سفر التثنية – الإصحاح ١
مُوسَى يَتَذَكَّر رِحلة بَنِي إِسْرَائِيل مِن جَبَلِ سِينَاء إلى قَادَش بَرْنِيع
أولًا. المقدمة: موسى يتذكر الخروج من جبل سيناء (حوريب)
أ ) الآية (١): هذَا هُوَ الْكَلاَم.
١هذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مُوسَى جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ، فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ، فِي الْبَرِّيَّةِ فِي الْعَرَبَةِ، قُبَالَةَ سُوفَ، بَيْنَ فَارَانَ وَتُوفَلَ وَلاَبَانَ وَحَضَيْرُوتَ وَذِي ذَهَبٍ.
١. فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ: في هذه المرحلة، كانت إسرائيل تخيّم في سهول موآب الكبيرة، وقادرة على رؤية أرض الموعد عبر نهر الأردن. لقد كانت هذه هي أرض كنعان التي وعدهم بها الله، لكنهم لم يتملكوها لمدة ٤٠٠ عام.
٢. فِي الْبَرِّيَّةِ: لقد مروا برحلة طويلة وصعبة من مصر، وقد ازدادت صعوبة وطولًا بسبب عدم إيمانهم وموت الجيل الأكبر سنًا الذي خرج أولًا من مصر.
٣. هذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مُوسَى جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ: في هذه المرحلة المحورية من تاريخ إسرائيل – على عتبة أرض الموعد، وبينما كان الشعب على أتم استعداد لتبني هوية وطنية حقيقية، تحدث موسى إلى إسرائيل في سفر التثنية هذا. يقترح تراب (Trapp) أن موسى ألقى كلمات سفر التثنية بالكامل على بني إسرائيل في عشرة أيام أو أقل.
- إن اسم سفر التثنية يعني “الناموس الثاني” في إشارة إلى التقديم الثاني للشريعة الموسوية، بينما أعطي الأول عند جبل سيناء (خروج ٢٠-٢٣). ووجد موسى أنه من الضروري تذكير بني إسرائيل بالشريعة لأن أولئك الذين كانوا يستعدون لدخول أرض الموعد إما أطفالًا أو لم يولدوا بعد عندما أُعطيت الشريعة لأول مرة على جبل سيناء.
٤. الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مُوسَى جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ: في الأساس، كان سفر التثنية عبارة عن عظة – أو سلسلة مكونة من ثلاث عظات، التي وعظ بها موسى إسرائيل، وكان قد وعظهم بها بقلب مُثقَل ومُلتهب.
- كان قلب موسى مُثقَلًا لأنه علم أنه لن يدخل مع إسرائيل إلى أرض الموعد كنعان. فعصيانه لله عند مَاءِ مَرِيبَةَ (سفر العدد ٢٠: ١-١٣) كان يعني أنه لن يرى خروج إسرائيل من مصر حتى النهاية.
- كان قلب موسى ملتهبًا لأنه عرف أنه إذا لم يطع هذا الجيل الجديد (جيل يملك الإيمان، على عكس الجيل الذي هلك في البرية) شريعة الله، فإن عهد الله سيعمل ضدهم ويلعنهم. لذلك ناشد الرب إسرائيل بشغف من خلال موسى ذو القلب الملتهب في سفر التثنية، حتى يختار الحياة! (تثنية ٣٠: ١٩)
- ولذلك فإن سفر التثنية هو سِفر تذكير وإعداد. نحن لا نتجاوز أبدًا حاجتنا للتذكير، كما قال بطرس: لِذلِكَ لاَ أُهْمِلُ أَنْ أُذَكِّرَكُمْ دَائِمًا بِهذِهِ الأُمُورِ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَالِمِينَ وَمُثَبَّتِينَ فِي الْحَقِّ الْحَاضِرِ. (٢ بطرس ١: ١٢)
- بالإضافة إلى كونه يتألف من مجموعة من العظات التي ألقاها موسى على بني إسرائيل، يُعد سفر التثنية أيضًا بمثابة عهد بين يهوه وشعب إسرائيل. ويشير العديد من المفسرين إلى أوجه التشابه الهيكلي بين سفر التثنية والمعاهدات القديمة التي كانت تُبرم بين الحكام ورعاياهم. “تشير المصطلحات المُستخدمة في هذه الآيات الافتتاحية إلى طبيعة السفر، كما هو وارد في الآية (١) ’هذَا هُوَ الْكَلاَم،‘ إذ توحي بأنها مقدمة لمعاهدة بين من له السيادة مع تابع له” كالاند (Kalland)
- لقد تم إلقاء الثلاث عظات المُسجّلة في سفر التثنية (١:١-٤٣:٤، و٤٤:٤-١٩:٢٦، و١:٢٧-١٢:٣٤) على إسرائيل في إطار زمني قصير نسبيًا، ربما في غضون شهر واحد. إن الفترة الزمنية التي تغطيها الأسفار الأربعة المتعلقة بخروج إسرائيل مثيرة للاهتمام.
- يغطي سِفر الخروج حوالي ٨٠ عامًا، بدءً من ولادة موسى وانتهاءً بوصول إسرائيل إلى جبل سيناء.
- يتناول سِفر اللاويين أحداث العام الذي قضاه شعب إسرائيل في جبل سيناء.
- يغطي سفر العدد حوالي ٣٨ عامًا، بدءً من الوقت الذي كان فيه شعب إسرائيل في جبل سيناء، حتى وصولهم إلى سهول موآب، على عتبة كنعان.
- يغطي سفر التثنية شهرًا تقريبًا، ويسجل العظات الثلاث التي ألقاها موسى على بني إسرائيل في سهول موآب.
٥. الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مُوسَى جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ… فِي الْبَرِّيَّةِ: إن سفر التثنية هو أيضًا كتاب ذو أهمية، لأنه كان كتابًا مفيدًا لتذكير يسوع وتَجهِيزه. إذ يبدو واضحًا أن يسوع في تجربته في البرية كان قد تأمل في سفر التثنية، لأنه اقتبس منه ثلاث مرات ليرد على الشيطان. كان سفر التثنية سِفرًا قيّمًا بالنسبة ليسوع، وكان الحق الموجود فيه ذات أهمية عملية بالنسبة له.
