تفسير رسالة غلاطيّة – الإصحاح ١
التصدّي للإنجيل الآخر
أوَّلاً. مقدّمة لرسالة الرسول بولس إلى أهل غلاطيّة
أ ) الآيات (١-٢): الكاتب والقُرّاء
١بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ وَاللهِ الآبِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، ٢وَجَمِيعُ الإِخْوَةِ الَّذِينَ مَعِي، إِلَى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ:
- بُولُسُ: لا جدال في تأليف الرسول بولس لهذه الرسالة الرائعة، حتّى من قِبَل العلماء المتشكّكين.
- لقد أُطلِق على رسالة غلاطيّة ’إعلان استقلال الحرّيّة المسيحيّة.‘ وقد أحب المصلح العظيم مارتن لوثر هذه الرسالة بشكل خاصّ؛ إذ دعا غلاطيّة ’كاثرين فون بورا‘ على اسم زوجته، لقوله: ’أنا متزوِّج بها.‘ كتب ليون موريس (Leon Morris): “رسالة غلاطيّة رسالة عاطفية. وهي عبارة عن تدفّق لمشاعر واعظ مشاعره متأجّجة نحو سيده قد تعهّد بكلّ جوانحه أن يشرح لمستمعيه معنى الإيمان المخلِّص.”
- يعتقد الكثير من العلماء أنَّ غلاطيّة قد كُتِبَت في أواخر الأربعينيات أو أوائل الخمسينيات من القرن الأوَّل. وهم كثيرًا ما يحدّدون عام ٥٠ كتاريخ تقريبيّ. إذ يبدو أنَّ بولس كتب هذه الرسالة قبل مجمع أورشليم المذكور في أعمال الرسل ١٥، لأنَّه على الرغم من ذكره عدة رحلات إلى أورشليم، إلاَّ إنَّه لا يذكر المجمع. ونظرًا لأن مجمع أورشليم في أعمال الرسل ١٥ يتناول القضايا الدقيقة التي يكتب عنها بولس، فإنه يبدو غريبًا، إذا كان المجمع قد أقيم بالفعل، أنْ لا يذكر الرسول شيئًا عنه. فإن صحَّ أنَّ غلاطيّة كُتِبَت حوالي عام ٥٠، لكان بولس قد آمن بالمسيح من قبلها بحوالي ١٥ عامًا، حيث أنَّه آمن وهو في الطريق إلى دمشق حوالي عام ٣٥.
- بُولُسُ، رَسُولٌ: هذا التركيز على أوراق اعتماد بولس الرسوليّة مهمّ. كان بولس قد أعدّ كلامًا شديد اللهجة لهؤلاء الغلاطيّين، وكان عليهم أن يفهموا أنَّه يكتب بسلطان؛ نعم، بسلطان رسوليّ. وكان بولس يتوقّع أن يحترم المؤمنون سلطته كرَسُول ليسوع المسيح.
- “كلمة «رسول» كما يستخدمها بولس هنا، لا تشير إلى من لديه رسالة يُعلِن عنها فقط، ولكن إلى ممثِّل معيَّن له وضع رسمي ويملك وثائق تفويض تدعم منصبه.” ويست (Wuest)
- من واجبنا نحن أيضاً احترام سلطة بولس كرسول. ونحن نفعل هذا بأن نعتبر هذه الرسالة القديمة كلمة الله، وبأخذها على محمل الجد.
- لَا مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَٱللهِ ٱلْآبِ: إنَّ دعوة بولس كرسول لم تكن مِنَ ٱلنَّاسِ، ولا بِإِنْسَانٍ (من خلال إنسان). فليس مصدرها البشر ولم تحدث بواسطة بشريّة. إنَّما مصدرها الله وجاءت مباشرةً من الله. ولم يكن مقامه كرسول يعتمد على استطلاعات الآراء، كما لم يصدر عن أي مجلس شورى بشريّ، بل يستند إلى دعوة إلهيّة، صادرة عن الآب والابن على السواء.
- “إن نفي بولس الصريح هذا سببه التهمة التالية: بولس ليس رسولًا حقيقيًّا لأنَّه لم يكن أحد الاثني عشر.” روبرتسون (Robertson)
- “عندما كنت شابًا، كنت أعتقد أنَّ بولس كان يرفع من شأن دعوته كثيرًا. فأنا لم أفهم هدفه. ولم أدرك حينئذٍ أهمّيّة الخدمة… إننا نعظّم دعوتنا، لا بغرض كسب المجد بين الناس أو المال أو الرضا أو المحاباة، ولكن لأنّ الناس يحتاجون إلى التأكّد من أنَّ الكلام الذي نقوله هو كلام الله. وهذا ليس افتخار باطل، بل هو افتخار مقدَّس.” مارتن لوثر (Martin Luther)
- وَجَمِيعُ ٱلْإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ مَعِي: أبلغ بولس التحية من جَمِيعُ ٱلْإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ مَعه، لكن استخدامه ضمير المتكلّم في هذه الرسالة (كما في غلاطيّة ٦:١) يدلّ على أنَّ الرسالة لم تكن ’مجهودًا جماعيًّا‘ مشتركًا بين بولس وزملائه. بل كتب بولس هذه الرسالة وحده وأرسل تحيات من أصدقائه على سبيل المجاملة.
