رسالة كورنثوس الأولى – الإصحاح ١
يسوع، حكمة الله
أولاً. تحية وشكر
أ ) الآية (١): من هو كاتب الرسالة: بُولُس، المدعو رسولاً
١بُولُسُ، الْمَدْعُوُّ رَسُولًا لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ، وَسُوسْتَانِيسُ الأَخُ.
- بُولُسُ: يتّبع الرسول بولس النمط الطبيعي لكتابة الرسائل في العصور القديمة. فنحن اليوم نبدأ الرسائل بذكر المُرسل إليه أولًا ونختمها بذكر المُرسل. أما في زمن بولس، فكانت الرسائل تبدأ بكتابة اسم المُرسل أولًا ثم المُرسل إليه.
- كان لدى بولس تاريخ ممتد مع مدينة كورنثوس، بدءًا من تأسيسه الكنيسة حتى وصوله إليها بعد أثينا ومكوثه هناك مدة عام ونصف (أعمال الرسل ١٨).
- أشار بولس في كورنثوس الأولى ٩:٥ إلى رسالة كان قد كتبها إلى المؤمنين في كورنثوس من مدينة أفسس (أعمال الرسل ١٩)، ولكن هذه “الرسالة السابقة” قد فُقدت.
- بعد ذلك، سمع بولس من أَهْلِ خُلُوِي عن وجود خصومات في كورنثوس (كورنثوس الأولى ١١:١)؛ وربما كان أيضاً قد استقبل وفد من كورنثوس ( كورنثوس الأولى ٧:١٦) جاء إليه بأسئلة من جماعة المؤمنين هناك (كورنثوس الأولى ١:٧).
- لهذا كتب بولس الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ليُجيب على ما سمعه من أخبار. وبسبب الوقت الذي قضاه بولس في كورنثوس وجميع الرسائل التي كتبها، أصبحنا نعرف عن مؤمني كورنثوس أكثر مما نعرفه عن أي كنيسة أخرى في العهد الجديد.
- الْمَدْعُوُّ رَسُولًا: في بداية الرسالة – بل بالأحرى في الكلمات القليلة الأولى منها – يُعلن بولس بلا خوف عن مؤهلاته الرسولية. وكما يتضح من الرسالة الأولى والثانية إلى أهل كورنثوس، لم يكن لمكانة بولس أو لسلطته كرسول أي تقدير بين المؤمنين في كورنثوس.
- “الْمَدْعُوُّ رَسُولًا تعني حرفيًا الرَسُول الْمَدْعُوُّ. فالرسول بولس يخبرهم عن أي نوع من الرسل هو عليه: الرَسُول الْمَدْعُوّ. “يعرف بولس أنه ليس واحدًا من الاثني عشر رسولًا، لكنه مساوٍ لهم لأنه مُختار من الله مثلهم.” روبرتسون (Robertson)
- الْمَدْعُوُّ رَسُولًا لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ: بهذا يؤكد بولس وجهة نظره، ثم يبدأ بالفعل في مواجهة مؤمني كورنثوس. ويبدو الأمر كما لو كان يقول: “قد لا تعرفون جميعًا مؤهلاتي الرسولية، وليس لهذا أهمية كبيرة بالنسبة لي، فأنا لم يتم اختياري رسولًا بتصويت شعبي ولم أعين من قِبل الرسل الآخرين، بل أصبحت رَسُولًا لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ وليس بمشيئة إنسان.”
- ما معنى رَسُولًا لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ؟ تعامل بولس بشكل أشمل في كورنثوس الأولى ١٥ مع ما يجعل من الشخص رسولًا. ومع ذلك، نتعلم أن الكلمة اليونانية القديمة ’apostolos‘ تحمل فكرة ’السفير الخاص.‘ وهكذا كان بولس ’سفير يسوع المسيح الخاص‘ للعالم وللكنيسة.
- حتى في مقدمة رسالته، كان بولس يُفكر بعناية في القضايا الهامة التي يحتاج إلى توصيلها إلى المؤمنين في كورنثوس.
- سُوسْتَانِيسُ الأَخُ: ربما ذُكر سُوسْتَانِيس في أعمال الرسل ١٧:١٨ باعتباره رئيس مجمع كورنثوس الذي تعرض للضرب بسبب اضطهاده لبولس.
- عند مجيء بولس إلى كورنثوس، كان رئيس المجمع الذي خَلُص يُدعى كِرِيسْبُس. “وَكِرِيسْبُسُ رَئِيسُ الْمَجْمَعِ آمَنَ بِالرَّبِّ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ.“ ( أعمال الرسل ٨:١٨). لهذا السبب تم فصله أو ربما استقال من وظيفته كرئيس للمجمع!
- حل محله رجل يدعى سُوسْتَانِيسُ الذي تعرض للضرب على أيدي المسؤولين الرومان الذين كانوا معادين لليهود الذين حاولوا اضطهاد بولس. وربما أصبح سُوسْتَانِيسُ المذكور في أعمال الرسل ١٧:١٨ مع بولس الآن، لذا يلفت بولس الانتباه إلى الشخص المتواجد معه والذي يعرفه مؤمنو كورنثوس: سُوسْتَانِيسُ الأَخُ.
- كان شائعاً في العالم القديم أن يتم إملاء الرسالة إلى كاتب ليدونها. وربما كان سُوسْتَانِيسُ هو كاتب بولس (أو بتعبير أدق الناسخ الخاص به).
ب) الآية (٢): إلى كنيسة الله التي في كورنثوس.
٢إِلَى كَنِيسَةِ اللهِ الَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ، الْمُقَدَّسِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، الْمَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَهُمْ وَلَنَا
- إلَى كَنِيسَةِ اللهِ: ترتبط كلمة كَنِيسَة اليوم بمبنى يجتمع فيه المؤمنون. ولكن الكلمة اليونانية القديمة: الكَنِيسَةِ (ekklesiai) لم يكن لها معنى ديني آنذاك، بل كانت تشير إلى “تجمع” بعض الأشخاص، وعادة ما يكون تجمعهم لغرض محدد.
- هذه الكلمة اليونانية لها خلفية تتعلق باليهود وأخرى تتعلق بالأمم. ففيما يختص بالأمم، تشير الكلمة بشكل رئيسي إلى تجمع مواطني مدينة يونانية… ولكن الاستخدام اليهودي للكلمة هو الأساس في جعلها تشير إلى جماعة المؤمنين بيسوع. وقد استخدمت الترجمة السبعينية الكلمة للإشارة إلى شعب إسرائيل في طابعه الديني باعتباره “شعب يهوه.” (بروس (Bruce) في تفسيره لسفر أعمال الرسل).
- مصطلح كَنِيسَةِ اللهِ له ارتباط بالعهد القديم وخاصة في الترجمة السبعينية (الترجمة اليونانية القديمة للعهد القديم). أنظر سفر العدد ٣:١٦ و ٤:٢٠، وسفر التثنية ١:٢٣ و أخبار الأيام الأول ٨:٢٨.
- لأن مصطلح كَنِيسَةِ كان مصطلحًا علمانيًا (مشيرًا إلى “تجمعات المواطنين في مدينة ما لمناقشة قضايا الصالح العام والفصل فيها.” – مار Mare)، يُطلق بولس على تجمع المؤمنين في كورنثوس “كَنِيسَةِ اللهِ” أي أن هذا التَجمع ليس للعالم بل للهِ.
