تفسير رسالة فيلبّي – الإصحاح ١
محبة بولس واهتمامه بأهل فيلبّي
أوّلاً. تحية بولس لمؤمني فيلبّي وصلواته لأجلهم
أ ) الآيات (١-٢): التحيّة الأَوَّليّة والأشخاص المعنيين.
١بُولُسُ وَتِيمُوثَاوُسُ عَبْدَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِينَ فِي فِيلِبِّي، مَعَ أَسَاقِفَةٍ وَشَمَامِسَةٍ: ٢نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
- بُولُسُ وَتِيمُوثَاوُسُ: كتب الرسول بولس هذه الرسالة إلى أصدقائه المقربين من مؤمني فيلبّي من مكان إقامته الجبرية في روما، كما هو موصوف في نهاية أعمال الرسل ٣٠:٢٨-٣١ أثناء انتظاره للمحاكمة أمام قيصر (حوالي سنة ٦١م).
- إِلَى جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلَّذِينَ فِي فِيلِبِّي: أسّس بولس الكنيسة في فِيلِبِّي قبل أحد عشر عامًا من كتابة هذه الرسالة أثناء رحلته التبشيرية الثانية (أعمال الرسل ١١:١٦-٤٠). وكانت هذه أوّل كنيسة تأسّست في قارة أوروبا.
- إِلَى جَمِيعِ: وجّه بولس الرسالة إلى ثلاث مجموعات.
- إِلَى جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ: هذا يعني جميع المؤمنين في فيلبّي. فجميع المؤمنين قديسون، ولكن فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ فقط.
- أَسَاقِفَةٍ: هذا يعني إجمالاً أصحاب المسؤوليات القيادية. فالكلمة اليونانية القديمة كانت تعني مشرفين، وكانت تستخدم لوصف القيادة العامة قبل أن تختصّ بوصف منصب معين تعترف به بعض الطوائف المسيحية.
- وَشَمَامِسَةٍ: أصحاب مناصب الخدمة المُعتَرف بها.
- نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلَامٌ: ألقى بولس تحيته المألوفة المتمثّلة في النِعْمَة وَالسَلَام، مُقرًّا بأنهما لا يأتيان إِلَّا من الله أبينا ومن خلال ابنه.
ب) الآيات (٣-٦): بولس يشكر مؤمني فيلبّي.
٣أَشْكُرُ إِلهِي عِنْدَ كُلِّ ذِكْرِي إِيَّاكُمْ ٤دَائِمًا فِي كُلِّ أَدْعِيَتِي، مُقَدِّمًا الطَّلْبَةَ لأَجْلِ جَمِيعِكُمْ بِفَرَحٍ، ٥لِسَبَبِ مُشَارَكَتِكُمْ فِي الإِنْجِيلِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إِلَى الآنَ. ٦وَاثِقًا بِهذَا عَيْنِهِ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحًا يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
- أَشْكُرُ إِلَهِي عِنْدَ كُلِّ ذِكْرِي إِيَّاكُمْ: كلَّما تذكّر بولس ما فعله جميع أهل فيلبّي معه، شعر بشكر عميق. لقد كان ممتنًّا بالطبع لأهل فيلبّي، ولكن بأكثر لله الذي أحسن إليه من خلال أهل فيلبّي.
- كان أهل فيلبّي أسخياء جدًا مع بولس، سواء عندما كان حاضرًا معهم (أعمال الرسل ١٥:١٦، ٣٢:١٦-٣٤) أو غائبًا عنهم (كورنثوس الثانية ١:٨-٧، ١:٩-٤، ٩:١١).
- مُقَدِّمًا ٱلطَّلْبَةَ لِأَجْلِ جَمِيعِكُمْ: كان بولس يصلّي من أجل أهل فيلبّي، وقد كان يفعل ذلك بِفَرَحٍ. إذ كانت هذه إحدى الطرق التي شعر بها بولس أنّه يستطيع تسديد دَينه لأهل فيلبّي على كل ما فعلوه من أجله.
- يمكن للمرء ببساطة أنْ يقول إنَّ بولس فرح عندما صلّى لأجل أهل فيلبّي. ومن اللافت للنظر أنَّ أوّل وصف لمشاعر بولس الشخصية أو حالته الذهنية في هذه الرسالة كان الفرح – رغم أنّه كتب هذه الرسالة من السجن وهو منتظر حكم الإعدام.