- إِلَى كَنَائِسِ غَلَاطِيَّةَ: لم تُكتَب هذه الرسالة إلى كنيسة واحدة في مدينة واحدة. على سبيل المثال، رسالة تسالونيكي الأولى كانت موجَّهة إلى كنيسة تسالونيكي (تسالونيكي الأولى ١:١). لكنَّ هذه الرسالة قد وُجِّهَت إلى كَنَائِسِ غَلَاطِيَّةَ، لأنّ غَلَاطِيَّةَ كانت منطقة وليست مدينة، وكان هناك العديد من الكنائس في مدن غَلَاطِيَّةَ.
- “خلال القرن الثالث قبل الميلاد، نزحت بعض الشعوب الكِلتيّة (أو الغاليّة) إلى هذه المنطقة، وبعد قتال مع الشعوب الذين صادفوهم، استقرّوا في الجزء الشمالي من آسيا الصغرى. وبمرور الوقت، دخلوا في صراع مع الرومان، الذين هزموهم، فظلّوا منذ ذلك الحين تحت سلطة الرومان كمملكة تابعة. فأُطلِق اسم ’غلاطيّة‘ على الأراضي التي استوطنها الغاليّون.” موريس (Morris)
- كانت هناك منطقتان أساسيّتان في غلاطيّة، واحدة إلى الشمال (تشمل مدن بيسينُس وأنكيرا وتافيوم) وواحدة إلى الجنوب (تشمل مدن أَنْطَاكِيَة بِيسِيدِيَّة وإِيقُونِيَة ولِسترَة ودَربَة). وكان هناك جدل كبير – وإن كان غير مهم في الغالب – حول ما إذا كانت رسالة غلاطيّة قد كُتِبَت إلى مدن المنطقة الشمالية أو المنطقة الجنوبية.
- “من الواضح أنَّ بولس كان ينوي أنْ تُتداوَل رسالته على نطاق واسع في منطقة غلاطيّة. بحيث يتم تناقلها في كل مركز حضاريّ وقراءتها هناك، أو يتم عمل نسخ متعددة وأخذها إلى كل كنيسة.” موريس (Morris)
- غَلَاطِيَّةَ: ذهب بولس إلى جنوب غلاطيّة في أول رحلة تبشيرية له (أعمال الرسل ١٣:١٣- ٢٣:١٤) ومرّ بغلاطيّة الشمالية في رحلته الثانية (أعمال الرسل ٦:١٦) والثالثة (أعمال الرسل ٢٣:١٨).
- في النهاية، لا يهم حقًّا إذا كانت الرسالة قد كتبت إلى المناطق الشمالية أو الجنوبية من غلاطيّة. فقد لا نستطيع الوقوف على الحقيقة وهذا لا يهمّ حقًّا، لأنّ مضمون الرسالة يناسب كل مؤمن مسيحيّ. صحيح أنَّ الجدل حول شمال غلاطيّة وجنوب غلاطيّة يثير اهتمام العلماء ويُضفِي بعض الفهم على هذه الرسالة، ولكن ليس بقدر كبير.
ب) الآيات (٣-٥): بولس يُرسل تحياته الرسوليّة.
٣نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ الآبِ، وَمِنْ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، ٤الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا، لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ حَسَبَ إِرَادَةِ اللهِ وَأَبِينَا، ٥الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ.
- نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلَامٌ: كانت تحية بولس المألوفة مستمدة من التحيات التقليدية في كل من الثقافة اليونانيّة (نِعْمَةٌ) والثقافة اليهوديّة (سَلَامٌ). وقد استخدم بولس هذه العبارة خمس مرّات في العهد الجديد.
- استخدم بولس كلمة النعمة أكثر من ١٠٠ مرَّة في كتاباته. أمَّا باقي كُتّاب العهد الجديد فيستخدمونها ٥٥ مرَّة فقط. كان بولس حقًّا رسول النعمة.
- “يمثّل هذان المصطلحان، النعمة والسلام، المسيحيّة.” مارتن لوثر (Martin Luther)
- ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لِأَجْلِ خَطَايَانَا: تمنّى بولس النعمة والسلام لقُرّائه من كلٍّ من الله الآب والله الابن. وبعد قليل سيستطرد بولس الحديث عن عمل الله الابن، رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. وأوَّل ما كتبه عن يسوع هو أنَّه بَذَلَ نَفْسَهُ لِأَجْلِ خَطَايَانَا.
- “يشير بولس على مدار رسالته إلى أهل غلاطيّة إلى مركزيّة الصليب. إنَّه لا يستطيع الانتظار لإيضاح هذا الأمر، ونجده يشير إليه في الجملة الأولى.” موريس (Morris)
- بَذَلَ. نعلم من يوحنا ١٦:٣ أنَّ الله الآب أحبّ العالم حتّى أنَّه بذل ابنه الوحيد. لكنَّ الله الآب ليس هو الوحيد الذي بَذَلَ. فيسوع قد بَذَلَ أيضًا. يسوع إله مُحِبّ ومُعطي، ومُخلِّص مُحِبّ ومُعطي.