- لا يعتبر بولس أن مؤمني كورنثوس فقط هم كَنِيسَةِ اللهِ، فقد وصف أيضًا مؤمني فلسطين بهذا الوصف في كورنثوس الأولى ٩:١٥، وكذلك الكنيسة ككل في كورنثوس الأولى ٣١:١٠-٣٢.
- الَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ: كانت كورنثوس إحدى المدن الكبرى في العالم القديم. فكانت مزدهرة ونشطة ومتنامية واشتهرت بسعيها الدائم وراء المُتعة. وكان لكورنثوس مزيج عِرقي غني، كما كانت مركزًا للرياضة والحكم والجيش والتجارة.
- عندما جاء بولس إلى كورنثوس في عام ٥٠م، كانت المدينة تتمتع بشُهرة عظيمة حتى قبل ولادته بمئات السنين. واعتبر الكُتاب القدامى كورنثوس “مدينة غنية ومزدهرة… عظيمة وثرية دائمًا” مار (Mare). وقد دمر الرومان كورنثوس في العام ١٤٦ قبل الميلاد، لكن يوليوس قيصر أعاد بناء المدينة بعد ذلك بمئات السنين.
- هناك عدة أسباب جعلت من كورنثوس مدينة شهيرة. فقد كان لصناعة الفخار والنحاس (مزيج من الذهب والفضة والنحاس) في كورنثوس شهرة عالمية. وكانت المسابقات الرياضية الشهيرة المعروفة باسم الألعاب البرزخية (Isthmian Games) – والتي تأتي في المرتبة الثانية بعد الألعاب الأوليمبية – تقام في معبد بوسيدون في كورنثوس كل عامين. وكان في كورنثوس معابد للآلهة: أثينا وأبولو وبوسيدون وهيرمس وإيزيس وسيرابيس وأسكلبيوس وآخرين. ولكن الأبرز فيها كانت عبادة أفروديت الكورنثية التي كان في خدمتها أكثر من ١٠٠٠ عاهرة وكاهنة.
- كانت كورنثوس مدينة تجارية رئيسية تتميز بموقعها الجغرافي، تقع على برزخ من الأرض يبلغ عرضه أربعة أميال ونصف. “في أضيق جزء منها، كان البرزخ يُعبَر من خلال مسار مستوِي يسمى diolcus، والذي كان يتم فيه سحب السفن على بكرات من ميناء إلى آخر. وكانت هذه العملية تُجنب البحارة مخاطر الإبحار حول لسان ماليا Malea” فنسنت (Vincent). وكان البحارة يبغون تجنب الرحلة الخطيرة حول ماليا، والتي كان يُشار إليها هكذا في المَثلين المشهورين: “دع من يُبحر حول ماليا ينسى بيته” و”دع من يُبحر حول ماليا يكتب وصيته أولًا.” وإن كانت السفينة كبيرة جدًا بحيث يصعب جرها، كان يتم تفريغ الشحنة وتحميلها على سفينة أخرى على الجانب الآخر من البرزخ.
- كان أهل كورنثوس معروفين عالميًا أيضًا بحفلاتهم وسُكرهم وفجورهم الجنسي. وكان مصطلح Korinthiazomai معروف جيدًا في الإمبراطورية الرومانية وكان يعني حرفيًا “العيش مثل مواطني كورنثوس.” ولكن كان الجميع يعرف أنه يعني حقًا “الخروج عن السيطرة الجنسية.” “يخبرنا إيليان (Aelian)، الكاتب اليوناني الراحل، إنه ما من رجل كورنثي يعتلي مسرحًا لعرض مسرحية يونانية إلا وكان في حالة سُكر.” باركلي (Barclay)
- يُعلق فيي (Fee) على الفجور الجنسي لأهل كورنثوس قائلًا: “توفر غرفة أسكليبيوس في متحف كورنثوس الحالي دليلًا صامتًا على هذه الجانب من حياة المدينة؛ حيث نرى هناك على أحد الجدران عدد كبير من الأشكال الخزفية لأعضاء جنسية بشرية كانت تُقدم للإله كنذور لشفاء ذلك الجزء من الجسم الذي على ما يبدو أنه دُمر بسبب أمراض تناسلية. ويلخص ’فيي‘ تحليله لكورنثوس كالتالي: “تشير كل هذه الدلائل إلى أن كورنثوس وقت بولس كانت بمثابة نيويورك ولوس أنجيلوس ولاس فيغاس العالم القديم.” ويصف ليون موريس (Leon Morris) كورنثوس بأنها “يقِظة فكريًا ومزدهِرة ماديًا لكنها فاسدة أخلاقيًا.”
- إلَى كَنِيسَةِ اللهِ الَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ: لاحظ التباين بين كَنِيسَةِ اللهِ (شيء جيد) والَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ (مكان سيء). إن فهم التوتر بين الكنيسة والمدينة أمر هام لفهم الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. وخلاصة القول هي: هل للكنيسة تأثير على المدينة، أم أن المدينة هي التي تؤثر على الكنيسة؟
- قال مورغان (Morgan) في مقدمته عن رسالة كورنثوس الأولى: “إن حجم فشل الكنيسة يُقاس بالقدر الذي سمحت به لنفسها أن تتأثر بروح العصر… يُقال لنا أحيانًا أن ما تحتاجه الكنيسة بشكل كبير هو أن تندمج مع روح العصر… ’كلا وألف كلا‘ فما تحتاجه الكنيسة بشكل كبير هو تصحيح روح العصر.”
- الْمُقَدَّسِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، الْمَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ: يتابع بولس وصفه لمؤمني كورنثوس باستخدامه كلمة الْمُقَدَّسِينَ وكلمة قِدِّيسِينَ اللتان يحملان نفس الفكرة، وهي الانفصال عن العالم والالتصاق بالله.
- لاحظ أن كلمة الْمَدْعُوِّينَ تم إدراجها من قبل المترجمين. فقد كان أهل كورنثوس قِدِّيسِينَ وليس مَدْعُوِّينَ ليكونوا قِدِّيسِينَ.
- هناك الكثير من عدم الإطراء لمؤمني كورنثوس في الرسالة الأولى. فقد كان لديهم في بعض الأحيان مشاكل أخلاقية أو عقائدية أو مشاكل تختص بحُكم الكنيسة أو مشاكل متعلقة بمواهب الروح أو بالخدمة في الكنيسة أو مشاكل تتعلق بالسُلطة. فقد يكون من السهل لنا أن نعتقد أنهم لم يخلصوا! لكن ذلك ليس صحيحًا. فهم الْمَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ.
- قد نعتقد أن الْمَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ هي مجرد كلمات تملق من بولس لإعدادهم لتلقي التوبيخ، لكن الأمر ليس كذلك. فالمؤمنون في كورنثوس ’مَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ‘ ليس على أساس أدائهم الخارجي بل على أساس وعد الله عندما قال: “لأَنَّ لِي شَعْبًا كَثِيرًا فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ” ( أعمال الرسل ١٠:١٨).
