثر الذين يؤمنون بـ ’الإيمان الذي في قلبي‘ عن ٱلْإِيمَانِ ٱلْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ.
- في كتاب عنوانه ’عادات القلب،‘ كتب روبرت بيلاه (Robert Bellah) وزملاؤه عن مقابلة مع ممرضة شابة تدعى شيلا لارسون (Sheila Larson)، وصفوها بأنها تمثّل خبرة العديد من الأمريكيين وآرائهم في الدين. تحدّثت هذه الممرضة عن إيمانها فقالت: ’أنا أومن بالله. ولكني لست متعصبة دينيًّا. لا أذكر آخر مَرَّة حضرت فيها الكنيسة. لقد كان إيماني سندًا لي. أمَّا ديانتي فهي ’الشيلاليزم (Sheilaism).‘ وهي مذهبي الشخصيّ الذي يعبّر عني.‘ يجوز القول إنَّ هذا الإيمان الفردي جدًّا هو الدين الأكثر شعبية في العالم، ولكنَّ فكرة تكييف إيمان على مقاسنا فكرة خاطئة. فالمسيحية تعتمد على إيمان واحد، مُسَلَّم مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ.
د ) الآية (٤): يلزمنا الدفاع عن الإيمان لأنَّ هناك أُناسًا خطيرين اندسوا بين المؤمنين.
٤لِأَنَّهُ دَخَلَ خُلْسَةً أُنَاسٌ قَدْ كُتِبُوا مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ لِهَذِهِ ٱلدَّيْنُونَةِ، فُجَّارٌ، يُحَوِّلُونَ نِعْمَةَ إِلَهِنَا إِلَى ٱلدَّعَارَةِ، وَيُنْكِرُونَ: ٱلسَّيِّدَ ٱلْوَحِيدَ ٱللهَ وَرَبَّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ.
- دَخَلَ خُلْسَةً أُنَاسٌ: هذا ما يجعلهم خطرين للغاية – فهم قد اندسّوا خُلْسَةً. فلم يلاحظ أحد أنّهم خطرون. فهم لا يرتدون بطاقة مكتوب عليها ’خطر: أنا معلم كاذب.‘ بل على الأرجح، ادّعى هؤلاء النَّاس أنّهم كتابيّون أكثر من أي شخص آخر.
- معنى ’دَخَلَ خُلْسَةً‘: “تسلّل سِرًّا كأنه عن طريق باب جانبي.‘ روبرتسون (Robertson). ” يعرف إبليس جيدًا أنَّ شيطانًا واحدًا داخل الكنيسة يمكنه أن يفعل أكثر من ألف شيطان خارجها.” سبيرجن (Spurgeon)
- قَدْ كُتِبُوا مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ لِهَذِهِ ٱلدَّيْنُونَةِ: هؤلاء الناس لهم مصير – وهو مصير كل معلم وقائد كاذب. لقد كُتِبُوا وعُيِّنوا لِهَذِهِ ٱلدَّيْنُونَةِ، ويكفي القول بأنهم أُنَاسٌ فُجَّارٌ. هم فُجَّارٌ بمعنى أنّهم لا يهابون الله ويتجاهلونه، بغض النظر عن المظاهر الخارجية.
- قد دخلوا خُلْسَةً فلم يلاحظهم البشر، لكنَّ الله يلاحظهم. فالله لا يجلس في السماء يفرك يديه قلقًا على أولئك الذين يغشّون الآخرين بتعليمهم وبأساليب حياتهم. ورُبَّما أمكنهم التخفِّي من بعض المؤمنين، لكنَّ دينونتهم مكتوبة عند الله مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ. ودينونتهم محتومة. فالحق لابُدَّ أنْ ينتصر، ومسؤوليتنا هي أن نكون في صفّ الحقّ.
- يُحَوِّلُونَ نِعْمَةَ إِلَهِنَا إِلَى ٱلدَّعَارَةِ: هؤلاء الناس قد حصلوا على قسط من نعمة الله. ولكن بعدما حصلوا عليه، حوّلوه إلى مبرّر لدعارتهم.
- المقصود بالكلمة القديمة ’ٱلدَّعَارَةِ‘: الخطيّة التي تُمارَس دون خجل ودون وخز الضمير أو الإحساس باللياقة. وعادة ما تُستخدَم هذه الكلمة مع الخطايا الحسّيّة، مثل الفجور الجنسيّ. ولكن يمكن استخدامها أيضًا بمعنى التعليم الوقح المعادي للكتاب المُقدَّس، حيث يتم إنكار الحقّ ويتم تعليم الأكاذيب دون خجل. فكان يهوذا في الغالب يقصد المعنيَين هنا، لأننا كما سنرى في بقية الرسالة، كان لهؤلاء الناس مشاكل أخلاقية ومشاكل عقائدية على السواء.
- تبيّن كلمات يهوذا أنَّ هناك خطرًا في الوعظ عن النعمة. فالبعض قد يأخذون حقّ النعمة الإلهي ويُحَوِّلُونَ نِعْمَةَ إِلَهِنَا إِلَى ٱلدَّعَارَةِ. ولكنّ هذا لا يعني أنَّ رسالة نعمة الله فيها عيب أو خطأ. إنّما هذا ببساطة دليل على مدى فساد القلب البشريّ.
- وَيُنْكِرُونَ ٱلسَّيِّدَ ٱلْوَحِيدَ ٱللهَ وَرَبَّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ: هؤلاء الناس يُنْكِرُونَ الرب يسوع المسيح. وهم يفعلون ذلك برفضهم الاعتراف بما قاله يسوع عن نفسه، وبالتالي فهم ينكرون أيضًا الله الآب أيضًا.
- لا نعرف بالتحدّيد كيف ينكر هؤلاء الناس ٱلسَّيِّدَ ٱلْوَحِيدَ ٱللهَ وَرَبَّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ. رُبَّما أنكروه بأسلوب حياتهم المنافي للأخلاق أو رُبَّما أنكروه بهرطقاتهم. ورُبَّما بهذا وتلك.
ثانيًا. ثلاثة أمثلة توضّح يقينية حكم الله على هؤلاء الناس
أ ) الآية (٥): مثال شعب إسرائيل.
٥فَأُرِيدُ أَنْ أُذَكِّرَكُمْ، وَلَوْ عَلِمْتُمْ هَذَا مَرَّةً، أَنَّ ٱلرَّبَّ بَعْدَمَا خَلَّصَ ٱلشَّعْبَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، أَهْلَكَ أَيْضًا ٱلَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا.
- فَأُرِيدُ أَنْ أُذَكِّرَكُمْ، وَلَوْ عَلِمْتُمْ هَذَا مَرَّةً: كان يهوذا يعلم أنّه لا يخبرهم بأي شيء جديد. فهم قد تعلّموا بالفعل هذا المثال، لكنّهم كانوا بحاجة إلى سماع ذلك مَرَّة أخرى وتطبيقه على وضعهم الحالي.
- الصورة المثالية هو أن يقرأ كل مؤمن هذه التلميحات أو الإشارات عن العهد القديم ويقول: ’نعم يا يهوذا، أنا أعرف بالضبط ما تقصده.‘ ولكن إن كنا لا نعرف ماذا يقصد يهوذا، فهذا دليل على أننا بحاجة إلى تعميق فهمنا للكتاب المُقدَّس.
- “بالنسبة إلى الحقائق الجذرية، العقائد الأساسية، الحقائق الأساسية للكتاب المُقدَّس، يجب علينا الإصرار عليها يومًا بعد يوم. ولا يجب أنْ نقول أبدًا عنها: «الكل يعرفها»؛ لأنه مع الأسف، الجميع ينساها!” سبيرجن (Spurgeon)
- “ليس الغرض من استخدام كلمة الله أن نعلم ما لم نكن نعرفه فقط، ولكن إثارة تأملنا الجاد في تلك الأشياء التي نفهمها بالفعل، فلا تتبلّد مشاعرنا بسبب المعرفة الذهنية الخاملة.” كالفن (Calvin)
- أَنَّ ٱلرَّبَّ بَعْدَمَا خَلَّصَ ٱلشَّعْبَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ: يذكّرنا يهوذا بما حدث في سفر العدد الإصحاح ١٤. فقد خَلَّصَ الله شعب إسرائيل من العبودية في مصر. فخرجوا من مصر، وبدون أي تأخيرات غير متوقّعة، وصلوا إلى مكان يُطلَق عليه قادش برنيع، وهو على أعتاب أرض الموعد. ولكن في قادش برنيع، رفض الشعب الاتّكال على الله ودخول أرض كنعان الموعودة. لذلك لم يدخل أرض الموعد أيّ من كبار السنّ تقريبًا، الذين غادروا مصر.
- فكّر فيما فعله الله لشعب إسرائيل في هذا الموقف، ثُمَّ في ردّ فعلهم. فهم قد اختبروا خلاص الله المعجزي في البحر الأحمر. وسمعوا صوت الله في جبل سيناء. وحصلوا على رعايته اليومية وتوفيره للمنّ في البرية. ومع ذلك، ارتدّوا إلى عدم الإيمان، ولم يدخلوا إلى مكان البركة والراحة الذي أعدّه الله لهم.
- أَهْلَكَ أَيْضًا ٱلَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا: أولئك الذين شكّكوا في الله ورفضوه في قادش برنيع، دفعوا ثمنًا أكبر من مجرَّد عدم دخولهم أرض الموعد. فهم قد نالوا أيضًا دينونة الله. ويصف مزمور ٩٥ كيف كان رد فعل الربّ لهم: «أَرْبَعِينَ سَنَةً مَقَتُّ ذَلِكَ ٱلْجِيلَ، وَقُلْتُ: ’هُمْ شَعْبٌ ضَالٌّ قَلْبُهُمْ، وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا سُبُلِي.‘ فَأَقْسَمْتُ فِي غَضَبِي: ’لَا يَدْخُلُونَ رَاحَتِي.‘» (مزمور ١٠:٩٥-١١).