- عندما جرب الشيطان يسوع لكي يستخدم قوته الإلهية لتحويل الحجر إلى خبز، أجاب يسوع الشيطان من تثنية ٨: ٣ “لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِ الرَّبِّ يَحْيَا الإِنْسَانُ” (متى ٣:٤-٤).
- وعندما جربه الشيطان لكي يجرب الله الآب من خلال إظهار يسوع كالمسيا قبل أن يحين الوقت، أجاب يسوع الشيطان من تثنية ٦: ١٦ “لاَ تُجَرِّبُوا الرَّبَّ إِلهَكُمْ” (متى ٥:٤-٧).
- وعندما حاول الشيطان أن يختصر الصليب من خلال سجود المسيح للشيطان، أجاب يسوع الشيطان من تثنية ٦: ١٣ “الرَّبَّ إِلهَكَ تَتَّقِي، وَإِيَّاهُ تَعْبُدُ” (متى ٨:٤-١٠).
- لقد كان سفر التثنية هو “ذلك الجدول الفضي الثمين والمتدفق، الذي استمد منه المسيح، بطلنا، الحجارة الثلاث الملساء التي بها أسقط جليات الجحيم في تلك المواجهة الشديدة التي قام بها.” تراب (Trapp)
- “إن سفر التثنية هو أحد أعظم أسفار العهد القديم. إن تأثيره على العبادة الأُسرِيّة والشخصية في جميع العصور لم يفوقه أي سِفر آخر في الكتاب المقدس. لقد تم اقتباسه أكثر من ثمانين مرة في العهد الجديد، وبالتالي فهو ينتمي إلى مجموعة صغيرة من أربعة أسفار من العهد القديم [الأسفار الأخرى هي التكوين، والمزامير، وإشعياء] التي أشار إليها المسيحيون الأوائل بشكل متكرر.” تومسون (Thompson)
ب) الآيات (٢-٤): الرحلة من جبل حُورِيب إلى قَادَشَ بَرْنِيع.
٢أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ حُورِيبَ عَلَى طَرِيقِ جَبَلِ سِعِيرَ إِلَى قَادَشَ بَرْنِيعَ. ٣فَفِي السَّنَةِ الأَرْبَعِينَ، فِي الشَّهْرِ الْحَادِي عَشَرَ فِي الأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ، كَلَّمَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَسَبَ كُلِّ مَا أَوْصَاهُ الرَّبُّ إِلَيْهِمْ. ٤بَعْدَ مَا ضَرَبَ سِيحُونَ مَلِكَ الأَمُورِيِّينَ السَّاكِنَ فِي حَشْبُونَ، وَعُوجَ مَلِكَ بَاشَانَ السَّاكِنَ فِي عَشْتَارُوثَ فِي إِذْرَعِي.
١. قَادَشَ بَرْنِيعَ: كان هذا هو المكان الذي صدّق فيه شعب إسرائيل تقرير الجواسيس غير الأمناء، وتمردوا على الله، ورفضوا دخول أرض الموعد. وقد وردت هذه الأحداث في سفر العدد ١٣ و١٤.
٢. أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ حُورِيبَ عَلَى طَرِيقِ جَبَلِ سِعِيرَ إِلَى قَادَشَ بَرْنِيعَ: استغرقت الرحلة من جبل حوريب إلى قادش برنيع أحد عشر يومًا فقط. بينما استغرقت الرحلة من قادش برنيع (عتبة أرض الموعد) وعودتهم إلى قادش برنيع مرة أخرى (الرجوع إلى عتبة أرض الموعد) ٣٨ عامًا.
- كان هذا لأن الأمر استغرق ٣٨ عامًا حتى يموت في البرية الجيل غير المؤمن- الذين كانوا بالغين عندما خرج الشعب من مصر- ويقوم مكانه جيل لديه إيمان وثقة بالله.
- فِي السَّنَةِ الأَرْبَعِينَ: ” كانت تلك السنة حزينة بالنسبة للعبرانيين من جوانب مختلفة؛ ففي الشهر الأول من هذا العام ماتت مريم (سِفر العدد ٢٠)، وفي اليوم الأول من الشهر الخامس مات هارون (سِفر العدد ٣٨:٣٣)، وفي نهايتها مات موسى نفسه.” كلارك (Clarke)
٣. بَعْدَ مَا ضَرَبَ سِيحُونَ مَلِكَ الأَمُورِيِّينَ… وَعُوجَ مَلِكَ بَاشَانَ: كان خوف إسرائيل الكبير عندما جاءوا لأول مرة إلى قادش برنيع وسنحت لهم الفرصة لدخول أرض الموعد هو أن تسحقهم القوة العسكرية للكنعانيين. ولكن عندما وثق الجيل الجديد بالله وتقدم للأمام، أعطاهم الله النصرة على الفور – على ملكين وثنيين (سِيحُون وعُوج). وبمجرد أن أصبح إسرائيل مستعدًا لاستقبالها بالإيمان، أعطاهم الله النصرة على أعدائهم.
ج) الآية (٥): موسى المُفسّر.
٥فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ، فِي أَرْضِ مُوآبَ، ابْتَدَأَ مُوسَى يَشْرَحُ هذِهِ الشَّرِيعَةَ قَائِلًا.
١. فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ: كان هذا أحد آخر الأشياء التي فعلها موسى لإعداد شعب إسرائيل للدخول أخيرًا إلى أرض الموعد. لقد عرف موسى أن شعب الله بحاجة إلى معرفة الكلمة.
٢. ابْتَدَأَ مُوسَى يَشْرَحُ هذِهِ الشَّرِيعَةَ: في سفر التثنية، قام موسى بدور المعلم يشرح للشعب وصايا الله. إن الكلمة العبرية المترجمة ’يَشْرَحُ‘ تأتي من فكرة ’أن يحفر بعمق‘ أو ’ينقّب عن.‘ سوف يستخرج موسى للشعب غنى الحق الإلهي، ويستخدمه ليُعدّهم للدخول إلى أرض كنعان.
د ) الآيات (٦-٨): الأمر بالتحرك من جبل حوريب.
