تفسير رسالة أفسس – الإصحاح ١
خطّة الله النهائيّة
أوَّلًا. مقدّمة لرسالة بولس إلى أفسس
أ ) طابع رسالة بولس إلى أفسس وموضوعاتها.
- تختلف رسالة بولس إلى أفسس عن العديد من رسائل العهد الجديد الأخرى التي كتبها. فبولس لم يكتب رسالة أفسس لمعالجة مشاكل في كنيسة معيَّنة، مثلها في ذلك مثل رسالة رومية. بل كتبها لشرح بعض الموضوعات والعقائد الكبرى في المسيحيّة.
- قد رفعت مواضيع رسالة أفسس السامية من مكانتها وقدرها بين المفسّرين. حتّى أنَّهم أطلقوا عليها ’ملكة الرسائل‘ و’جوهر الفكر البولسي‘ و’التكوين الإلهيّ للإنسان،‘ بل أيضًا ’قاهرة المفسّرين.‘ يقول البعض إنَّ أفسس تبدو “مثل تفسير لرسائل بولس، وربما أفضل ما يُطلَق عليها هو ’تاج الفكر البولسيّ.‘” بروس (Bruce)
- “إنَّها تلخّص إلى حدّ كبير الموضوعات الرئيسيّة لكتابات بولس… لكنها تفعل أكثر من ذلك: إنَّها تنقل فكر الرسائل السابقة إلى مرحلة جديدة.” بروس (Bruce)
- “من بين الرسائل التي تحمل اسم القِدّيس بولس، ليس ما يضارع هذه الرسالة في عظمتها ولا في طابعها الخاصّ بها… فهناك سموّ غريب ومستديم في تعاليمها التي أثارت إعجاب عباقرة الزمان؛ ولذلك حازت على عنوان ’رسالة الصعود.‘” سالموند (Salmond)
- “الرسالة إلى أفسس هي جسد كامل من الألوهية. ففي الإصحاح الأوَّل تجد تعاليم الإنجيل. وفي الثاني تجد خبرة المؤمنين؛ وقبل انتهاء الرسالة، تجد مبادئ الإيمان المسيحيّ. فمن أراد الاطّلاع على المسيحيّة في رسالة واحدة، دعه يقرأ الرسالة إلى أهل أفسس، ويتأمّلها، ويتعلّمها، ويهضمها داخليًّا.” سبيرجن (Spurgeon)
- إذا كانت الرسالة إلى رومية تركّز على عمل الله في الفرد المسيحيّ، فإنَّ أفسس تشمل الموضوعات الكبرى الخاصّة بعمل الله في الكنيسة، أي مجتمع المؤمنين.
- كتب كارل ماركس (Karl Marx) عن الإنسان الجديد والمجتمع الجديد، لكنَّه كان ينظر إلى الإنسان والمجتمع – على حدّ سواء – من الناحية الاقتصادية البحتة، فقدّم حلولاً اقتصادية فقط. أمَّا بولس في رسالته إلى أفسس فكان ينظر هو أيضًا إلى الإنسان الجديد والمجتمع الجديد، لكنَّه رأى ذلك كله وقد تحقّق بواسطة عمل يسوع.
- تتشابه أفسس مع كولوسي في عدة أوجه. فبولس قد كتب كليهما من سجنه في روما، ورُبَّما كان ذهنه مشغولاً بنفس الموضوعات عندما كتب كل رسالة منهما.
- “كتب إلى أهل كولوسي لمجابهة موقف وخطر معيّنين في كنيسة كولوسي. وبينما ذهنه لم يزل مشغولاً بموضوع عظمة المسيح ومجده، انتقل إلى النظر في مكان الكنيسة في قصد الله، فكتب أفسس، ولكن هذه المَرَّة دون التقيّد بأي أهداف جدليّة.” فولكس (Foulkes)
- عند النظر إلى الموضوعات العظيمة والمهيبة في أفسس، من المهمّ أن نتذكّر أنَّ بولس كتب هذه الرسالة من السجن.
- كتب بولس في كورنثوس الأولى ٩:٢-١٠: “بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ ٱللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ». فَأَعْلَنَهُ ٱللهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لِأَنَّ ٱلرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ ٱللهِ.” ورسالة أفسس تحقيق لهذا. إنَّها تُعلِن عن الأمور التي أعدّها الله للذين يحبّونه.
ب) الآيات (١-٢): تحيّة بولس لأهل أفسس.
١بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ، إِلَى الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ فِي أَفَسُسَ، وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ: ٢نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
- بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: مقدّمة الرسالة كانت قصيرة، دون تحيات بولس التفصيلية التي توجد في رسائله الأخرى.
- إِلَى ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلَّذِينَ فِي أَفَسُسَ: ثَمَّة فراغ في بعض المخطوطات القديمة بدلاً من كلمتي فِي أَفَسُسَ. واستنادًا إلى ذلك، يعتقد البعض أنّ هذه الرسالة كانت في الواقع رسالة عامّة مكتوبة لأكثر من جماعة، وكان الهدف نقلها إلى العديد من الكنائس المختلفة في مدن مختلفة.
