تفسير رسالة يعقوب – الإصحاح ١
إيمانٌ حيٌّ في المحن والتجارب
أولًا. التجارب والحكمة
أ ) الآية (١): تحيةٌ من يعقوب
١يَعْقُوبُ، عَبْدُ اللهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، يُهْدِي السَّلاَمَ إِلَى الاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا الَّذِينَ فِي الشَّتَاتِ.
- يَعْقُوبُ: هنالك عدة أشخاصٍ باسم يَعْقُوب مذكورين في العهد الجديد، لكن التقليد الموثوق ينسب هذه الرسالة إلى ذاك الذي يدعى يَعْقُوب العادل، شقيق يسوع (متى ٥٥:١٣)، وهو أخو يهوذا (يهوذا ١)، والذي قاد الكنيسة في أورشليم (أعمال الرسل ١٣:١٥).
- من بين الأشخاص الذين يدعون يعْقوب في الكتاب المقدس:
- يَعْقُوب، أخو يوحنا وابن زَبْدي، أول رسولٍ استشهد، وهو معروفٌ أيضًا بأنه يعقوب الصغير (متى ٢:١٠؛ مرقس ٤٠:١٥؛ أعمال الرسل ٢:١٢).
- يَعْقُوب بْنُ حَلْفَى، وهو رسولٌ آخر من رسل المسيح الاثني عشر (متى ٣:١٠).
- يَعْقُوب، أخو الرسول يهوذا “الآخر” (غير يهوذا الإسخريوطي) (لوقا ١٦:٦)
- غير أن كاتب الرسالة هو يعقوب نفسه الذي تلقّى ظهورًا خاصًا ليسوع بعد قيامته (كورنثوس الأولى ٧:١٥). ومن المرجح أن هذا كان السبب وراء تجديده، لأنه حتى ذلك الوقت لم يكن يبدو أن إخوة يسوع يدعمون رسالته وإرساليته (يوحنا ٥:٧).
- وعندما بدأ باتباع يسوع بالفعل، فقد تبعه بتكريسٍ عظيمٍ. يقول تقليدٌ قديمٌ للكنيسة إن يعقوب كان رجل صلاةٍ بالفعل حتى إنه كانت لركبتيه طبقةٌ كبيرةٌ وسميكةٌ من الجلد، كأنهما كانتا ركبتي جمل. وهو يقول أيضًا إن يعقوب استشهد في أورشليم عن طريق دفعه من نقطةٍ عاليةٍ من الهيكل. غير أن هذه السقطة لم تقتله، فضرب على الأرض حتى الموت وهو يصلّي من أجل الذين هاجموه.
- من بين الأشخاص الذين يدعون يعْقوب في الكتاب المقدس:
- عَبْدُ اللهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ: في ضوء معرفتنا بأن يعقوب هو شقيقٌ ليسوع، يجعل تعريفه بنفسه هكذا أكثر دلالةً. فلم يقدّم نفسه بأنه “أخو يسوع” بل عَبْدُ اللهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. فيسوع كان أكثر من أخٍ ليعقوب. إذ أهمّ من ذلك هو أنه ربّه.
- كلمة عَبْدُ كلمة مهمةٌ. وهي ترجمةٌ للأصل اليونانيّ (doulos). “العبد، هو في علاقةٍ دائمةٍ من العبودية لشخصٍ آخر… ولأن اليونانيين يفتخرون بقوةٍ بحريتهم الشخصية، كان لهذا التعبير دلالةٌ مهينةٌ.” هيبرت (Hiebert)
- الرَّبِّ: هذه كلمةٌ أخرى مهمةٌ، وهي ترجمةٌ للكلمة اليونانية (kurios). وتعني ببساطة ’سيد العبد‘ وهي تعني في هذا السياق أن يعقوب عدّ يسوع الله. “استخدم اليهود اليونانيون كلمة (kurios) كاسمٍ لله، ويكتسب غياب آل التعريف أهميةً، فهذا كان لقبًا يُعطى لأوائل أباطرة اليونان للتعبير عن ألوهتهم.” تفسير أوستيرلي (Oesterley)
- إِلَى الاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا: إنه لأمرٌ صعبٌ أن نفهم ما عناه يعقوب بإشارته إِلَى الاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا. فالسؤال هنا هو : هل كتب يعقوب رسالته إلى مؤمنين بالمسيح من خلفيةٍ يهوديةٍ فقط أم إلى كلّ المؤمنين بالمسيح؟ من المؤكد أن هذه الرسالة تنطبق على المؤمنين بالمسيح كلّهم. ولكن يرجح أن يعقوب كتب رسالته قبل أن يدخل الأمميون الكنيسة أو على الأقلّ قبل أن يظهر المؤمنون الأمميون بالمسيح في عددٍ لا بأس به.
- الاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا: هذا تعبيرٌ مجازيٌّ يهوديٌّ يطبق أحيانًا على الشعب اليهوديّ ككلٍّ (متى ٢٨:١٩). واستخدم بولس التعبير ’أَسْبَاطُنَا الاثْنَا عَشَرَ‘ في خطابه أمام الملك أغريباس (أعمال الرسل ٧:٢٦). فكان تصوّر ’الاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا‘ بين الشعب اليهوديّ ما زال قويًا، مع أنهم لم يكونوا قد عاشوا حسب توزيعهم القبليّ كأسباطٍ مدة قرونٍ.
- وصف بولس في غلاطية ٨:٢-٩ بعض الرسل من القرن الأول على أنهم رسل للختان، أي أن خدمتهم كانت موجهةً بشكلٍ رئيسيٍّ إلى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ كما وصفهم يسوع في متى ٦:١٠ و ٢٤:١٥. وفي السياق نفسه، ذكر بولس نفس يَعْقُوبُ هذا، ولهذا فإن من الإنصاف أن نعدّه واحدًا من رسل الختان.
- الَّذِينَ فِي الشَّتَاتِ: كان اليهود في ذلك الوقت مشتتين في جميع أنحاء العالم، وكان هنالك حضورٌ مسيحيٌّ بين معظم المجتمعات اليهودية عبر العالم. وقد كتب يوسيفوس حول مدى هذا الشتات: “لا توجد أية مدينةٍ أو قبيلةٍ، سواءٌ أكانت يونانيةً أم بربريةً لم يتجذّر فيها الناموس اليهوديّ والعادات اليهودية.” اقتبسه باركلي (Barclay)
- بما أن هذه الرسالة كانت موجهةً لكلّ جماعة المؤمنين بالمسيح كما كانت موجودةً في ذلك الوقت، فإنها موجهةٌ لنا أيضًا. يعتقد بعضهم أن رسالة يعقوب ليست مهمةً للمؤمنين بالمسيح، ويقتبس بعضهم تقييم مارتن لوثر لرسالة يعقوب على أنها “رسالةٌ ممتلئةٌ بالقشّ.” ولكن ينبغي أن تفهم ملاحظة لوثر في سياقها. إذ كان أحيانًا محبطًا لأن الذين أرادوا أن يروجوا لمبدأ الخلاص بالأعمال اقتبسوا آياتٍ معينةً من رسالة يعقوب ضدّه. وقد قصد أن يقول إنه لا يوجد في رسالة يعقوب سوى القليل أو أيّ شيءٍ عن التبرير بالإيمان وحده. ففي موضعٍ آخر كتب لوثر في ما يتعلق برسالة يعقوب: “أنا أنظر باحترامٍ شديدٍ إلى رسالة يعقوب وأعدّها ثمينةً. إنها لا تشرح العقائد البشرية، لكنها تركز كثيرًا على ناموس الله.” اقتبسه باركلي (Barclay)
- عرف وعلّم مارتن لوثر تمامًا ما تعلّمه رسالة يعقوب. وفي ما يلي مقتطفًا من مقدمته إلى رسالة رومية حول الإيمان المخلّص: “يا لها من حياةٍ نشطةٍ قويةٍ ممتلئةٍ بالمشغوليات، حياة هذا الإيمان. فمن المستحيل أن تعيشها من دون أعمالٍ صالحةٍ. وهي لا تسأل إن كان ينبغي أن تفعل أعمالٌ صالحةٌ، لكنها تعمل قبل طرح السؤال، فهي تقوم بهذه الأعمال الصالحة باستمرارٍ. غير أن من لا يفعل مثل هذه الأعمال الصالحة فإنه غير مؤمنٍ. إنه يتلمس طريقه وينظر حوله باحثًا عن الإيمان والأعمال الصالحة، لكنه لا يعرف ما هو الإيمان ولا ما هي الأعمال الصالحة. غير أنه يتحدث ويتحدث بكلماتٍ كثيرةٍ عن الإيمان والأعمال الصالحة.” اقتبسه موو (Moo)
- من نواحٍ كثيرةٍ نستمع إلى رسالة يعقوب لأنها تردد صدى تعليم يسوع. إذ يوجد ما لا يقلّ عن خمسة عشر تلميحًا إلى العظة على الجبل في رسالة يعقوب. وإن من كتب هذه الرسالة رجلٌ عرف تعليم يسوع وأخذه مأخذ الجدّ.