٦اَلرَّبُّ إِلهُنَا كَلَّمَنَا فِي حُورِيبَ قَائِلًا: كَفَاكُمْ قُعُودٌ فِي هذَا الْجَبَلِ، ٧تَحَوَّلُوا وَارْتَحِلُوا وَادْخُلُوا جَبَلَ الأَمُورِيِّينَ وَكُلَّ مَا يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبَةِ وَالْجَبَلِ وَالسَّهْلِ وَالْجَنُوبِ وَسَاحِلِ الْبَحْرِ، أَرْضَ الْكَنْعَانِيِّ وَلُبْنَانَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ. ٨اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكُمُ الأَرْضَ. ادْخُلُوا وَتَمَلَّكُوا الأَرْضَ الَّتِي أَقْسَمَ الرَّبُّ لآبَائِكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَنْ يُعْطِيَهَا لَهُمْ وَلِنَسْلِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ.
١. اَلرَّبُّ إِلهُنَا كَلَّمَنَا فِي حُورِيبَ: لقد تم تسجيل خروج الشعب من جبل سيناء (حُورِيب وسيناء هما اسمان مختلفان لنفس المكان)، في سفر العدد، الإصحاح العاشر. ومع ذلك، فإن ما ورد في سفر العدد الإصحاح ١٠ لا يقدم لنا التفاصيل المسجلة هنا.
- لقد كان سرد قصة رحلة الشعب هذه، من جبل سيناء إلى سهول موآب، بمثابة شهادة قوية على أمانة الله. ففي الأشهر التالية، كانوا سيعبرون نهر الأردن معتمدين على الله لتحقيق الغلبة على الكنعانيين. لقد كان هذا الأمر يتطلب ثقة كبيرة في الله، ولكنها كانت ثقة مبنية على اختبار أمانة الله في الماضي.
- “إذا تأمَل كل مؤمن في حياته الماضية، فسوف يرى أدلة واضحة على رعاية الله الكريمة لجسده ونفسه، وسوف يدرك الأدلة الواضحة على رحمته الأبدية في تقديم الخلاص له.” كلارك (Clarke)
٢. كَفَاكُمْ قُعُودٌ فِي هذَا الْجَبَلِ: لقد أمر الله إسرائيل ببساطة بالتحرك والتقدم للأمام. فالتواجد في جبل سيناء لمدة سنة كان كافيًا؛ فلم يُخرجهم الرب من مصر ليقيموا في سيناء إلى الأبد. لقد حان الوقت للتحرك للأمام بإيمان وامتلاك أرض الموعد.
- تربط كل من غلاطية ٤ وعبرانيين ١٢ ربطًا رمزيًا بين جبل سيناء وأعمال العهد القديم والناموس. فمن المهم بالنسبة للمؤمن اليوم أن يقضي بعض الوقت في ظل الناموس كمعلّم (غلاطية ٢٤:٣-٢٥)، حتى يتعرّف على شخص الله القدوس وحاجتنا إلى مخلص. ولكن الله لم يقصد قط أن يعيش المؤمن حياته الروحية على جبل سيناء. يجب على المؤمن أن ينتقل بالإيمان إلى أرض الموعد.
- يجب على العديد من المؤمنين اليوم أن يعيشوا في ظل نعمة الله، بعد أن ظلوا قُعُودًا كَثِيرًا في ظل عقلية ناموسية تقليدية. إذًا قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيح (غلاطية ١٦:٣-٢٥). كان لابد لهم أن يتواضعوا ويُهذبوا إلى حين؛ فالشعور بالبؤس يسبق اختبار الرحمة.” تراب (Trapp)
- لقد تأمل تشارلز سبيرجن في الطرق المختلفة التي قد يظل بها المؤمنون ’قُعُودًا‘ ويحتاجون الآن إلى المضي قدمًا.
- يعيش البعض طويلًا في سيناء، أي تحت الناموس – في حين ينبغي عليهم الانتقال إلى الجلجثة.
- يعيش البعض طويلًا على جبل الإيمان الضعيف – في حين ينبغي عليهم الانتقال إلى إيمان أعظم.
- يعيش البعض طويلًا على جبل التساؤلات المستمرة – في حين ينبغي عليهم أن يجدوا الراحة في بساطة المسيح.
- يعيش البعض طويلًا على جبل وضع التخطيط والتدبير – في حين ينبغي عليهم الانتقال إلى مرحلة اتخاذ خطوات.
٣. تَحَوَّلُوا وَارْتَحِلُوا… اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكُمُ الأَرْضَ: وعلى الرغم من أن ذلك سيكون تحديًا، إلا أن الله قد وضع أرض الموعد أمام إسرائيل – وقد تذكّر موسى هنا عندما كلمهم الله في سيناء وطلب منهم التحرك وامتلاك الأرض.
- “قد تمتد حدودهم الجنوبية إلى جبل الأموريين، وحدودهم الغربية إلى تخم البحر المتوسط، وحدودهم الشمالية إلى لبنان، وحدودهم الشرقية إلى نهر الفرات: وإلى هذا الحد امتد مُلك سليمان؛ انظر ١ ملوك ٢١:٤. ” كلارك (Clarke)
- “في الواقع، كانت الحدود المثالية للأرض تمتد إلى نهر الفرات. وربما لم يتحقق هذا إلا في زمن داود (٢ صموئيل ٣:٨؛ قارن تكوين ١٨:١٥).” تومسون (Thompson)
هـ) الآيات (٩-١٨): عندما أقام موسى قضاة بين شعب إسرائيل.
٩وَكَلَّمْتُكُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ قَائِلًا: لاَ أَقْدِرُ وَحْدِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ. ١٠اَلرَّبُّ إِلهُكُمْ قَدْ كَثَّرَكُمْ. وَهُوَذَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ كَنُجُومِ السَّمَاءِ فِي الْكَثْرَةِ. ١١الرَّبُّ إِلهُ آبَائِكُمْ يَزِيدُ عَلَيْكُمْ مِثْلَكُمْ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَيُبَارِكُكُمْ كَمَا كَلَّمَكُمْ. ١٢كَيْفَ أَحْمِلُ وَحْدِي ثِقْلَكُمْ وَحِمْلَكُمْ وَخُصُومَتَكُمْ؟ ١٣هَاتُوا مِنْ أَسْبَاطِكُمْ رِجَالًا حُكَمَاءَ وَعُقَلاَءَ وَمَعْرُوفِينَ، فَأَجْعَلُهُمْ رُؤُوسَكُمْ. ١٤فَأَجَبْتُمُونِي وَقُلْتُمْ: حَسَنٌ الأَمْرُ الَّذِي تَكَلَّمْتَ بِهِ أَنْ يُعْمَلَ. ١٥فَأَخَذْتُ رُؤُوسَ أَسْبَاطِكُمْ رِجَالًا حُكَمَاءَ وَمَعْرُوفِينَ، وَجَعَلْتُهُمْ رُؤُوسًا عَلَيْكُمْ، رُؤَسَاءَ أُلُوفٍ، وَرُؤَسَاءَ مِئَاتٍ، وَرُؤَسَاءَ خَمَاسِينَ، وَرُؤَسَاءَ عَشَرَاتٍ، وَعُرَفَاءَ لأَسْبَاطِكُمْ. ١٦وَأَمَرْتُ قُضَاتَكُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ قَائِلًا: اسْمَعُوا بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ وَاقْضُوا بِالْحَقِّ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَأَخِيهِ وَنَزِيلِهِ. ١٧لاَ تَنْظُرُوا إِلَى الْوُجُوهِ فِي الْقَضَاءِ. لِلصَّغِيرِ كَالْكَبِيرِ تَسْمَعُونَ. لاَ تَهَابُوا وَجْهَ إِنْسَانٍ لأَنَّ الْقَضَاءَ للهِ. وَالأَمْرُ الَّذِي يَعْسُرُ عَلَيْكُمْ تُقَدِّمُونَهُ إِلَيَّ لأَسْمَعَهُ. ١٨وَأَمَرْتُكُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بِكُلِّ الأُمُورِ الَّتِي تَعْمَلُونَهَا.
١. لاَ أَقْدِرُ وَحْدِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ: يخبرنا سفر العدد ١١ أن موسى كان قد مر بهذه الأزمة عندما تذمر الناس مرة أخرى على الطعام الذي قدمه الله. ولكي يعين الله موسى على تحمل العبء، أمره بتعيين سبعين شيخًا لمساعدته في تحمل الضغط الواقع عليه بسبب قيادة الأمة.
- وكما هو موصوف في سفر العدد ١١، كان لهؤلاء الشيوخ وظيفة قَيّمة. كان عليهم أن يَقِفُوا هُنَاكَ مَعَ موسى (سفر العدد ١١: ١٦)، وأن يكون لديهم نفس الرُّوحِ الَّذِي عَلَى موسى، وأن يَحْمِلُوا ثِقْلَ الشَّعْب مع موسى (سفر العدد ١١: ١٧).
٢. هَاتُوا مِنْ أَسْبَاطِكُمْ رِجَالًا حُكَمَاءَ وَعُقَلاَءَ وَمَعْرُوفِينَ، فَأَجْعَلُهُمْ رُؤُوسَكُمْ: يشير هذا إلى تعيين الشيوخ المُسجل في سفر العدد الإصحاح ١١. قبل ذلك، كان هناك اختيار للقضاة لمساعدة موسى (خروج ١٨)، ولكن كان هذا حدثًا منفصلًا.
٣. فَأَخَذْتُ رُؤُوسَ أَسْبَاطِكُمْ رِجَالًا حُكَمَاءَ وَمَعْرُوفِينَ، وَجَعَلْتُهُمْ رُؤُوسًا عَلَيْكُمْ: اختار موسى شيوخ إسرائيل بمزيج من موافقة الجماعة، وموافقته هو شخصيًا. ثم أرشد موسى الشيوخ إلى مبادئ القيادة البارة، وبذلك خفف عن نفسه العديد من الأعباء.
- لاَ تَنْظُرُوا إِلَى الْوُجُوهِ فِي الْقَضَاء: “لا تدع المظهر الواثق والمهيب للأثرياء أو الأقوياء يدفعك لاتخاذ قرار غير عادل. ولا تدع المظهر المتواضع للفقراء أن يقودك إلى تفضيلهم ظلمًا في قضية غير عادلة، أو الحكم عليهم ظلمًا تحت ضغط الظالم. ابق غير متحيز ونزيه، لأَنَّ الْقَضَاءَ لله؛ وأنت تخدم نيابة عن الله، فتصرّف بطريقة تعكس شخصه.” كلارك (Clarke)
ثانيًا. موسى يتذكر عندما رفض إسرائيل في عدم إيمان الدخول إلى أرض الموعد
أ ) الآيات (١٩-٢١): موسى يتذكر حثّه لإسرائيل في قادش برنيع.
١٩ثُمَّ ارْتَحَلْنَا مِنْ حُورِيبَ، وَسَلَكْنَا كُلَّ ذلِكَ الْقَفْرِ الْعَظِيمِ الْمَخُوفِ الَّذِي رَأَيْتُمْ فِي طَرِيقِ جَبَلِ الأَمُورِيِّينَ، كَمَا أَمَرَنَا الرَّبُّ إِلهُنَا. وَجِئْنَا إِلَى قَادَشَ بَرْنِيعَ. ٢٠فَقُلْتُ لَكُمْ: قَدْ جِئْتُمْ إِلَى جَبَلِ الأَمُورِيِّينَ الَّذِي أَعْطَانَا الرَّبُّ إِلهُنَا. ٢١اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلَ الرَّبُّ إِلهُكَ الأَرْضَ أَمَامَكَ. اصْعَدْ تَمَلَّكْ كَمَا كَلَّمَكَ الرَّبُّ إِلهُ آبَائِكَ. لاَ تَخَفْ وَلاَ تَرْتَعِبْ.
١. ثُمَّ ارْتَحَلْنَا مِنْ حُورِيبَ: تم وصف خروج إسرائيل المثير من جبل سيناء في سِفر العدد ١١:١٠-٣٦. بدأ شعب إسرائيل، المُنظمون حسب الأسباط، رحلتهم وهم يسيرون وفق الترتيب الذي أمر به الرب. كان عمود السحاب يقودهم نهارًا وعمود النار ليلًا، بينما كان تابوت العهد في المقدمة، تاركين خلفهم جبل سيناء.
- بعد رحلة شاقة عبر البرية، وصلوا أخيرًا إلى قَادَش بَرْنِيع. “لا بد أنهم شعروا بارتياح كبير عند وصولهم إلى قَادَش بَرْنِيع، وهي واحة كبيرة ذات ينابيع ومراعي وفيرة.” ميريل (Merrill)
٢. اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلَ الرَّبُّ إِلهُكَ الأَرْضَ أَمَامَكَ. اصْعَدْ تَمَلَّكْ: وبحلول الوقت الذي وصل فيه بنو إسرائيل إلى قادش برنيع، رأوا أمانة الله في تمكينهم من عبور أرض الأَمُورِيِّين. كان موسى مستعدًا لقيادة الأمة إلى كنعان.