- تحذير الله على لسان يهوذا واضح. كان خروج شعب إسرائيل من مصر بداية جيدة. وحصلوا على العديد من بركات الله على طول الطريق. لكنّهم لم يصبروا إلى المنتهى، لأنهم لَمْ يُؤْمِنُوا بوعد الله بالقوة والحماية.
- هذا المثال يلقّننا درسين. أوَّلاً، يؤكّد لنا أنَّ بعض الناس الذين يسبِّبون المشاكل سوف يُدانون، حتّى ولو كانوا قد بدأوا المشوار مع الله. فيقول يهوذا: ’رُبَّما بدأ هؤلاء الناس بداية حسنة، مثلما فعل بنو إسرائيل، لكنَّ الله أَهْلَكَ أَيْضًا (بعد ذلك) ٱلَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا.‘ وثانيًا، يحذّرنا من أنّه يجب علينا نحن أيضًا أن نتبع يسوع حتى النهاية، فلا نكون من بين ٱلَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا. فالامتحان النهائي لإيماننا هو الصبر. فالبعض يبدأون السباق ولكنهم لا يُكمِلونه.
ب) الآية (٦): مثال الملائكة الذين أخطأوا.
٦وَٱلْمَلَائِكَةُ ٱلَّذِينَ لَمْ يَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ، بَلْ تَرَكُوا مَسْكَنَهُمْ حَفِظَهُمْ إِلَى دَيْنُونَةِ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ بِقُيُودٍ أَبَدِيَّةٍ تَحْتَ ٱلظَّلَامِ.
- وَٱلْمَلَائِكَةُ ٱلَّذِينَ لَمْ يَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ: تشتهر رسالة يهوذا بإثارة نقاط غامضة أو مثيرة للجدل، وهذه واحدة من تلك النقاط. فيتحدّث يهوذا هنا عن ٱلْمَلَائِكَة الذين أخطأوا، وهم الآن مسجونون وينتظرون يوم الدينونة الأخير.
- “ليست مبالغة إذا قلنا إنَّ العهد الجديد لا يقدّم كل هذا القدر من الظواهر الغريبة، أو يطرح الكثير من الأسئلة الغريبة في مساحة ضيّقة للغاية كهذه.” من كتاب سالموند (Salmond) بعنوان: تفسير المنبر.
- وَٱلْمَلَائِكَةُ ٱلَّذِينَ لَمْ يَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ: هناك قدر من الجدل حول هوية هؤلاء الملائكة بالذات. فليس لدينا سوى شاهدين في الكتاب المُقدَّس يتحدّثان عن الملائكة العصاة. الأول، هناك التمرد الأصلي لبعض الملائكة على الله (إشعياء ١٢:١٤-١٤، رؤيا يوحنا ٤:١٢). والثاني، هناك خطية «أبناء الله» الموصوفة في سفر التكوين ١:٦-٢.
- إن سفر التكوين ١:٦-٢ هو مقطع مثير للجدل في حدّ ذاته، إذ يقول: «وَحَدَثَ لَمَّا ٱبْتَدَأَ ٱلنَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى ٱلْأَرْضِ، وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ، أَنَّ أَبْنَاءَ ٱللهِ رَأَوْا بَنَاتِ ٱلنَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَٱتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا ٱخْتَارُوا». فهناك جدل كبير حول ما إذا كان أبناء الله كائنات ملائكية أو أنهم مجرَّد ’أتباع الله‘ من البشر. ويهوذا يساعدنا في الإجابة على هذا السؤال.
- لَمْ يَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ، بَلْ تَرَكُوا مَسْكَنَهُمْ: كانت هذه الجريمة مرتبطة نوعًا ما بخطيّة جنسيّة، مثل الاتحاد الجنسيّ بين الكائنات الملائكية المتمردة (أبناء الله في تكوين ٢:٦) والبشر (بنات الناس في تكوين ٢:٦). ونحن نعلم أنَّ الأمر يتعلق بممارسة الجنس لأن يهوذا يخبرنا في الآية التالية (الآية ٧) ما يلي: «كَمَا أَنَّ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَٱلْمُدُنَ ٱلَّتِي حَوْلَهُمَا، إِذْ زَنَتْ عَلَى طَرِيقٍ مِثْلِهِمَا، وَمَضَتْ وَرَاءَ جَسَدٍ آخَرَ». وتشير الكلمات «عَلَى طَرِيقٍ مِثْلِهِمَا» (بِنَفْسِ الطَّرِيقَةِ) إلى ٱلْمَلَائِكَة المذكورين في يهوذا الآية ٦، وتشير عبارة «وَمَضَتْ وَرَاءَ جَسَدٍ آخَرَ» إلى اتحادهم الجنسيّ غير الطبيعي.
- نحن نعرف بعض الأمور عن هذا الاتحاد الجنسيّ غير الطبيعيّ من سفر التكوين ٦. فنعلم مثلاً، أنَّ هذا الاتحاد غير الطبيعيّ أنتج ذرية غير طبيعيّة. فهذا الاتحاد غير الطبيعيّ أفسد الجينات الوراثية للبشر، لذلك كان على الله أن يجد نوحًا، الإنسان الكامل في أجياله (تكوين ٩:٦) – أي: ’نقيًّا من حيث جيناته الوراثية.‘ فهذا الاتحاد غير الطبيعيّ أدّى إلى حكم صارم بشكل لا يصدَّق من الله – أي طوفان عالميّ، يمحو البشريّة جمعاء باستثناء ثمانية أشخاص.
- يمكننا إضافة معلومة أخرى من يهوذا ٦. فهذا الاتحاد غير الطبيعيّ دفع الله إلى سجن الملائكة الذين أخطأوا بهذه الطريقة سجنًا فريدًا من نوعه. فقد حَفِظَهُمْ إِلَى دَيْنُونَةِ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ بِقُيُودٍ أَبَدِيَّةٍ تَحْتَ ٱلظَّلَامِ.
- أما بالنسبة إلى التفاصيل المحدَّدة لهذا الاتحاد غير الطبيعيّ، فلا جدوى من التخمين. فنحن لا نعلم كيف يمكن أن تختلط الجينات الوراثية ’للملاك الساقط‘ بالجينات الوراثية البشريّة. ورُبَّما حدث ذلك عن طريق نوع فريد من الامتلاك الشيطاني، حيث عمل الملاك الساقط من خلال عائل بشريّ. ونحن نعلم أنَّ الملائكة تملك القدرة على الظهور بمظهر الإنسان على الأقل مؤقتًا، لكننا لا نعلم أكثر من ذلك.
- حَفِظَهُمْ إِلَى دَيْنُونَةِ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ بِقُيُودٍ أَبَدِيَّةٍ تَحْتَ ٱلظَّلَامِ: لقد حكم الله على هؤلاء الملائكة الأشرار، ووضعهم في قُيُودٍ أَبَدِيَّةٍ. ويبدو أن بعض الملائكة الساقطين مقيّدون بينما البعض الآخر غير مقيّد ونشط بين البشر، مثل الشياطين.
- بعدم حفظهم لـرِيَاسَتهم، هم الآن محفوظون في قُيُودٍ (سلاسل). فسعيهم الآثم إلى الحرية قد قيّدهم بالسلاسل. وهكذا كل مَن يصرّون على حريتهم في عمل كل ما يحلو لهم مثل هؤلاء الملائكة – المحفوظين بِقُيُودٍ أَبَدِيَّةٍ. فالحرية الحقيقية تنبع من الطاعة.
- إن كان الملائكة يعجزون عن كسر السلاسل التي جلبتها الخطيّة عليهم، فمن الغباء أن نعتقد أنَّ البشر يمكنهم كسرها. فنحن عاجزون عن تحرير أنفسنا من هذه السلاسل، ولا يمكننا أن نتحرّر إِلَّا بواسطة يسوع.
- يذكّرنا هذا بأنّ هؤلاء الملائكة الذين أخطأوا بالاتحاد الجنسيّ غير الطبيعيّ لم يعودوا فعالين. فإنّ قضاء الله الجذري في أيام نوح وضع حدًّا لهذا النوع من الاتحاد الجنسيّ غير الطبيعيّ.
- هذا المثال يلقّننا درسين. أوَّلاً، يؤكّد لنا أنَّ بعض الناس الذين يسبِّبون المشاكل سوف يُدانون، بغض النظر عن مكانتهم الروحيّة. فهؤلاء الملائكة كانوا يقفون في وقت ما في محضر الله المجيد – أمَّا الآن فهم في قُيُودٍ أَبَدِيَّةٍ. فإن حَكَم الله على الملائكة الذين أخطأوا، فهو سوف يحكم على هؤلاء الناس. ثانيًا، يحذّرنا من أهمية مواصلة مسيرنا مع يسوع. فإن كانت الخبرة الروحيّة السابقة لهؤلاء الملائكة لم تضمن لهم حالتهم الروحيّة المستقبلية، فهي لن تضمن لنا حالتنا أيضًا. فيجب أنْ نواصل المسير ونكون على أهبة الاستعداد.
ج) الآية (٧): مثال سدوم وعمورة.
٧كَمَا أَنَّ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَٱلْمُدُنَ ٱلَّتِي حَوْلَهُمَا، إِذْ زَنَتْ عَلَى طَرِيقٍ مِثْلِهِمَا، وَمَضَتْ وَرَاءَ جَسَدٍ آخَرَ، جُعِلَتْ عِبْرَةً، مُكَابِدَةً عِقَابَ نَارٍ أَبَدِيَّةٍ.
- كَمَا أَنَّ (مِثْلَ) سَدُومَ وَعَمُورَةَ: هاتان المدينتان (وَٱلْمُدُنَ ٱلَّتِي حَوْلَهُمَا) تُعتبران أيضًا مثالًا على دينونة الله. فخطيّتهما – أي الشذوذ الجنسيّ، وكذلك خطايا أخرى – جلبت عليهما دينونة الله.