- لَهُمْ وَلَنَا: يضع بولس في كلماته القليلة الأولى أساس لقضية أساسية سيتناولها في هذه الرسالة وهي الوحدة المسيحية القائمة على سيادة يسوع المسيح بينهم. فمؤمنو كورنثوس مَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ، لكن هذا لا يقتصر عليهم دون غيرهم، فهم قديسون مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. فيسوع هو ربهم وربنا، ولأننا نشترك في نفس الإيمان، فنحن إذاً متحدون معاً.
ج ) الآية (٣): تحية: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ.
نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
- نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ: تتضمن تحية رسائل بولس النِعْمَة والَسَلاَم، وهي مستمدة من العادات اليونانية واليهودية. ويستخدم بولس نفس هذه العبارة خمس مرات أخرى في العهد الجديد.
- “تأتي النعمة أولاً ويليها السلام. ويرجع هذا إلى حقيقة أن النعمة هي مصدر السلام. فبدون النعمة لا يمكن أن يكون هناك سلام؛ فعندما تكون النعمة لنا يتبعها بالضرورة السلام.” لنسكي (Lenski)
- الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ: سوف يشير بولس كثيرًا (أكثر من ١٧ مرة في الرسالة) إلى يسوع بوصفه الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ؛ فمن الجيد أن نتذكر ما يعنيه هذا اللقب.
- الرَّبّ: لقب لا يعني فقط سيد ورئيس، لكنه الرَّبِّ الذي أعلن عن نفسه في العهد القديم (عُرف أيضاً باسم يهوه). “قد يكون هذا المصطلح هو مجرد شكل مهذب للمخاطبة مثل استخدام كلمة ’سيدي،‘ ولكنه يستخدم أيضًا للإشارة إلى الإله الذي يُعبد. ولكن الخلفية الهامة حقًا هي استخدامه لترجمة الاسم الإلهي ’يهوه‘ في الترجمة اليونانية للعهد القديم. فالمؤمنون الذين يستخدمون هذه الترجمة للكتاب المقدس هم على دراية بأن هذا المُصطلح يعادل كلمة الإله.” موريس (Morris) في تفسيره لرسالة رومية.
- يَسُوعَ: هو الاسم المعطى لابن مريم وابن يوسف بالتبني وهو النطق اليوناني لاسم يشوع الذي يعني “الرب يُخلص.”
- الْمَسِيحِ: هذه هي الترجمة اليونانية القديمة للكلمة العبرية ’المسيا‘ أو ’الممسوح‘ وهو من تنبأت به أسفار العهد القديم، المُرسل من الآب لخلاصنا.
د ) الآيات (٤-٩): صلاة شكر.
٤أَشْكُرُ إِلهِي فِي كُلِّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لَكُمْ فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ، ٥أَنَّكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ اسْتَغْنَيْتُمْ فِيهِ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ وَكُلِّ عِلْمٍ، ٦كَمَا ثُبِّتَتْ فِيكُمْ شَهَادَةُ الْمَسِيحِ، ٧حَتَّى إِنَّكُمْ لَسْتُمْ نَاقِصِينَ فِي مَوْهِبَةٍ مَا، وَأَنْتُمْ مُتَوَقِّعُونَ اسْتِعْلاَنَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، ٨الَّذِي سَيُثْبِتُكُمْ أَيْضًا إِلَى النِّهَايَةِ بِلاَ لَوْمٍ فِي يَوْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. ٩أَمِينٌ هُوَ اللهُ الَّذِي بِهِ دُعِيتُمْ إِلَى شَرِكَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا.
- أَشْكُرُ إِلهِي فِي كُلِّ حِينٍ: سوف يُنفق بولس معظم هذه الرسالة في توبيخ الخطية وتصحيح الأخطاء، ومع ذلك فهو لا يزال شاكراً بصدق من أجل عمل الله في حياة مؤمني كورنثوس.
- أولئك الذين يشعرون بأنهم مدعوون لتوبيخ الخطية وتصحيح الأخطاء في الكنيسة اليوم يجب أن يتبعوا مثال بولس. ولكن لسوء الحظ، كثيرين منهم لا يحملون أي تشجيع إلى جانب التصحيح والنُصح الذي يقدمونه.
- عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لَكُمْ فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ: كان هذا هو سبب شعور بولس بالامتنان. فكل خير يتمتع به مؤمني كورنثوس قد أتاهم من الله بالنِعْمَةِ، والنعمة تعني أن الله يعطي مجاناً ولأسبابه الخاصة.
- اسْتَغْنَيْتُمْ فِيهِ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ وَكُلِّ عِلْمٍ: كان هذا تأثير النعمة في حياة مؤمني كورنثوس. فقد كانت كنيسة كورنثوس كنيسة ’غنية،‘ ليس على المستوى المادي فحسب بل أيضًا في معرفتهم بيسوع (كُلِّ كَلِمَةٍ وَكُلِّ عِلْمٍ … شَهَادَةُ الْمَسِيحِ)، وفي غِنى مواهبهم (لَسْتُمْ نَاقِصِينَ فِي مَوْهِبَةٍ مَا)، وفي عيشهم في انتظار مجيء يسوع (مُتَوَقِّعُونَ).
- يمكن أن نرى عمل الله في حياة مؤمني كورنثوس ظاهرًا في كلامهم وفي ما تعلموه وفي المعجزات في حياتهم، كما في انتظارهم المُترقب لمجيء يسوع.
- عندما نظر بولس إلى كنيسة كورنثوس، كان بإمكانه أن يقول: “هؤلاء الناس ينادون بيسوع ويعرفون عنه ولديهم المواهب الروحية وهم أيضًا متحمسون لمجيء يسوع الثاني.” فمهما كانت مشاكلهم، فإن لديهم نقاط قوة لها تأثير هائل. فهل يمكن أن يقال كل هذا عن كنائس كثيرة اليوم؟ قد نفتخر بعدم وجود مشاكل مؤمني كورنثوس بيننا، لكن هل نتمتع بنفس إيجابياتهم؟
- ومع ذلك، لم تكن هذه الإيجابيات نتيجة إنجازاتهم الروحية بل بسبب عمل نِعْمَةِ اللهِ فيهم.
- لَسْتُمْ نَاقِصِينَ فِي مَوْهِبَةٍ مَا: يشكر بولس الله من أجل مواهب أهل كورنثوس على الرغم من أنها كانت تتسبب في بعض المشاكل. فهو يدرك أن المواهب لم تكن هي المشكلة بل المواقف والمعتقدات الخاطئة التي تختص بهذه المواهب.
- كان لمؤمنو كورنثوس مواهب حقيقية لكنهم كانوا جسديين. “ألا يثبت لنا ذلك أن المواهب ليست شيئًا في ذاتها ما لم تُوضع على مذبح الله. فليس هناك نفع من امتلاك موهبة الخطابة أو البلاغة أو العلم أو التأثير ما لم تكن هذه المواهب مكرسة لله ومُقدسة لخدمته؟” سبيرجن (Spurgeon)
- سَيُثْبِتُكُمْ أَيْضًا إِلَى النِّهَايَةِ: كان لدى مؤمني كورنثوس نقاط قوة، كما كان لديهم نقاط ضعف. فشكر بولس الله من أجل إيجابياتهم، وعبر عن ثقته في أن الله سوف يهتم بنقاط ضعفهم وأنه سَيُثْبِتُهُمْ إِلَى النِّهَايَة، حتى يكونوا بِلاَ لَوْمٍ فِي يَوْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيح.