- “إنَّه إعلان مجيد عن كيف تنتصر حياة الشركة مع المسيح على كل الظروف المناوئة. وعلاوة على ذلك، إنَّ الانتصار ليس تجاهلاً للواقع، بل هو إدراك بأن جميع الظروف المناوئة – في الظاهر – تتحوّل إلى حلفاء للنفس البشرية لتعينها على الانتصار، وذلك تحت سيطرة الرب.” مورغان (Morgan)
- “هذه رسالة ترنّم بولس الرائعة. وهو الذي رنّم في فيلبّي في السجن في منتصف الليل، بصحبة سيلا. وهو الآن في السجن مَرَّة أخرى، ولكنّه هذه المَرَّة في روما.” مورغان (Morgan)
- لِسَبَبِ مُشَارَكَتِكُمْ فِي ٱلْإِنْجِيلِ: كان هذا من أسباب شعور بولس بالشكر تجاه أهل فيلبّي. فأهل فيلبّي ’شَارَكوا‘ مع بولس في نشره للإنجيل من خلال صداقتهم ودعمهم المادّي، وهم قد فعلوا ذلك مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إِلَى الآنَ. فلم ينتظروا حتّى ’يفوز‘ بولس قبل أن يدعموه، بل ساندوه وخدمته منذ البداية.
- ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلًا صَالِحًا يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: عندما فكّر بولس في بداية عمل الله بين أهل فيلبّي (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)، كان من الطبيعي أنْ يفكّر أيضًا في اليوم الذي يُكَمِّلُ فيه ذلك العمل. وقد عبّر بولس أيضًا عن ثقته في قدرة الله على إكمال هذا العمل.
- لقد كان بالفعل عَمَلًا صَالِحًا بدأه الله في أهل فيلبّي وفي جميع المؤمنين. “إنَّ عمل النعمة يضرب بجذوره في الصلاح الإلهي للآب، ويغرسه صلاح الابن المنكر للذات، ويتم ريّه يوميًا بصلاح الروح القدس؛ إنَّه ينبع من الصلاح ويؤدي إلى الصلاح، ومن ثَمَّ كان صالحًا بكل ما في الكلمة من معنى.” سبيرجن (Spurgeon)
- حيث أنَّ هذا العمل الصالح بدأ بالفعل، كان بولس واثقاً من اكتماله. فالله يُكمِل عمله في العادة. “هل بدأ الله قط أي عمل ثُمَّ تركه دون إكماله؟ أروني عالمًا مهجورًا ومطروحًا جانباً لم يكتمل تشكيله، أروني عالمًا تم إلقاؤه من دولاب الفخّاري الأعظم، وهو في طور التصميم، بينما الطين لم يجفّ بعد، وشكله قبيح لعدم اكتماله.” سبيرجن (Spurgeon)
- إنَّ العمل الذي يُجريه الله في المؤمن لن يكتمل نهائيًّا إِلَّا في يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، الذي يعني في هذا السياق المجيء الثاني ليسوع وقيامتنا معه. “إنَّ الكتاب المقدس لا يعتبر الإنسان كاملًا عندما تكتمل روحه، بل يعتبر جسده جزءًا من روحه؛ وبما أنَّ الجسد لن يُقام مَرَّة أخرى من القبر حتّى مجيء الربّ يسوع، عندما نستعلن في كمال بشريّتنا كما سيستعلن هو أيضًا، فإنّ يوم المجيء الثاني تمّ تحديده ليكون يوم اكتمال العمل الذي بدأه الله.” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (٧-٨): بولس يعلن عن مشاعره تجاه أهل فيلبّي.