- كانت سدوم وعمورة مدينتين مباركتين ومتميّزتين. فقد كانتا تقعان في منطقة مباركة: «جمِيعَهَا سَقْيٌ… كَجَنَّةِ الرَّبِّ». (سفر التكوين ١٠:١٣).
- إِذْ زَنَتْ عَلَى طَرِيقٍ مِثْلِهِمَا، وَمَضَتْ وَرَاءَ جَسَدٍ آخَرَ: يشير يهوذا إلى الرواية الواردة في سفر التكوين الإصحاح ١٩، حيث يوصف السلوك الجنسيّ الشاذّ لرجال سدوم. ويخبرنا سفر حزقيال ٤٩:١٦ أيضًا عن خطايا سدوم الأخرى: «ٱلْكِبْرِيَاءُ وَٱلشَّبَعُ مِنَ ٱلْخُبْزِ وَسَلَامُ ٱلِٱطْمِئْنَانِ كَانَ لَهَا وَلِبَنَاتِهَا، وَلَمْ تُشَدِّدْ يَدَ ٱلْفَقِيرِ وَٱلْمِسْكِينِ». فلم يكن الانحلال الجنسيّ هو خطيّتهم الوحيدة، ولكنّه كان بالتأكيد من بين خطاياهم، ويهوذا يوضّح ذلك.
- تبيّن الخطايا الموصوفة في سفر حزقيال ٤٩:١٦ أنَّ سدوم وعمورة كانتا بالفعل مزدهرتين ومباركتين. فإنّ الشخص لا يتمتّع بـ«ٱلشَّبَع مِنَ ٱلْخُبْزِ وَسَلَام ٱلِٱطْمِئْنَانِ» إِلَّا إذا كان ينعم بالبركات الماديّة. ولكن على الرغم من نعمة الله الكبيرة ورخائهم المادي، أخطأوا وأدينوا.
- جُعِلَتْ عِبْرَةً، مُكَابِدَةً عِقَابَ نَارٍ أَبَدِيَّةٍ: في سفر التكوين الإصحاح ١٩، تم تدمير سدوم وعمورة بنار من السماء. ولكنَّ ذلك لم يكن نهاية الحكم عليهما بالنار. فالأسوأ بكثير مما حدث في سفر التكوين ١٩، أنّهم كابدوا عِقَابَ نَارٍ أَبَدِيَّةٍ.
- هذا المثال يلقّننا درسين. أوَّلاً، يؤكّد لنا أن بعض الناس الذين يسبِّبون المشاكل سوف يُدانون، بغض النظر عن مقدار بركتهم في الماضي. تمامًا كما نعمت سدوم وعمورة ببركة عظيمة، ولكن في النهاية كابدت عِقَابَ نَارٍ أَبَدِيَّةٍ، هكذا سيكون حال هؤلاء الناس. ثانيًا، يحذّرنا من أنه يجب علينا أيضًا مواصلة السير مع يسوع. فإن لم تضمن بركات الماضي حالتهم الروحيّة المستقبلية، فهي لن تضمن لنا حالتنا أيضًا.
ثالثًا. المزيد من خطايا هؤلاء الناس
أ ) الآية (٨): أخلاق هؤلاء الناس الخطرين.
٨وَلَكِنْ كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا، ٱلْمُحْتَلِمُونَ، يُنَجِّسُونَ ٱلْجَسَدَ، وَيَتَهَاوَنُونَ بِٱلسِّيَادَةِ، وَيَفْتَرُونَ عَلَى ذَوِي ٱلْأَمْجَادِ.
- وَلَكِنْ كَذَلِكَ: ربط يهوذا هؤلاء الناس بشعب سدوم وعمورة من حيث شهوانيتهم (يُنَجِّسُونَ ٱلْجَسَدَ) ومن حيث رفضهم لسلطة الله (يَتَهَاوَنُونَ بِٱلسِّيَادَةِ).
- عندما أبرز يهوذا أنَّ هؤلاء الناس يَتَهَاوَنُونَ بِٱلسِّيَادَةِ، كان يقصد أنّهم يريدون أن يستأثروا بالسلطة. ولذلك رفضوا سلطان الله ورفضوا أولئك الذين وضعهم الله موضع سلطة.
- تشجّعنا ثقافتنا اليوم على التَهَاوَن بِٱلسِّيَادَةِ واعتبار أنفسنا أصحاب السلطة الحقيقية الوحيدة في حياتنا. ونحن نفعل ذلك مع الكتاب المُقدَّس، باختيار تصديق مقاطع معيّنة منه فقط. ونفعل ذلك مع معتقداتنا، بأنَّ نختار ما يحلو لنا من ’سَلَطَة‘ الأديان. أو نفعل ذلك مع أسلوب حياتنا، وذلك بأنَّ نضع قواعدنا الخاصّة ولا نعترف بفرائض الله.
- كان المجتمع في أحلك أيام إسرائيل يتميّز بحالة «كُلُّ وَاحِدٍ عَمِلَ مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْهِ» (سفر القضاة ٢٥:٢١). واليوم، هذا هو نمط العالم أجمع، وخاصّة الحضارة الغربية.
- هَؤُلَاءِ… ٱلْمُحْتَلِمُونَ: لعلَّ يهوذا يقصد أن هؤلاء الناس يحلمون، أي فقدوا الاتصال بالواقع. ولكنْ من الأرجح أنّه يقصد أنّهم يدّعون بتمتّعهم بأحلام نبوية، هي في الحقيقة مُجرَّد أوهام خادعة.
- يَفْتَرُونَ عَلَى ذَوِي ٱلْأَمْجَادِ: رُبَّما ذَوِي ٱلْأَمْجَادِ هم الرسل أو غيرهم من قادة الكنيسة. فكان رفضهم للسِّيَادَةِ مرتبطًا بافترائهم عَلَى ذَوِي ٱلْأَمْجَادِ (تشويهم لسُمعتهم).
ب) الآية (٩): ميخائيل رئيس الملائكة كمثال على عدم الافتراء على ذوي الأمجاد.
٩وَأَمَّا مِيخَائِيلُ رَئِيسُ ٱلْمَلَائِكَةِ، فَلَمَّا خَاصَمَ إِبْلِيسَ مُحَاجًّا عَنْ جَسَدِ مُوسَى، لَمْ يَجْسُرْ أَنْ يُورِدَ حُكْمَ ٱفْتِرَاءٍ، بَلْ قَالَ: «لِيَنْتَهِرْكَ ٱلرَّبُّ!»
- مِيخَائِيلُ رَئِيسُ ٱلْمَلَائِكَةِ… إِبْلِيسَ: ذكر يهوذا نوعين من الكائنات الملائكية. مِيخَائِيلُ وهو من بين الكائنات الملائكية المؤمنة بالله، والتي تخدم الله والبشر. إِبْلِيس وهو من بين الكائنات الملائكية التي تمردت على الله، وهو عدو للبشر.
- هناك كائنات ملائكية غير منظورة في كل مكان حولنا. فهناك أرواح خادمة أرسلها الله لمساعدتنا، وأرواح شيطانية تريد هزيمتنا. ولا يمكن للشيطان أن يُفقِد الشخص المُخلَّص خلاصه؛ ولكن من خلال خداعه يمكنه أن يفسد المؤمن وينجّسه، فلا يسلك في الطهارة والحرية. فبالنسبة إلى الشيطان، نحن قنابل موقوتة، مستعدّون لتدمير عمله – قنابل يتمنّى أنْ ينزع فتيلها ويجعلها غير فعّالة.
- كثيرون من الناس اليوم لا يؤمنون بأن إِبْلِيسَ موجود، ولكن الكتاب المُقدَّس يقول إنه موجود. أو إذا كانوا يعتقدون أنه موجود، فإنَّهم يصوّرونه بصور مضحكة من العصور الوسطى. ففي الماضي، كانت ’مسرحيات المعجزات (miracle plays)‘ (نوع من التمثيليات الدينية انتشر من القرن ١٠ -١٦) شكلًا رئيسيًّا من أشكال الترفيه. إذ كانوا يقيمون مهرجانات تُعرَض في إطارها قصص دينية على المسرح. وقد تعلّم الجمهور أن يبحث عن شخصية كانت ترتدي اللون الأحمر دائمًا، ولها قرنان على رأسها، وذيل يتدلَّى وراءها. وكان حذاؤها مثل الحوافر المشقوقة، وتحمل مذراة في يدها. كان الجمهور يستمتع بهذا الوصف السخيف للشيطان، فتولّد عنهم الاعتقاد بأنه شخصية كوميدية. والشيطان لا يُمانِع في أنْ نتصوّره بهذه الطريقة.
- مِيخَائِيلُ رَئِيسُ ٱلْمَلَائِكَةِ: هذا الكائن الملائكي مذكور بالاسم في أربعة مواضع من الكتاب المُقدَّس: سفر دانيال الإصحاحات ١٠و١٢، سفر رؤيا يوحنا ١٢ وهنا في يهوذا. في كل مرة يظهر مِيخَائِيلُ، يكون ذلك في سياق معركة أو الاستعداد للقتال، فهو رَئِيسُ ٱلْمَلَائِكَةِ أو قائدها.
- إن كان لإِبْلِيسَ غريم، فهو بالتأكيد ليس الله. إنَّه مِيخَائِيلُ رَئِيسُ ٱلْمَلَائِكَةِ – كائن ملائكي آخر رفيع المقام.