- كيف يمكن أن يكون بولس واثقًا من هذا بينما تواجه كنيسة كورنثوس هذا القدر الكبير من المشاكل؟ لأن بولس كان واثقاً أن اللهُ أَمِينٌ وهو الَّذي دعاهم إِلَى شَرِكَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي سَيُثْبِتهُمْ إِلَى النِّهَايَةِ ويقدمهم بِلاَ لَوْمٍ.
- ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا: يشير بولس في كل آية من هذه الآيات العشر الأولى إلى يسوع، ليصبح المجموع ١١ مرة. وهكذا ينادي بولس بالعلاج الأكيد لمشاكل أهل كورنثوس عن طريق التركيز على يسوع والتوقف عن النظر إلى الذات.
ثانياً. مشكلة الانشقاقات
أ ) الآية (١٠): طلب مبدئي: لا تنقسموا فيما بينكم بل اتحدوا معاً.
وَلكِنَّنِي أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنْ تَقُولُوا جَمِيعُكُمْ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلاَ يَكُونَ بَيْنَكُمُ انْشِقَاقَاتٌ، بَلْ كُونُوا كَامِلِينَ فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِدٍ.
- أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ: على الرغم من أن بولس كانت لديه السلطة داخل الكنيسة وكان بإمكانه أن يأمر مؤمني كورنثوس فيما يختص بهذه الأمور، إلا أنه كان يتوسل إليهم بقلب مُحب أن يتحدوا معاً كمؤمنين.
- “الآن، بعدما أعدهم للتوبيخ، يتصرف بولس كجراح ماهر؛ يمس الجرح برفق عندما يكون العلاج المؤلم ضرورة. ومن ثم يبدأ بولس في التعامل معهم بأكثر قسوة.” كالفن (Calvin)
- لاَ يَكُونَ بَيْنَكُمُ انْشِقَاقَاتٌ: الكلمة اليونانية القديمة ’انْشِقَاقَات‘ هي (schismata). وعلى الرغم من أننا نستمد كلمتنا الإنجليزية ’schism – انشقاق‘ من هذه الكلمة اليونانية، إلا أنها لا تعني مجرد الفراق أو الابتعاد أو الانفصال بل تعني ’تمزيق الشيء أو انتزاعه.‘ لهذا يطلب بولس منهم أن يتوقفوا عن تمزيق بعضهم البعض، أي تمزيق جسد المسيح.
- بَلْ كُونُوا كَامِلِينَ فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِدٍ: نقيض الانشقاقات هو أن يكونوا كَامِلِينَ فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِدٍ. وبدلًا من أن يمزقوا بعضهم البعض، يطلب إليهم بولس أن يتحدوا معاً فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِدٍ.
- يُعلق باركلي (Barclay) على كلمة ’كَامِلِينَ‘ قائلاً: “هي كلمة طبية تُستخدم للدلالة على التئام العظام المكسورة أو لربط مفصل قد نُزع من موضعه، فالانفصال أمر غير طبيعي ويجب علاجه.”
ب) الآيات (١١-١٣): بولس يكشف حماقة انشقاقاتهم.
١١لأَنِّي أُخْبِرْتُ عَنْكُمْ يَا إِخْوَتِي مِنْ أَهْلِ خُلُوِي أَنَّ بَيْنَكُمْ خُصُومَاتٍ. ١٢فَأَنَا أَعْنِي هذَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يَقُولُ: «أَنَا لِبُولُسَ»، و«َأَنَا لأَبُلُّوسَ»، وَ«أَنَا لِصَفَا»، وَ«أَنَا لِلْمَسِيحِ». ١٣هَلِ انْقَسَمَ الْمَسِيحُ؟ أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لأَجْلِكُمْ، أَمْ بِاسْمِ بُولُسَ اعْتَمَدْتُمْ؟
- مِنْ أَهْلِ خُلُوِي: كانت ’خُلُوِي‘ سيدة أعمال (ربما مؤمنة) تطلبت مصلحها التجارية من ممثليها (مِنْ أَهْلِ) السفر بين أفسس وكورنثوس. وبما أن بولس كتب هذه الرسالة من مدينة أفسس، يبدو أنهم زاروه هناك وأخبروه عن حالة الكنيسة في كورنثوس.
- كتب كلارك (Clarke) معلقًا على ’خُلُوِي‘: “كانت بلا شك سيدة متدينة جداً من أهل كورنثوس وكذلك كان أهل بيتها؛ وربما ذهب بعضهم إلى بولس الرسول لإبلاغه بالانشقاقات التي سادت الكنيسة في ذلك المكان.”
- بَيْنَكُمْ خُصُومَاتٍ: عانت كنيسة كورنثوس من الشجار والصراع جعلهم ينقسمون إلى ’أحزاب‘ أو ’جماعات‘ وكلٌ له ’قائد.‘
- «أَنَا لِبُولُسَ»: كان هناك ’حزب بولس‘ الذي يقول: ’نحن نتبع خُطى الرجل الذي أسس كنيستنا، الرسول بولس. فالله معنا بكل تأكيد!‘
- «أَنَا لأَبُلُّوسَ»: كان هناك ’حزب أبلوس‘ الذي يقول: ’نحن نتبع خُطى رجل عظيم يملك القدرة على صنع المعجزات، رجل مثير للإعجاب فعلاً. فالله معنا بكل تأكيد!” ( أعمال الرسل ٢٤:١٨-٢٥)
- «أَنَا لِصَفَا»: كان هناك ’حزب بطرس‘ الذي يقول: “نحن نتبع خُطى الرجل الذي هو الأول بين جميع الرسل، الذي أعطاه يسوع مفاتيح ملكوت السماوات، وهو رجلنا المنشود. إذاً، الله معنا بكل تأكيد!”
- «أَنَا لِلْمَسِيحِ»: كان هناك ’حزب يسوع‘ الذي قال: “جميعكم جسديون، تتبعون أناس عاديين، أما نحن فنتبع خُطى يسوع نفسه. فالله حتماً معنا!”
- من المحتمل أنه لم يكن هناك أحزاب فعلية في كورنثوس بإسم ’حزب بولس‘ أو ’حزب أبلوس‘ أو ’حزب بطرس‘ أو ’حزب يسوع.‘ فقد كتب بولس في جزء لاحق من هذه الرسالة، أنه نَسَب لنفسه ولأبلوس ما انطبق على الآخرين كنوع من التشبيه (كورنثوس الأولى ٦:٤). ربما تمركزت الأحزاب في كورنثوس حول أشخاص داخل الجماعة، وليس حول الرسل المختلفين الذين خدموا بينهم. وربما قام بولس باستخدام أسماء الرسل لحماية الأبرياء أو لإظهار رحمة للمذنبين.
- كان تفاخُر أهل كورنثوس ’بقادة أحزابهم‘ هو في حقيقة الأمر تفاخر بأنفسهم. فلم يكن اعتقادهم إن أبلوس كان عظيماً، بل أنهم هم عظماء لاتباعهم إياه.