- ليس هناك شكّ في أن هذه الرسالة كانت مخصَّصة إلى أفسس، فأفسس كانت مدينة مهمّة لبولس. “كانت أفسس مدينة يعرفها معرفة شخصية. ذلك أنَّه سبق وعمل هناك باجتهاد على مدى ثلاث سنوات كاملة – وهي مدة طويلة من الاستقرار بالنسبة إليه – ليس كمبشّر مرسل فقط، ولكن كرسول راعٍ أيضًا. وهناك اتّخذ الخطوة الحاسمة والخطيرة، وهي ’انفصال‘ التلاميذ عن المجمع اليهودي وانتقالهم إلى مكان متميّز للتعليم والعبادة، أي ’مدرسة تيرانُّس.‘ ومن المفترض أنَّها كانت قاعة المحاضرات، تابعة لأستاذ لطيف، ضمن ما يمكن أن نسمّيه «جامعة أفسس.» ففي هذا المكان عمل بولس واهتم بالآخرين وبكى لأجل المجتمع والأفراد على حدّ سواء.” موول (Moule)
- في الوقت نفسه، يمكننا أن نخمّن أنَّ الهدف من الرسالة أيضًا بمعنى أعم كان أن يتم تداولها بين المؤمنين كتصريح عظيم عن خطّة الله الأبديّة، التي تتمّ في الكنيسة وفي حياة الأفراد المؤمنين. فإن كان هناك فراغ في المخطوطة حيث قرأ الأخرون كلمتي فِي أَفَسُسَ، فمن المؤكَّد أنَّنا نستطيع أنْ نضع مدينتنا في ذلك الفراغ أيضًا.
- نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلَامٌ مِنَ ٱللهِ أَبِينَا: هذه التحية من العلامات المميّزة لبولس. كان الرسول يعرف المكانة الأساسيّة للـنعمة والـسلام من الله في حياة المؤمن، وكان يعرف أنَّ الحصول على نعمة الله يأتي قبل السلوك بسلام معه.
ثانيًا. عمل الله المُثلَّث الأقانيم في صالح المؤمن
تتألّف أفسس ٣:١-١٤ في اليونانيّة القديمة (اللغة الأصليّة التي كتب بها بولس)، من جملة واحدة طويلة. فكما أنَّ الأوبرا لها مقدّمة، تضبط نغمة جميع الألحان التي ستعقبها، كذلك تحدّد أفسس ٣:١-١٤ نغمة بقيّة الرسالة.
أ ) الآيات (٣-٦): عمل الله الآب.
٣مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ، ٤كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، ٥إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، ٦لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ.
- مُبَارَكٌ ٱللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: دعا بولس بالبركة على الآب (بمعنى إدراك مجده وكرامته وجوده)، لأنَّ الآب قد سبق وبارك المؤمن بكل بركة روحيّة (ٱلَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ).
- كتب موول (Moule) أنَّ الفكرة وراء طلب البركة هي: “تسبيح الله بالمحبّة التعبّديّة.”
- ٱلَّذِي بَارَكَنَا: هذه البركة لنا. فموارد الله متاحة لنا دائمًا. وهذا يدلّ على موقف من اليقين والاطمئنان.
- “نحن لا نجلس في أنين ونواح وخوف وقلق وشك في خلاصنا، لأن الله قد باركنا، وبالتالي سنباركه. إذا فكّرت قليلًا فيما فعله الله من أجلك، فإنك لن تفعل الكثير من أجله؛ ولكن إذا اتّضح لك مدى رحمته العظيمة لك، فستكون ممتنًا جدًّا لإلهك الكريم.” سبيرجن (Spurgeon)
- تشمل كلمة ’بَارَكَنَا‘ كلًا من اليهود والأمم في كنيسة أفسس وغيرها. فقد كان من المهمّ الإشارة إلى أن هذه البركات متاحة للمؤمنين اليهود وغير اليهود. فقد كان لليهود في القرن الأول إحساس قوي بأنهم مباركون ومدعوون ومرغوب فيهم. ولهذا، أظهر بولس أن هذه الأشياء تُعطَى الآن للمؤمنين، سواء كانوا يهودًا أو غير يهود.
- بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ: يصف ذلك نوع البركات وموقع تلك البركات في الوقت ذاته. فهذه بركات رُوحِيَّةٍ، أفضل بكثير من البركات الماديّة. وهذه البركات هي لنا فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ، فهي أعلى وأفضل وأكثر أمانًا من البركات الأرضيّة.
- “نشكر الله على جميع البركات الزمنيّة؛ فهي أكثر مِمَّا نستحقّ. ولكننا يجب أن نشكر الله بشلال من التسبيحات على بركاته الروحيّة. فالقلب الجديد خير من المعطف الجديد. وأن تتغذّى على المسيح خير من الحصول على أفضل الأطعمة الأرضيّة. وأن تكون وريثًا لله خير من أنَّ تكون وريثًا لأعظم النبلاء. إنَّ كون الله نصيبنا لهو بلا شكّ أعظم من امتلاك فدادين واسعة من الأرض. لقد رزقنا الله ببركات روحيّة، وهي أندر وأثمن وأبقى من جميع البركات. إنها لا تقدَّر بثمن من حيث قيمتها.” سبيرجن (Spurgeon)
- إذا لم نقدّر البركة الروحيّة، فنحن نعيش على مستوى الحيوانات. فالحيوانات تعيش للأكل والنوم والتسلية والتكاثر فقط. لقد صُنِعنا على صورة الله وعند الله شيء أسمى من ذلك بكثير لنا، ومع ذلك يختار الكثيرون العيش على مستوى الحيوانات. الله يريدنا أن نختبر كُلّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ.