- بذل يسوع أعظم شيء يمكن لأي شخص أن يبذله – بذل نَفْسَهُ. يمكن للمرء أن يتجادل ما إذا كان الآب قد بذل (أعطى) الابن (كما في يوحنا ١٦:٣) أو أنَّ الابن قد بذل نَفْسَهُ. وهذا يشبه الجدال حول عدد الملائكة الذين يمكنهم الرقص على رأس دبوس. فقد قدّم يسوع أعظم عطية ممكنة؛ أعطى نَفْسَهُ. يجوز لنا القول إنَّ العطاء أو البذل الحقيقيّ يبدأ حين نبذل أنفسنا.
- قد بذل يسوع نفسه لِأَجْلِ خَطَايَانَا. لهذا السبب كان على يسوع أن يبذل نفسه. فخَطَايَانَا قد وضعتنا على طريق الخراب والدمار. وإن لم يفعل الله شيئًا ليخلّصنا، فإن خَطَايَانَا ستدمرنا. فبدافع المحبّة، بَذَلَ يسوع نَفْسَهُ لِأَجْلِ خَطَايَانَا! كانت المحبّة موجودة دائمًا، لكن لم تكن هناك حاجة إلى أن يبذل يسوع نفسه لو أنَّ خطايانا لم تدفع بنا إلى طريق الهلاك.
- “عبارة ’ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لِأَجْلِ خَطَايَانَا‘ مهمّة للغاية. لقد أراد بولس أن يخبر أهل غلاطيّة مباشرةً بأن التكفير عن الخطايا والبرّ التامّ لا يوجد إلَّا في المسيح… فما أمجد هذا الفداء الذي يخلب ألبابنا.” كالفن (Calvin)
- لِيُنْقِذَنَا مِنَ ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ ٱلشِّرِّيرِ: هذا يفسّر لماذا بذل يسوع نفسه من أجل خطايانا. ففي نواحٍ كثيرة، جاهد أهل غلاطيّة مع هذا ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ ٱلشِّرِّيرِ وخسروا في بعض الأحيان. فاحتاجوا أنْ يعرفوا أنَّ يسوع قد جاء لينجّيهم مِنَ هذا ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ ٱلشِّرِّيرِ.
- الفكرة وراء كلمة «ينقذنا» ليست النجاة من وجودنا في شيء ما، بل النجاة من قوّة هذا الشيء. فإننا لن نُنقَذ من وجودنا في هذا ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ ٱلشِّرِّيرِ حتّى نمضي لنكون مع يسوع. ولكننا نستطيع أن ننجو من قوّة هذا ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ ٱلشِّرِّيرِ في الوقت الحاضر.
- حَسَبَ إِرَادَةِ ٱللهِ وَأَبِينَا، ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَجْدُ إِلَى أَبَدِ ٱلْآبِدِينَ: إن الغرض من هذا العمل الخلاصيّ ليس إفادة الإنسان في المقام الأوَّل (رغم أن هذا جزء من الهدف). بل إنَّ الهدف الأساسيّ هو تمجيد الله الآب.
- كان التعليم الخاطئ مشكلة حقيقيّة بين كنائس غلاطيّة، وقد سلبت تعاليمهم الخاطئة الله بعض المجد الواجب له. لهذا شدد بولس على مجد الله وخطته، لأنه كان يأمل في وضع أهل غلاطيّة على جادّة الصواب.
ثانيًا. خطورة الإنجيل الآخر
أ ) الآية (٦): دهشة بولس.
٦إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعًا عَنِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ ٱلْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ!
- إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعًا: بدا بولس مندهشًا، ليس لأنهم انتقلوا (كان هذا سيزعجه ولكن ما كان ليُدهِشه)، بل لأنهم كانوا يبتعدون هَكَذَا سَرِيعًا.
- تنقص هنا عبارات الشكر أو التسبيح التي كثيرًا ما كان بولس يكتبها في بداية رسائله. فرسائله إلى أهل رومية ٨:١-١٥ و كورنثوس الأولى ٤:١-٩ و فيلبّي ٣:١-١١ و كولوسي ٣:١-٨ وتسالونيكي الأولى ٢:١-١٠ كلها أمثلة على شكر بولس ومدحه للكنائس في كلماته الافتتاحية. لكنَّه لم يفعل هذا مع أهل غلاطيّة، وهذا الأسلوب الصريح في مخاطبتهم يدلّ على جسامة مشكلتهم.
- “هذه هي المَرَّة الوحيدة التي يغفل فيها القِدّيس بولس التعبير عن شكره عند مخاطبة أي كنيسة.” لايتفوت (Lightfoot)
- عَنِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ ٱلْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ: كانوا يبتعدون عن شخص (عَنِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ) حين تحوّلوا إلى فكرة خاطئة (إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ). إن الابتعاد عن الإنجيل الحقيقيّ يعني دائمًا الابتعاد عن شخص يسوع المسيح.