- يُهْدِي السَّلاَمَ: كانت التحيات طريقةً يونانيةً متعارفًا عليها في افتتاح أية رسالةٍ. وقد استخدمها بولس، وقد فضّل استخدام كلمتي ’السلام‘ و’النعمة.‘ وهنا يستخدم يعقوب التحية الأكثر اعتيادًا.
ب) الآيات (٢-٤): الاحتمال الصبور في الضيقات
٢اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، ٣عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا. ٤وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ.
- اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ: عدّ يعقوب التجارب أمرًا لا مفرّ منه. فقال ’حِينَمَا‘ تَقَع ولم يقل إن وقعت ’فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ.‘ وفي الوقت نفسه، فإن التجارب مدعاةٌ للفرح لا إلى الإحباط والاستسلام. ونستطيع أن نحسبه كُلَّ فَرَحٍ في وسط المحن والضيقات، لأنها تستخدم لكي تولد فينا الصَّبْر.
- يترجم موفات (Moffatt) هذه الآية على هذا النحو: ’استقبلوا التجارب بفرحٍ خالصٍ.‘
- تقول ترجمة نسخة الملك جيمس القديمة: ’حينما تقعون في تَجَارِبَ كثيرةٍ مختلفة الأنواع،‘ لكن الترجمة الحالية هل الأفضل. “تدلّ كلمة ’تَجَارِبَ‘ على الضيقات أو المحن أو الاضطهاد أو أية ضيقةٍ من أيّ نوعٍ. وهي مستخدمةٌ بهذا المعنى هنا، وهي لا تدلّ على إغراءٍ شيطانيٍّ أو على ما يفهم عادةً بتعبير التجربة، أي الإغراء بالخطية.” كلارك (Clarke)
- حِينَمَا تَقَعُونَ فِي: “ليس الوقوع هنا خطوةً فخطوةً، بل على عجلٍ، عندما تغوص دفعةً واحدةً… عندما تكون محاصرًا تمامًا بحيث لا يوجد لديك مهربٌ، عندما تكون متضايقًا جدًا، كما كان داود في مزمور ٣:١١٦.” تراب (Trapp)
- صَبْرًا: الصبر في اللغة اليونانية القديمة (hupomone) لا تصف الانتظار السلبي، بل الاحتمال العامل أو الفعال… وهي لا تتحدث عن الصفة التي تساعدك في أن تجلس بهدوءٍ في غرفة انتظار الطبيب قدر ما تتحدث عن الصفة التي تساعدك في أن تنهي سباق ماراثون.
- كلمة (hupomone) اليونانية القديمة مشتقةٌ من كلمة (hupo) – أي تحت، وكلمة (meno) – أي يبقى أو يمكث. فهي تعني في جذرها “تبقى تحت.” وهي تحمل صورة شخصٍ تحت عبءٍ ثقيلٍ يختار أن يبقى تحته بدلًا من محاولة الهروب أو التخلص منه. وقال الفيلسوف فيلون إن(hupomone) هي “مليكة الفضائل.” اقتبسه هيبرت (Hiebert). وقال المفسر اليونانيّ أويسترلي (Oesterley) إن كلمة الصبر تصف “العقلية التي تحتمل.”
- عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا: يمتحن الإيمان من خلال المحن، فالمحن لا تولده أو تنتجه. فالمحن تكشف الإيمان الذي نملكه بالفعل، لا لأن الله لا يعرف مقدار إيماننا، بل لكي يكون إيماننا واضحًا لأنفسنا وللآخرين حولنا.
- نلاحظ هنا أن الإيمان هو الذي يُمتحن، ويبيّن هذا أن الإيمان مهمٌّ وثمينٌ، لأن الأشياء الثمينة وحدها هي التي تمتحن بشكلٍ وافٍ. “الإيمان حيويٌّ ومهم للخلاص كأهمية القلب للجسد. ولهذا، فإن رماح العدوّ تصوّب بشكلٍ رئيسيٍّ إلى هذه الفضيلة الجوهرية.” سبيرجن (Spurgeon)
- إن كانت المحن والتجارب لا تنتج إيمانًا، فما الذي تنجزه؟ تخبرنا رومية ١٧:١٠ “إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ.” فإيماننا ينمو عندما نسمع كلمة الله ونفهمها ونثق بها.
- لم يرد يعقوب أن يعتقد إنسانٌ أن الله يرسل المحن لكي يكسر إيماننا أو يقضي عليه. ولهذا، فإنه يعود إلى هذه النقطة في يعقوب ١٣:١-١٨.
- يُنْشِئُ صَبْرًا: لا تولّد التجارب والمحن إيمانًا، لكن عندما نتلقاها بالإيمان، فإنها تُنْشِئُ صَبْرًا. غير أن الصبر لا يتولد بالضرورة في أوقات التجارب والمحن. فإن تجاوبنا مع الصعوبات والشدائد بعدم إيمان وبتذمرٍ، فهذا قد يولّد المرارة والإحباط. ولهذا يحثّنا يعقوب على أن نحسبه كُلَّ فَرَحٍ. وحسبان التجارب كُلَّ فَرَحٍ هو استجابة الإيمان لوقت الشدة.
- “يؤكد بين الحين والآخر أن يعقوب يطلب من قرائه أن يستمتعوا بمحنهم وتجاربهم… لم يقل إنه يتوجب عليهم أن يشعروا بالفرح أو أن كل التجارب ستكون مفرحة.” هيبرت (Hiebert)
- وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ: الصبر يعمل فينا ببطء. لذا، يتوجب أن يُسمح له بأن يتبرعم بشكلٍ كاملٍ. والصبر (الاحتمال) هو علامةٌ على الأشخاص التامّين الكاملين الذين هم غير ناقصين في شيْءٍ.