- نلاحظ أيضًا أنَّ هذا يشمل كُلّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ.
- هذا يعني أنَّ كل بركة ننالها، ننالها في المسيح.
- هذا يعني أنَّ الله يريد أن يباركنا بكل بركة متاحة لنا.
- كَمَا ٱخْتَارَنَا فِيهِ: امتلاكنا لكُلّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ هو أمر مؤكَّد مثل اختياره لنا، الذي تمّ قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ.
- نحن لا نتجاسر على التقليل من شأن ما يكتبه بولس هنا. المؤمنون يتم اختيارهم من قِبَل الله، وهذا يتم قبل أن يفعلوا أي شيء أو يكونوا أي شيء لله. غير أنَّ النور العظيم لهذه الحقيقة له بعض الظلال، أي محاولة التوفيق بين المسؤوليّة البشرية والسيادة الإلهيّة. غير أنَّ غرض النور ليس إلقاء الظلال بل توجيه خطواتنا. إنَّ نور اختيار الله يطمئننا على ديمومة خطته ومحبّته نحونا.
- أسباب اختيار الله ليست متقلّبة، كما أنَّها ليست عشوائية. وعلى الرغم من أنَّها تفوق قدرتنا على الاستقصاء والفحص، إلَّا أننا نعلم أنَّها حكيمة وصالحة تمامًا. لكنَّ الأسباب كلها تتوقّف عليه، لا علينا. واختياره هو «حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ» (أفسس ٥:١).
- نحن مختارون فِيهِ. “لأننا إن كنا مختارين في المسيح، فالأمر لا يتوقّف علينا، والمسألة لا تتعلّق باستحقاقنا، ولكن بأنَّ أبانا السماويّ قد طعّمنا بواسطة نعمة التبنِّي في جسد المسيح. باختصار، اسم المسيح يستبعد أي استحقاق وأي شيء يملكه البشر من ذواتهم.” كالفين (Calvin)
- لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلَا لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ: نحن مختارون ليس للخلاص فقط، ولكن للقداسة أيضًا. إنَّ أيّ فهم لاختيار الله السياديّ يقلّل من مسؤوليّتنا الشخصيّة عن القداسة الشخصيّة والتقِدّيس لا يرقى إلى مستوى مشورة الله الكاملة.
- “إن عبارة قِدِّيسِينَ وَبِلَا لَوْمٍ هي استعارة مأخوذة من التضحيات الكاملة التي بلا عيب، التي كان الناموس يطلب من الناس إحضارها إلى مذبح الله.” كلارك (Clark)
- لا يمكننا أن ننسى عبارة فِي ٱلْمَحَبَّةِ. فالقداسة والكمال ليسا شيئًا بلا محبّة. “كما أنَّ المحبّة هي تتميم الناموس، وكما أنّ المحبة هي المنبع الذي يتدفق منه خلاصهم، فيجب أن تملأ المحبّة قلوبهم تجاه الله وبعضهم تجاه البعض.” كلارك (Clark)
- إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ: هذا هو تعيين الآب المسبق لمختاريه: أن يستمتعوا بالـتَّبَنِّي كأبناء. فخطّة الله التي تتكشّف لنا لا تتضمّن الخلاص والتجديد الشخصيّ فقط، ولكن علاقة دافئة ومطمئنة مع الآب أيضًا.
- في القانون الرومانيّ: “عندما كان التبنّي يكتمل، كان يُعتَبر ساريًا بالفعل. فيتمتع الشخص الذي تمّ تبنّيه بجميع حقوق الابن الشرعيّ في أسرته الجديدة ويفقد جميع الحقوق بالكامل في أسرته القديمة. أي يصبح شخصًا جديدًا في نظر القانون. يصير جديدًا تمامًا حتّى أنَّ جميع الديون والالتزامات المرتبطة بأسرته السابقة كانت تُلغَى كما لو لم تكن موجودة من قبل.” باركلي (Barclay)
- يأخذ غايبلَين (Gaebelein) الفكرة إلى أبعد من ذلك: “لم يتم تبنّي المؤمنين بالربّ يسوع المسيح في عائلة الله؛ بل هم ولدوا في العائلة. فثَمَّة كلمة واحدة فقط في اللغة اليونانيّة معناها ’موضع البنوة.‘ أي أننا نوضع في موضع الأبناء.”