٣. لاَ تَخَفْ وَلاَ تَرْتَعِبْ: لقد كان هذا التشجيع مُهمًا لأن تلك كانت لحظة حاسمة بالنسبة لإسرائيل. لقد مضى على خروجهم من مصر أكثر قليلًا من عام، وكانوا مستعدين للدخول إلى أرض الموعد. كانت الأرض أمامهم جاهزة لأن يمتلكوها بالإيمان إن لم يخَافْوَا ولم يرْتَعِبْوَا.
ب) الآيات (٢٢-٢٣): موسى يتذكر اقتراح إسرائيل بإرسال الجواسيس.
٢٢فَتَقَدَّمْتُمْ إِلَيَّ جَمِيعُكُمْ وَقُلْتُمْ: دَعْنَا نُرْسِلْ رِجَالًا قُدَّامَنَا لِيَتَجَسَّسُوا لَنَا الأَرْضَ، وَيَرُدُّوا إِلَيْنَا خَبَرًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي نَصْعَدُ فِيهَا وَالْمُدُنِ الَّتِي نَأْتِي إِلَيْهَا. ٢٣فَحَسُنَ الْكَلاَمُ لَدَيَّ، فَأَخَذْتُ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. رَجُلًا وَاحِدًا مِنْ كُلِّ سِبْطٍ.
١. فَتَقَدَّمْتُمْ إِلَيَّ جَمِيعُكُمْ وَقُلْتُمْ: ’دَعْنَا نُرْسِلْ رِجَالًا قُدَّامَنَا‘: عندما تذكّر موسى هذا الاقتراح، نظر للوراء بندم. فلم يكن هناك حقًا سبب مُلِّح لإرسال الجواسيس إلى أرض الموعد.
- أخبرهم الله أن الأرض كانت جيدة (خروج ٨:٣، ٥:١٣، لاويين ٢٤:٢٠). لذلك لم يكن هناك سبب لأن يتأكدوا بأنفسهم، إلا إذا كانوا لم يصدقوه. وأخبرهم أيضًا أنهم سيأخذون الأرض ويهزمون الأمم التي تعيش هناك (خروج ١٧:٣، ٢٣:٢٣). لذلك لم يكن هناك أيضًا سببًا لإلقاء نظرة على الأعداء ومعرفة ما إذا كان الله قادرًا على مواجهة التحدي بطريقة ما، إلا إذا كانوا لم يصدقوه.
٢. فَحَسُنَ الْكَلاَمُ لَدَيَّ: يجب أن يكون موسى قد ندم كلما تذكّر هذا. لقد اقترح الناس الخطة بإرسال الجواسيس لأرض كنعان ووافق موسى عليها. حَسُنَ الكلام له. ومع ذلك، عندما عاد عشرة من الجواسيس الاثني عشر بتقرير مملوء بالخوف وعدم الإيمان، صدّقت الأمة كلام الجواسيس غير الأمناء، ورفضت أن تصدّق وعد الله وأن يأخذوا كنعان.
- من خلال قراءة سفر العدد ١٣: ٢ فقط، قد يبدو أن هذه الخطة لإرسال الجواسيس إلى كنعان مصدرها هو الله، وليس الشعب. ولكن نظرة متأنية تظهر أن سفر العدد ١٣: ٢ كان يتناول بشكل رئيسي عدد الجواسيس الذي سيتم إرسالهم (١٢ جاسوس) وكيفية اختيارهم (واحد من كل سبط). نقرأ في سفر التثنية أن الخطة بدأت من الناس، ثم وافق عليها موسى، ثم سمح بها الرب. فبمعنى ما، رد الرب على إسرائيل وقال: “إذا كنتم سترسلون جواسيس، فأرسلوا اثني عشر، يمثِّلون الأُمَّة بأكملها، واحد عن كل سبط.”
- “إذا لاحظنا ما كُتِبَ في سفر العدد ١:١٣-٣، بالإضافة إلى ما هو مكتوب هنا، فيبدو أن الشعب اقترح أولًا عملية التجسس هذه، ثم وافق موسى على الفكرة، ورفع هذا الطلب إلى الرب الذي وافق أيضًا عليه، وأمر بأن يُرسِل كل سبط شخصًا واحدًا ينوب عنه.” كالاند (Kalland)
ج) الآيات (٢٤-٢٥): موسى يتذكر رحلة الجواسيس وتقريرهم.
٢٤فَانْصَرَفُوا وَصَعِدُوا إِلَى الْجَبَلِ وَأَتَوْا إِلَى وَادِي أَشْكُولَ وَتَجَسَّسُوهُ، ٢٥وَأَخَذُوا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ وَنَزَلُوا بِهِ إِلَيْنَا، وَرَدُّوا لَنَا خَبَرًا وَقَالُوا: جَيِّدَةٌ هِيَ الأَرْضُ الَّتِي أَعْطَانَا الرَّبُّ إِلهُنَا.
١. وَرَدُّوا لَنَا خَبَرًا: وبشكل ملحوظ، لم يذكر موسى التقرير السيء للجواسيس الذين لم يؤمنوا (سفر العدد ١٣: ٢٨-٢٩). وكأن الذكرى كانت مؤلمة لدرجة أن موسى لم يكن ليتعامل معها.
٢. وَأَخَذُوا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ: لم يكتف الجواسيس العائدون بوصف مدى جودة الأرض؛ بل أحضروا معهم أيضًا أدلة، بما في ذلك بعض مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ الرائعة في كنعان. ومن بينها عنقود ضخم من العنب، بالإضافة إلى الرمان والتين (سِفر العدد ٢٣:١٣). يمكن لكلمة أَشْكُول أن تعني ’عُنْقُود‘ أو ’حُزمة.‘
٣. جَيِّدَةٌ هِيَ الأَرْضُ الَّتِي أَعْطَانَا الرَّبُّ إِلهُنَا: كان يكفي أن يكون لدى أمة إسرائيل تقرير من الجواسيس الأتقياء، يشوع وكالب. بالإضافة إلى ذلك، كان جميع الجواسيس الاثني عشر متحدين في قولهم ’جَيِّدَةٌ هِيَ الأَرْضُ الَّتِي أَعْطَانَا الرَّبُّ إِلهُنَا‘ (سفر العدد ١٣ :٢٧).