- “لا يتوجب أن يكون الصبر أقصر من المحنة ببوصةٍ. فإذا كان الجسر لا يمتدّ فوق النهر إلاّ حتى نصف المسافة، فسيكون هذا الممرّ سيئًا للغاية. فالشيطان يريد في أن يتعجلنا.” تراب (Trapp)
- “يعتقد بعضهم أن هذه التعابير في تطبيقها الحاليّ مستعارةٌ من الألعاب الإغريقية: فالرجل كان مثاليًا لأنه حقق الفوز في كلّ التدريبات الرياضية. لقد كان كاملًا وأنهى كل شيء وحقق النصر في كلّ واحدةٍ من تلك التدريبات الخمسة.” كلارك (Clarke)
- يعتقد آخرون أن هذه التعابير مستمدةٌ من فكرة تقديم الذبائح، حيث يشترط أن يكون الحيوان المراد تقديمه كذبيحةٍ تامًا وكاملًا غير ناقصٍ في شيءٍ، ليكون ملائمًا لتقديمه لله. ويعني هذا أن هذا الحيوان قد امتحن وتمت تزكيته.
- “لا تميل المتاعب بشكلٍ طبيعيٍّ إلى التقديس، بل إلى التحريض على الخطية. فالإنسان ميّالٌ جدًا إلى أن يصبح غير مؤمنٍ تحت وطأة المحنة، وهذه خطيةٌ. وهو ميالٌ إلى التذمر على الله تحت ضغطها، وهذه خطيةٌ. وهو ميالٌ إلى اللجوء إلى طريقةٍ سيئةٍ للهروب من هذه الصعوبة، وسيكون هذا خطيةً. ومن هنا يعلّمنا الربّ أن نصلي: ’لا تدخلْنا في تجربة،‘ لأن المحنة أو الضيقة تمتلك في ذاتها قدرًا من الإغراء بالخطية، وإذا لم يتمّ تحييدها بنعمةٍ وفيرةٍ، فإنها ستحملنا نحو الخطية.” سبيرجن (Spurgeon)
- غير أن التجارب والمحن يمكن أن تبرهن عمل الله الرائع فينا. “نظرت إلى الوراء، إلى أيام المحن بنوعٍ من الحنين. لم يكن حنينًا إلى رجوعها، لكن إلى الشعور بقوة الله كما شعرتها عندئذٍ، حنين لأشعر بقوة الإيمان، كما شعرتها عندئذٍ، حنين لأتعلق بذراع الله القوية كما تعلقت بها عندئذٍ، ولأرى الله يعمل كما رأيته يفعل عندئذٍ.” سبيرجن (Spurgeon)
ج ) الآيات (٥-٨): كيف تنال الحكمة التي تحتاج إليها من الله
٥وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ. ٦وَلكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ، لأَنَّ الْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجًا مِنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ. ٧فَلاَ يَظُنَّ ذلِكَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ. ٨رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ.
- إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ: التجارب والمحن هما الوقت المناسب لطلب الحِكْمَة من الله. ففي الغالب لا نعرف أننا محتاجون إلى حِكْمَةٍ إلى أن تأتي التجربة. وحالما ندخل فيها، نحتاج إلى أن نعرف إن كانت شيئًا يريدنا الله أن نتخلص منها بالإيمان أو بالمثابرة عليها بالإيمان. ويتطلب هذا حِكْمَة.
- في وقت التجارب، نحتاج إلى حِكْمَة أكثر بكثير مما نحتاج إلى المعرفة. فالمعرفة معلومات خامّة، لكن حِكْمَة تعرف كيف تستخدم تلك المعلومات. قال أحدهم ذات يوم إن المعرفة هي القدرة على تفكيك الأشياء (تحليل أجزائها)، لكن الحكمة هي القدرة على جمع الأشياء معًا.
- فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ: لكي ننال حكمةً، ينبغي ببساطةٍ أن نطلب من الله الذي يعطيها بكرمٍ (بِسَخَاءٍ)، ومن دون أن يحتقر طلبتنا (وَلاَ يُعَيِّرُ).
- “نحن مستعدون للجوء إلى كتبٍ، للجوء إلى أشخاصٍ، للجوء إلى طقوسٍ، لأيّ شيءٍ ما عدا الله… ولهذا، فإن النصّ لا يقول: ’فليطلبْ من كتبٍ أو من كهنةٍ، بل فليطلب من الله.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- يعطي الله بِسَخَاءٍ فعلًا. “هو يعطي حسب عظمته الفائقة، كما أعطى الإسكندر الكبير مدينةً لرجلٍ فقيرٍ؛ وعندما رفضها الرجل بتواضعٍ على أنها أكبر منه بكثيرٍ، أجاب الإسكندر: ’ليست المسألة هي أنك ملائمٌ لقبول العطية، لكنها هي ما يلائمني أن أعطيه.‘” تراب (Trapp)
- وَلاَ يُعَيِّرُ: “أضيفت هاتان الكلمتان لئلا يخشى أحدهم أن يأتي إلى الله مرارًا… لكن الله مستعدٌّ دائمًا إلى إضافة بركاتٍ جديدةٍ إلى البركات الماضية من دون نهايةٍ أو حدٍ.” كالفن (Calvin). فمن شأن معرفتنا بكرم الله، أي أنه لا يحتقر طلبنا للحكمة، أن يشجعنا على الطلب منه كثيرًا. فنحن نفهم أنه إله اليد المفتوحة، لا إله القبضة المشدودة بإحكامٍ.
- عندما نريد حكمةً، فإن المكان الملائم للبدء والانتهاء هو الكتاب المقدس. إذ ستكون الحكمة الحقيقية منسجمةً مع كلمة الله.
- توحي اللغة هنا بالتواضع في اللجوء إلى الله. “لا تقول اللغة: ’فليشتر من الله أو فليطالب أو يأمر الله، بل خذ من الله بكل تواضع.‘ كالمتسول الذي يطلب صدقةً. فعليك أن تطلب كما يطلب المتسول منك في الشارع. وسيعطيك الله بسخاءٍ أكثر بكثيرٍ مما تعطيه أنت للمتسول. يتوجب عليك أن تعترف بأنه ليس لديك استحقاقٌ في ذاتك.” سبيرجن (Spurgeon)
- وَلكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ: يتوجب أن نصلي من أجل الحكمة كما نصلي لأي طلبةٍ أخرى: بِإِيمَانٍ، من دون الشك في قدرة الله على إعطائها أو في رغبته في إعطائها لنا.
- نلاحظ هنا أنه لا يتوجب علينا أن نأتي بِإِيمَانٍ فحسب، بل علينا أن نطلب بِإِيمَانٍ إيضًا. وهنا تفشل صلواتٌ أشخاصٍ كثيرين. “أنتم تعرفون، أيها الأصدقاء الأعزاء، أن هنالك طريقةً للصلاة لا تطلب فيها شيئًا، وتحصلون بها على هذا اللاشيء!” سبيرجن (Spurgeon)
- غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ… فَلاَ يَظُنَّ ذلِكَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ: لا ينبغي أن يتوقع المرتاب والمتشكك أن يَنَالُ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ. ويبيّن هذا الشك وعدم الثقة بالله أيضًا أننا لا نملك أساسًا نرتكز عليه، لأن رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ.
- يُشْبِهُ مَوْجًا مِنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ: “يشبه الرجل غير المقتنع بشكلٍ وافٍ بأنه إذا طلب من الله سينال، موجةً من البحر. فهو في حالة اهتياجٍ مستمرٍّ، مسوقٌ من الريح التي تخبطه، حيث يرتفع بالأمل ويغرق باليأس.” كلارك (Clarke)
- مَوْجًا مِنَ الْبَحْرِ: هذا وصفٌ لائقٌ للذي يعوقه عدم الإيمان والشكوك غير الضرورية.
- مَوْجًا مِنَ الْبَحْرِ، بلا راحةٍ: وكذلك هو المرتاب (أو الشخص الذي يَشُكّ).