- “لنلاحظ أنَّ كلمة رئيس الملائكة لا ترد أبدًا في صيغة الجمع في الكتاب المُقدَّس. فلا يمكن أن يكون هناك إِلَّا رئيس ملائكة واحد، أي رئيس واحد لكل جند الملائكة. وكذلك لا ترد كلمة إبليس، العدو الأكبر للبشرية، في صيغة الجمع. فلا يمكن أن يكون هناك إلاَّ ملك واحد فقط لجميع الأرواح الساقطة.” كلارك (Clarke)
- فَلَمَّا خَاصَمَ إِبْلِيسَ مُحَاجًّا عَنْ جَسَدِ مُوسَى: هذه إشارة غامضة أخرى من يهوذا. آخر مَرَّة نقرأ فيها عن جَسَدِ مُوسَى كانت في سفر التثنية ٥:٣٤-٦: «فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ ٱلرَّبِّ فِي أَرْضِ مُوآبَ حَسَبَ قَوْلِ ٱلرَّبِّ. وَدَفَنَهُ فِي ٱلْجِوَاءِ فِي أَرْضِ مُوآبَ، مُقَابِلَ بَيْتِ فَغُورَ. وَلَمْ يَعْرِفْ إِنْسَانٌ قَبْرَهُ إِلَى هَذَا ٱلْيَوْمِ».
- لا نعرف من أين حصل يهوذا على معلوماته حول هذا النزاع. لعله حصل على إعلان فريد من الله. ولكن وفقًا لمعلمّي الكنيسة الأولى، يشير يهوذا هنا إلى كتاب منحول (أبوكريفي، أي مشكوك فيه) يُعرَف باسم «صعود موسى»، لم يبقى منه إِلَّا جزء صغير جدًا.
- نحن لا نعرف بالضبط لماذا دار هذا الخلاف حول جَسَدِ مُوسَى. قال البعض إنّ إبليس أراد أن يستخدم جسد موسى كهدف للعبادة ليقود إسرائيل إلى الضلال. بينما يعتقد البعض الآخر أنَّ إبليس أراد تدنيس جسد موسى، فادَّعى بحقّه في جسده لأنَّ موسى قد سبق وقتل مصريًّا.
- على الأرجح أنَّ إبليس كان يتوقّع غرضًا إلهيًّا لجسد موسى، فحاول إفشال تلك الخطَّة. ونحن نعلم أنهّ بعد وفاته، ظهر موسى في هيئة جسدية في التجلِّي (متّى ١:١٧-٣) مع إيليا (الذي رُفِع جسده إلى السماء بحسب سفر ملوك الثاني ٢). ورُبَّما كان موسى وإيليا شاهدي رؤيا يوحنا ١١، وكان الله يحتاج إلى جسد موسى من أجل تلك الخطَّة المستقبلية.
- لكن بالنسبة إلى يهوذا، فإن النقطة الرئيسية ليست سبب جدال ميخائيل، بل كيف جادل إبليس.
- لَمْ يَجْسُرْ أَنْ يُورِدَ حُكْمَ ٱفْتِرَاءٍ، بَلْ قَالَ: «لِيَنْتَهِرْكَ ٱلرَّبُّ!»: طريقة محاربة ميخائيل نموذج للحرب الروحيّة. أوَّلاً، نرى أنَّ ميخائيل كان في معركة. ثانيًا، نرى أنّه حارب بسلطان الرب.
- هذا يُثبِت لنا أنَّ ميخائيل ليس هو يسوع، كما تظن بعض الجماعات المهرطقة. فقد وبّخ يسوعُ إبليسَ بسلطانه الخاصّ، لكنَّ ميخائيل لم يفعل ذلك. “وجه الاختلاف هو أنَّ ميخائيل لم يستطع صدّ اتهام إبليس بسلطانه الخاصّ.” بوكهام (Bauckham)
- من اللافت للنظر أنَّ ميخائيل لَمْ يَجْسُرْ أَنْ يُورِدَ حُكْمَ ٱفْتِرَاءٍ (يوجِّه الاتهام ضده)، ولم يسخر من الشيطان أو يتّهمه (يفتري عليه). فالله لم يَدعُنا إلى الحكم على الشيطان، أو إدانة الشيطان، أو السخرية منه أو اتّهامه، بل إلى محاربته باسم الرب.
- يرتبط هذا بأولئك الناس الذين دخلوا خلسةً. فإذا لَمْ يَجْسُرْ ميخائيل أَنْ يُورِدَ حُكْمَ ٱفْتِرَاءٍ ضد الشيطان، فكم بالحري ينبغي لهؤلاء الناس أَلاَّ يفتروا على ذوي الأمجاد.
ج) الآية (١٠): المزيد عن سوء أخلاق هؤلاء الناس.
١٠وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَفْتَرُونَ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ. وَأَمَّا مَا يَفْهَمُونَهُ بِٱلطَّبِيعَةِ، كَٱلْحَيَوَانَاتِ غَيْرِ ٱلنَّاطِقَةِ، فَفِي ذَلِكَ يَفْسُدُونَ.
- وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَفْتَرُونَ: على عكس ميخائيل، الذي لم يجرؤ أنْ يفتري على الشيطان، فإنّ هؤلاء الناس يفترون، خاصّة بعدما رفضوا السلطة وتناولوا ذوي الأمجاد بألسنتهم.
- عَلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ: لم يكن هؤلاء الناس يعرفون لا الأمور ولا الأشخاص الذين تحدثّوا عنهم. إنَّ افتراءهم يزداد سوءًا بسبب جهلهم.
- نظرًا لأنهم افتروا أيضًا على ذوي الأمجاد ورفضوا السلطة، فإنَّ أولئك الناس لم يَعْلَمُوا شيئًا عن القيادة والسلطة الروحيّة الحقيقية – لذلك هان عليهم الافتراء عليها.
- وَأَمَّا مَا يَفْهَمُونَهُ بِٱلطَّبِيعَةِ، كَٱلْحَيَوَانَاتِ غَيْرِ ٱلنَّاطِقَةِ، فَفِي ذَلِكَ يَفْسُدُونَ: تظاهر هؤلاء الناس بأنهم روحيّون، ولكن معرفتهم الوحيدة كانت طبيعيّة. فحتّى ما كانوا يعرفونه بِٱلطَّبِيعَةِ، استعملوه في إفساد أنفسهم بفِكر غير روحيّ.
- يمكن أن تكون ٱلْحَيَوَانَات غَيْر ٱلنَّاطِقَةِ ذكية أو ماهرة بالغريزة، لكن من الواضح أنّها لا تملك معرفة روحيّة. وهكذا الحال مع هؤلاء الناس.
- “يا للمفارقة، أنّه عندما يدّعي الناس المعرفة، يثبت جهلهم؛ وعندما يظنّون أنهم متفوقون على الشخص العادي، يكونون في الواقع على نفس مستوى الحيوانات، ويصيبهم الفساد بسبب الممارسات ذاتها التي يبحثون فيها عن الحرية والتعبير عن الذات.” غرين (Green)
رابعًا. ثلاثة أمثلة على هؤلاء الناس
أ ) الآية (١١أ): هؤلاء الناس سلكوا طريق قايين.
١١وَيْلٌ لَهُمْ! لِأَنَّهُمْ سَلَكُوا طَرِيقَ قَايِينَ…
- طَرِيقَ قَايِينَ: نجد قصة قايين في سفر التكوين الإصحاح ٤، حيث قدّم كلٌّ من ابني آدم وحواء ذبيحة للرب. أمَّا قايين (لكونه فلّاحاً) فقدّم تقدمة من حصاده. أمَّا هابيل (لكونه راعيًا) فقدّم ذبيحة من أغنامه. قبل الله تقدمة هابيل، لكنّه رفض ذبيحة قايين.
- يفترض الكثيرون أنّه نظرًا لأن هابيل قدّم ذبيحة دموية بينما قدّم قايين تقدمة من الحبوب، فإن الفرق بين التقدمتين يكمن في كون الذبيحة دموية. ولكنَّ الفارق الحقيقي كان بين الإيمان وعدم الإيمان. وتوضّح الرسالة إلى العبرانيين ٤:١١ الأمر: «بِٱلْإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ. فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ ٱللهُ لِقَرَابِينِهِ. وَبِهِ، وَإِنْ مَاتَ، يَتَكَلَّمْ بَعْدُ!»
- رُبَّما كانت ذبيحة قايين أكثر إمتاعًا للحواسّ من جثّة خروف هابيل. ولكنَّ تضحيته قُدِّمت بدون إيمان، وبالتالي لم يقبلها الله. فأنت تستطيع أن تقدّم لله ما عندك أو ما أنت عليه، ولكن يجب أن تقدّمه بإيمان.
- طَرِيقَ قَايِينَ: تقول الآية في سفر التكوين ٥:٤ إنَّه بعد أن رفض الله ذبيحته، غضب قايين جدًّا، وسقط وجهه. فقد غضب لأنَّه كان يعلم أنَّ الله رفضه. وفي نوبة غضبه، قتل قايينُ هابيلَ، ثم كذب على الله.
- تخبرنا الآية في رسالة يوحنا الأولى ١٢:٣ بأن قايين قتل أخاه لأنَّ أعمال هابيل كانت صالحة (بالإيمان)، بينما كانت أعمال قايين شريرة. كان نقص قايين ليس في الأعمال، بل في الإيمان.
- طَرِيقَ قَايِينَ: يقول يهوذا إنَّ قايين يجسّد الطَرِيقَ الذي يسلكه هؤلاء الناس. إنَّه طريق عدم الإيمان والديانة الجوفاء، التي تؤدي إلى الغيرة من الأتقياء الحقيقيين واضطهادهم، وفي النهاية إلى الغضب القاتل.
- لا توجد لعنة أكبر من الدين الأجوف المغرور، أي أولئك الذين لهم صورة التقوى ولكن ينكرون قوتها (تيموثاوس الثانية ٥:٣). فلا عجبَ أنَّ بولس أضاف: «فَأَعْرِضْ عَنْ هَؤُلَاءِ!»
- يخاف الكثير من المؤمنين من العلمانية الإنسانية أو الإلحاد أو العالم. ولكنَّ الديانة الميتة أكثر خطورة، فهي تُرسِل أعدادًا من الناس إلى الجحيم أكثر من أي شيء آخر. فهؤلاء الناس كانوا في طَرِيق قَايِينَ، وهو طريق الديانة الميتة.
ب) الآية (١١ب): هؤلاء الناس في ضلالة بلعام.