د ) الآيات (٢٦-٣٣): يتذكر موسى رفض إسرائيل غير المؤمن لأرض الموعد، رغم أنه ترجّاهم أن يأخذوا الأرض بالإيمان.
٢٦لكِنَّكُمْ لَمْ تَشَاءُوا أَنْ تَصْعَدُوا، وَعَصَيْتُمْ قَوْلَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ، ٢٧وَتَمَرْمَرْتُمْ فِي خِيَامِكُمْ وَقُلْتُمُ: الرَّبُّ بِسَبَبِ بُغْضَتِهِ لَنَا، قَدْ أَخْرَجَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لِيَدْفَعَنَا إِلَى أَيْدِي الأَمُورِيِّينَ لِكَيْ يُهْلِكَنَا. ٢٨إِلَى أَيْنَ نَحْنُ صَاعِدُونَ؟ قَدْ أَذَابَ إِخْوَتُنَا قُلُوبَنَا قَائِلِينَ: شَعْبٌ أَعْظَمُ وَأَطْوَلُ مِنَّا. مُدُنٌ عَظِيمَةٌ مُحَصَّنَةٌ إِلَى السَمَاءِ، وَأَيْضًا قَدْ رَأَيْنَا بَنِي عَنَاقَ هُنَاكَ. ٢٩فَقُلْتُ لَكُمْ: لاَ تَرْهَبُوا وَلاَ تَخَافُوا مِنْهُمُ. ٣٠الرَّبُّ إِلهُكُمُ السَّائِرُ أَمَامَكُمْ هُوَ يُحَارِبُ عَنْكُمْ حَسَبَ كُلِّ مَا فَعَلَ مَعَكُمْ فِي مِصْرَ أَمَامَ أَعْيُنِكُمْ ٣١وَفِي الْبَرِّيَّةِ، حَيْثُ رَأَيْتَ كَيْفَ حَمَلَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ كَمَا يَحْمِلُ الإِنْسَانُ ابْنَهُ فِي كُلِّ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكْتُمُوهَا حَتَّى جِئْتُمْ إِلَى هذَا الْمَكَانِ. ٣٢وَلكِنْ فِي هذَا الأَمْرِ لَسْتُمْ وَاثِقِينَ بِالرَّبِّ إِلهِكُمُ ٣٣السَّائِرِ أَمَامَكُمْ فِي الطَّرِيقِ، لِيَلْتَمِسَ لَكُمْ مَكَانًا لِنُزُولِكُمْ، فِي نَارٍ لَيْلًا لِيُرِيَكُمُ الطَّرِيقَ الَّتِي تَسِيرُونَ فِيهَا، وَفِي سَحَابٍ نَهَارًا.
١. لكِنَّكُمْ: في هذا السياق، هذه كلمة لا يمكن نسيانها. وهي الكلمة التي خرجت من فم الجواسيس العشرة الخائفون عندما بدأوا في تقديم تقريرهم السيئ لإسرائيل (سفر العدد ١٣: ٢٨).
- وكأن الجواسيس العشرة وجميع الإسرائيليين قالوا في الأساس: “لقد دخلنا أرض كنعان ووجدناها أرضًا رائعة، تمامًا كما قال الرب إنها ستكون. كلمة الله صحيحة في هذه النقطة. لكِنَّكُمْ (وكأنهم يقولون: ‘رغم كل ذلك’)، نحن لا نصدّق الله عندما يقول إنه سيمكّننا من التغلّب على أعداء الأرض وامتلاكها.”
- إنه لأمر مأساوي عندما يرى شعب الله أن كلمته صادقة، ومع ذلك يفشلون في الثقة به لتحقيق أمور عظيمة في المستقبل. “يمكننا أن نطمئن بشأن الحاضر والمستقبل من خلال تَذَكُّر مراحم الله في الماضي. سبيرجن (Spurgeon)
٢. لكِنَّكُمْ لَمْ تَشَاءُوا أَنْ تَصْعَدُوا، وَعَصَيْتُمْ… وَتَمَرْمَرْتُمْ فِي خِيَامِكُمْ… وَلكِنْ فِي هذَا الأَمْرِ لَسْتُمْ وَاثِقِينَ بِالرَّبِّ إِلهِكُمُ: لم يكن الله قد فعل شيئًا سوى أن أظهر نفسه أمينًا لإسرائيل. لم يتمكنوا من الإشارة إلى حالة واحدة خذلهم فيها، على الرغم أن الرحلة لم تكن سهلة. ومع ذلك، تجاوبوا مع أمانة الله معهم بالتمرد، والتذمر، وعدم الإيمان.
- لم يكونوا مقتنعين بحب الله، ووجدوا صعوبة أن يثقوا في إله يشكون بمحبته. يحتاج المؤمنون اليوم أيضًا إلى الاقتناع بمحبة الله لهم. العديد من المؤمنين يتعثرون في مسيرتهم مع الله لأنهم ليسوا مقتنعين حقًا بحب الله لهم. عليهم أن يسألوا، “ماذا سيستغرق الأمر لإقناعي في النهاية بأن الله يحبني حقًا؟” نحن لا ننتظر الله ليعطينا كل ما نريد حتى نحبه. هذا المطلب الأناني هو لطفل قصير النظر، مثل الطفل الذي يعتقد أن أمه لا تحبه لأنه لا يستطيع الحصول على كل الحلوى التي يريدها.
- لقد قدم الله بالفعل البرهان الأمثل على محبته لنا: وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا (رومية ٨:٥). إن موت يسوع من أجل الخطاة المذنبين هو التعبير الأمثل على محبة الله للإنسان، ولا شيء يفوق ما حققه من خلال المسيح. والآن، الأمر متروك لنا ببساطة لقبول محبته.
٣. الرَّبُّ إِلهُكُمُ السَّائِرُ أَمَامَكُمْ هُوَ يُحَارِبُ عَنْكُمْ حَسَبَ كُلِّ مَا فَعَلَ مَعَكُمْ فِي مِصْرَ أَمَامَ أَعْيُنِكُمْ: بهذه الكلمات، بذل موسى قصارى جهده لتشجيع الشعب. دعاهم إلى تذكّر أمانة الله بشكل خاص في الماضي، وأنه كان قادرًا الآن على منحهم النصرة في أرض كنعان.
- إن عدو المؤمن الروحي (الشيطان) يحب أن يجعلنا ننسى ما يجب أن نتذكره (انتصارات الله الماضية ومعجزاته لأجلنا). كما يحب أن يجعلنا نتذكر ما يجب أن ننساه (ماضينا في الخطية وحب الذات).