- مَوْجًا مِنَ الْبَحْرِ، متقلقلًا: وكذلك هو المرتاب.
- مَوْجًا مِنَ الْبَحْرِ، تسوقه الريح: وكذلك هو المرتاب.
- مَوْجًا مِنَ الْبَحْرِ، قابلٌ للدمار العظيم: وكذلك هو المرتاب.
- يُشْبِهُ مَوْجًا مِنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ: “يشبه الرجل غير المقتنع بشكلٍ وافٍ بأنه إذا طلب من الله سينال، موجةً من البحر. فهو في حالة اهتياجٍ مستمرٍّ، مسوقٌ من الريح التي تخبطه، حيث يرتفع بالأمل ويغرق باليأس.” كلارك (Clarke)
- رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ: يبين الطلب من الله بارتيابٍ أن الشخص ذُو رَأْيَيْنِ، أي متردد. فإذا لم نكن نملك إيمانًا على الإطلاق، لما طلبنا أصلًا. وإذا لم يكن لدينا عدم إيمانٍ أو شك، فلن يكون لدينا أيّ ارتيابٍ. وذو الرأيين شخصٌ يقع في الوسط بين الإيمان وعدم الإيمان.
- يقول هيبرت (Hiebert) إن ذا الرأيين يعني حرفيًا ’ذا نفسين.‘ “الرجل ذو النفسين هو الذي يمتلك نفسًا على الأرض وأخرى في السماء، الذي يرغب في تأمين كلا العالمين، لا يريد أن يتخلى عن الأرض، وهو يكره أن يتخلى عن السماء.” كلارك (Clarke)
- لم يكن الرجل الذي قال ليسوع: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي» (مرقس ٢٤:٩) ذا رأيين. فقد أراد أن يؤمن، وأعلن عن إيمانه. كان إيمانه ضعيفًا. لكنه لم يكن مشوبًا بشكٍّ (ذُو رَأْيَيْنِ).
- “هل تصدق أن الله يستطيع أن يعطيك حكمةً وأنه سيفعل ذلك إذا طلبت منه؟ فاذهبْ إليه فورًا وقلْ له: ’يا ربّ، هذا هو ما أحتاج إليه.‘ حدد ما تريده بالضبط، وضع الأمر كلّه أمام الله، كما لو أنك تروي قصتك إلى صديقٍ ذكيٍّ راغبٍ في الاستماع إليها ومستعدٍّ لمساعدتك، ثم قلْ: ’يا ربّ، هذا هو تمامًا ما اعتقد أنني أريده. وأنا أطلب هذا منك مؤمنًا بأنك تستطيع أن تعطيني إياه.‘” سبيرجن (Spurgeon)
د ) الآيات (٩-١١): تشجيعٌ للذين يصابون بالتجارب والمحن
٩وَلْيَفْتَخِرِ الأَخُ الْمُتَّضِعُ بِارْتِفَاعِهِ، ١٠وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَبِاتِّضَاعِهِ، لأَنَّهُ كَزَهْرِ الْعُشْبِ يَزُولُ. ١١لأَنَّ الشَّمْسَ أَشْرَقَتْ بِالْحَرِّ، فَيَبَّسَتِ الْعُشْبَ، فَسَقَطَ زَهْرُهُ وَفَنِيَ جَمَالُ مَنْظَرِهِ. هكَذَا يَذْبُلُ الْغَنِيُّ أَيْضًا فِي طُرُقِهِ.
- وَلْيَفْتَخِرِ الأَخُ الْمُتَّضِعُ بِارْتِفَاعِهِ: قدر ما يكون ملائمًا للْمُتَّضِع (الوضيع) أن يبتهج عندما يرفعه الله، فإنه أمر ملائمٌ (لكن بشكلٍ أصعب بكثيرٍ) أن يبتهج المرتفع (الْغَنِيُّ) عندما تذلّه التجارب والمحن.
- “كما ينسى الأخ الفقير كلّ فقره الأرضيّ، كذلك ينسى الأخ الغنيّ كلّ ثرواته الأرضية. فالاثنان بالإيمان بالمسيح متساويان.” هيبرت (Hiebert) مقتبسًا من لينسكي (Lenski)
- رغم أنه يمكننا أن نفهم الفقر النفسيّ والثروات كتجارب أو كامتحاناتٍ للإيمان الحيّ والتي قد يتعامل معها المؤمن بالمسيح، إلا أنه يبدو أن يعقوب قام بنقلةٍ مفاجئةٍ في موضوعه من التجارب والحكمة إلى الغنى والتواضع. وتشبه رسالة يعقوب من نواحٍ كثيرةٍ سفر الأمثال أو أدب الحكمة في العهد القديم، حيث يستطيع أن يقفز من موضوعٍ إلى آخر ويرجع ثانيةً إلى موضوعٍ سابقٍ.
- لأَنَّهُ كَزَهْرِ الْعُشْبِ يَزُولُ: تهدف التجارب والمحن إلى تذكير الأغنياء والمرتفعين، بأنه رغم أنهم مرتاحون في هذه الحياة، إلا أنها حياة ستذبل يومًا وتموت، حيث يصفرّ العشب ويذبل الزهر.
- توجد في أرض فلسطين أنواعٌ كثيرةٌ من الزهور الجميلة التي تحيا عندما يسقط المطر، لكنها لا تدوم إلا فترةً قصيرةً وبعدها تذبل. وعلى ميزان الأبدية، هكَذَا يَذْبُلُ الْغَنِيُّ أَيْضًا فِي طُرُقِهِ.
- لا شكّ أن غنى العالم سيذبل، لكن يعقوب يقول: هكَذَا يَذْبُلُ الْغَنِيُّ أَيْضًا. فإذا وضعْنا حياتنا وهويتنا في أمورٍ ذابلةٍ زائلةٍ، فسنذبل نحن أيضًا. فكم هو أفضل أن نضع حياتنا وهويتنا في أشياء لا تذبل أبدًا! فإن كان الإنسان غنيًا في هذا العالم فقط، فسيترك غناه بعد موته. لكن إن كان غنيًا أمام الله، فإنه سيذهب إلى غناه بعد موته.
ثانيًا. الحياة بأمانة في أوقات التجربة
أ ) الآية (١٢): بركةٌ للذين يحتملون التجربة
١٢طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ.
- طُوبَى لِلرَّجُلِ: يذكّرنا هذا بتطويبات يسوع من العظة على الجبل (متى ٥-٧). ففي هذه التطويبات العظيمة والوعود بالبركات، لم يخبرْنا يسوع عن الطرق الوحيدة التي نطوّب (نبارك) بها فقط. فهنا نتعلم أنه يمكن أن نطوّب عندما نحتمل التَّجْرِبَةَ.
- لا يقول النصّ: “طوبى للرجل الذي لا يجرّب أبدًا.” ولا يقول: “طوبى للرجل الذي يجد كلّ تجربةٍ سهلةً للتغلب عليها.” لكن الوعد بالبركة يعطى للذي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ. فهذه البركة عطيةٌ خاصةٌ من الله للذي يستطيع أن يقول “لا” للتجربة، وبالتالي يقول “نعم” لله.
- لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى: يصرّح يعقوب بقصد الله في السماح بهذه التجربة. فالقصد هو أن يزكينا. فمن خلال الامتحان، سنكتشف عن أصالة إيماننا وقوته.
- الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ: التَّجْرِبَةَ (الإغراء بالخطية) واحدةٌ من المحن المتنوعة (يعقوب ٢:١) التي نواجهها. وعندما نثابر عبر التجربة، فإننا نتزكى، وسنكافأ عندها لأن عمل الله فينا واضح من خلال مقاومتنا للتجربة.