- “هذا المنصب الرفيع في عائلة الله يعطينا شيئًا في يسوع لم يكن لآدم أبدًا. “عندما يسألنا الناس سؤالاً فلسفيًّا عن سبب مُضِيّ الله قُدُمًا في خلق العالم رغم علمه بأنَّ ذلك سيعقبه السقوط، من بين الإجابات التي يمكن أن نقدّمها مبدئيًا أنَّه عيّننا لكرامة أعلى من التي يمنحها لنا الخلق.” ستوت (Stott)
- لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ ٱلَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي ٱلْمَحْبُوبِ: يتم التأكيد على الجانب العلائقي مرَّة أخرى، حيث يصف بولس مكانة المُنعَم عليهم ’خاريتو‘ (charito) أي ’مُفضَّل للغاية‘ أو ’ممتلئ بالنعمة‘ كما في لوقا ٢٨:١) التي تُمنَح لكل مؤمن بفضل نعمة الله.
- لقد كان يسوع مُنعَم عليه من الآب تمامًا. فشخصيّته وكلامه وأعماله كلها كانت مُنعَم عليها ومقبولة عند الله الآب. ونحن الآن مُنعَم عَلَيْنَا فِي ٱلْمَحْبُوبِ.
- لقد أدرك بولس أنَّ هذه الخطّة تمجّد نِعْمَة الله. “بواسطة إعطاء الناموس، ازدادت عدالة الله وقداسته مجدًا؛ أمَّا بواسطة إعطاء الإنجيل، فتصبح نعمته ورحمته مساوية في المجد.” كلارك (Clark). فغالبًا ما يرفض البشر خطّة الله المُعلَنة في الإنجيل لأنّها تمجّد الله ونعمته، لا مجهودات البشر أو إنجازاتهم.
- يقول بروس (Bruce) عن فكرة إنعام (أي قبول) الله بناءً على النعمة: “قد امتدّت نعمة الله إلى شعبه وشملتهم، فجاز لبولس أنْ يقول إنَّه ’أنعم عليهم‘ (مستخدمًا فعلًا مشتقًا من الكلمة اليونانيّة للـ ’نعمة‘).”
- علّق يوحنا فم الذهب عن العمل الذي جعلنا ’مقبولين بِهِ فِي ٱلْمَحْبُوبِ‘ ما يلي: “الأمر أشبه بأن تأخذ أبرصَ وتحوّله إلى شاب جميل.”
ب) الآيات (٧-٨): عمل الله الابن.
٧الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ بِدَمِهِ، غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ، ٨الَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ،
- ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ بِدَمِهِ: المقصود هنا هو محبوب أفسس ٦:١. فِيهِ لنا الفداء، لا في أي مكان آخر. لا يوجد خلاص بعيدًا عن يسوع ودَمِهِ الفادي.
- ٱلْفِدَاءُ ينطوي دائمًا على ثمن يُدفَع مقابل الحرّيّة التي يتم شراؤها. ويستخدم بولس الكلمة اليونانيّة القديمة لوتريئو (lootruo)، التي تعني “التحرير عند استلام فدية.” غايبلَين (Gaebelein). والثمن هنا هو دَمُه، مِمَّا يدلّ على أنَّ البركة من الآب والابن لا تأتي بقرار إلهيّ فقط، لكنَّها تأتي حسب برّه وقداسته أيضًا. فهو لا يستطيع أن يبارك ما يتعارض مع برّه وقداسته.
- يسوع لا يخلّصنا بحياته المنزّهة عن الخطية ولا بمثاله الأخلاقيّ، بل بموته عوضًا عنا فقط. “لاحظوا أنَّ الفداء ليس بواسطة قدرته، بل بواسطة دَمِهِ. والفداء ليس بواسطة محبّته، بل بواسطة دمه.‘ سبيرجن (Spurgeon)
- لا ينبغي أن يكون لنا وجهة نظر خرافية أو صوفية عن ’الدم.‘ فدم يسوع الجسديّ ليس هو ما خلّص البشر، بل تسديده الحقيقيّ والكلي لثمن خطايا البشر في شخصه الكامل على الصليب. وهذا ما يعنيه العهد الجديد عندما يتحدّث عن ’الدم.‘
- حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ: يأتي الفداء والغفران الممنوحان لنا وفقًا لمعايير غِنَى نِعْمَتِهِ. إنه ليس فداءً أو غفرانًا ’صغيرًا‘ ذاك الذي حصل عليه يسوع على الصليب. إنه هائل.
- ٱلَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ: يعتقد الكثيرون أنَّه ليس من الحكمة أن يُغدِق الله هذا الخلاص والغفران على الخطاة المذنبين. لكنَّه وهبنا ذلك بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ.
ج) الآيات (٩-١٢): سرّ مشيئته.
٩إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، ١٠لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ ١١الَّذِي فِيهِ أَيْضًا نِلْنَا نَصِيبًا، مُعَيَّنِينَ سَابِقًا حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ، ١٢لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ.
- إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ: إنَّ معرفة سرّ مشيئته هو جزء ممّا يخصّنا في ظل غِنَى نِعْمَتِهِ، أي أن خطّة الله العظيمة وهدفه الذي كان مخفيًا ذات يوم، تم الإعلان عنه لنا الآن في يسوع. وبواسطة الرسول بولس، دعانا الله إلى النظر في عظمة خطّة الله العظيمة للأزمنة ومكانتنا في تلك الخطّة.