٧كَمَا يَحِقُّ لِي أَنْ أَفْتَكِرَ هذَا مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، لأَنِّي حَافِظُكُمْ فِي قَلْبِي، فِي وُثُقِي، وَفِي الْمُحَامَاةِ عَنِ الإِنْجِيلِ وَتَثْبِيتِهِ، أَنْتُمُ الَّذِينَ جَمِيعُكُمْ شُرَكَائِي فِي النِّعْمَةِ. ٨فَإِنَّ اللهَ شَاهِدٌ لِي كَيْفَ أَشْتَاقُ إِلَى جَمِيعِكُمْ فِي أَحْشَاءِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
- يَحِقُّ لِي أَنْ أَفْتَكِرَ هَذَا مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ: كان شعور بولس بالشكر والفرح ورغبته في الصلاة من أجل أهل فيلبّي في محلّه لأنَّهم وقفوا بجواره في مِحَنه من أجل الإنجيل، فنالوا نفس ٱلنِّعْمَة التي نالها (ٱلَّذِينَ جَمِيعُكُمْ شُرَكَائِي فِي ٱلنِّعْمَةِ).
- لِأَنِّي حَافِظُكُمْ فِي قَلْبِي: كان بولس إنسانًا سامي الفكر، لكنه كان أيضًا صاحب قَلْب عظيم، وكان مؤمنو فيلبّي في قَلْبِه. بل وأمكنه أيضًا استدعاء الله كشاهد له على محبّته العميقة لهم.
- صاغ آدم كلارك (Adam Clark) فكرة بولس على النحو التالي: “إني أُشهِد الله على أني أشعر نحوكم بأشدّ المشاعر، وأني أحبّكم بنفس الاهتمام والعطف الذي أحبّ المسيح به العالم عندما بذل نفسه لأجله.”
د ) الآيات (٩-١١): صلاة بولس من أجل أهل فيلبّي.
٩وَهذَا أُصَلِّيهِ: أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضًا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَفِي كُلِّ فَهْمٍ، ١٠حَتَّى تُمَيِّزُوا الأُمُورَ الْمُتَخَالِفَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا مُخْلِصِينَ وَبِلاَ عَثْرَةٍ إِلَى يَوْمِ الْمَسِيحِ،١١ مَمْلُوئِينَ مِنْ ثَمَرِ الْبِرِّ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِمَجْدِ اللهِ وَحَمْدِهِ.
- وَهَذَا أُصَلِّيهِ: أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضًا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ: كان لأهل فيلبّي الكثير من المحبّة، وقد عاملوا بولس بمحبّة. ومع ذلك، لم يتردد بولس في الصلاة لكي تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضًا. فلا يهم كم نحب الآخرين، فنحن نستطيع أنْ نحبّهم أكثر!
- “عسى أنْ تكونوا مثل النهر الذي تسقيه الأمطار والجداول العذبة على الدوام فيستمر في الزيادة والامتلاء حتّى يفيض على ضفافه ويغمر السهول المجاورة.” كلارك (Clarke)
- أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضًا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ فِي ٱلْمَعْرِفَةِ وَفِي كُلِّ فَهْمٍ: إِلَّا أنَّ المحبّة التي أراد بولس أن تزيد في أهل فيلبّي لم تكن ’محبّة عمياء.‘ بل كانت محبّة تتمتّع بـٱلْمَعْرِفَةِ وَفِي كُلِّ فَهْمٍ (أو تمييز)، كانت محبّة قادرة على تمييز مَا هُوَ أفْضَل (ٱلْأُمُور ٱلْمُتَخَالِفَة).
- عرف بولس خطورة المحبّة المجرَّدة من التمييز. فهو قد وبّخ كنيسة كورنثوس التي كانت تفتخر بـ ’محبتهم‘ و’انفتاحهم‘ اللذين كانا يفتقران إلى أي معرفة وتمييز (كورنثوس الأولى ١:٥-٧).
- لِكَيْ تَكُونُوا مُخْلِصِينَ وَبِلَا عَثْرَةٍ: عندما نوافق على ونميّز ٱلْأُمُورَ ٱلْمُتَخَالِفَةَ (أي مَا هُوَ أفْضَل)، نكون مُخْلِصِينَ (دلالةً على البرّ الداخليّ) وبدون عَثْرَةٍ (دلالةً على البرّ الخارجيّ الذي يمكن رؤيته). وتعني جملة ’إِلَى يَوْمِ ٱلْمَسِيحِ‘ أنّ هذه الأمور تزداد وضوحًا في حياتنا حتّى يأتي يسوع.