- «إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ: يذكّرنا يعقوب بأن الاحتمال تحت التجارب التي نواجهها أمرٌ مجزٍ. فثباتنا سيكافأ عندما نثبت محبتنا ليسوع (لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ) بمقاومتنا للتجربة.
- “هنالك إكليلٌ لي… ولهذا سأمنطق حقوي وأسرّع خطواتي، لأن الإكليل (التاج) مؤكدٌ جدًا للذين يركضون بصبرٍ.” سبيرجن (Spurgeon)
- لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ: يصف هذا دافعنا إلى مقاومة التجربة: محبتنا لله هي الدافع. ولا يمكن التغلب على التجربة بالإثم إلا برغبةٍ أقوى، وهي رغبتنا في إكرام الله وتمجيده.
- يقاوم بعضهم التجربة (الإغراء بالخطية) بسبب خوفهم من البشر. فاللصّ يصبح أمينًا فجأةً عندما يرى شرطيًا. ويسيطر الرجل (أو المرأة) على شهواته لأنه لا يحتمل فكرة الافتضاح وبالتالي التعرض للإحراج. ويقاوم آخرون التجربة بخطيةٍ ما بسبب قوة خطيةٍ أخرى. فالبخيل الجشع يتخلى عن المرح لأنه لا يريد أن ينفق مالًا. لكن أفضل دافعٍ لمقاومة التجربة هي أن تحبّ الله، أن تحبّه بقوةٍ أعظم ورغبةٍ أعظم من محبتك للخطية.
- “وهكذا فإن الذين يحتملون التجربة بحقٍّ، يحتملونها لأنهم يحبون الله. إذ يقولون لأنفسهم: ’كيف أصنع هذا الشرّ العظيم وأخطئ إلى الله؟‘ لا يستطيعون أن يسقطوا في الخطية لأنهم سيحزنون قلبه، وهو الذي يحبّهم حبًا كبيرًا، وهم الذين يحبونه بكلّ قلوبهم.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (١٣-١٦): كيف تأتي التجربة وكيف تعمل
١٣لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: «إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ»، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا. ١٤وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ. ١٥ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا. ١٦لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ.
- لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: «إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ»: لا تأتي التجربة من الله. فرغم أنه يسمح بها، إلا أنه لا يقوم بتحريضنا على الشرّ. وقد يمتحن الله إيماننا من دون أن يستدرجنا إلى الشرّ (وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا).
- عرف يعقوب أن لدى معظم الناس ميلًا إلى إلقاء اللوم على الله عندما يجدون أنفسهم في محن. غير أن الله بموجب طبيعته لاَ يُجَرّب (بالمعنى الذي نجرّب نحن به، كما سيشرح يعقوب) وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا.
- “يبين يعقوب هنا سبب الخطية العظيم. إذ للشهوة دورٌ أكبر في الأمر من إبليس وأدواته الذين لا يستطيعون أن يجبرونا على فعل الخطية من دون دورنا في هذا. فهم يجربوننا (يغروننا بالخطية) أحيانًا، ولكن لا يسودون علينا.” بووله (Poole)
- يسمح الله أحيانًا بأن يمر شعبه بامتحاناتٍ عظيمةٍ، حتى من يعتقدون بأنهم المفضّلون لديه. فنفكر مثلًا في الأمر الصعب الذي طلبه من إبراهيم (تكوين ١:٢٢)، والبلايا التي سمح بها لايوب (أيوب ١-٢). وقد يرسل الله أحيانًا امتحاناتٍ على شكل دينونةٍ على الذين رفضوه، مثل الروح التي أرسلها لجلب الخداع (ملوك الأول ١٩:٢٢-٢٣) أو الابتعاد عن شخصٍ ورفض الاستجابة له (صموئيل الأول ١٥:٢٨-١٦). ولكن الله لا يحرض شخصًا على الخطية في أيّة حالةٍ.
- “يغري إبليس بالخطية: الله يجرّب. لكن يمكن أن تكون المحنة هي إغراءً وتجربةً في الوقت نفسه. يمكن أن تكون تجربةً من جانب الله، وإغراءً بالخطية من جانب إبليس. فكما عانى أيوب من إبليس وكانت إغراءً بالخطية، عانى من الله من خلال إبليس، فكانت بالنسبة له تجربةً.” سبيرجن (Spurgeon)
- وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ: لا يغرينا الله بالخطية، بل يأتي إلينا الإغراء بالخطية عندما ننجذب بشهواتنا وننخدع بالعالم وإبليس الذي يقدم التحريض.
- انْجَذَبَ: “هذه صورةٌ مجازيةٌ مأخوذةٌ إما من سمكةٍ تنخدع بطعمٍ وتنجذب إليه أو من صورة عاهرةٍ تستميل رجلًا شابًا بعيدًا عن الطريق القويم، حيث تغويه بطعم اللذة لكي يرتكب الحماقة معها.” بوله (Poole)
- من المؤكد أن إبليس يغرينا بالخطية، لكن السبب الوحيد الذي يجعل الإغراء بالخطية يستهوينا هو طبيعتنا الساقطة التي تفسد الرغبات المعطاة لنا من الله. وغالبًا ما ننسب إلى إبليس فضلًا زائدًا في قوته على الإغراء ولا ندرك أننا ننجذب نحن بأنفسنا من شهواتنا.
- يقول بعض الذين يحبون أن يؤكدوا سيادة الله إنه مسؤولٌ عن كلّ شيءٍ. غير أن الله غير مسؤولٍ على الإطلاق عن خطية الإنسان. كتب جون كالفن (John Calvin) في تفسيره لهذا النصّ: “عندما تنسب كلمة الله عمى القلب أو قساوته إلى الله، فإنها لا تنسب له بداية العمى، ولا تجعله منشئ الخطية، فلا تنسبْ إليه اللوم.” وكتب كالفن أيضًا: “تؤكد كلمة الله أن المدانين المرفوضين يسلّمون إلى الشهوات الفاسدة، لكن هل هذا لأن الربّ يفسد قلوبهم؟ حاشا! لأن قلوبهم خاضعةٌ لشهواتٍ فاسدةٍ، لأنها فاسدةٌ وشريرةٌ بالفعل.”
- ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً: تنبع الخطية من الشهوة الفاسدة. وينبع الموت من الخطية. وهذا التدرج إلى الموت نتيجةٌ لا مفرّ منها، وهي حقيقةٌ يريد إبليس أن يخفيها عنا، لكن لا يجب أن ننخدع بذلك.
- “يقدم يعقوب شهوة الرجال كعاهرةٍ تغوي فهمهم وإرادتهم ورغباتهم غير التقية، ومن هذا الاقتران تحبل الخطية. وحالما تخرج الخطية تعمل بشكلٍ فوريٍّ، وهي تتغذى بالتكرار العديد، إلى أن تكتسب في النهاية قوةً كبيرةً تحوّلها إلى موتٍ. هذا هو النّسب الحقيقيّ للخطية والموت.” كلارك (Clarke)
- لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ: تتمثل إستراتيجية إبليس في التجربة في أن يقنعنا بأن السعي وراء شهواتنا الفاسدة سينتج بطريقةٍ ما حياةً وصلاحًا لنا. فإذا تذكّرْنا أن إبليس لا يأتي إلا ليسرق ويذبح ويهلك (يوحنا ١٠:١٠)، عندئذٍ يمكننا أن نقاوم بكفاءةٍ أكبر خداعات التجربة.
ج) الآيات (١٧-١٨): صلاح الله مقابل التجارب والإغراءات التي نواجهها.