- أَنَّ بَيْنَكُمْ خُصُومَاتٍ: على الرغم من أن الانقسام يعد معصية، إلا أنه ليس من الخطأ أن يكون هناك اختلافات بين الكنائس والخدام. فقد أوجد الله كنائس مختلفة بخدام مختلفين من حيث الدعوات والشخصيات، لأن عمل التبشير بالإنجيل أكبر جداً من أن تقوم به جماعة واحدة.
- “أشكر الله من أجل وجود عِدة طوائف. فإن لم يكُن هناك اختلاف قليل بين العقائد، لما كان بين أيدينا هذا القدر من المعلومات عن الإنجيل… لقد أرسل الله أناساً مختلفين للدفاع عن مختلف أنواع الحق؛ لكن المسيح بشر ودافع عن الحق كله… لقد كانت شهادة المسيح كاملة.” سبيرجن (Spurgeon)
- من الممكن أن نُفضل خادم على آخر، لكن لا ينبغي أن ننقسم إلى أحزاب وراء هؤلاء الخُدام. “قد يكون هناك خادم للمسيح يستحق التفضيل عن حق. ويجب علينا أن نُكرم الذين أكرمهم الله، سواء بأن وهبهم مواهب كثيرة من روحه أو نجاح كبير لأعمالهم. فلا يجب علينا أن نُخصص خدام لأنفسنا لئلا يحتقروا آخرين. ولسنا مُلزمين بأن نجعل من كل خادم راعي، لكننا ملزمون بأن نحترم كل الخدام المسئولين الذين يوفون حق مهنتهم ودعوتهم المقدسة عن طريق عقيدتهم السليمة وحياتهم المقدسة.” بوول (Poole).
- هَلِ انْقَسَمَ الْمَسِيحُ؟: لا ينتمي يسوع إلى أي ’حزب‘ من الأحزاب. فهذه الجماعات تتجاهل حق الوحدة في الكنيسة رغم التنوع، حتى وإن كانت جميعاً بإسم الروحانية.
- النُخبة الروحية أمر بغيض بغض النظر عن الإسم الذي تُمارس به.
- كان هناك شخص مشاكس من جماعة كويكر Quaker يذهب من اجتماع لآخر دون أن يجد الكنيسة ’الحقيقية.‘ فقال له أحدهم ذات مرة: “إلى أي كنيسة تنتمي الآن؟” أجاب “أنا أخيراً أنتمي للكنيسة الحقيقية.” فسأله: “كم عدد الأفراد في كنيستك؟” رد قائلاً: “أنا وزوجتي فقط، وأحياناً أشك بها.”
- أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لأَجْلِكُمْ، أَمْ بِاسْمِ بُولُسَ اعْتَمَدْتُمْ؟: أوضح بولس أن تمركز الأحزاب حول شخص في الكنيسة هو أمر أكثر حماقة من “اقتسام المسيح.”
ج ) الآيات (١٤-١٧): يشعُر بولس بالامتنان لأنه لم يُعمد عدد أكثر من المؤمنين في كورنثوس حتى لا يزيد من اشتعال الجدل حول الأحزاب.
١٤أَشْكُرُ اللهَ أَنِّي لَمْ أُعَمِّدْ أَحَدًا مِنْكُمْ إِلاَّ كِرِيسْبُسَ وَغَايُسَ، ١٥حَتَّى لاَ يَقُولَ أَحَدٌ إِنِّي عَمَّدْتُ بِاسْمِي. ١٦وَعَمَّدْتُ أَيْضًا بَيْتَ اسْتِفَانُوسَ. عَدَا ذلِكَ لَسْتُ أَعْلَمُ هَلْ عَمَّدْتُ أَحَدًا آخَرَ، ١٧لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُرْسِلْنِي لأُعَمِّدَ بَلْ لأُبَشِّرَ، لاَ بِحِكْمَةِ كَلاَمٍ لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ صَلِيبُ الْمَسِيحِ.
- يبدو أن بعض مؤمني كورنثوس (ربما أولئك الذين ينتمون لحزب لبولس) تباهوا بحقيقة أنهم اعتمدوا من بولس نفسه، بحيث أصبح هذا الأمر موضع خلاف. ولهذا كان بولس مُمتن لأنه لم يُعمد عدد كبير من أهل كورنثوس (حَتَّى لاَ يَقُولَ أَحَدٌ إِنِّي عَمَّدْتُ بِاسْمِي).
- بالطبع عمد بولس قلة في كورنثوس. ذُكر كِرِيسْبُسَ في أعمال الرسل ٨:٨، وَغَايُسَ في رومية ٢٣:١٦.
- شْكُرُ اللهَ… لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُرْسِلْنِي لأُعَمِّدَ: كان للتبشير أهمية عند بولس أكثر من المعمودية برغم من عدم معارضته للمعمودية بالتأكيد. ولكننا نستطيع أن نرى هنا أن المعمودية ليست أساس للخلاص. ولو كان تعليم التجديد من خلال المعمودية حقيقياً لما شكر بولس الله لأنه لم يعمد إلا القليلين جداً في كورنثوس، ولما استطاع أبداً كمُبشر أن يقول لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُرْسِلْنِي لأُعَمِّدَ.
- فكرة أن بولس لا ينظر إلى المعمودية كضرورة للخلاص نجدها أيضًا في حقيقة أنه لا يتذكر جيداً الذين عمدهم: لَسْتُ أَعْلَمُ هَلْ عَمَّدْتُ أَحَدًا آخَرَ. بالتأكيد كان بولس يتذكر الذين آمنوا، لكن قضية المعمودية، برغم أهميتها، لم تكن بنفس أهمية الإيمان بالنسبة له.
- وفي ضوء كلمات بولس أَشْكُرُ اللهَ أَنِّي لَمْ أُعَمِّدْ أَحَدًا مِنْكُمْ، من المستحيل أن نقول أن بولس كان طقسي. “يُنكر بولس هنا بوضوح أنه يعتبر المعمودية ضرورة لمغفرة الخطايا أو أنها وسيلة للحصول على الغفران.” روبرتسون (Robertson)
- “بالرغم من أنه أمر غير كتابي أن تُعتبر المعمودية ضرورة للخلاص، إلا أن التقليل من قيمتها أو تجاهلها يعد معصيةً.” هودج (Hodge)
- توضح هذه الفقرة أيضًا أن من يقوم بالمعمودية ليس له تأثير فعلي على صلاحية المعمودية. فمن اعتمدوا بواسطة الرسول بولس العظيم ليسوا أفضل ممن اعتمدوا بواسطة أي مؤمن آخر غير معروف، فقوة المعمودية تكمُن في الواقع الروحي الذي تمثله وليس في الشخص الذي يقوم بها.
- لاَ بِحِكْمَةِ كَلاَمٍ: كيف كان بولس يُبشر في كورنثوس؟ ليس بِحِكْمَةِ كَلاَمٍ طبعاً – يمكن ترجمتها: مهارة الكلام. فقد تكلم بولس ببساطة دون أي محاولة للإبهار بالفصاحة أو الذكاء.
- جاء بولس إلى كورنثوس من أثينا، حيث كان يجادل فلاسفة ذلك الوقت العظام بمصطلحات يستطيعون فهمها ( أعمال الرسل ١٦:١٧-٣٤). ويعتقد البعض أن بولس كان مستاءً من نتائج التبشير في أثينا ولهذا قرر أن يبشر على نحو مختلف في كورنثوس.