- “بالمعنى الذي يقصده العهد الجديد، السرّ هو شيء مخفي عن الوثنيّ ولكنَّه واضح للمؤمن.” باركلي (Barclay)
- تعني كلمة تَدْبِيرِ أيضًا أن وجود خطّة. “إنها الخطّة التي وضعها رب الأسرة أو وكيله لإدارة الأسرة… وتعني أيضًا خطّة لإدارة أي نوع من الأعمال.” كلارك (Clark)
- لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ، مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلْأَرْضِ، فِي ذَاكَ: خطّة الله النهائيّة هي الجمع – أي حلّ كل الأشياء – في المسيح، إما بواسطة يسوع كمخلص أو يسوع كديّان؛ وسيحدث هذا في مِلْءِ ٱلْأَزْمِنَةِ.
- تحتوي كلمة ’لِيَجْمَعَ‘ على فكرة ’التوحيد‘ أو ’التلخيص.‘ وقد كانت تُستَخدَم للدلالة على عمليّة إضافة عمود من الأرقام ثُمَّ وضع المجموع في الأعلى. إنَّ فكرة بولس هي أنَّ الله ’سيجمع‘ كل الأشياء في النهاية، وهو الآن في سبيله إلى الوصول إلى هذا الحاصل النهائيّ.
- هذا يدلّ على أنَّ الله يريد توحيد كل الأشياء في حياتنا تحت هيمنته. “إنها بدعة من بدع عصرنا أنْ نقسّم الحياة إلى شقّ دينيّ وشقّ دنيويّ.” فولكس (Foulkes)
- هذا هو الحلّ والتحرير العظيمان التي تئنّ الخلقية لهما (رومية ١٨:٨-٢٢)، أي اليوم الذي سيتم فيه تصحيح كل خطأ وحلّ كل مسألة وفقًا لمحبة الله وعدله المُقَدَّسين.
- كتب بروس (Bruce) بخصوص عبارة ’مِلْءِ ٱلْأَزْمِنَةِ‘ ما يلي: “عندما يحين الوقت لاستكمال قصده، سيتم تحقيق هذه الملء في إطار فرض سلطته على مسار العالم بموجب عنايته الإلهيّة.”
- ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضًا نِلْنَا نَصِيبًا: بالنسبة إلى المؤمنين، ليس يسوع ديّانًا، بل هو الذي نرث فيه نصيبنا من الميراث. فالمؤمنون مُعيّنون لذلك حسب رَأْيِ مَشِيئَتِهِ. ومرَّة أخرى، أسباب اختياره متعلّقة به، لا بنا.
- مُعَيَّنِينَ سَابِقًا حَسَبَ قَصْدِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ: نرى ثلاثة جوانب من خطّة الله تعمل معًا. حيث يبدأ الأمر بـقَصْدِه، ثُمَّ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ، وينتهي بــعمله. وقد رسم الله خطته بعناية وفقًا لقصد أبديّ، حيث كان يأخذ المشورة داخل الذات الإلهيّة، ثُمَّ يعمل بكل حكمة.
- “إلهنا هو إله لا يشاء فقط بل يعمل، وهو يعمل حسب مشيئته… فكلمة «رأي» تعني التخطيط والترتيب المتعمدين، حيث يدبّر ويوفّر طرقًا ووسائل لتنفيذ مشيئته.” مورغان (Morgan)
- حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ: “الله يفعل كل شيء برأي مشيئته، ولمشيئته دائمًا أسباب، رغم أننا لا نراها في الوقت الحاضر، إلَّا أننا سنراها في اليوم الأخير. فلتخضعوا إذًا حتّى ذاك الحين.” تراب (Trapp)
- لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ ٱلَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي ٱلْمَسِيحِ: قصد الله في هذا كله هو أنَّ من وثقوا بالمسيح يكونون لِمَدْحِ مَجْدِهِ. فالهدف من خطّة الله النهائيّة هو تمجيده.
- نَحْنُ ٱلَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي ٱلْمَسِيحِ: المقصود بهذه الكلمات المؤمنون اليهود. والكلمتان «أَيْضًا أَنْتُمْ» في أفسس ١٣:١ المقصود بهما المؤمنون الأُمم. فتشتمل خطّة الله العظيمة على مكان لكل من اليهود والأمم، إذ أنَّها تجمعهم في يسوع.
د ) الآيات (١٣-١٤): عمل الروح القُدُس.
١٣الَّذِي فِيهِ أَيْضًا أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ، ١٤الَّذِي هُوَ عُرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ.
- ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضًا أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ ٱلْحَقّ: اختيار الله السيادي سارٍ، لكنَّه لا يستبعد التعاون البشري. أولئك الذين تم اختيارهم هم أيضًا أولئك الذين سمعوا كَلِمَةَ ٱلْحَقِّ وآمَنْوا.
- خُتِمْتُمْ بِرُوحِ ٱلْمَوْعِدِ ٱلْقُدُّوسِ: من الأمور الجوهرية أيضًا في عمل الله ختم الروح القُدُس. فحضوره في حياتنا هو بمثابة ختم دال على الملكية، وهو عُرْبُونُ (أي ضمان) مِيرَاثِنَا.