١١… وَٱنْصَبُّوا إِلَى ضَلَالَةِ بَلْعَامَ لِأَجْلِ أُجْرَةٍ (الربح).
- ضَلَالَةِ بَلْعَامَ: جاءت قصة بلعام في سفر العدد الإصحاح ٢٢ إلى ٢٥ و٣١. أثناء فترة الخروج، وصل إسرائيل إلى أرض موآب بعد هزيمة الأموريين. وعندما اقترب بنو إسرائيل، طلب بالاق ملك موآب المساعدة من نبي اسمه بلعام.
- حين وصل أوّل وفد من الملك بالاق، أمر الله بلعام أَلاَّ يتعامل معهم. فكانت كلمات الله الأولى لبلعام: ’لَا تَذْهَبْ مَعَهُمْ وَلَا تَلْعَنِ ٱلشَّعْبَ، لِأَنَّهُ مُبَارَكٌ‘ (سفر العدد ١٢:٢٢).
- ثُمَّ بعد الزيارة الأولى، جاء وفد أكثر هيبة يحمل ثروة كبيرة. فلما همّ بلعام أن يذهب معهم، سمح له الله بالذهاب. اشتهى بلعام الغنى والهيبة اللذين عُرِضَا عليه، فأسلمه الله إلى خطيّته.
- حذّر الله بلعام أنْ يعود وهو في طريقه لمقابلة بالاق. ومع ذلك، كان قلبه قد تعلّق بالمكافأة الكبيرة التي وعد بها الملك بالاق، فتابع رحلته. لا بل وتجاهل بلعام حمارًا ناطقًا، أرسله الله لتحذيره لعلَّه يعود.
- كان بلعام يعلم أنه قد ارتكب خطأ. قال بلعام لله في سفر العدد ٣٤:٢٢ «أَخْطَأْتُ… وَٱلْآنَ إِنْ قَبُحَ فِي عَيْنَيْكَ فَإِنِّي أَرْجِعُ». ولكنه لم يرجع، بل تابع السير، ورفض أن يرى أنه عندما يقول الله لا، فيجب علينا أن نعتبرها لا. وبدلًا من ذلك، أعطى الله بلعام ما كان يشتهيه قلبه الخاطئ.
- ثُمَّ بعد لقائه مع ملك موآب، تنبّأ بلعام على إسرائيل أربع مرّات. ولكن كلَّما نطق بكلمة الله، لم يلعن إسرائيل – بل باركه في كل مَرَّة. وعندما لم ينجح في لعن إسرائيل، نصح بلعامُ بالاقَ بطريقة تجلب إسرائيل تحت اللعنة. وبدلاً من محاولة جعل النبي يلعن إسرائيل، وجب عليه أن يقود إسرائيل إلى الزنا والوثنية، وحينئذٍ سوف يلعن الله إسرائيل بسبب عصيانه.
- وذلك هو ما فعله بالاق بالضبط، فأرسل فتياته إلى مخيّم إسرائيل لإيقاع إسرائيل في الفجور الجنسيّ وعبادة الأصنام. وبسبب خطيّة الشعب، لعن الله إسرائيل – فجلب الطاعون عقابًا لإسرائيل، الذي أودى بحياة ٢٤٠٠٠ شخص. ولذلك ارتكب بلعام أعظم الخطايا: أي إيقاع الآخرين عمدًا في الخطيّة. والأسوأ من ذلك أنّه فعل ذلك من أجل المال.
- وَٱنْصَبُّوا إِلَى ضَلَالَةِ بَلْعَامَ لِأَجْلِ أُجْرَةٍ (الربح): تتمثّل ضَلَالَةِ بَلْعَامَ الجشعة في أنّه كان على استعداد للتنازل على أي شيء في مقابل المال. وهؤلاء الناس الذي حذّر منهم يهوذا كان لهم قلب مثل قلبه.
- لا ينكر الكثير من المؤمنين يسوعَ تحت الاضطهاد، لكنّهم قد ينكرونه إذا عُرِضَ عليهم مبلغ كبير من المال. وما مِن خطيّة لا يرتكبها الإنسان الفاسد من أجل المال. فالطمع خطيّة خطيرة أدّت إلى قتل يسوع – فثلاثون قطعة من الفضة ساعدت في وضع يسوع على الصليب.
- المعنى الحرفي لـ ٱنْصَبُّوا هو ’انسكبوا‘ (روبرتسون Robertson). وهذه صورة قوية تدلّ على التمادي المُفرِط. ولكنَّ بولس يستخدم المصطلح نفسه أيضًا بمعنى الطريقة المُفرِطة التي يحبنا بها الله: «لِأَنَّ مَحَبَّةَ ٱللهِ قَدِ ٱنْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُعْطَى لَنَا» (رومية ٥:٥).
ج) الآية (١١ج): هؤلاء الناس يمارسون تمرّد قورح.
١١… وَهَلَكُوا فِي مُشَاجَرَةِ قُورَحَ.
- مُشَاجَرَةِ (تمرُّد) قُورَحَ: جاءت قصة قورح في سفر العدد الإصحاح ١٦. كان قورح رجلاً بارزًا في إسرائيل، جاء في يوم من الأيام إلى موسى، قائلاً: «كَفَاكُمَا! إِنَّ كُلَّ ٱلْجَمَاعَةِ بِأَسْرِهَا مُقَدَّسَةٌ وَفِي وَسَطِهَا ٱلرَّبُّ. فَمَا بَالُكُمَا تَرْتَفِعَانِ عَلَى جَمَاعَةِ ٱلرَّبِّ؟» (سفر العدد ٣:١٦). حقد قورح وأتباعه على موسى وهرون بسبب السلطة التي منحها الله لهما.
- عندما قال قورح هذا، سقط موسى على وجهه، عالمًا أنَّ دينونة الله آتية عن قريب. ثم اقترح موسى إجراء اختبار: تأخذ كل مجموعة مبخرة (لحرق البخور) وتأتي أمام الرب. ويختار الرب بنفسه الرجل الذي يريد أن يمثّله: موسى أو قورح.
- عندما جاء الاثنان أمام الله، أمر الرب موسى بالابتعاد. ثم انفتحت الأرض وابتلعت قورح وأتباعه. وبعد ذلك، هبطت نار من السماء وأحرقت جميع مؤيّديه. فـهلكوا أجمعين.
- مُشَاجَرَةِ (تمرُّد): كان قورح لاويًا، ولكن ليس من عائلة هارون الكهنوتية. وباعتباره لاويًا، كان له خدمته المعيَّنة من قِبَل الله، لكنه لم يكن راضيًا بها. بل اشتهى خدمة موسى وسلطانه.
- كان قورح بحاجة إلى تعلُّم هذا الدرس الأساسي: يجب أن نجتهد لتنفيذ كل ما دعانا الله إلى عمله. وفي الوقت نفسه، لا ينبغي لنا أبدًا أن نحاول أن نكون ما لم يدعُنا الله أن نكون.
- مُشَاجَرَةِ (تمرُّد) قُورَحَ: كان هذا أيضًا رفضًا للقادة المعيَّنين من الله، خاصّةً الوسيط المعيَّن من الله. فعندما رفض هؤلاء الناس السلطة وافتروا على ذوي الأمجاد، سلكوا في مُشَاجَرَة قُورَحَ.
- تمرُّد قورح “يكمن في الفكرة الأوسع المتمثّلة في إثبات الذات بازدراء وعِناد ضدّ الفرائض المعيَّنة من الله.” من كتاب سالموند (Salmond) بعنوان: تفسير المنبر.
- كان هؤلاء الثلاثة ينتمون إلى خلفيات مختلفة تمامًا: كان قايين فلاحًا، وكان بلعام نبيًا، وكان قورح قائدًا في إسرائيل. فالارتداد لا يقتصر أبدًا على مجموعة من الناس. “يوجد مرتدّون في المنبر، وفي القصر، وفي البيت الفقير.” كودر (Coder)
خامسًا. ما يخبئه المستقبل لهؤلاء الناس
أ ) الآيات (١٢-١٣): وصف حي لفساد هؤلاء الناس.
١٢هؤُلاَءِ صُخُورٌ فِي وَلاَئِمِكُمُ الْمَحَبِّيَّةِ، صَانِعِينَ وَلاَئِمَ مَعًا بِلاَ خَوْفٍ، رَاعِينَ أَنْفُسَهُمْ. غُيُومٌ بِلاَ مَاءٍ تَحْمِلُهَا الرِّيَاحُ. أَشْجَارٌ خَرِيفِيَّةٌ بِلاَ ثَمَرٍ مَيِّتَةٌ مُضَاعَفًا، مُقْتَلَعَةٌ. ١٣أَمْوَاجُ بَحْرٍ هَائِجَةٌ مُزْبِدَةٌ بِخِزْيِهِمْ. نُجُومٌ تَائِهَةٌ مَحْفُوظٌ لَهَا قَتَامُ الظَّلاَمِ إِلَى الأَبَدِ.
- صُخُورٌ فِي وَلَائِمِكُمُ ٱلْمَحَبِّيَّةِ: درج المسيحيون الأوائل على الالتقاء في الكثير من الأحيان لتناول وجبة جماعية مشتركة، يشارك فيها الجميع بإحضار طبق من الطعام. وكانوا يُطلقون على هذه الوجبات الوَلَائِم ٱلْمَحَبِّيَّةِ أو ’احتفالات الأغابي.‘ أما هؤلاء الناس، فعندما كانوا يأتون، كانوا لا يهتمون إلا بأنفسهم (رَاعِينَ أَنْفُسَهُمْ). فيأكلون بنَهَمٍ في الوَلَائِم ٱلْمَحَبِّيَّةِ بينما يجوع الآخرون.