- حَيْثُ رَأَيْتَ كَيْفَ حَمَلَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ كَمَا يَحْمِلُ الإِنْسَانُ ابْنَه: “لا يمر يوم دون أن صليبًا يميز ذلك اليوم، بدروسه وأخطاره. ولكن بالمثل، لا يمر يوم دون أن يحملنا الله بين ذراعيه، كما يحمل نهر جارف سفينة المبشّر المستكشف.” ماير (Meyer)
٤. وَلكِنْ فِي هذَا الأَمْرِ لَسْتُمْ وَاثِقِينَ بِالرَّبِّ إِلهِكُمُ: في الجوهر، لم تكن الخطية هي ما حالت دون دخول إسرائيل إلى أرض الموعد. بل كان عدم الإيمان (على الرغم من أن عدم الإيمان هو بالتأكيد خطية). كان يمكن تغطية خطية إسرائيل من خلال الذبيحة التكفيرية؛ ولكن عدم إيمانهم وشكهم في محبة الله لهم جعلهم غير قادرين على الثقة بالله.
- غالبًا ما يفترض المؤمنون أن هناك بالفعل بعض الخطايا التي تعوقهم من التقدم في مسيرتهم مع الرب. وصحيح أن الرب يريد التعامل مع تلك الخطايا وإزاحتها من الطريق، ولكن الطريقة التي يحدث بها ذلك هو بتعميق علاقة المحبة والثقة به. وفي نهاية المطاف، فإن عدم الإيمان وانعدام الثقة هما العائقان الحقيقيان.
ثالثًا. موسى يتذكر تبعات تمرد إسرائيل في قادش برنيع
أ ) الآيات (٣٤-٤٠): موسى يتذكر قَسَم الله لدينونة أمة إسرائيل غير المؤمنة.
٣٤وَسَمِعَ الرَّبُّ صَوْتَ كَلاَمِكُمْ فَسَخِطَ وَأَقْسَمَ قَائِلًا: ٣٥لَنْ يَرَى إِنْسَانٌ مِنْ هؤُلاَءِ النَّاسِ، مِنْ هذَا الْجِيلِ الشِّرِّيرِ، الأَرْضَ الْجَيِّدَةَ الَّتِي أَقْسَمْتُ أَنْ أُعْطِيَهَا لآبَائِكُمْ، ٣٦مَا عَدَا كَالِبَ بْنَ يَفُنَّةَ. هُوَ يَرَاهَا، وَلَهُ أُعْطِي الأَرْضَ الَّتِي وَطِئَهَا، وَلِبَنِيهِ، لأَنَّهُ قَدِ اتَّبَعَ الرَّبَّ تَمَامًا. ٣٧وَعَلَيَّ أَيْضًا غَضِبَ الرَّبُّ بِسَبَبِكُمْ قَائِلًا: وَأَنْتَ أَيْضًا لاَ تَدْخُلُ إِلَى هُنَاكَ. ٣٨يَشُوعُ بْنُ نُونَ الْوَاقِفُ أَمَامَكَ هُوَ يَدْخُلُ إِلَى هُنَاكَ. شَدِّدْهُ لأَنَّهُ هُوَ يَقْسِمُهَا لإِسْرَائِيلَ. ٣٩وَأَمَّا أَطْفَالُكُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ يَكُونُونَ غَنِيمَةً، وَبَنُوكُمُ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الْيَوْمَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَهُمْ يَدْخُلُونَ إِلَى هُنَاكَ، وَلَهُمْ أُعْطِيهَا وَهُمْ يَمْلِكُونَهَا. ٤٠وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَحَوَّلُوا وَارْتَحِلُوا إِلَى الْبَرِّيَّةِ عَلَى طَرِيقِ بَحْرِ سُوفَ.
١. فَسَخِطَ وَأَقْسَمَ: ردًا على عدم الإيمان وعدم ثقة إسرائيل في محبة الله، أقسم الله بقسم (مزمور ٩٥: ١١) أن الجيل البالغ الذي خرج من مصر لن يرث أرض الموعد، بل سيموت في البرية القاحلة.
٢. مَا عَدَا كَالِبَ بْنَ يَفُنَّةَ: كان الاستثناءان الوحيدان هما كالب ويشوع. لقد كانا أولئك هما الاثنان الأمناء من بين الجواسيس الاثني عشر الذين عادوا بالتقرير من أرض الموعد (سفر العدد ١٤: ٦-١٠).
٣. وَأَنْتَ أَيْضًا لاَ تَدْخُلُ إِلَى هُنَاكَ: حتى موسى نفسه لن يدخل أرض الموعد. على الرغم من أن هذا لم يُقال بشكل محدد في سفر العدد ١٤ (لكنه ذُكر لاحقًا في سفر العدد ٢٠)، ولكن يمكن استنتاجه حينها، لأن موسى لم يكن من بين الاستثناءات المذكورة (يشوع وكالب).
٤. يَشُوعُ… هُوَ يَقْسِمُهَا لإِسْرَائِيلَ: مهما كان موسى عظيمًا (وبالفعل، كان أحد عمالقة الكتاب المقدس)، لم يستطع ولم يكن سيقود إسرائيل إلى أرض الموعد. أعطيت هذه المهمة لمن جاء بعد موسى، وهو يشوع.
- شَدِّدْهُ: أمر الله موسى أن يشجع يشوع (شَدِّدْهُ)، رُغم علمه أن يشوع سيكون خليفته. كان من الجيد أن يقدم موسى مثل هذا التشجيع، وكان من الجيد أن يتلقى يشوع هذا التشجيع. كانت المهمة التي بدأها موسى – قيادة شعب إسرائيل إلى كنعان – ستكتمل من خلال يشوع.
- كان موسى هو المشّرع العظيم، وقد مثّل العلاقة مع الله من خلال الناموس. يمكن لهذا الشخص أن يقود لنوع من العلاقة مع الله في البرية والجفاف، ولكنه لم يكن يستطع أبدًا أن يقودهم إلى نوع من العلاقة مع الله في أرض الموعد. كان يشوع فقط يستطيع فعل ذلك – واسم يشوع بالعبرية يطابق تمامًا اسم يسوع. وفقط يسوع يستطيع أن يأتي بنا إلى علاقة “أرض الموعد” مع الله.