- “وبالتالي فإنَّ الختم هو الروح القُدُس نفسه، وحضوره في المؤمن يدلّ على الملكية والضمان. فالختم بالروح ليس شعورًا عاطفيًا أو خبرة داخليّة سرّيّة.” غايبلَين (Gaebelein)
- تُستَخدَم كلمة عُرْبُونُ (ضمان) في العهد الجديد عن الروح القُدُس فقط. فهو دفعتنا الأولى الوحيدة للمجد العتيد. الله لم يدبّر أي شيء آخر – ولا حاجة لنا إلى شيء آخر.
- إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ: الختم لا يأتي قبل أن نؤمن، والذين يطلبون تأكيدًا من الله قبل أن يؤمنوا، يعاملون الله كما لو كانت كلمته غير جديرة بالثقة.
- “لا بُدَّ من وجود الشمع المُليَّن لعملية الختم؛ أي بصمة الوجه المحبوب. لعَلَّ الروح يطبع وجه ربّنا الحبيب على قلوبنا التي قد لانت، حتّى تظلّ محتفظة به إلى الأبد!” ماير (Meyer)
- لِفِدَاءِ ٱلْمُقْتَنَى: عندنا هذا الـعُرْبُون (الضمان) إلى حين يفتدينا (يشترينا) الله بالكامل بواسطة القيامة والتمجيد – وكل ذلك، مرَّة أخرى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ.
ثالثًا. بولس يصلّي في ضوء خطّة الله النهائيّة وعمل الإله المثَلَّث الأقانيم
أ ) الآيات (١٥-١٦): بولس يقدِّم صلاة ويرفع الشكر.
١٥لِذلِكَ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ سَمِعْتُ بِإِيمَانِكُمْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتِكُمْ نَحْوَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، ١٦لاَ أَزَالُ شَاكِرًا لأَجْلِكُمْ، ذَاكِرًا إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي.
- إِذْ قَدْ سَمِعْتُ بِإِيمَانِكُمْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتِكُمْ نَحْوَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ: عندما سمع بولس عن إِيمَان ومَحَبَّة أهل أفسس، لم يستطع عمل أي شيء آخر غير أنْ يرفع الشكر لله. وذلك لأنَّ إيمانهم ومحبّتهم كانا دليلًا على مشاركتهم في هذا العمل العظيم لله.
- الإيمان والمحبة لا يُكسِباننا حق المشاركة في هذا العمل العظيم لله. إنَّما هما دليل على مشاركتنا في خطّة الله.
- مَحَبَّتِكُمْ نَحْوَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ: من الجدير بالملاحظة أنَّ بولس شكر ليس على محبّتهم لله، بل على مَحَبَّتِهم نَحْوَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ. إن الدليل الحقيقيّ على عمل الله فينا ليس هو المحبّة التي ندَّعيها نحوه، بل محبّتنا لشعبه التي يستطيع الآخرون رؤيتها (يوحنا الأولى ٢٠:٤، يوحنا ١٤:١٣، ٣٤:١٣-٣٥).
- ذَاكِرًا إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي: لم يقدّم بولس الشكر على عمل الله بين أهل أفسس فقط؛ بل كان يصلّي أيضًا أن يستمر عمله بقوّة أكبر، كما توضّح الصلاة الواردة في أفسس ١٧:١-٢٣.
- يوضّح لنا بولس هنا أنَّ الوعاظ يجب أن يفعلوا أكثر من مُجَرَّد الوعظ لشعبهم – إذ يجب عليهم أيضًا أن يصلّوا من أجلهم. “لن أقرّر إذا كان الخادم ينفع الآخرين أكثر بواسطة صلواته أو بوعظه، ولكنَّه بالتأكيد سيجني بصلواته المزيد من التعزية لنفسه.” تراب (Trapp)
- كان بولس يصلّي كثيرًا ذَاكِرًا الآخرين في الصلاة. وعندما كان يصلّي، كان يذكر المؤمنين في رومية (رومية ٩:١)، والمؤمنين في تسالونيكي (تسالونيكي الأولى ٢:١) وفليمون (فليمون ٤:١).
ب) الآية (١٧): بولس يصلّي أنْ يعرفوا الله.
١٧كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلَهُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَبُو ٱلْمَجْدِ، رُوحَ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْإِعْلَانِ فِي مَعْرِفَتِهِ.
- كَيْ يُعْطِيَكُمْ… رُوحَ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْإِعْلَانِ: صلّى بولس أن يمنح الآب أهل أفسس رُوحَ ٱلْحِكْمَةِ وأن يعطيهم ٱلْإِعْلَان. ولكنَّ الهدف من ذلك ليس أنْ يطّلعوا على خبايا حياة الآخرين أو امتلاك القدرة على التنبؤ بالأحداث أو القيام بما نعتقد عادةً أنَّه ’أشياء نبويّة.‘ إنَّما أرادهم أن يتمتّعوا بـرُوح ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْإِعْلَانِ ببساطة حتّى يتمكنوا من مَعْرِفَتِهِ (أي الله) بصورة أفضل.