١٧كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ. ١٨شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ.
- كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ: نحن لا نتوقع خيرًا حقيقيًا من طبائعنا الساقطة ومن أولئك الذين يحرضوننا على الخطية. لكنْ كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ تأتي من الله الآب في السماء.
- وبطبيعة الحال، فإن الصلاح النهائيّ لأية عطيةٍ يتوجب قياسها على ميزانٍ أبديٍّ. فقد يبدو شيءٌ ما صالحًا (مثل ربح مالٍ في اليانصيب)، لكن ربما يتحول في الواقع إلى دمارٍ لنا.
- الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ: صلاح الله ثابتٌ. لا يوجد عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ. فبدلًا من الظلال، فإن الله هو أَبِو الأَنْوَارِ.
- يقول هيبرت (Hiebert) إن الأصل اليونانيّ القديم يقول “أبو الأضواء” أو المصابيح. وهذه الأَنْوَارِ المعينة هنا هي الأجسام السماوية التي تضيء الأجواء السماوية، ليلَ نهارٍ. فالشمس والنجوم لا تتوقف عن إعطاء ضوئها حتى عندما لا نراه. وبنفس الطريقة، فإنه لا يوجد لدى الله ظلٌّ على الإطلاق. وعندما يأتي الليل، فإن الظلمة ليست خطأ الشمس. فهي تظلّ تسطع بنفس القوة كما كانت في الماضي. لكن الأرض انحرفت عن الشمس فجاءت الظلمة.
- يعني هذا أن الله لا يتغير أبدًا. يوجد بين اللاهوتيين الحديثين أشخاصٌ مولعون بشيءٍ يدعى “لاهوت العملية” وهم يعنون بذلك أن الله “ينضج” و”ينمو” وأنه “في عمليةٍ” في ذاته! غير أن الكتاب المقدس يقول إنه لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ.
- شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ: فهم يعقوب أن الخلاص عطيةٌ من الله لا تكتسب بعمل الإنسان أو طاعته. فمن مشيئته الخاصة ولدنا للخلاص.
- وَلَدَنَا: “تدلّ هذه الكلمة على نحوٍ صحيحٍ على أنه قام بمهمةٍ الأمّ لنا، أي إحضارنا إلى نور الحياة.” تراب (Trapp)
- “وفي معظم الأحيان، فإن الأشخاص الكرماء يريدون من الآخرين أن يحفّزوا كرمهم. يحتاجون إلى من يقوم على خدمتهم، وأن تقدم الالتماسات لهم. ويتوجب الإلحاح والضغط عليهم أحيانًا، وأن يوضع أمامهم مثال ليتبعوه. لكن الله “شاء” بمحض إرادته، وفعل من أجلنا كلّ ما تمّ فعله، من دون أيّ تحفيزٍ أو حثٍّ. تحرّك بنفسه لأنه يسرّ بالرحمة. ولأن اسمه وطبيعته هما المحبة، ولأنه على الدوام مثل الشمس، فإنه أمرٌ طبيعيٌّ له أن يوزع أشعة نعمته الأبدية.” سبيرجن (Spurgeon)
- لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ: نرى صلاح (خير) الله في خلاصنا، حيث بادر إلى خلاصنا، حيث شَاءَ فَوَلَدَنَا إلى حياةٍ روحيةٍ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ، لكي نكون نحن مجده وأهم ما خلقه (بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ).
- أخبرنا يعقوب في الآيات السابقة بما تلده شهوة الإنسان، وهو الخطية والموت. وهو هنا يخبرنا بما تجلبه مشيئة الله الصالح: خلاصنا، بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ (أي لنَكُونَ أهَمَّ خَلَائِقِهِ).
- ربما يشير يعقوب إلى جيله الخاصّ من المؤمنين عندما يدعوهم بَاكُورَة، وبشكلٍ خاصٍّ وهو يكتب بشكلٍ رئيسيٍّ إلى مؤمنين بالمسيح من خلفيةٍ يهوديةٍ. وتبين حقيقة كون هؤلاء هم البَاكُورَة (تثنية ١:٢٦-٤) أن يعقوب توقّع حصادًا لاحقًا وأعظم من المؤمنين بالمسيح من خلفيةٍ يهوديةٍ.
- تمادى بعضهم في تكهّنهم حول فكرة ’بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ‘ أكثر (ربما بشكلٍ مغالى فيه)، قائلين إن يعقوب كان يفكر بفداءٍ أوسع بين خلائق غير معروفةٍ من الله، بحيث نكون نحن بَاكُورَةً من ذلك الفداء الأوسع.
د ) الآيات (١٩-٢٠): الثبات ضدّ الغضب غير البارّ
١٩إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ، ٢٠لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللهِ.
- لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ: يمكننا أن نتعلم أن نبطئ في الغضب بأن نتعلم أولًا أن نسرع في الاستماع، وأن نبطئ في التكلم. إذ ينبع قدرٌ كبيرٌ من غضبنا وسخطنا من كوننا متمركزين حول ذواتنا بدلًا من أن نكون متمركزين حول الآخرين. والإسراع إلى الاستماع طريقةٌ من طرق التمركز حول الآخرين. والإبطاء في التكلم طريقةٌ من طرق التمركز حول الآخرين.
- “لكن ألم تعلّمنا الطبيعة نفس ما يعلّمه الرسول هنا، حيث أعطتنا أذنين مفتوحتان، ولسان واحد مسوّرًا بأسنان وشفتين؟” تراب (Trapp)
- مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ، لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللهِ: في ضوء طبيعة التجربة (الإغراء بالخطية) وصلاح الله، يتوجب علينا أن نحرص حرصًا بالغًا على أن نبطئ في الغضب، لأن غضبنا لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللهِ. فغضبنا في غالبية الأحيان يدافع عن أجندتنا الخاصة ويروج لها.
هـ) الآية (٢١): الصمود أمام شهوات الجسد
٢١لِذلِكَ اطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرّ، فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ.
- كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرّ: يضع يعقوب في اعتباره هنا أسلوبًا غير نقيٍّ في الحياة. ففي ضوء التجربة (الإغراء بالخطية) وصلاح الله، علينا أن نضع جانبًا (اطْرَحُوا) كلّ عدم طهارةٍ، مبعدين إياها عنّا.
- كُلَّ نَجَاسَةٍ: “إنها القذارة النتنة للقرحة المعدية. الخطية هي قيء إبليس، وبراز النفس، ووفرة قمامة الخبث (شَرّ)… كما تدعى هنا كتلميحٍ لقمامة الذبائح المطروحة في وادي قدرون، والذي هو خندق مزبلة المدينة.” تراب (Trapp)
- تترجم نسخة الملك جيمس القديمة عبارة ’كَثْرَةَ شَرّ‘ إلى ’كميةٍ مفرطةٍ من السو.‘
- فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ: في مقابلةٍ مع الأسلوب غير النقيّ في الحياة، ينبغي أن نقبل الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ، كلمة الله (بِوَدَاعَةٍ، أي بقلبٍ قابلٍ للتعليم). هذه الكلمة قادرةٌ على أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ، الآن وفي الأبدية. إذ تقدر كلمة الله النقية أن تحفظنا حتى في عصرٍ غير نقيٍّ.
- “أول أمرٍ علينا فعله هو أن نقبل. وكلمة ’نقبل‘ مفيدةٌ جدًا في رسالة الإنجيل. فهي الباب الذي تدخل فيه نعمة الله إلينا. فنحن لا نخلص بالعمل، بل بالقبول، لا بما نعطيه لله، بل بما يعطيه الله لنا، وبما نقبل أو نحصل عليه منه.” سبيرجن (Spurgeon)
- يلمّح يعقوب هنا إلى القوة الروحية لكلمة الله. فعندما تزرع في القلب البشريّ، فإنها قادرةٌ أن تخلص نفوسنا. إذ تحمل كلمة الله قوة الله.