- من الخطأ أن نقول إن بولس بشر بإنجيل مُبَسَط في أثينا. “على نفس نمط الإعلان الإلهي نفسه، بدأ بولس كلامه بالله خالق الكل وانتهى بالله ديان الكل. وهذا الحديث، الجدير بالإعجاب، يُلخص للأمم المثقفين الدرس التمهيدي في المسيحية.” بروس (Bruce) في تفسيره لسفر أعمال الرسل. وفي نفس الوقت، من المعقول أن نفكر أن بولس أتى من بيئة أثينا العقلانية إلى الشر الصريح بكورنثوس بشغف متجدد للتبشير بالإنجيل بوضوح دون أي مساومة.
- هناك فرق آخر هام بين خدمة بولس في أثينا وبين عمله في كورنثوس؛ لقد قضى بولس في أثينا مدة يوم أو يومين، لكنه مكث في كورنثوس مدة عام ونصف.
- لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ صَلِيبُ الْمَسِيحِ: يوضح بولس أنه إذا بشر أحد بالكلمة معتمدًا في ذلك على حِكْمَةِ كَلاَمٍ، سيُعطّل الإنجيل.
- إن إنجيل يسوع المسيح العظيم الذي هو قوة الله للخلاص قد جُعل فارغاً ومُتعطلاً بسبب كبرياء ومكر الناس! وكما كان هذا الخطر حاضر دائماً في ذهن الرسول بولس، هكذا يجب أن يكون أيضًا في ذهن أي واعظ أو مُعلم.
ثالثاً. قوة الصليب وحكمة الناس
أ ) الآية (١٨): النقطة الجوهرية: كيف يرى الهالكون الصليب، وكيف يرى المُخلّصون الصليب.
١٨فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ الله.
- فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ: أعلن بولس في كورنثوس الأولى ١٧:١ أنه لن يكون هناك أي تأثير للصليب إن قُدم بحكمة الكلام. وسيوضح الآن كيف ينطبق هذا على الصليب وعلى رسالة الإنجيل.
- فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ: الذين يرفضون الخلاص بالصليب يرون أن فكرة الخلاص من خلال شخص مصلوب هي حماقة.
- يبدو أن رسالة ’الصَّلِيبِ‘ بالنسبة لمن يعيشون في القرن العشرين لها معنى نبيل وروحي. أما في القرن الأول، كانت رسالة ’الصَّلِيبِ‘ تُعادل تقريباً كلمة ’الكرسي الكهربائي‘ – بل ربما اسوأ. فأي نوع من الرسائل تحمل أداة موت قاسية ومُهينة مثل هذه؟ فلا عجب إذاً أنها عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ!
- عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ: على الرغم من أن كلمة الصليب تبعث رسالة غريبة وهي عند الهالكين جهالة؛ إلا أنها عند المخلصين قوة الله الفعلية.
- هناك قُوَّة متأصلة في بشارة الإنجيل عندما يُقبل بالإيمان. وسماع رسالة الخلاص والثقة بها سوف يأتيان بقُوَّةُ اللهِ على حياتك.
- على الرغم من أن كلمة إنجيل ليست مذكورة في هذا العدد، إلا أن كَلِمَةَ (رسالة) الصَّلِيبِ بالنسبة لبولس كانت هي الإنجيل. فكان من المستحيل على الرسول الكرازة بالإنجيل دون أن يقدم رسالة الصَّلِيبِ. لذا، فإن الكرازة بمستوى أخلاقي عالي ليس هو الكرازة بالإنجيل، والكرازة بأبوة الله العالمية ليس هو الكرازة بالإنجيل، والكرازة بأننا كلنا أخوة ليس أيضًا هو الكرازة بالإنجيل. فالإنجيل هو رسالة أو كَلِمَةَ الصَّلِيبِ.
- عِنْدَ الْهَالِكِينَ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ: يشير زمن الكلمتين ’الْهَالِكِينَ‘ و’الْمُخَلَّصِينَ‘ في اللغة الأصلية إلى الفعل المستمر وهذا أمر ذو أهمية. فكلٍ منا يتحرك بالتأكيد في أحد هذين الاتجاهين.
ب) الآيات (١٩-٢١): حكمة العالم وحكمة الله.
١٩لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «سَأُبِيدُ حِكْمَةَ الْحُكَمَاءِ، وَأَرْفُضُ فَهْمَ الْفُهَمَاءِ». ٢٠أَيْنَ الْحَكِيمُ؟ أَيْنَ الْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هذَا الدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ اللهُ حِكْمَةَ هذَا الْعَالَمِ؟ ٢١لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ، اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ.
- لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: في هذا الاقتباس من إشعياء ١٤:٢٩، يوضح بولس أن الله يعارض حكمة الإنسان فيما يختص بالأمور الروحية، وأنه سَيُبِيدُ حِكْمَةَ الْحُكَمَاءِ ولن يستسلم لها.
- أَيْنَ الْحَكِيمُ؟ يقول بولس: “في ضوء ما أعلنه الله في إشعياء ١٤:٢٩ ’الآن أَيْنَ الْحَكِيمُ؟ أَيْنَ الْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هذَا الدَّهْرِ؟ فقد جعلهم الله كلهم جُهال من خلال حكمته. وأباد حكمة الحكماء تماماً كما وعد أن يفعل.”
- مُبَاحِثُ هذَا الدَّهْرِ: “هو الإنسان الذي يريد أن يبحث في كل قضية ويحلها بالمنطق الإنساني.” مير (Mare)
- الفكرة واضحة: لا يوجد حكيم ولا كاتب ولا مُباحث يستطيع أن يفعل ما فعله يسوع المسيح.
- الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ: هناك ميل دائم للاعتقاد بأن أذكى البشر وأحكمهم سيعرفون الله أكثر، لكنك لن تستطيع أن تجد الله من خلال الحكمة الإنسانية، بل من خلال رسالة الصليب فقط. فقد يجلب السعي وراء الحكمة الإنسانية الرضا أو السعادة الأرضية (رغم أن هذا أمر نادر الحدوث)، لكن هذا في حد ذاته لا يمكن أن يجلب المعرفة الحقيقية للإله الحقيقي.
- من الجدير بالذكر أن أكثر الناس ثقافةً هم أقل الناس تقديراً لله. ولكن ليس هذا هو الحال دائمًا؛ فبعض أكثر الناس تألُقاً في التاريخ كانوا مسيحيين (مثل إسحق نيوتن). ولكن إلى حدٍ كبيرٍ، كلما رأى الشخص نفسه “أكثر ذكاء” كلما قل اهتمامه بالله. “فالحكمة” الإنسانية ترفُض الله باستمرار وتعارضه وفي النهاية يظهر جهلها ونهايتها الهلاك.