- تربط عبارة عَنِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ ٱلْمَسِيحِ تحوُّلهم أيضًا بالابتعاد عن مبدأ النعمة. فمهما كانت الوجهة التي يتحوّل إليها الغلاطيّون، فإنهم كان يبتعدون عن نعمة الله، وليس تجاهها.
ب) الآية (٧): ثلاث حقائق عن هذا الإنجيل الآخر المُقدَّم إلى أهل غلاطيّة.
٧لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ ٱلْمَسِيحِ.
- هُوَ: تخبرنا غلاطيّة ٧:١ ثلاثة أشياء عن هذا الإنجيل الآخر. أوّلًا، أنَّه إنجيل غير شرعيّ (لَيْسَ هُوَ آخَرَ). ثانيًا، لم يكن جيدًا على الإطلاق، بل سبّب الإزعاج (يُزْعِجُونَكُمْ). ثالثًا، كان تشويهًا للإنجيل الحقيقيّ (يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ ٱلْمَسِيحِ).
- لَيْسَ هُوَ آخَرَ: لقد أدرك بولس أن هذا الإنجيل المختلف لم يكن في الحقيقة إنجيلًا آخَرَ على الإطلاق. فرُبَّما قال أولئك الذين يروّجون لهذا الإنجيل المختلف: “نحن نعلم أنَّ رسالتنا مختلفة عن رسالة بولس. هو يملك الحق، وكذلك نحن أيضاً. هو لديه إنجيله، ونحن لدينا إنجيلنا.” ولكن رفض بولس فكرة أنَّ رسالتهم هي إنجيل شرعيّ بديل بأي شكل من الأشكال.
- كلمة ’إِنْجِيل‘ تعني حرفيًّا ’أخبار سارة.‘ فبولس يقصد: ’لا يوجد خبر سار في هذه الرسالة. إنَّها مُجرَّد أخبار سيئة، لذا فهي في الحقيقة ليست ’أخبار سارة مختلفة.‘ إنَّها أخبار سيئة. هذا ليس إنجيلًا آخر على الإطلاق.‘
- هناك فرق في الأصل اليوناني بين كلمة «آخر» هنا وكلمة «آخر» في الآية السابقة. فالكلمة الواردة في الآية السابقة تعني «مختلف»، فالأصل يقول: … إنجيل أو بشارة مختلفة تماماً. وكأنّ بولس يقول: “لقد عرضوا عليكم إنجيلاً مختلفًا تمامًا. وهم يزعمون أنَّه مُجرَّد إنجيل بديل من نفس النوع، لكنَّه ليس كذلك على الإطلاق. إنَّه مختلف شكلاً وموضوعًا.”
- يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ: أولئك الذين أحضروا هذا الإنجيل الآخر إلى أهل غلاطيّة جلبوا لهم المتاعب. إنَّهم لم يعلنوا عن رسالتهم على أنَّها سبب إزعاج، لكنَّها كانت كذلك بالفعل.
- معنى يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ أنَّ أحدًا أحضر هذا الإنجيل الزائف إلى أهل غلاطيّة. الأناجيل الزائفة لا تحدث من تلقاء ذاتها، بل يحضرها الناس، وقد يكون هؤلاء الناس الذين يحضرونها نيّتهم صافية ويتمتّعون بجاذبيّة كبيرة.
- “لاحظ مكر الشيطان. فالمهرطقون لا يعلنون عن بِدَعهم. والقتلة والزناة واللصوص يتنكّرون. لذا الشيطان يتستّر على كل هذه الحيل والألاعيب. فيتسربل باللون الأبيض ليظهر بمظهر ملاك نور.” مارتن لوثر (Martin Luther)
- وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ ٱلْمَسِيحِ: كان الإنجيل الآخر في الحقيقة تحريفًا أو تشويهًا لإنجيل يسوع المسيح الحقيقيّ. فهو لم يبدأ من لا شيء ولم يُطلِق على الله اسمًا جديدًا ويَدَّعِ بأنه يعلن عن مُخلِّص جديد. إنَّما استخدم الأسماء والأفكار المألوفة لدى المؤمنين في غلاطيّة، مع تحويل الأفكار قليلًا لجعل رسالتها أكثر تضليلاً.
- إِنْجِيلَ ٱلْمَسِيحِ: لاحظ أنَّ بولس لا يدافع عن الإنجيل لأنه إنجيله، رغم أنَّه كان إنجيله أيضًا، لكنه كان يدافع عنه لأنه في الواقع إِنْجِيلَ ٱلْمَسِيحِ يسوع ويستحقّ الدفاع والقتال عنه.
- يُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ ٱلْمَسِيحِ: كتب بولس بوضوح أنّ هؤلاء الناس يريدون تشويه بشارة يسوع السارة. وقد يصعب علينا أحيانًا فهم سبب رغبة بعض الناس في أنْ يُشوَّهِوا إِنْجِيلَ ٱلْمَسِيحِ.