و ) الآيات (٢٢-٢٥): كيف نقبل كلمة الله
٢٢وَلكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ. ٢٣لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ سَامِعًا لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلاً، فَذَاكَ يُشْبِهُ رَجُلاً نَاظِرًا وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ، ٢٤فَإِنَّهُ نَظَرَ ذَاتَهُ وَمَضَى، وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ. ٢٥وَلكِنْ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى النَّامُوسِ الْكَامِلِ نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ وَثَبَتَ، وَصَارَ لَيْسَ سَامِعًا نَاسِيًا بَلْ عَامِلاً بِالْكَلِمَةِ، فَهذَا يَكُونُ مَغْبُوطًا فِي عَمَلِهِ.
- وَلكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ: يتوجب أن نقبل كلمة الله كفاعلين عَامِلِين، لا مجرد سَامِعِينَ فقط. أما عندما تعزي نفسك بأنك سمعت كلمة الله في حين أنك لم تعمل بها، فإن هذا خداعٌ لنفسك.
- كان شائعًا في العالم القديم أن يستمع الناس إلى معلمٍ. فإذا كنت تتبع المعلم وتعيش ما قاله، كان يطلق عليك لقب تلميذٍ لذلك المعلم. ويمكننا القول إن يسوع يبحث عن تلاميذ عاملين، لا سامعين فقط.
- استخدم يسوع هذه الفكرة نفسها في ختام عظته العظيمة على الجبل. فقد قال إن الرجل الذي سمع الكلمة من دون العمل بها كان يشبه رجلًا بنى بيته على الرمل. ولكن الرجل الذي سمع كلمة الله وعمل بها يشبه رجلًا بنى بيته على الصخر. ويستطيع ذاك الذي سمع كلمة الله وعمل بها في الوقت نفسه أن يصمد أمام عواصف الحياة المحتومة والدينونة الأبدية (متى ٢٤:٧-٢٧).
- “قد يقدم معلمٌ أو واعظٌ خطابًا فصيحًا حول رسالة الإنجيل، أو يشرح باقتدارٍ بعض نبوات العهد القديم حول المسيح. فانتهاء العظة لا يعني أنها انتهت. إذ يبقى شيءٌ ينبغي أن يفعله السامعون في الحياة. فإذا اكتفوا بالإعجاب العاطفيّ أو بالمعالجة الذهنية للموضوع، فلا يلزم أن يتخيلوا أن هذه هي الحياة المسيحية أو التدين.” موفات (Moffatt)
- “اعتقد آسفًا أن هنالك أشخاصًا كثيرين كهؤلاء في كلّ الكنائس، سامعين معجبين، سامعين بشغفٍ، سامعين مهتمّين، لكنهم ليسوا سامعين مباركين لأنهم ليسوا عاملين بالكلمة.” سبيرجن (Spurgeon)
- “أنتم تعرفون القصة القديمة. وأنا خجلٌ نوعًا ما أن أكررها ثانيةً، لكنها ملائمةٌ جدًا لهذه النقطة. عندما خرج دونالد من الكنيسة أبكر من العادة، سألته ساندي: ’ماذا؟ هل انتهت العظة كلّها؟‘ أجاب دونالد: ’لا. قيل كلّ ما يلزم أن يقال، لكن لم يبدأْ بالعمل بها بعد.‘ سبيرجن (Spurgeon)
- فَذَاكَ يُشْبِهُ رَجُلاً نَاظِرًا وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ، فَإِنَّهُ نَظَرَ ذَاتَهُ وَمَضَى، وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ: يمتلك الشخص الذي يستمع إلى كلمة الله فقط من دون العمل بها نفس الشعور الذي لدى الشخص الذي ينظر في مرآةٍ وينسى فورًا ما رآه. فالمعلومات التي تلقّاها لم تفده في أيّ شيءٍ في حياته.
- نَاظِرًا وَجْهَ خِلْقَتِهِ: تفيد الكلمة اليونانية المترجمة إلى ’نَاظِرًا‘ هنا معنى التفحّص والتمعّن. وبالتطبيق، خطر ببال يعقوب الأشخاص الذين يتفحصون كلمة الله، ربما يعدّون خبراء في الكتاب المقدس، لكن هذا لا يثمر عن العمل به.
- “ليست مرآة الكلمة مثل المرآة الزجاجية العادية التي لا تبيّن إلا الملامح الخارجية للإنسان، لكن حسب النصّ اليونانيّ الذي أمامنا، يرى الرجل فيها ’وجه خلقته‘ أي وجه طبيعته. فالذين يقرؤون ويسمعون الكلمة ربما لا يرون أعمالهم فقط هناك، بل أيضًا دوافعهم ورغباتهم وحالتهم الداخلية.” سبيرجن (Spurgeon)
- يفهم الواعظ قوة كلمة الله، ولهذا فإنه مسؤولٌ عن العمل بجدٍّ على عدم إعاقة هذه القوة. “يتخيل بعض الوعاظ أن عملهم يكمن في رسم صورٍ جميلةٍ، لكن هذا ليس صحيحًا. ليس عملنا أن نصور ونرسم، بل عملنا ببساطةٍ هو أن نعطي انعكاس الحقّ. علينا أن نرفع مرآة الطبيعة بمعنى أخلاقيٍّ وروحيٍّ، وأن ندع الناس يرون أنفسهم فيها. ليس عملنا هو أن نصنع المرآة، بل أن نرفعها. يجب أن نضع أمام السامعين أفكار الله، لا أفكارنا الخاصة. وهذه تكشف الإنسان لنفسه. فكلمة الله كاشفةٌ للأسرار. فهي تبين للإنسان حياته وأفكاره وقلبه وأعماق ذاته.” سبيرجن (Spurgeon)
- ينظر الشخص السليم في المرآة ليفعل شيئًا، لا ليبدي إعجابه بصورته. وبالطريقة نفسها، ينظر المؤمن السليم بالمسيح في كلمة الله لكي يفعل شيئًا حيالها، لا لكي يخزن حقائق لن يمارسها بكونه عاملًا بالكلمة.
- “إن العقائد الإلهية عندما يكرز بها بأمانةٍ هي مثل هذه المرآة، فلا يملك من يستمع إلا أن يكتشف طبيعته الأخلاقية وأن يتأثر بتشوهاته، فيندم ويسعى إلى الإصلاح. لكن عندما ينتهي الوعظ، تزال المرآة… سرعان ما ينسى أيّ نوعٍ من الرجال هو… وهو يفكر ويقنع نفسه بعدم ضرورة التوبة وإصلاح الحياة، وهكذا يخدع نفسه.” كلارك (Clarke)
- “يقول السيد برادفورد (Bradford) إن عليك أن تجعل ناموس الله مرآةً تتفحص فيها نفسك، لكي ترى وجهك ممتلئًا بكلّ ما ينفر، بالبثور والندوب، بما هو مؤذٍ ومهلهلٌ، حتى إنك تندم على تأمّل وجهك.” تراب (Trapp)
- وَلكِنْ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى النَّامُوسِ الْكَامِلِ نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ وَثَبَتَ، وَصَارَ لَيْسَ سَامِعًا نَاسِيًا بَلْ عَامِلاً بِالْكَلِمَةِ، فَهذَا يَكُونُ مَغْبُوطًا فِي عَمَلِهِ: إذا درسنا كلمة الله عن عمدٍ وثابرنا على العمل بها (وَثَبَتَ) فإننا سنكون مباركين بسبب ذلك.