- في احتفال الأغابي، كان الجميع يُحضِرون ما يقدرون عليه – بعضهم القليل وبعضهم الكثير؛ لكنّهم كانوا جميعًا يتقاسمون الطعام بينهم. وبالنسبة إلى بعض العبيد المؤمنين، رُبَّما كانت تلك الوجبة الوحيدة المعتبرة التي يتناولونها بانتظام. فأنانية هؤلاء الناس قد أفسدت روح الشركة. وتصف الآيات في رسالة كورنثوس الأولى ١٧:١١-٣٤ مشكلة مشابهة في كنيسة كورنثوس.
- تَفسَد الشركة دائمًا عندما نأتي إلى الكنيسة ولسان حالنا ’باركني أنا وحدي.‘ ولا يزال الكثيرون مِمَّن لا يتناولون الطعام بأنانية في وجبة الكنيسة يأتون إلى الكنيسة رَاعِينَ (خادمين) أَنْفُسَهُمْ فقط.
- صُخُورٌ: يعتقد بعض علماء اليونانية أن هذه الكلمة يجب أن تُتَرجم بـ ’صخور خفية‘ بدلاً من مُجرَّد صُخُور أو «عيوب». ولكنْ لا فرقَ كبير في المعنى هنا.
- رَاعِينَ أَنْفُسَهُمْ (فقط): كان هدفهم الأوحد ’رعاية أنفسهم.‘ روبرتسون (Robertson). فكانوا رعاة من نوع ما – ولكنهم لم يرعوا إلاَّ أنفسهم.
- غُيُومٌ بِلَا مَاءٍ تَحْمِلُهَا ٱلرِّيَاحُ: الغيوم التي بلا ماء لا تصلح لشيء. إنَّها لا تجلب أمطارًا تهب الحياة وتحجب الشمس فقط. وهي موجودة لنفسها فقط. كان هؤلاء الناس مثل هذه الغيوم.
- ذات مَرَّة بينما كنت أقود سيارتي، مررت بأحد المصانع، فنظرت ابنتي آن صوفي إلى كتل الدخان الأبيض المتصاعد من مداخن المصنع، ثُمَّ قالت: ’هذا هو المكان الذي يصنعون فيه الغيوم!‘ كان هؤلاء الناس مثل تلك الغيوم الفارغة – لا يصلحون لشيء. تَحْمِلُهَا ٱلرِّيَاحُ فينساقون من تقليعة إلى أخرى.
- أَشْجَارٌ خَرِيفِيَّةٌ بِلَا ثَمَرٍ: بحلول أواخر الخريف، ينبغي أن تنتج الأشجار ثَمَرًا. ولكنّ هؤلاء الناس لا يحملون ثَمَرًا كما ينبغي. هم مثل الأشجار التي تأخذ فقط ولا تُعطِي.
- أَمْوَاجُ بَحْرٍ هَائِجَةٌ: بالنسبة إلى الإنسان الحديث، غالبًا ما يكون البحر شيئًا جميلًا. ولكن بالنسبة إلى الإنسان القديم، لاسيَّما في الثقافات الكتابية، كان البحر رعبًا لا يمكن السيطرة عليه. ويعبّر سفر إشعياء ٢٠:٥٧ عن هذه الفكرة فيقول: «أَمَّا ٱلْأَشْرَارُ فَكَالْبَحْرِ ٱلْمُضْطَرِبِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَهْدَأَ، وَتَقْذِفُ مِيَاهُهُ حَمْأَةً وَطِينًا». فكان هؤلاء الناس مشغولين ونشيطين مثل أَمْوَاج بَحْرٍ هَائِجَة مُزْبِدَةٌ، فكل ما كانوا يفعلونه لا يسفر عن شيء إلا زبد خزيهم (مُزْبِدَةٌ بِخِزْيِهِمْ).
- الانشغال ليس علامة على الاستقامة. فقد هاج هؤلاء الناس مثل رغاوي البحر أو زَبَده. والصورة التي يفكّر فيها يهوذا هي الخط الساحلي القبيح بعد أن تكتسح العاصفة كل أنواع الأخشاب الطافية والأعشاب البحرية والحطام إلى البرّ.
- نُجُومٌ تَائِهَةٌ: مثل المذنّبات التي تحوم في السماء، أدهش هؤلاء الناس العالم فترةً، ثم توارَوا في الظلام. فالنجم الذي لا يمكن التنبّؤ بحركته لم يكن يصلح للاسترشاد والملاحة. لذا كان هؤلاء المخادعون عديمي الجدوى وغير جديرين بالثقة.
- قَتَامُ ٱلظَّلَامِ إِلَى ٱلْأَبَدِ: هذا وصف لمصيرهم. ما لم يتوبوا، فسوف ينتهي بهم الأمر إلى الجحيم – حيث يظلّون هناك إِلَى ٱلْأَبَدِ.
- العقاب في الجحيم إِلَى ٱلْأَبَدِ لأن الإنسان الساقط يدفع ثمن خطاياه ويقدّم ذبيحة ناقصة يجب أنْ تتكرّر مرارًا وتكرارًا إلى الأبد. فالإنسان الكامل يمكنه أن يقدّم ذبيحة واحدة فقط؛ أمَّا الإنسان الناقص فيجب أن يقدّم الذبيحة باستمرار.
- التزاماتنا تجاه الله لا حدّ لها، وبالتالي لا يمكن وفاؤها إِلَّا في يسوع، فهو غير المحدود.
ب) الآيات (١٤-١٥): يقينيّة الحكم على هؤلاء الناس.
١٤وَتَنَبَّأَ عَنْ هؤُلاَءِ أَيْضًا أَخْنُوخُ السَّابعُ مِنْ آدَمَ قَائِلاً: «هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ، ١٥لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعَاقِبَ جَمِيعَ فُجَّارِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ فُجُورِهِمِ الَّتِي فَجَرُوا بِهَا، وَعَلَى جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الصَّعْبَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا عَلَيْهِ خُطَاةٌ فُجَّارٌ».
- أَخْنُوخُ: يستشهد يهوذا هنا بأخنوخ، الوارد ذكره في سفر التكوين الإصحاح ٥ وفي رسالة العبرانيين الإصحاح ١١. لم تقبل الكنيسة سفر أخنوخ ككتاب مُقدَّس، لكنه كان يحظى باحترام كبير بين كلٍّ من اليهود والمسيحيين الأوائل.
- “يخبرنا ترتليانُس أنَّ نوحًا حفظ سِفر نبوّات أخنوخ في الفُلك، وأنهم استمروا يقرأونه حتى أزمنة الرسل. ولكن لأنَّ تلك النبوّات كانت تحتوي على العديد من الشهادات القوية ليسوع المسيح، تكتّم عليها اليهود بخبث وحذفوا السفر كله.” تراب (Trapp)
- لم يستشهد يهوذا بأخنوخ ليخبرنا بأي شيء جديد، بل ليعطينا وصفًا حيًّا لِمَا يعلّمه الإنجيل بالفعل. وقد اقتبس الرسول بولس أيضًا من مصادر غير كتابية في ثلاث مناسبات مختلفة على الأقل (أعمال الرسل ٢٨:١٧، كورنثوس الأولى ٣٣:١٥، تيطُس ١٢:١). لم يكن هذا للإعلان عن حقّ جديد، ولكن لدعم مبدأ كتابي قائم بالفعل.
- لا يعني اقتباس يهوذا من سفر أخنوخ أنَّ سفر أخنوخ موحًى به – بل الجزء الذي اقتبسه يهوذا فقط. بنفس الطريقة، عندما كان بولس يقتبس من شاعر وثني، لم يكن يقصد أنَّ عمل الشاعر بأكمله موحًى به من الله.
- لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى ٱلْجَمِيعِ: كثيرون من الناس يستهينون بدينونة الله. ولكنَّ أهمّ سؤال في العالم هو: ’هل سيدينني الله؟ هل سأُحاسَب أمامه؟‘ فإذا كنا سنُحاسَب أمام الله حقًا، فنحن أغبياء إذا لم نستعد لمواجهة تلك الدينونة.
- فكّر في شخص قُبِض عليه لارتكابه جريمة، وحُدِّد له موعد للوقوف أمام القاضي – لكنه لم يستعد مطلقًا للوقوف أمامه. هذا شخص أحمق. لا ينبغي أن نكون حمقى بهذه الدرجة. بدلاً من ذلك نستفيد من محامينا الذي عينته المحكمة – يسوع المسيح (يوحنا الأولى ١:٢).
- وَيُعَاقِبَ جَمِيعَ فُجَّارِهِمْ: في هذا الاقتباس من سفر أخنوخ، أكّد يهوذا على كلمتي جَمِيع وفُجَّارِهِمْ. الله آتٍ لمعاقبة الفجّار جَمِيعًا.
ج) الآيات (١٦-١٨): أساليب هؤلاء الناس.
١٦هؤُلاَءِ هُمْ مُدَمْدِمُونَ مُتَشَكُّونَ، سَالِكُونَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِهِمْ، وَفَمُهُمْ يَتَكَلَّمُ بِعَظَائِمَ، يُحَابُونَ بِالْوُجُوهِ مِنْ أَجْلِ الْمَنْفَعَةِ. ١٧وَأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ فَاذْكُرُوا الأَقْوَالَ الَّتِي قَالَهَا سَابِقًا رُسُلُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. ١٨فَإِنَّهُمْ قَالُوا لَكُمْ: «إِنَّهُ فِي الزَّمَانِ الأَخِيرِ سَيَكُونُ قَوْمٌ مُسْتَهْزِئُونَ، سَالِكِينَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ فُجُورِهِمْ».
- مُدَمْدِمُونَ مُتَشَكُّونَ… وَفَمُهُمْ يَتَكَلَّمُ بِعَظَائِمَ، يُحَابُونَ بِٱلْوُجُوهِ (يتملّقون الناس): لاحظ يهوذا أن أساليبهم تدور كلها حول الكلام. فعلاوة على حياتهم المشبوهة، كانوا في الأساس من أهل الخداع، مبتعدين عن أساس يسوع المسيح، وعن الرسل والأنبياء.