- هناك شيء في رسالة الإنجيل الحقيقيّ يسيء بشدَّة للطبيعة البشريّة. ولفهم ذلك، علينا أوّلًا أن نفهم ماهي الإنجيل الحقيقيّ. وقد بيّن بولس إنجيله بإيجاز شديد في كورنثوس الأولى ١:١٥-٤. إنَّ رسالة الإنجيل هي ما فعله يسوع على الصليب من أجلنا وأعلنه الكتاب المُقَدَّس وأثبتتها القيامة.
- عندما نفهم مدى إساءة الإنجيل الحقيقيّ للطبيعة البشريّة، فإننا نفهم بشكل أفضل سبب رغبة بعض الناس في تحريفه.
- الإنجيل يسيء إلى كبريائنا. فهو يخبرنا بأننا نحتاج إلى مُخلِّص، وأننا عاجزون عن تخليص أنفسنا. فهو لا ينسب إلينا أي فضل على الإطلاق في خلاص أنفسنا؛ إنّما ينسبه كله إلى عمل يسوع من أجلنا.
- الإنجيل يسيء إلى حكمتنا. إنَّه يخلِّصنا بشيء يعتبره الكثيرون حماقة – أي أن يتأنِّس الله ويموت موتًا مهينًا ومشينًا نيابةً عنا.
- ثالثًا، الإنجيل يسيء إلى معرفتنا. إنَّه يأمرنا بأن نصدّق شيئًا يتعارض مع المعرفة العلمية والتجربة الشخصيّة – إنسان مات، أي يسوع المسيح، ثم قام من بين الأموات بجسد جديد مجيد لن يموت أبدًا مرَّة أخرى.
ج) الآيات (٨-٩): لعنة الله على مَن يقدّمون إنجيلاً كاذبًا.
٨وَلَكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلَاكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»! ٩كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ ٱلْآنَ أَيْضًا: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»!
- وَلَكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلَاكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ: لم يهمّ بولس بمَن ينادي بالإنجيل الزائف. فحتّى لو كان هو نفسه أو مَلَاكًا مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يجب رفضه تماماً. إنَّ أي شخص ينشر إنجيلاً كاذبًا لا يستحقّ إلَّا لعنة خاصّة من الله (فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»).
- فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»: يبدو أنَّ بولس كان يفكّر في اللعنات الإلهيّة التي أعلنها الله على الذين يخالفون عهده (تثنية 27). فبالنسبة إلى بولس، لم يكفِ القول: ’لا تستمعوا إلى هؤلاء الناس.‘ بل رأى بولس بجديّة أنَّه يجب لعنهم.
- أَقُولُ ٱلْآنَ أَيْضًا: تكرّرت كلمة أَنَاثِيمَا لمزيد من التأكيد. فمن المستحيل حقًّا أن يعبّر بولس عن هذه الفكرة بقوّة أشدّ مِمَّا عبّر بها هنا.
- قد يكون من الإنصاف أن نسأل: ’أين كانت محبّة بولس؟‘ فقد صلى بأن تنزل على أولئك الذين نشروا إنجيلًا كاذبًا ’لعنة مزدوجة.‘ إنَّه لم يطلب من الله أن يلعن الرسالة فقط، بل أن يلعن الناس الذين ينشرون الرسالة. فأين كانت محبّة بولس إذن؟ كانت نحو النفوس المُعرَّضة لخطر الجحيم. فالإنجيل الكاذب لا يمكنه أن يخلص الخطاة. فقد نظر بولس إلى هذا الإنجيل الكاذب المُحرَّف وقال: “هذه سفينة إنقاذ على وشك الغرق! ولا يمكنها أن تنقذ أحدًا! فأريد أن أبذل قصارى جهدي أمام الله لتحذير الناس من هذه السفينة المُهلِكة.”
ثالثًا. المصدر الإلهيّ للإنجيل الذي كان بولس يبشّر به
أ ) الآية (١٠): لم يصدر إنجيل بولس عن الرغبة في إرضاء الناس.
١٠أَفَأَسْتَعْطِفُ ٱلْآنَ ٱلنَّاسَ أَمِ ٱللهَ؟ أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ ٱلنَّاسَ؟ فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي ٱلنَّاسَ، لَمْ أَكُنْ عَبْدًا لِلْمَسِيحِ.
- أَفَأَسْتَعْطِفُ ٱلْآنَ ٱلنَّاسَ أَمِ ٱللهَ؟ لم تكن فكرة بولس: “إني أريد أن أربح تأييد أو أَسْتَعْطِفُ الله.” إنَّما الفكرة هي أنّ بولس اعتبر الله جمهوره. فعندما تكلّم، تحدث أوّلًا إلى الله، لا إلى الناس.
- أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ ٱلنَّاسَ؟ كان واجب بولس الأوَّل هو إرضاء الله لا أَنْ يُرْضِيَ ٱلنَّاسَ. فهو قد رفض صياغة رسالته بحيث ترضي جمهوره، وإنما كان أكثر اهتمامًا بإرضاء الله.
- على الرغم من عدم ذكر ذلك على وجه التحديد، فإننا نشعر بأنّ بولس يقارن بينه وبين أولئك الذين قدّموا الإنجيل الآخر. إذ يبدو أن الإنجيل الآخر كان يدور حول فكرة إرضاء الناس.