- في أحد الأيام، قررت مجموعة من تلاميذ ألبرت أينشتاين بعدم وجود الله. فسألهم أينشتاين عن جُملة المعرفة لديهم مُجتمعين نسبة إلى باقي العالم، وبعد طول نِقاش أجمعوا على أن حصيلة المعرفة لديهم تُقَدَر بحوالي ٥% من إجمالي المعرفة في العالم. ومع أن أينشتاين كان يرى أن هذه النسبة مُبالغ فيها، إلا أنه أجابهم قائلاً: “هل من الممكن أن يكون الله موجوداً في قدر الـ ٩٥٪ الذي لا تعرفونه؟”
- بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ: أراد أهل كورنثوس الاعتقاد بأن الإنجيل نفسه كان شكلاً سامياً من أشكال الحكمة، واعتبر اليونانيون الحكمة (صوفيا). قيجيب بولس على هذا قائلاً: “إلى أي مدى قد يصل جهلك؟ هل هناك ’حكمة‘ (بالمعنى اليوناني للحكمة) وراء مسيح مصلوب؟”
- لا تعني عبارة ’بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ‘ أن بولس كان يعتبر أن بشارة الصليب حماقة. لكنه كان يصفها فقط كما تظهر للهالك و’الحكيم‘ في هذا العصر.
- حكمة الله ليست كحكمة الإنسان مهما تضاعف قدرها، فهي حكمة من نوع آخر. “لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي، يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ.” (إشعياء ٨:٥٥-٩)
- لا يدين بولس كل أنواع التعليم؛ ويكتفي بالقول أن التعليم عديم الجدوى بحد ذاته للحصول على الحكمة الروحية.
- “من المؤكد أن الأعمى لا يمكن أن يحكم على الألوان والأصم لا يمكن أن يحكم على الصوت والإنسان الذي لم ينمو في حياته الروحية لا يمكن له أن يحكم على الأشياء الروحية.” سبيرجن (Spurgeon)
- اسْتَحْسَنَ اللهُ: يَسعد الله أن يتمم خلاصنا بطريقة لم يكن يتوقعها أحد. وهو مسرور بأن يتمم الخلاص بهذه الطريقة التي قد تهين الحكمة الإنسانية.
ج ) الآيات (٢٢-٢٥): حكمة الله تنتصر بالرغم من أن العالم يراها جهالة.
٢٢لأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، ٢٣وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! ٢٤وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُودًا وَيُونَانِيِّينَ، فَبِالْمَسِيحِ قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ. ٢٥لأَنَّ جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ! وَضَعْفَ اللهِ أَقْوَى مِنَ النَّاسِ!
- الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً: كان العالم اليهودي في أيام بولس يبحث عن آيَة (معجزة). لقد كانوا يبغون، على وجه التحديد، معجزة الخلاص المسياني. فهم لم يبحثوا عن رسالة من خلال الصليب. فلم تكُن رغبتهم في الخلاص سيئة في حد ذاتها، لكن في رفضهم لطريقة الله للخلاص.
- “كانت وثنيتهم تكمُن في تصورهم أن الله قد أصبح مفهوماً تماماً بالنسبة لهم؛ فالله حتماً سيكرر ما فعله أثناء خروج الشعب من مصر، لكن بأكثر روعة.” فيي (Fee)
- الْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً: كانت الثقافة اليونانية تُقدر السعي وراء الحكمة، والتي كان يُعبر عنها بمصطلحات أكاديمية وفلسفية ذات مقام رفيع، ولكنهم لم يُقدروا الحكمة التي تضمنتها رسالة الصليب. فرغبتهم في الحكمة لم تكن سيئة، لكن في رفضهم لحكمة الله.
- “كانت وثنيتهم تتلخص في تصورهم لله باعتباره صاحب الحكمة، لكنها الحكمة التي تتفق مع مفهومهم للحكمة.” فيي (Fee)
- نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: بدلاً من إعطاء اليهود واليونانيين ما طلبوه من خلاص وحكمة، أعطاهم الله ما لم يتوقعوه: مسيح مصلوب.
- الْمَسِيحِ (المسيا) يعني القوة والعظمة والانتصار. الْمَصْلُوب يعني الضعف والهزيمة والإذلال. لذا كان الْمَسِيحِ مَصْلُوبًا هو التناقض المُطلق، وهذا ما كان يُبشر به بولس!
- إذا لم يبدو الصليب بالنسبة لك شيء غريب، فأنت إذاً لا تفهم كيف كان يُنظر إلى الصليب في أيام يسوع أو أنك لا تعرف حقيقة يسوع وأنت لا تفهم التوتر بين كلمة الْمَسِيحِ وكلمة مَصْلُوب.
- قال رجل الدولة الروماني العظيم شيشرون (Cicero): “يعبر الصليب عن كل هو مُخجل ورهيب ولا يجب ذكره مطلقًا في المجتمع الراقي.” فإن كنا شهودًا على محاكمة يسوع – عندما صرخ الشعب ’اصلبه! اصلبه!‘ – وإن كنا بكامل قوانا العقلية، لصرخنا قائلين: ’لا تصلبه! وإن كان لابد من إعدام هذا الرجل، فافعلوا ذلك بشرف ودعوه يموت باحترام ولا تعرضونه للرعب والإهانة بتعليقه على الصليب.‘ لكن الله أراد الْمَسِيحِ مَصْلُوبًا، وإذا لم نقبل الصليب، بكل تناقضاته ومطالبه الغريبة، فسوف نَضل.
- ليعلن كل منبر أننا “نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا!” قامت كنيسة كبيرة بوضع نفس هذه الكلمات على ممر يؤدي إلى ساحة الكنيسة. وبمرور الوقت، حدث شيئان: فقدت الكنيسة شغفها بيسوع وإنجيله، وبدأ اللبلاب ينمو في الممر حتى أنه غطى الرسالة المكتوبة، ومُظهرًا مدى الانحدار الروحي. كانت الكنيسة مقتنعاً فعلاً بأن تكرز “بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا!” لكن نمو النبة غطى جزء من الرسالة، ولك ما تبقى منها هو: “نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ” وبدأت الكنيسة بالفعل تكرز “بالمسيح الإنسان العظيم” و”المسيح القدوة في الأخلاق” بدلاً من المسيح المصلوب. واستمر اللبلاب في النمو، وأصبح ما يمكن أن يُقرأ من الرسالة هو: “نَحْنُ نَكْرِزُ!” فقد فقدت الكنيسة حتى “المسيح” في رسالتها وأصبحت تكرز بتفاهات دينية وامتيازات اجتماعية. وأخيرًا، بقيت كلمة “نَحْنُ” وأصبحت الكنيسة مكان تجمع اجتماعي يدور حول “نَحْنُ” وليس حول الله.
- لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً: اعتبر اليهود المسيح المصلوب عَثْرَة؛ ربما يفهم هذا بشكل أفضل كإهانة أو فضيحة. واعتبر اليونانيون المسيح المصلوب جَهَالَةً. لكن الله لم يستجب لذلك، لكنه حافظ على إنجيله لأنه بالنسبة لأولئك الذين آمنوا به (يَهُودًا وَيُونَانِيِّينَ)، المسيح المصلوب هو قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ.
- قد يبدو الصليب ورسالته ضعيفين، لكنهما ليسا كذلك؛ فيهما تكمن القوة والحكمة. ولكن توقعاتنا لما ينبغي أن يفعله الله تمنعنا من نيل القوة والحكمة.
- عرف بولس هذا بالخبرة. فقد شعر بالإهانة والغضب من فكرة المسيح المصلوب وفكرة أن هذا الْمُعَلَّقَ الذي هو مَلْعُونٌ مِنَ اللهِ (بحسب سفر التثنية ٢٣:٢١) يجب إكرامه كمسيا ورب. لذا اضطهد بولس الكنيسة قبل لقائه مع يسوع في الطريق إلى دمشق (أعمال الرسل ٩).