- هَؤُلَاءِ هُمْ مُدَمْدِمُونَ مُتَشَكُّونَ: كان هؤلاء الأشخاص مُتَشَكُّينَ. يقال – وعن حق – إنّه كلما فقد الإنسان الاتّصال بالله، بدأ في الشكوى من شيء ما.
- الدمدمة (التذمًّر) “هي إهانة لله الذي يهبنا كل شيء. هي نسيان أنَّه بغضّ النظر عمّا يصيبنا، فلا شيء يمكن أن يفصلنا عن محبته أو يحرمنا من هذا الكنز الذي لا يقدّر بثمن، أي وجود الرب في حياتنا.” غرين (Green)
- “هذا النوع من الناس، المشار إليه هنا، معروف. لا شيء يرضيهم على الإطلاق. إنهم يستاءون حتّى من الإنجيل. فإذا عُرِض عليهم خبز السماء، أصرّوا على تقطيعه إلى ثلاثة أجزاء متساوية، وعلى تقديمه على مناديل أنيقة، وإلاَّ امتنعوا عن تناوله. وسرعان ما تعاف نفوسهم هذا الخبز اللطيف. فلا توجد وسيلة يمكن بها للإنسان المؤمن أن يخدم الله بطريقة تُرضيهم. إنَّهم يتصيّدون الأخطاء في كلام كل واعظ. ولو كان رئيس كهنتنا نفسه موجودًا هنا، لعابوا عليه وانتقدوا لون حجارة صدريّته.” سبيرجن (Spurgeon)
- يُحَابُونَ بِٱلْوُجُوهِ: كان هؤلاء الناس يعرفون كيف يستخدمون الكلام المعسول والإغراء للحصول على ميزة يتفوّقون بها على الآخرين. فقد يقولون أي شيء – جيدًا كان أو سيئًا – للحصول على تلك الميزة.
- وَأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلْأَحِبَّاءُ، فَٱذْكُرُوا: يجب أن نكون مختلفين. فعلينا أن نتذكّر الأقوال ٱلَّتِي قَالَهَا سَابِقًا رُسُلُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. فكلمة الله فيها دائمًا الحلّ للمخاطر داخل الكنيسة أو خارجها.
- لقد حذّر الرسل من حدوث هذه الأمور بعينها؛ وبالذات مع اقتراب اليوم: «لِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَقْتٌ لَا يَحْتَمِلُونَ فِيهِ ٱلتَّعْلِيمَ ٱلصَّحِيحَ، بَلْ حَسَبَ شَهَوَاتِهِمُ ٱلْخَاصَّةِ يَجْمَعُونَ لَهُمْ مُعَلِّمِينَ مُسْتَحِكَّةً مَسَامِعُهُمْ، فَيَصْرِفُونَ مَسَامِعَهُمْ عَنِ ٱلْحَقِّ، وَيَنْحَرِفُونَ إِلَى ٱلْخُرَافَاتِ» (تيموثاوس الثانية ٣:٤-٤).
- إِنَّهُ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْأَخِيرِ سَيَكُونُ قَوْمٌ مُسْتَهْزِئُونَ: رُبَّما كان يهوذا يفكّر في أولئك الذين يسخرون من فكرة عودة يسوع. أو رُبَّما قصد أولئك الناس الذين يسخرون مِمَّن لا يسلكون نفس طريق الهلاك الذي يسلكونه هم.
- مُسْتَهْزِئُونَ، سَالِكِينَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ فُجُورِهِمْ: أولئك الذين يعيشون بِحَسَبِ شَهَوَاتِ فُجُورِهِمْ يحبّون أنْ يسخروا من أولئك الذين يرغبون في إرضاء الله. ويريد يهوذا أن يتوقّع المؤمنون هذا النوع من السخرية، كيلا يُفاجَأوا به.
د ) الآية (١٩): الحالة الروحيّة لهؤلاء الناس.
١٩هَؤُلَاءِ هُمُ ٱلْمُعْتَزِلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، نَفْسَانِيُّونَ لَا رُوحَ لَهُمْ.
- هَؤُلَاءِ هُمُ ٱلْمُعْتَزِلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ: كان لهؤلاء الناس ميل للانعزال (ٱلْمُعْتَزِلُونَ) وإحداث انقسامات. “هذه الكلمة، التي ترد مَرَّة واحدة فقط في الكتاب المُقدَّس، تشير إلى أشخاص متعالين منغلقين على أنفسهم – أي الفريسيين المسيحيين.” غرين (Green)
- هَؤُلَاءِ… نَفْسَانِيُّونَ: لم يكن هؤلاء الناس بطبيعتهم روحانيّين، بل نفسانيّين جسديين، غير حسّاسين للروح القدس.
- ’نَفْسَانِيُّونَ‘ في هذا السياق لا علاقة لها بالشهوة الجنسيّة (كما قال البعض). إنَّها تصف الشخص الذي تتحكم به غرائزه ويعيش على ومن أجل ما يستطيع الحصول عليه عن طريق حواسّه المادية فقط، وهو أسلوب حياة أناني. شعاره هو: ’كلّ ما يعطيك شعورًا طيّبًا، افعله‘ أو ’كيف يمكن أن يكون ذلك خطأ لو شعرت بأَنَّه صحيح؟‘
- لَا رُوحَ لَهُمْ: يمكن وصف العديد من الكنائس، أو المشاريع الكنسية، أو حملات التبشير، أو المجموعات المنزلية، أو حتى الحياة الفردية المسيحية بهذا الوصف نفسه. الكنيسة والعالم – على السواء – في مسيس الحاجة إلى رجال ونساء روحيّين حقيقيين.
سادسًا. كيف نتعامل مع خطر هؤلاء الناس
من اللافت للنظر أنَّ يهوذا لا يوصينا بأن نهاجم هؤلاء الناس الذين يشكلّون خطرًا على الكنيسة. وبدلاً من ذلك، يأمرنا بالتركيز على مسيرنا مع الرب، ومساعدة الآخرين الذين تأثّروا بهؤلاء الناس، والتركيز على الله. ويجب علينا ببساطة أَلاَّ نولي أهمية لهؤلاء الناس، إِلَّا ما كان ضروريًّا لتحذيرنا. والله سوف يتكفّل بهم.
أ ) الآيات (٢٠-٢١): دعونا نلقي نظرة إلى الداخل.
٢٠وَأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ فَابْنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمُ الأَقْدَسِ، مُصَلِّينَ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ، ٢١وَاحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ فِي مَحَبَّةِ اللهِ، مُنْتَظِرِينَ رَحْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ.
- وَٱحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ فِي مَحَبَّةِ ٱللهِ: نحن نعلم أنَّ الله يحبّ حتّى الفجّار (رومية ٦:٥). لذلك لا يقصد يهوذا: ’عيشوا بطريقة تجعلكم محبوبين من الله.‘ بل المقصود بجملة ’ وَٱحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ فِي مَحَبَّةِ ٱللهِ‘: أن تحفظوا أنفسكم في انسجام مع محبة الله الدائمة.
- لكن يجب علينا أن نفهم المقصود بما يقوله الكتاب المُقدَّس عن محبة الله للأشرار. فمغزى مفهوم محبة الله لنا أجمعين قد شُوِّه تشويهًا كبيرًا. تأمّل الخاطئ الذي يدافع عن ارتكابه للخطية بقوله: ’الله يحبني كما أنا.‘ والمعنى الضمني هو: ’طالما أنَّ الله يحبّني فلابد أن أكون صالحًا.‘ ولكن الواقع هو أن محبة الله لنا هي انعكاس لصلاح الله، لا لصلاح الإنسان. فليس المقصود: ’أنا رائع إلى درجة أنَّ الله يحبني،‘ ولكن: ’الله رائع إلى درجة أنّه يحبّني.‘
- محبّة الله تنتشر في كل مكان، ولا شيء يمكن أن يفصلنا عنها. ولكن يمكننا أن نحرم أنفسنا من فوائد محبة الله. فالناس الذين لا يحفظون أنفسهم فِي مَحَبَّةِ ٱللهِ يؤول بهم المطاف إلى العيش كما لو كانوا على الجانب المظلم من القمر. فالشمس موجودة على الدوام، وتُشرِق باستمرار، لكنّهم ليسوا في وضع يمكّنهم من الانتفاع بضوئها أو دفئها. مثال على ذلك الابن الضال في إنجيل لوقا ١٥، الذي كان دائمًا محبوبًا من أبيه، لكنّه لم يستفد من تلك المحبة حينًا من الزمن.
- فَٱبْنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمُ ٱلْأَقْدَسِ: هذه إحدى الطرق التي نقدر بها أن نحفظ أنفسنا في محبة الله. وهذا يعني الاستمرار في النمو روحيًّا، والاستمرار في بناء أنفسنا روحيًا. فيوصينا يهوذا: ’ٱبْنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمُ ٱلْأَقْدَسِ.‘ مما يعني أننا مسؤولون عن نمونا الروحيّ. وأننا لا يمكننا أنْ ننتظر حدوث النمو الروحيّ من تلقاء نفسه أو نتوقّع من الآخرين أن ينمّونا روحيًّا.
- لقد أظهر لنا يهوذا ضعف البشر وكيف نجح المخادعون في التسلل إلى الكنيسة. إذا استأمنت شخصًا آخر على نموك الروحيّ، فلن يلحق الضرر بنموك الروحيّ فقط، بل وقد يؤدّي ذلك إلى ضلالك أيضًا.
- يستطيع الآخرون مساعدتك في توفير بيئة تساعدك على النمو روحيًّا. ولكن لا يستطيع أحد أن يجعل شخصًا آخر ينمو في علاقته بالرب.
- عَلَى إِيمَانِكُمُ ٱلْأَقْدَسِ: الإيمان ٱلْأَقْدَس هو نفس الإيمان «ٱلْمُسَلَّم مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ» (يهوذا ٣). فلم يكن يهوذا يتحدّث عن النمو في الإيمان ٱلْأَقْدَس (رغم أن هذه فكرة صحيحة). إنّما يتحدّث عن النمو عَلَى إِيمَانِكُمُ ٱلْأَقْدَسِ. نحن ننمو على أساس الحقّ.