- “كان هناك دائمًا وعّاظ يسعون إلى الحصول على استحسان الجماهير أكثر من أي شيء، ولا يزال البعض يفعلون ذلك. فهذا جزء من الطبيعة البشريّة الساقطة، حتّى إنَّ القائمين على المناداة بالإنجيل قد يقعون في الفخ فيحاولون كسب تأييد الجماهير على حساب الأمانة في توصيل الحقّ.” موريس (Morris)
- فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي ٱلنَّاسَ، لَمْ أَكُنْ عَبْدًا لِلْمَسِيحِ: بالنسبة إلى بولس، إمّا أنْ يكون هكذا أو هكذا. فهو لم يستطع توجيه خدمته نحو إرضاء الناس وفي الوقت نفسه نحو إرضاء يسوع المسيح. وإن لم يهتمّ بأن يرضي يسوع المسيح أوَّلا، فهو لم يعد عَبْدًا لِلْمَسِيحِ.
- “من المؤسف أنَّنا لا نفهم جيداً معنى كلمة ’عبد‘ وبالتالي نملك تصوّرًا خاطئًا عن «الخدمة» (وكأنها شيء تطوّعيّ وجزئي) يميّز المثالية الدينية الحديثة. ولكن العبد الحقيقي للمسيح لا يملك الحرية في أن يخدم متى يشاء، فحياته ليست له، بل تخصّ سيّده بالكامل.” (دنكان Duncan، بحسب اقتباس موريس Morris)
ب) الآيات (١١-١٢): المصدر الإلهيّ لإنجيل بولس.
١١وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ ٱلْإِنْجِيلَ ٱلَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. ١٢لِأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلَا عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.
- ٱلْإِنْجِيلَ ٱلَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ: “يلعب بولس بالألفاظ عندما يقول: «البشارة التي بشّرتكم بها».” موريس (Morris)
- لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ: على عكس الإنجيل الآخر الذي جاء به الآخرون، كانت رسالة بولس وحيًا من الله. فلم تكن رسالة بولس محاولة بشريّة للوصول إلى الله وفهمه؛ بل هي مجهود بذله الله الذي تنازل وتواصل مع البشر.
- قد يعلّمنا البشر العديد من الأشياء الجميلة، لكنَّ وحي الله عنده «كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَٱلتَّقْوَى» (بطرس الثانية ٣:١). والآن أكثر من أي وقت مضى، لا يحتاج العالم إلى نصيحة وحكمة الإنسان الجيّدة، بل إلى وحي من الله.
- لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلَا عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: كانت علاقة بولس الخاصّة بهذا الإنجيل فريدة من نوعها. فغالبية الناس يسمعون الإنجيل من شخص آخر؛ فهذه طريقة الله الأكثر شيوعًا لتوصيل الإنجيل ( رومية ١٤:١٠-١٥). ولكنَّ حالة بولس كانت مختلفة تماماً، إذ تلقّى الإنجيل بِإِعْلَان مثير ومباشر عندما قابل يسوع على الطريق إلى دمشق.
- يصف أعمال الرسل ١:٩-٩ هذه الحادثة الرائعة: كلّم الربّ يسوع بولسَ مباشرة وهو في الطريق إلى دمشق، ثم أمضى بولس ثلاثة أيام دون أن يُبصِر قبل أن يتقابل مع مؤمن اسمه حنانيا. رُبَّما أعلّن يسوع إنجيله لبولس أثناء هذا الوقت – سواء وهو في الطريق أو خلال الأيام الثلاثة. ولكن من المؤكَّد أنَّ بولس سمع بالإنجيل مباشرة، لأنَّه آمن وبدأ على الفور في توصيل الرسالة التي بلّغه به يسوع (أعمال الرسل ٢٠:٩-٢٢).
- “لم يتلقَّ بولس أوامر من حنانيا. بل كان قد نال الدعوة بالفعل واستنار وتعلّم على يدي المسيح في الطريق. كان اتّصاله بحنانيا مُجرَّد شهادة على أنَّ بولس قد دُعِيَ من قِبَل المسيح للتبشير بالإنجيل.” لوثر (Luther)
ج) الآيات (١٣-٢٤): بولس يثبت أنَّ رسالته ليست من مصدر بشريّ.
١٣فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلاً فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا. ١٤وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي. ١٥وَلكِنْ لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ ١٦أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْمًا وَدَمًا ١٧وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضًا إِلَى دِمَشْقَ. ١٨ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. ١٩وَلكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ. ٢٠وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ. ٢١وَبَعْدَ ذلِكَ جِئْتُ إِلَى أَقَالِيمِ سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ. ٢٢وَلكِنَّنِي كُنْتُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ. ٢٣غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ: « أَنَّ الَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلاً، يُبَشِّرُ الآنَ بِالإِيمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلاً يُتْلِفُهُ». ٢٤فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللهَ فِيَّ.
- فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ: يبدو أنّ الجميع قد سمعوا كيف جاء بولس إلى الربّ. وكانت قصّة بولس مألوفة عند المؤمنين بشكل عامّ، وعند مَن خدمهم بشكل خاصّ. يمكننا الثقة بأنَّه إذا كان بولس بين مجموعة من الناس لفترة من الوقت وبشّر بالإنجيل لهم، فلن يمرّ وقت طويل حتّى يخبرهم باختباره الشخصيّ.
- لا تقتصر قيمة الاختبار الشخصيّ على أصحاب قصّة إيمان مثيرة مثل بولس. بل يمكننا أن نرى مجد عمل الله بنفس القدر فيمن يعتقدون أنَّ اختبار إيمانهم غير شيّق.
- سِيرَتِي قَبْلًا فِي ٱلدِّيَانَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ ٱللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا: أوراق اعتماد بولس باعتباره يهوديًّا غيورًا قام باضطهاد المؤمنين لا شكّ فيها. فأعمال الرسل ١:٨-٣ و ١:٩-٢ يصف اضطهاد بولس النشيط للمؤمنين.
- يبيّن هذا أنَّ بولس لم يكن يبحث عن حقّ آخر عندما التقى بإنجيل يسوع لأوّل مرَّة. ومع الأسف، الكثيرون مِمَّن يبحثون عن إعلان جديد يجدونه – نعم، يجدون خداعًا يجذبهم بعيدًا عن يسوع المسيح (مثل جوزيف سميث، مؤسِّس طائفة المورمونيّين).
- وَلَكِنْ لَمَّا سَرَّ ٱللهَ: لم يأتِ بولس إلى يسوع لأن أي إنسان قرر ذلك. فلم يكن ذلك بسبب مشيئة أي إنسان، وَلَكِنْ لَمَّا سَرَّ ٱللهَ. بالإضافة إلى ذلك، لم يختر الله بولس بفضل شيء في بولس يرضي الله؛ بل دعا الله بولس بِنِعْمَتِهِ، أي عطيته التي لا يستحقها الإنسان.
- ونحن نعلم أن هذه الدعوة لم تكن بسبب أي شيء فعله بولس لأنَّه قال إنه تم استدعاؤه مِنْ بَطْنِ أُمِّي. لذلك، دعا الله بولس قبل أن يفعل بولس أي شيء يستحقّه.
- قبل أن يكون بولس مسيحيًّا، كان التركيز يقع على ما فعله: أَضْطَهِدُ … أَتَقَدَّمُ … أَوْفَرَ غَيْرَةً. وبمجرد أن اتّبع بولس يسوع المسيح، كان التركيز يقع على ما فعله الله: أَفْرَزَنِي … وَدَعَانِي … أَنْ يُعْلِنَ ٱبْنَهُ فِيَّ.
- “لقد أراد أن يبيِّن أنَّ دعوته تعتمد على اختيار الله السرّيّ، وأنه أقيم رسولاً، ليس لأنَّه أهّل نفسه للقيام بأعباء مثل هذا المنصب باجتهاده الخاصّ أو لأنَّ الله قد أدرك أنَّه يستحقّ أنْ يتقلّده، ولكن لأنَّه – من قبل ولادته – كان قد خُصِّص بقصد الله السرّيّ.” كالفين (Calvin)
- أَفْرَزَنِي: هذه كلمة مهمّة. ترتبط الكلمة اليونانيّة القديمة ’أفوريزو aphorizo‘ باللقب الذي أُطلِق على النخبة الدينيّة في أيام بولس، أي ’المُفرزَون/المنفصلون‘ المعروفون بالفريسيّين. فقبل اهتداء بولس إلى يسوع، كان فريسيًّا مهمًا (فيلبّي ٥:٣)، لكنه لم يُفرَز لله حقًّا. أمَّا الآن – من خلال عمل يسوع – فقد أفرِز لله حقًّا.
- “الكلمة شبيهة بكلمة «فريسيّ»، والفريسيّون أنفسهم لم يكونوا في شكّ من ذلك: كانوا متأكدين أنَّهم «مُفرَزون لله».” موريس (Morris)
- أَنْ يُعْلِنَ ٱبْنَهُ فِيَّ: كتب بولس في غلاطيّة ١٢:١٢ عن كيف أنَّ يسوع كُشِف له (إِعْلَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ). ولكننا هنا بصدد شيء مختلف وربما أكثر روعة: لقد كُشِفَ يسوع فِي بولس. الله يريد أن يفعل أكثر من أنْ يكشف يسوع لنا؛ إنه يريد أن يكشف يسوع فِينا.
- “ما يبدأ بكونه إعلانًا للمسيح لبولس، يُصبِح إعلانًا للمسيح في بولس، حين ينتج الروح ثمره في تربة غير مألوفة.” (كول Cole، بحسب اقتباس موريس Morris)
- لِأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ ٱلْأُمَمِ: هذا يدلّ على أنَّ الله يتمتّع بروح دعابة. فقد اختار رجلًا قبل أن يولد من أجل الكرازة بالإنجيل للأُمّم. فترعرع هذا الرجل كارهًا للأُمَم، وربَّما كان يؤمن مثل بعض اليهود (وليس جميعهم) في أيامه: أنَّ السبب الوحيد الذي خلق الله الأُمَم له هو جعلهم حطبًا لنيران جهنم.
- لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْمًا وَدَمًا: إضافةً إلى ذلك، فور اهتدائه، لم يَسْتَشِرْ بولس لَحْمًا وَدَمًا (بمن فيهم الرسل البارزين في أُورُشَلِيمَ) ليتعرَّف على محتوى الإنجيل. فهو لم يكن بحاجة إلى ذلك، لأنَّ يسوع كشف له الإنجيل مباشرةً.
- لا يجب أنْ نعتقد أنَّ بولس يقصد هنا أنَّه من الخطأ أن نسمع الإنجيل عن طريق آخرين أو أنَّ مَن يسمعونه من شخص ليس برسول ينالون خلاصًا من نوع أدنى. النقطة المهمّة هي أنَّ الإنجيل الذي بشّر به بولس لم يكن إنجيلًا من البشر، وقد حُسِمَت هذه المسألة نهائيًّا لأنَّه لم يتسلّمه من أي إنسان.
- بَلِ ٱنْطَلَقْتُ إِلَى ٱلْعَرَبِيَّةِ: لم يسافر بولس إلى ما نسميه المملكة العربية السعودية. بل تمتد المنطقة المعروفة في ذلك اليوم باسم ٱلْعَرَبِيَّةِ إلى مدينة دمشق. رُبَّما عاش بولس في مكان صحراويّ هادئ خارج دمشق.
- ثُمَّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ: أثبت بولس هنا أنَّه لم يتعلّم الإنجيل من الرسل، لأنَّه كان مؤمنًا لمدة ثلاث سنوات قبل أن يلتقي بالرسولين بطرس ويعقوب.
- كان غير معتاد بالنسبة إليه أنْ ينتظر فترة طويلة. “لا بد أن هذا المؤمن الجديد، الذي كان يضطهد المؤمنين، اتصل بقادة الحركة الجديدة التي انضمّ الآن إليها لمجرد التأكّد من صحة ما لديه من معلومات عن هذه الحركة المسيحيّة. لكنَّ بولس لم يفعل ذلك.” موريس (Morris)
- ولم يُؤمَر بولس بالمثول أمام الرسل على سبيل الاختبار. ويشير بولس إلى هذا عندما يقول: ’لِأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ.‘ الكلمة المترجمة بكلمة «أَتَعَرَّف» تصف شخصًا يأتي كسائح. “يقول يوحنا فم الذهب: ’هي كلمة تُستخدَم من قَبَل أولئك الذين يذهبون لمشاهدة المدن الكبرى والشهيرة.‘” لايتفوت (Lightfoot). والفكرة هي أن بولس لم يُؤمَر بالقدوم إلى أورشليم لتقديم حساب لبطرس أو التلاميذ الآخرين، إنَّما جاء من تلقاء ذاته لزيارة المدينة.
- غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ: «أَنَّ ٱلَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلًا، يُبَشِّرُ ٱلْآنَ بِٱلْإِيمَانِ ٱلَّذِي كَانَ قَبْلًا يُتْلِفُهُ»: صحيح أن بولس لم يتعلّم المضمون الأساسيّ للإنجيل من أي إنسان، ولكن صحيح أيضًا أنَّ المؤمنين الأوائل كانوا بطيئين في التعرّف على بولس ومكانته في يسوع. فكل ما كانوا يعرفونه حقًّا هو أنَّه قد اهتدى بطريقة مثيرة جدًّا – حتّى أنَّهم كَانُوا يُمَجِّدُونَ ٱللهَ. وبعد اهتدائه، ظلّ بولس مسيحيًّا مجهولًا لسنوات عديدة.
- إن بقاء بولس مجهولاً يختلف بالتأكيد عما اعتدناه من تضخيم أهميّة أي مؤمن جديد مشهور بمجرد مجيئه إلى يسوع. كان بولس سعيدًا وراضيًا بقضاء سنوات عديدة في الخفاء قبل أن يقيمه الله.
- في هذا القسم بأكمله، بيّن بولس أنَّه كان على اتّصال كافٍ بالرسل الآخرين لبيان أنَّهم كانوا في اتّفاق تامّ، لكن ليس إلى درجة أنَّ بولس حصل على إنجيله منهم لا من الله.
- المغزى الأساسيّ الذي قصده بولس في الجزء الثاني من هذا الأصحاح مهمّ. فإنجيله كان صحيحًا، واختباره كان سليمًا، لأنَّه حقًّا من عند الله. فيحقّ أن يسأل كل مؤمن إن كان إنجيله من عند الله أم أنَّه من صنعه هو. فيجب على كل مؤمن أن يفحص ما إذا كان اختباره من عند الله أم أنَّه لفّقه بنفسه. هذه الأسئلة مهمّة لأنَّ ما هو من عند الله هو وحده القادر أنْ ينقذنا ويصنع فارقًا مستديمًا في حياتنا.