- اطَّلَعَ عَلَى (تَمَعَنُّ فِي) النَّامُوسِ الْكَامِلِ نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ: تدلّ الكلمة اليونانية القديمة المترجمة إلى ’اطَّلَعَ‘ على الفحص الثاقب، بحيث ينحني المرء إلى أسفل ليحصل على نظرةٍ أوضح. رغم أن يعقوب أكّد مسألة ضرورة العمل بكلمة الله، إلا أنه لم يهمل دراسة كلمة الله. ينبغي أن نغوص في كلمة الله.
- يوضح آدم كلارك (Adam Clarke) أن الكلمة اليونانية القديمة المترجمة إلى ’ثَبَتَ‘ (أي يستمر أو يُدَاوِم على ذلك) هي (parameinas) التي تحمل المعنى التالي: “خذ وقتك لترى وتتفحص حالة نفسك، ونعمة إلهك، وحجم مسؤوليتك، وسموّ المجد الموعود. فهذه الصورة المجازية مأخوذةٌ من إناثٍ يقضين قدرًا كبيرًا من الوقت على المرآة، لكي يزيّن أنفسهن إلى أفضل صورةٍ، ولا يتركن شعرةً واحدةً أو أصغر زينةٍ في مكانٍ غير مكانها.”
- النَّامُوسِ الْكَامِلِ نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ: هذه طريقةٌ رائعةٌ لوصف كلمة الله. يعلن لنا الله في العهد الجديد ناموسًا، لكنه ناموس الحرية، وهو مكتوبٌ على قلوبٍ مغيّرةٍ بروح الله.
- “تدعى عقيدة الكتاب المقدس بكاملها، وبشكلٍ خاصٍ الإنجيل، ناموسًا (رومية ٢٧:٣) كقاعدةٍ وبسبب قوّتها وتأثيرها في القلب في الوقت نفسه. وهي ناموس الحرية لأنها تبين أفضل طريقٍ إلى الحرية من الخطية ومن عبودية الناموس الطقسيّ والصرامة الأخلاقية ومن غضب الله.” بوله (Poole)
ز ) الآيات (٢٦-٢٧): أمثلةٌ لما يعنيه العمل بكلمة الله
٢٦إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ، بَلْ يَخْدَعُ قَلْبَهُ، فَدِيَانَةُ هذَا بَاطِلَةٌ. ٢٧اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللهِ الآبِ هِيَ هذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ.
- إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ (مُتَدَيِّنٌ): شرح يعقوب للتوّ أن التدين الحقيقيّ لا يظهر في الاستماع إلى كلمة الله، بل في العمل بها. ومن إحدى طرق العمل بكلمة الله أن تلجم لسانك.
- يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ (مُتَدَيِّنٌ): لا يستخدم العهد الجديد الكلمة اليونانية القديمة المترجمة إلى ’دَيِّنٌ‘ بمعنى إيجابيٍّ على الإطلاق (أعمال الرسل ٢٢:١٧، ١٩:٢٥، ٥:٢٦، كولوسي ٢٣:٢). ويستخدمها يعقوب هنا للإشارة إلى شخصٍ مُتَدَيِّنٍ لكنه ليس في علاقةٍ سليمةٍ مع الله حقًا، وهذا واضحٌ لأنه: لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ.
- دِيَانَةُ هذَا بَاطِلَةٌ: إن مسيرتك مع الله عقيمةٌ أو بَاطِلَةٌ إذا لم تترجمْها إلى أسلوب حياةٍ وإلى أسلوبٍ في التعامل مع الآخرين. فكثيرون مخدوعون في قلوبهم في ما يتعلق بحقيقة سلوكهم مع الله.
- “يبدو أن هذا ينطبق على اليهود المُرائين الذين كان تديّنهم يتألف من مراعاة أمورٍ خارجيةٍ، والابتعاد عن التنجس الطقسيّ مع أنهم كانوا ملطخين بنجاساتٍ أخلاقيةٍ كثيرةٍ – يعقوب ١٤:١؛ متى ٢٣:٢٣؛ يوحنا ٢٨:١٨، حيث كانوا يلتهمون بيوت الأرامل.” بوله (Poole)
- “إنه لا ينكر مكانة العبادة العامة (انظر يعقوب ٢:٢؛ ١٤:٥) أو الاحتفالات الدينية، لكنه يشرح أن اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ من وجهة نظر الله، يعبّر عنها بأعمالٍ خيريةٍ وبالعفّة – وهما ميزتان من الفضائل المسيحية المبكرة التي أثارت إعجاب العالم المعاصر.” موفات (Moffatt)
- اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللهِ الآبِ: هنالك قدرٌ كبيرٌ من التدين الطاهر والنقيّ في نظر الإنسان، وهو تدينٌ غير طاهرٍ ونقيٍ عِنْدَ اللهِ الآبِ.
- افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ: يظهر إيمانك الحقيقيّ بطرقٍ عمليةٍ بسيطةٍ. فهو يساعد المحتاجين ويبقى نفسه غير ملوثٍ بفساد العالم.
- “الطقوس الكتابية والعبادة الخارجية التقية والتجسيد الحقيقيّ للمبادئ الداخلية للتدين هو أن تفتقد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وأن تحفظ نفسك غير ملطخٍ من العالم. فالأعمال الخيرية والطهارة هما أعظم ثوبين للمسيحية.” سبيرجن (Spurgeon)
- لا يعطي التدين الحقيقيّ شيئًا لغوث المبتلين فحسب، بل يفتقدهم ويقوم بالإشراف عليهم ويضعهم تحت رعايته أيضًا، هذا هو معنى كلمة (episkeptesthai). إنه يذهب إلى بيوتهم ويتكلم إلى قلوبهم ويخفف من احتياجاتهم ويتعاطف معهم في ضيقاتهم ويرشدهم في أمور الله ويصلي لله من أجلهم. وهو يفعل ذلك من أجل الربّ. هذه هي ديانة المسيح.” كلارك (Clarke)
- بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ: ليست الفكرة هي أن ينسحب المؤمن بالمسيح من العالم، بل أن يتفاعل مع الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ ومع آخرين محتاجين. فالمثل المسيحيّ ليس الانسحاب من العالم. فهو في العالم، لكنه ليس من العالم، ويبقى بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ.
- “أود أن أرى مؤمنًا بالمسيح، غير محفوظٍ في صندوقٍ زجاجيٍّ بعيدًا عن المحن والتجارب، وأن يكون مغطى بدرعٍ غير مرئيةٍ بحيث أنه أينما يذهب سيكون محروسًا ومحميًا من التأثيرات الشريرة الموجودة في كلّ مكانٍ في العالم تقريبًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- نرى لوطًا في سفر التكوين مثالًا لرجلٍ دنّسه العالم. بدأ يعيش كأهل سدوم، ضاربًا عرض الحائط المناخ الروحيّ لتلك المنطقة بسبب ازدهارها. وفي نهاية المطاف، انتقل لوط إلى المدينة الشريرة وصار جزءًا من قادتها. فكانت النتيجة أنه خسر كلّ شيءٍ، وبالكاد أنقذ بجسده.
- “لا يوجد كتابٌ بمثل هذه المثالية النبيلة لما يمكن أن تصبح عليه عندما تخضع لنعمة المسيح: قلبٌ مطهرٌ وثوبٌ غير مدنسٍ ولا سماح بدخول الخطية إلى النفس ولا عادةٌ شريرةٌ تهيمن على الحياة وتفتنها.” ميير (Meyer)