- مُصَلِّينَ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ: هذه طريقة أخرى لحفظ أنفسنا في محبة الله. فالجهاد ضد الحياة الخاطئة والتعليم الخاطئ هو جهاد روحيّ، يتطلّب الصلاة في الروح القدس.
- ما يوجِّه العديدَ من صلواتنا هو احتياجاتنا الخاصّة أو أذهاننا أو أمنياتنا ورغباتنا. ولكن هناك مستوى للصلاة أعلى من ذلك: «وَكَذَلِكَ ٱلرُّوحُ أَيْضًا يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لِأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لِأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلَكِنَّ ٱلرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لَا يُنْطَقُ بِهَا» (رومية ٢٦:٨).
- قد يساعدنا الروح القُدُس أنَّ نصلّي عن طريق إعطائنا الكلام الصحيح لنقوله عندما نصلّي. وقد يتكلم بِأَنَّاتٍ لَا يُنْطَقُ بِهَا (رومية ٢٦:٨). أو قد يفعل الروح القُدُس ذلك من خلال موهبة الألسنة، وهي موهبة يهبها الله للقلوب الباحثة، التي تريد التواصل معه على مستوى أعمق من الحديث العادي.
- “هذا خمولنا، وهذه بلادة جسدنا، حتّى أننا لا نستطيع الصلاة بشكل صحيح إلاَّ إذا حفّزنا روح الله… فلا يمكن لأحد أن يصلّي كما ينبغي دون أن يكون الروح مرشدًا له.” كالفن (Calvin)
- مُنْتَظِرِينَ رَحْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ: هذه هي الطريقة الثالثة التي يمكننا بها أن نحفظ أنفسنا في محبة الله. إذ نحتفظ بالرجاء المبارك لعودة يسوع القريبة حيًّا في قلوبنا، وهذا يحفظنا في محبة الله، ويساعدنا على عدم التفريط في إيماننا.
ب) الآيات (٢٢-٢٣): دعونا نلقي نظرة إلى الخارج على من حولنا.
٢٢وَارْحَمُوا الْبَعْضَ مُمَيِّزِينَ، ٢٣وَخَلِّصُوا الْبَعْضَ بِالْخَوْفِ، مُخْتَطِفِينَ مِنَ النَّارِ، مُبْغِضِينَ حَتَّى الثَّوْبَ الْمُدَنَّسَ مِنَ الْجَسَدِ.
- وَٱرْحَمُوا ٱلْبَعْضَ: يبدأ يهوذا يخبرنا هنا بما يجب علينا عمله مع مَن تأثّروا بهؤلاء الناس. فنحن بحاجة إلى التمييز بناءًا على حالتهم. ولكنَّ الأمر المؤكَّد هو: ٱرْحَمُوا ٱلْبَعْضَ.
- باستخدام الحكمة نتعامل مع الأشخاص المختلفين بطرق مختلفة. وعن طريق الحساسية للروح القدس، نقدر أن نعرف متى يجب أن نعزِّي، ومتى يجب أن نوبّخ. إذ يجب على المؤمنين أَلاَّ يتخلّوا عن صديق تأثّر بتعليم زائف، بل ينبغي مساعدته على رفضه في محبة.
- هذا يعني الاستمرار في محبتهم. فبغض النظر عن سوء أخلاق الشخص، أو شدة ضلال عقيدته وفظاعتها، غير مسموح لنا بأن نكرهه – أو أن نهمل شأن خلاصه.
- كثيرًا ما كانت الرحمة تعني رعاية الشخص ومساعدته أن يكون على مستوى المسؤولية. “في هذه الأثناء، ارعوا الآخرين وكذلك أنفسكم؛ وامنحوهم المساعدة التي تستلزمها احتياجاتهم المختلفة.” ويسلي (Wesley)
- وَخَلِّصُوا ٱلْبَعْضَ بِٱلْخَوْفِ: يجب مواجهة هذه المجموعة الثانية بشدة أكبر – ولكن في خوف، لا بإحساس بالتفوق والاستعلاء. قد تحتاج إلى تخليصهم مِنَ ٱلنَّارِ، ولكن لا تفعل ذلك بكبرياء أبدًا.
- هذه النظرة إلى الخارج مهمّة. إنَّها توضّح أننا لسنا مهتمين بسعادتنا الروحيّة فقط. بل تثبت أننا مهتمون حقًا بالمؤمنين الآخرين الذين ينحرفون إلى الضلال.
ج) الآيات (٢٤-٢٥): دعونا نلقي نظرة إلى أعلى، إلى إله كل المجد.
٢٤وَالْقَادِرُ أَنْ يَحْفَظَكُمْ غَيْرَ عَاثِرِينَ، وَيُوقِفَكُمْ أَمَامَ مَجْدِهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي الابْتِهَاجِ، ٢٥الإِلهُ الْحَكِيمُ الْوَحِيدُ مُخَلِّصُنَا، لَهُ الْمَجْدُ وَالْعَظَمَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالسُّلْطَانُ، الآنَ وَإِلَى كُلِّ الدُّهُورِ. آمِينَ.
- وَٱلْقَادِرُ: يختم يهوذا الرسالة بمجدلة شهيرة (إعلان موجز عن تسبيح الله). تذكّرنا هذه الكلمات برعاية الله ومصيرنا.
- وَٱلْقَادِرُ أَنْ يَحْفَظَكُمْ غَيْرَ عَاثِرِينَ، وَيُوقِفَكُمْ أَمَامَ مَجْدِهِ بِلَا عَيْبٍ: رُبَّما سبّب كلام يهوذا عن الإنذار والموت الإحباط واليأس عند قرّائه. ورُبَّما اعتقد قرّاؤه الأصليون أنه مع وجود الكثير من التعاليم الضالة والفجور، فقليلون جدًا من المؤمنين سيذهبون إلى السماء. وهو هنا يذكّرهم بأن الجواب يكمن في قدرة الله وحده. فهو قَادِر أَنْ يَحْفَظَكُمْ، أمَّا أنتم فعاجزون عن حفظ أنفسكم.
- عند تسلُّق الجبال، يتعلّق المتسلّق المبتدئ بالخبير، حتّى إذا فقد توازنه، لن يعثر ويسقط، ليلقى حتفه. وبنفس الطريقة، إذا حافظنا على الاتصال بالله، فلا يمكننا أن نسقط، بل يحفظنا آمنين.
- بمقارنة مقاطع الكتاب المُقدَّس، نكتشف أيضًا من هو المسؤول الحقيقي عن حفظنا آمنين. وقد بدأ يهوذا الرسالة بمخاطبة المحفوظين في يسوع (يهوذا ١). ثم حضّ المؤمنين على تجنب الأناس الخطرين وحفظ أنفسهم في محبة الله (يهوذا ٢١). وهنا في النهاية، يختم بالاعتراف بأنّ الله هو الذي يمنعنا من التعثر والارتداد والسقوط في نهاية المطاف. وقد أعرب بولس عن نفس هذه الفكرة في رسالته إلى أهل فيلبي ١٢:٢-١٣: «اسْعَوْا لِتَحْقِيقِ خَلاَصِكُمْ عَمَلِيّاً بِخَوْفٍ وَارْتِعَادٍ، لأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يُنْشِيءُ فِيكُمُ الإِرَادَةَ وَالْعَمَلَ لأَجْلِ مَرْضَاتِهِ» (الترجمة العربية المشتركة).
- حفظنا روحيًّا هو عمل الله. ولكن يمكن دائمًا تمييز الأشخاص الذين يعمل فيهم، لأنَّهم يعملون هم أيضًا. فالله لا يدعونا أنْ نَدَع الحياة المسيحية تحدث لنا، ولا يأمرنا بتخليص أنفسنا. إنّما يدعونا إلى الشراكة معه.
- وَيُوقِفَكُمْ أَمَامَ مَجْدِهِ بِلَا عَيْبٍ فِي ٱلِٱبْتِهَاجِ: حيث أنَّ الله أمين، فلن نضطر إلى التسلّل إلى محضر الله بخجل. بل نستطيع أن نقف أمامه فِي ٱلِٱبْتِهَاجِ.
- ٱلْإِلَهُ ٱلْحَكِيمُ ٱلْوَحِيدُ مُخَلِّصُنَا، لَهُ ٱلْمَجْدُ وَٱلْعَظَمَةُ وَٱلْقُدْرَةُ وَٱلسُّلْطَانُ، ٱلْآنَ وَإِلَى كُلِّ ٱلدُّهُورِ: كل هذا يذكّرنا بحكمة الله ومجده وقدرته. ويهوذا لا يحاول أن يخبرنا بضرورة تسليم هذه الأشياء لله. فعندما نعترف ونعلن الحق الإلهي، فإن ذلك يمجّده. فنحن لا نعطي الله عظمة أو قدرة أكثر مِمّا يملك بالفعل؛ إنّما نحن نعترف بذلك ونعلنه.
- ٱلْآنَ وَإِلَى كُلِّ ٱلدُّهُورِ: يمكن ترجمة هذه العبارة على النحو التالي: ’إلى مدى الدهور.‘ وهذا “أكمل تصريح عن الأبدية يمكن للغة البشريّة أنْ تعبّر عنه.” روبرتسون (Robertson). إنَّ انتصارنا، أي غلبتنا في الله، تدوم إلى الأبد.
- يوجد خداع خطير في العالم، وغالبًا بين من يُطلِقون على أنفسهم مؤمنين. فهناك أعداء للإنجيل تسللوا إلى الكنيسة. ولكن رغم عظمة التهديد، فإنّ الله أعظم. هو الفائز، وإذا بقينا معه، ضمنّا الفوز أيضًا.
- رسالة يهوذا مليئة بالإنذارات، لكنّه يختمها بثقة شديدة في الله. فإنّ أزمنة الخطر يجب أن تجعلنا نتّكل على إلهنا القدير.