٥. وَأَمَّا أَطْفَالُكُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ يَكُونُونَ غَنِيمَةً… هُمْ يَمْلِكُونَهَا: كان عذر إسرائيل الأساسي على عدم إيمانهم في قادش برنيع هو خوفهم من أن ’تَصِيرُ نِسَاؤُنَا وَأَطْفَالُنَا غَنِيمَةً‘ (سفر العدد ١٤: ٣). رد الله على عذرهم المملوء بعدم الإيمان قائلًا: “سوف تُقتلون، وأطفالكم سوف يمتلكون الأرض.”
- “إن أي شيء في الواقع، سيكون بمثابة عذر عندما يميل القلب إلى المساومة.” سبيرجن (Spurgeon)
- لعل من المثير ملاحظة مدى سهولة وسرعة ودقة تمييز الله للأعذار التي يقدمها الناس. غالبًا ما نشعر بالثقة في أعذارنا لأن الآخرين يجدون صعوبة في تحديها. لكن الله يرى من خلال الأعذار ويفهم الدوافع الحقيقية لكل شخص.
ب) الآيات (٤١-٤٦): موسى يتذكر توبتهم الفاترة ومحاولتهم العقيمة للحرب.
٤١«فَأَجَبْتُمْ وَقُلْتُمْ لِي: قَدْ أَخْطَأْنَا إِلَى الرَّبِّ. نَحْنُ نَصْعَدُ وَنُحَارِبُ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَنَا الرَّبُّ إِلهُنَا. وَتَنَطَّقْتُمْ كُلُّ وَاحِدٍ بِعُدَّةِ حَرْبِهِ، وَاسْتَخْفَفْتُمُ الصُّعُوْدَ إِلَى الْجَبَلِ. ٤٢فَقَالَ الرَّبُّ لِي: قُلْ لَهُمْ: لاَ تَصْعَدُوا وَلاَ تُحَارِبُوا، لأَنِّي لَسْتُ فِي وَسَطِكُمْ لِئَلاَّ تَنْكَسِرُوا أَمَامَ أَعْدَائِكُمْ. ٤٣فَكَلَّمْتُكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا بَلْ عَصَيْتُمْ قَوْلَ الرَّبِّ وَطَغَيْتُمْ، وَصَعِدْتُمْ إِلَى الْجَبَلِ. ٤٤فَخَرَجَ الأَمُورِيُّونَ السَّاكِنُونَ فِي ذلِكَ الْجَبَلِ لِلِقَائِكُمْ وَطَرَدُوكُمْ كَمَا يَفْعَلُ النَّحْلُ، وَكَسَرُوكُمْ فِي سِعِيرَ إِلَى حُرْمَةَ. ٤٥فَرَجَعْتُمْ وَبَكَيْتُمْ أَمَامَ الرَّبِّ، وَلَمْ يَسْمَعِ الرَّبُّ لِصَوْتِكُمْ وَلاَ أَصْغَى إِلَيْكُمْ. ٤٦وَقَعَدْتُمْ فِي قَادَشَ أَيَّامًا كَثِيرَةً كَالأَيَّامِ الَّتِي قَعَدْتُمْ فِيهَا.
١. قَدْ أَخْطَأْنَا إِلَى الرَّبِّ. نَحْنُ نَصْعَدُ وَنُحَارِبُ: بعد سماعهم لعواقب رفضهم لله، تغيّر قلب إسرائيل. ومع ذلك، عاشوا بالجسد وليس بالإيمان، لأن الله لم يقودهم.
- “وفقًا للطبيعة البشرية، بمجرد أن حُرم ذلك الجيل المتمرد المبكر من دخول كنعان (الآيات ٣٥، ٤٠)، قرروا أن هذا بالضبط ما سيفعلونه.” ميريل (Merrill)
٢. عَصَيْتُمْ قَوْلَ الرَّبِّ: لقد تصرفوا بهذه الطريقة حتى في توبتهم المزعومة. لم يكن حزنهم نابعًا من حزن قلب الله، بل من احتمال قضاء ثمانية وثلاثين عامًا أخرى في البرية. ونتيجة لذلك، أدرك الله أن توبتهم السطحية لا تزال تعكس عصيانهم قَوْلَ الرَّبِّ.
٣. فَخَرَجَ الأَمُورِيُّونَ السَّاكِنُونَ فِي ذلِكَ الْجَبَلِ لِلِقَائِكُمْ وَطَرَدُوكُمْ كَمَا يَفْعَلُ النَّحْلُ: إن محاولة الغزو بحكمتهم وقوتهم انتهت بكارثة. بعد هزيمتهم الكاملة، بكوا وناحوا – ولكن مرة أخرى، كان هذا لأن أمرهم قد فضح، وليس لأنهم أحزنوا قلب الله، أو بسبب عدم إيمانهم وثقتهم بمحبة الله العظيمة.
- “إن مطاردة الأموريين، الذين وصفوا بأنهم مثل ’سرب النحل،‘ تسلط الضوء على أعدادهم الهائلة، ومثابرتهم التي لا هوادة فيها، وعدوانيتهم الشرسة.” كالاند (Kalland)
٤. وَقَعَدْتُمْ فِي قَادَشَ أَيَّامًا كَثِيرَةً: إن بقية سفر التثنية لا يتناول السنوات العديدة التي قضاها بنو إسرائيل بين مغادرتهم قَادَش وعودتهم إليها، حيث قضوا معظم وقتهم يتجولون في البرية الشاسعة، غالبًا كبدوٍ رحل. وحتى سفر العدد لا يَذكُر إلا القليل جدًا عما حدث في هذه السنوات الخمس والثلاثين. فسفر العدد يشير فقط إلى تمرد قورح (سِفر العدد ١:١٦-٤٠)، وشكاوى بنو إسرائيل (سِفر العدد ٤١:١٦-١٣:١٧)، وموت مريم (سِفر العدد ١:٢٠)، وتمرد بنو إسرائيل في مريبة (سِفر العدد ٢:٢٠-١٣).
- ” ورغم أن رحلة البرية كانت صعبة وقاسية، إلا أنهم لم يُترَكوا يتلمسون طريقهم بأنفسهم. لقد كان الله يسير أمامهم باستمرار، ويختار لهم الأماكن التي يخيّمون فيها عند كل محطة، ويرشدهم إلى أماكن نصب خيامهم.” مورجان (Morgan)