- فِي مَعْرِفَتِهِ: يجب أن تتمحوّر حياتنا المسيحيّة حول هذا الهدف: أن نعرف الله على حقيقته، كما كشفت عنه كلمته، وأن نصحح أفكارنا الخاطئة عنه.
- مَعْرِفَتِهِ: من المهمّ بالنسبة إلينا أن نملك معرفة وفهمًا دقيقين عن أنفسنا. بَيْدَ أنَّه من الأهمّ (والأفيد) لنا معرفة وفهم من هو الله.
- كتب كاتب شهير يدعى ألكساندر بوب (Alexander Pope): “اعرف نفسك، ولا تفترض أن يقوم الله بالفحص؛ فالدراسة الصحيحة للبشر تبدأ بالإنسان.” أجاب تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) على هذا القول بتصريح شهير: “قيل إنَّ الدراسة الصحيحة للبشر تبدأ بالإنسان. ولن أعترض على هذه الفكرة، لكنني اعتقد أنَّه يصحّ أيضًا القول بأنّ الدراسة الصحيحة لمختاري الله تبدأ بالله؛ فالدراسة الصحيحة للمؤمن تبدأ بالذات الإلهيّة. إنَّ أسمى العلوم، وأعلى التكهنات، وأقوى الفلسفات التي يمكن أن تشد انتباه ابن لله، هي اسم وطبيعة وشخص وعمل وأفعال ووجود الله العظيم، الذي يسميه أباه.”
- “الفلسفة توصّل للإنسان رسالة مفادها: اعرف نفسك. أمَّا الإنجيل فيواجهه بعبارة أمجد وأفيد: اعرف إلهك.” آلفورد (Alford)
ج) الآيات (١٨-١٩أ): بولس يصلِّي أنْ يفهموا كل ما قدّمه لهم الله في يسوع المسيح.
١٨مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ، ١٩وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ.
- مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ: إنَّ معرفة أهل أفسس لكل ما قد أعطاه الله إياهم في يسوع تتطلّب عملًا خارقًا. فذلك يتطلب أن ينير الله عُيُون أَذْهَانِهم.
- استخدم بولس تعبيرًا رائعًا عندما تحدّث عن عيون قلبكم (هذه هي الترجمة الحرفية لكلمة ذهن). فالكثير من قلوب المسيحيّين ليس لها عيون (أي الوسيلة التي يكتسبون بها المعرفة والفهم الحقيقيّين)، والكثير من عيون المسيحيّين ليس لها قلب. أمَّا الله فيريدهما أن يجتمعا فينا.
- “تشير كلمة «قلب» في الكتاب المُقَدَّس إلى جوهر الحياة ومركزها، حيث يحتلّ العقل مركز المراقبة، وحيث يتم ملء مخازن الخبرة، وحيث تجد الأفكار منبعها.” آلفورد (Alford)
- مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ: أرادهم بولس أن يعرفوا هذا الرجاء. فما من شيء يمنحنا رَجَاءً أكثر ضمانًا وديمومة في الحياة من معرفتنا بأنَّ الله قد دعانا وأنّ عنده دَعْوَة خاصّة لنا علينا تحقيقها.
- رَجَاءُ دَعْوَتِهِ موجَّه نحو المستقبل. فالمؤمن يتمتّع بمستقبل مجيد يتمثّل في القيامة والحياة الأبديّة والتحرُّر من الخطيّة والتبرير الكامل والسموّ المجيد فوق الملائكة أنفسهم.
- وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي ٱلْقِدِّيسِينَ: أرادهم بولس أن يعرفوا عظمة ميراث الله في شعبه. فعادةً ما نفكر في ميراثنا في الله فقط، لكنَّ بولس أراد أن يفهم أهل أفسس أنهم أعزّاء جدًّا عند الله إلى درجة أنَّه اعتبرهم مِيرَاثَهُ الخاصّ.
- يعتقد مفسّرون كثيرون أنَّ بولس تحدّث أيضًا عن ميراث الله في شعبه في أفسس ١١:١. ولكنَّ هذه بالتأكيد هي فكرته هنا، ورُبَّما استمد بولس فكرته من تثنية ٨:٣٢-٩ “حِينَ قَسَمَ ٱلْعَلِيُّ لِلْأُمَمِ، حِينَ فَرَّقَ بَنِي آدَمَ، نَصَبَ تُخُومًا لِشُعُوبٍ حَسَبَ عَدَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. إِنَّ قِسْمَ ٱلرَّبِّ هُوَ شَعْبُهُ. يَعْقُوبُ حَبْلُ نَصِيبِهِ.”
- إذ نعرف فقرنا الروحيّ، نتساءل كيف يمكن لله أن يجد أي ميراث في القِدّيسين. بَيْدَ أنَّ لله قادر أن يخلق الغنى من الرجال والنساء الفقراء لأنَّه يستثمر فيهم الكثير جدًّا. فقد استثمر غنى المحبّة وغِنى الحكمة وغِنى التألُّم وغِنى المجد. وهذه الأشياء تؤدّي إلى ميراث غنيّ في القِدّيسين.
- وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ ٱلْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ ٱلْمُؤْمِنِينَ: أرادهم بولس أن يعرفوا مدى قوة (قُدْرَة) الله نَحْوَنَا نَحْنُ ٱلْمُؤْمِنِينَ. فيجب أن يعرف المؤمنون أنَّهم يخدمون ويحبون إلهًا يملك القوة ويستخدمها لمصلحة شعبه.
- لا يعرف الكثيرون من المؤمنين هذه القوة – أو يعرفونها عن بُعد فقط. ولكنَّ الله يريد أن تكون حياة القيامة واقعًا حقيقيًّا في حياة المؤمن. “إن نفس القوة التي أقامت المسيح تنتظر أن تقيم السكّير من سكره واللص من عدم الأمانة والفريسيّ من برّه الذاتيّ والصدوقيين من عدم إيمانهم.” سبيرجن (Spurgeon)
- هذا ينهي الجزء ’الطلبيّ‘ من صلاة بولس. أمَّا القسم التالي فيشرح المزيد من هذه القدرة العظيمة وماذا فعلت. فقد طلب بولس هذه الأمور لأنَّها كانت مهمّة. ويمكننا القول إنَّ الصلاة في أفسس ١٧:١-١٩ هي في جوهرها طلب بأن تتحقّق الوعود المذكورة في أفسس ٣:١-١٤ في حياة مؤمني أفسس.
- وبالطريقة نفسها، صلاتك من أجل النمو الروحيّ واستنارة الآخرين مهمّة. فإن اعتقد بولس أنَّه من المهمّ أن يطلب هذه الأشياء من أجل مؤمني أفسس، فمن المهمّ لنا أن نطلبها من أجل الآخرين ومن أجل أنفسنا.
د ) الآيات (١٩ب-٢١): وصف لقدرة الله العظيمة التي يريد بولس أن يعرفها أهل أفسس.
١٩… حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ ٢٠الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ، ٢١ فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ اسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هذَا الدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا.
- حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ: إنَّ القوّة التي تعمل فينا هي شِدَّةِ قُوَّتِهِ التي أقامت يسوع مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ. ومع هذه القوّة المتاحة لنا، لا يجب أن يكون هناك ’نقص في القوّة‘ في الحياة المسيحيّة.
- “إن كان موت المسيح هو أسمى إظهار لمحبة الله… فإنَّ قيامة المسيح هي أسمى إظهار لقوته.” بروس (Bruce)
- وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ: إنَّها القوّة التي رفعت يسوع إلى السماء بعد قيامته، رفعته فوق كل الأعداء من الشيطانيين وكل عدو محتمل مدى الدهر – هذه القوّة نفسها تعمل في المؤمنين.
- “أَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ تعني الصداقة والشرف والثقة والسلطة.” كلارك (Clark)
- فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ: من مقاطع أخرى في أفسس (أفسس ١٠:٣ ١٢:٦) نعلم أنَّ هذه إشارة إلى كائنات ملائكية، الوَفِيّة منها والقاتلة. نحن لا نفهم تمامًا رتب العالم الملائكي، لكننا نعلم أنَّ يسوع قد رُفِع فوقهم. “نحن نعلم أن الملك هو فوق كل شيء، رغم أننا لا نستطيع تسمية جميع ضباط بلاطه. ومن ثَمَّ نعرف أنَّ المسيح هو فوق كل شيء، رغم أننا غير قادرين على تسمية جميع رعاياه.” آلفورد (Alford)
- “فكّروا في المفارقة. يتحدّث الرسول عن شخصيّة تاريخية مهمّة، من التاريخ الحديث والمعاصر تقريبًا… لقد عمل هذا الشخص بيديه، وكان يمشي من مكان إلى آخر مثل غيره من الناس، ولا شكّ أن هناك من يستطيع وصف شكله وطريقة كلامه… إنَّما هو الآن جالس عن يمين الله القدير، على عرشه.” موول (Moule)
هـ) الآيات (٢٢-٢٣): أين وضعت هذه القوّة يسوعَ.
٢٢وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، ٢٣الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ.
- وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ: وضعت قوّة القيامة العظيمة يسوعَ فوق كل شيء. فالآن كل شيء تَحْتَ قَدَمَيْهِ. لقد وضعت يسوع رأسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، بما في ذلك الكنيسة.
- “إنَّه يقول إنَّ المسيح في رِفعته فوق الكون هو عطية الله للكنيسة.” وود (Wood)
- لِلْكَنِيسَةِ، ٱلَّتِي هِيَ جَسَدُهُ: إن كان يسوع هو الرأس، فإنَّ جماعة المؤمنين تشكّل جَسَدهُ. ورُبَّما ترتبط فكرة مِلْء ٱلَّذِي يَمْلَأُ ٱلْكُلَّ هنا بالطريقة التي يملأ بها يسوع كنيسته بحضوره وبركاته.
- “نعم، يُقدَّم هذا هنا باعتباره المجد الأخير للمسيح الممجَّد بلا حدود. فالملائكة ورؤساء الملائكة يخضعون له. ولكنَّ المؤمنين متّحدون به اتّحادًا. وهذا جعل الرسول نفسه يدعوهم في موضع آخر (كورنثوس الأولى ١٢:١٢) «مسيحًا» واحدًا.” موول (Moule)