- وبقدر ما كان بولس غاضبًا من المسيا المصلوب، هكذا اعتبر اليونانيون أيضًا أن رسالة الخلاص من خلال أداة موت مُذلة تعتبر جهالة. هناك لوحة شهيرة رسمت على أحد جدران روما تمثل شخصاً يصلي بجانب شخص مصلوب له جسد رجل ورأس حمار، ومكتوب عليها: “ألكسامينوس (اسم شخص مؤمن) يعبد إلهه.” فهكذا كان يرى اليونانيون الصليب.
- أولئك الذين يُصرون على أننا يجب أن نغير نبرة الإنجيل لأن الناس لا يفهمونها الآن، عليهم أن يُدركوا أن الناس في أيام بولس أيضًا لم يستطيعوا فهم البشارة، لكنه ابقى عليها وكانت النتائج عظيمة.
- “أولئك الذين يحجبون حق غير مرغوب فيه يتخيلون أنهم يصنعون تلاميذ، في حين أنهم يشيدون بعدم الإيمان، ويعزون الناس في رفضهم للكفارة الإلهية للخطية. فمهما كانت نية الواعظ، سوف يكون مذنبًا إذا لم يعلن بوضوح عن ذبيحة حقيقية للخطية.” سبيرجن (Spurgeon)
- “يخبرنا بعض الكهنة بأنه يتعين عليهم تكييف الحق مع تقدُم العصر، وهذا يعني قتل الحق وإلقاؤه للكلاب. ويعني ببساطة أن الكذبة الشهيرة سوف تحل محل الحق المهين بنظرهم.” سبيرجن (Spurgeon)
- لأَنَّ جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ: حتى في أكثر حالات “الجهل” و”الضعف” في الصليب، كان الله لا يزال أحكم وأقوى من الناس.
- الخلاص ليس نتيجة إنجاز الحكمة الإنسانية؛ بل هو قبول فعل الله المُحب في الجلجثة.
د ) الآيات (٢٦-٢٩): ظهرت حكمة الله “التي يراها العالم حَمَاقَةً” في أولئك الذين اختارهم للخلاص.
٢٦فَانْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنْ لَيْسَ كَثِيرُونَ حُكَمَاءَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لَيْسَ كَثِيرُونَ أَقْوِيَاءَ، لَيْسَ كَثِيرُونَ شُرَفَاءَ، ٢٧بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. ٢٨وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ، ٢٩لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ.
- فَانْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ: يقول بولس لأهل كورنثوس: “انظروا لأنفسكم. أنتم لستم مميزون.” لَيْسَ كَثِيرُونَ حُكَمَاءَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لَيْسَ كَثِيرُونَ أَقْوِيَاءَ، لَيْسَ كَثِيرُونَ شُرَفَاءَ بين مؤمني كورنثوس.
- بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ: بالنظر ثانيةً إلى أهل كورنثوس، يستطيع بولس أن يقول: أنتم لستم حكماء أو أقوياء أو شُرفاء حسب مقاييس العالم – بل أنتم من جُهَّالَ الْعَالَمِ.”
- لا شك أن العديد من مؤمني كورنثوس قد بدأوا يفتخرون بأنفسهم بسبب عمل الله فيهم، لكن بولس لن يسمح بهذا لأنه لم يتم اختيارهم لكونهم عظماء، بل لأن الله عظيم.
- لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ: يفسر هذا جزءًا من استحسان الله المذكور في كورنثوس الأولى ٢١:١. فالله يحب أن يوبخ عبادة الإنسان للحكمة الإنسانية، وغالبًا ما يفعل ذلك باختيار واستخدام جُهَّالَ الْعَالَمِ.
- الله لا يقول إنه من الأفضل أن نكون جهال وغير متعلمين، بل يقول إن تعليم وحكمة العالم لا تأتينا بالخلاص الذي في يسوع المسيح. “عندما يخزي الله الأقوياء والحكماء، هو بذلك لا يُمجد الضعفاء وغير المتعلمين ومن لا قيمة لهم، بل يأتي بهم جميعًا إلى مستوى واحد مشترك.” كالفين (Calvin)
- لقد اختار الله الضعفاء والجهال أولًا وليس حصريًا؛ الرعاة أولًا ثم الحكماء؛ الصيادين أولًا ثم المتعلمين (مثل بولس، الذي كان رجلًا متعلمًا).
- “كان معظم المؤمنين القدماء عبيدًا ورجالًا من الطبقة الدنيا؛ والتاريخ الكامل لامتداد الكنيسة هو في الواقع انتصار تدريجي للجهال على المتعلمين، وللمتضعين على المتكبرين، إلى أن وضع الإمبراطور تاجه أمام صليب المسيح.” ألفورد (Alford) مُقتبِسًا من أولزهاوزن (Olshausen)
- لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ: هذه هي النتيجة النهائية؛ لن يقف أحد أمام الله ويفتخر قائلًا: “لقد فهمتك بالتمام” أو “لقد تصرفت كما كنت أتوقع.” فطرق الله أعظم وأسمى ولن يستطيع أي جَسَدٍ أن يَفْتَخِرَ أَمَامَهُ.
هـ ) الآيات (٣٠-٣١): الحكمة الحقيقية تخص المؤمنين.
٣٠وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً. ٣١حَتَّى كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ».
- يَسُوعَ، الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً: أظهر لنا يسوع حكمة الله بتعاليمه وحياته، وغالباً ما تتعارض هذه الحكمة مع توقعات الإنسان.
- الحكمة الحقيقية لا تعني “أن تصبح ذكيًا.” فنحن نحصل على حكمة الله في شخص يسوع ومن خلاله.
- الَّذِي صَارَ لَنَا: يسوع لا يمثل لنا الحِكْمَةً فقط؛ فهو أيضاً بِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً. ومن خلال عمله، ينقل ثلاثة أشياء لأولئك الذين هم في الْمَسِيحِ يَسُوعَ:
- بِرًّا: يعني أننا لسنا فقط غير مذنبين أمام القانون، بل أننا نملُك أيضًا البر الإيجابي. ويعني هذا أن أعمال يسوع البارة وشخصيته يُحسبا لنا. فنحن لا نصبح أبرار بالتركيز على أنفسنا بل على يسوع، لأنه قد صَارَ لَنَا بِرًّا.
- القَدَاسَةً تشير إلى سلوكنا وضرورة أن ينفصل المؤمنون عن العالم ويقتربوا إلى الله. فنحن لا ننمو في القَدَاسَةً بالتركيز على أنفسنا بل على يسوع، لأنه قد صَارَ لَنَا قَدَاسَةً.
- الفِدَاء هي كلمة مستوحاة من تجارة العبيد. والفكرة هي أننا اشتُرينا لحرية دائمة. فنحن لا نجد الحرية بالتركيز على أنفسنا بل على يسوع، لأنه قد صَارَ لَنَا فِدَاءً.
- مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ: يقتبس بولس من إرميا ٢٣:٩-٢٤ لإظهار أن الله قد فعل كل شيء بهذه الطريقة حتى يعود المجد له. فالطريق لمجد الله هو المسيح المصلوب والدليل لمجد الله هو اختياره للمتواضعين.