- الإخلاص أمر مهمّ، لكنّه لا يكفي بمفرده. فقد كان الخطاة أصحاب السمعة السيئة في أيام يسوع، مثل جباة الضرائب، مخلصين، لكنهم كانوا بحاجة إلى التوبة. وكذلك من المهم أن نكون بِلَا عَثْرَةٍ أمام الآخرين، لكنَّ هذا وحده لا يكفي. فقد كان الفريسيون في أيّام يسوع أيضاً، بلا عثرة في رأي الكثيرين. ولهذا علينا أن نطلب من الله أن يجعلنا مُخْلِصِينَ وَبِلَا عَثْرَةٍ.
- مَمْلُوئِينَ مِنْ ثَمَرِ ٱلْبِرِّ: العمل المطلوب لجعلنا مُخْلِصِينَ وَبِلَا عَثْرَةٍ هو في الواقع، عمل يُجريه الله فينا. وهذا يحدث عندما نمتلئ مِنْ ثَمَرِ ٱلْبِرِّ.
- إنتاج الثمر يكون دائمًا نتيجة للثبات في يسوع (يوحنا ٤:١٥-٦). فإذ نثبت فيه، نحصل على الحياة والمواد الغذائية التي نحتاجها لإنتاج الثمر بطريقة طبيعية لِمَجْدِ ٱللهِ وَحَمْدِهِ.
- “جميع أتباع الله الحقيقيّين حريصون على مجده في كل ما يفعلونه أو يقولونه أو ينوونه. فأولئك يحبّون أنْ يمجّدوا الله، ويظهرون ذلك من خلال قوّة الربّ المجيدة التي تعمل في حياتهم.‘ كلارك (Clark)
ثانيًا. بولس يشرح ظروفه الحاليّة
أ ) الآيات (١٢-١٤): سجن بولس لم يعرقل الإنجيل بأي صورة من الصور.
١٢ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّ أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ الإِنْجِيلِ، ١٣حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي الْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ الْوِلاَيَةِ وَفِي بَاقِي الأَمَاكِنِ أَجْمَعَ. ١٤وَأَكْثَرُ الإِخْوَةِ، وَهُمْ وَاثِقُونَ فِي الرَّبِّ بِوُثُقِي، يَجْتَرِئُونَ أَكْثَرَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْكَلِمَةِ بِلاَ خَوْفٍ.
- أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ ٱلْإِنْجِيلِ: تناول بولس هنا أمرًا كان يقلق أهل فيلبّي. فقد أرادهم أن يعلموا أنَّ نعمة الله وقدرته لم تزالا معه رغم وجوده في السجن. فهو لم يكن خارج إرادة الله، وعمل الله لم يزل مستمرًّا.
- عندما كان بولس مع أهل فيلبّي، كانت هناك أدلّة مدهشة على قدرة الله المهيمنة، التي بلغت ذروتها في هروبه من السجن بطريقة معجزيّة وتبرئته أمام والي المدينة (أعمال الرسل ١١:١٦-٤٠). فلا عجبَ إذاً أنَّ أهل فيلبّي تعجبّوا أين كانت قوّة الله هذه المَرَّة عندما سُجِن بولس.
- نحن نعلم أيضًا أنَّ كل هذا آل إِلَى تَقَدُّمِ ٱلْإِنْجِيلِ لأنَّه خلال هذه الفترة كتب رسائله إلى أهل أفسس وفيلبّي وكولوسي.
- الله لم يضيّع وقت بولس أثناء سجنه في روما. فالله لا يضيّع وقتنا أبدًا، على الرغم من أننا قد نضيّعه بعدم تمييز قصد الله لحياتنا في تلك اللحظة.
- تَقَدُّمِ ٱلْإِنْجِيلِ: لم يذكر بولس ما إذا كان هو نفسه يتقدّم، لأنه لم يهتم بذلك وافترض أن أهل فيلبّي لم يهتموا بذلك أيضًا. فقد كان اهتمامهم المشترك مع بولس هو تَقَدُّمِ ٱلْإِنْجِيلِ، والإنجيل استمرّ فعلاً في التقدّم.
- حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي ٱلْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ ٱلْوِلَايَةِ وَفِي بَاقِي ٱلْأَمَاكِنِ أَجْمَعَ: الظروف المحيطة بسجن بولس وسلوكه أثناء السجن بيّنت لجميع المراقبين أنّه لم يكن مُجرَّد سجين عادي، بل كان مبعوثًا ليسوع المسيح. وقد أدّت هذه الشهادة إلى إيمان الكثيرين، ومن ضمنهم حرس دَارِ ٱلْوِلَايَةِ.
- من هذا نرى أنَّ بولس استطاع أن يخدم بفعالية ويمجّد الله في أحلك الظروف. فلم يحتاج لظروف مريحة ليأتي بثمر.
- وَهُمْ وَاثِقُونَ … بِوُثُقِي: منح سجن بولس المؤمنين من حوله – الذين لم يتم سجنهم – المزيد من الثقة والجرأة، إذ:
- رأوا أنَّ بولس كان فرحًا وسط هذه المحنة.
- رأوا أنَّ الله سيعتني ببولس في مثل هذه الظروف.
- رأوا أنَّ الله لا يزال يستطيع استخدام بولس حتّى وهو في السجن.
ب) الآيات (١٥-١٨): بولس ينظر في دوافع الآخرين في الكرازة.
١٥أَمَّا قَوْمٌ فَعَنْ حَسَدٍ وَخِصَامٍ يَكْرِزُونَ بِالْمَسِيحِ، وَأَمَّا قَوْمٌ فَعَنْ مَسَرَّةٍ. ١٦فَهؤُلاَءِ عَنْ تَحَزُّبٍ يُنَادُونَ بِالْمَسِيحِ لاَ عَنْ إِخْلاَصٍ، ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى وُثُقِي ضِيقًا. ١٧وَأُولئِكَ عَنْ مَحَبَّةٍ، عَالِمِينَ أَنِّي مَوْضُوعٌ لِحِمَايَةِ الإِنْجِيلِ. ١٨فَمَاذَا؟ غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ سَوَاءٌ كَانَ بِعِلَّةٍ أَمْ بِحَقّ يُنَادَى بِالْمَسِيحِ، وَبِهذَا أَنَا أَفْرَحُ. بَلْ سَأَفْرَحُ أَيْضًا.
- أَمَّا قَوْمٌ فَعَنْ حَسَدٍ وَخِصَامٍ يَكْرِزُونَ بِٱلْمَسِيحِ: كان بولس يعلم أنَّ بعضهم يكرزون لأنهمّ يريدون ’التفوُّق‘ على بولس في الخدمة وإعلاء شأنهم ومكانتهم فوق بولس.
- سعد هؤلاء الناس بسجن بولس لأنهم شعروا بأنّ هذا يعطيهم فرصة للتفوُّق عليه فيما يعتبرونه مسابقة الكرازة بالإنجيل. فكان دافعهم – على الأقل جزئيًّا – روح التنافس، التي كثيرًا ما تكون شائعة بين الخدام.
- لم يظنّ بولس السوء في كل الخدام ولم ينسب لهم دوافع سيئة. فكان يعلم أنَّ قَوْمًا يكرزون عَنْ مَسَرَّةٍ (بحسن نية) أيضًا.
- فَهَؤُلَاءِ عَنْ تَحَزُّبٍ يُنَادُونَ بِٱلْمَسِيحِ: أولئك الذين يبشرون بالإنجيل بدوافع خاطئة مصابون بمرض التَحَزُّب (طموح أنانيّ)، مِمّا يجعلهم يخدمون لكنْ ليس عَنْ إِخْلَاصٍ.
- التَحَزُّب (أو الطموح) ليس سيئًا بالضرورة؛ فلا حرج أن تريد أنْ تكون أفضل ما يمكن أن تكون لله. ولكنَّ التَحَزُّب (أو الطموح الأنانيّ) يقود إلى الاهتمام بمظهر الناجح، بدلًا من السعي إلى تحقيق النجاح الحقيقيّ أمام الله.
- ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى وُثُقِي ضِيقًا: أولئك الذين بشّروا بالمسيح بدافع خاطئ ظنّوا أَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى وُثُق (سلاسل) بولس ضِيقًا. فحبهم للمنافسة لم يجعلهم يرغبون بالفوز فحسب، بل أيضًا أن يتمنوا لبولس الخسارة.
- لقد أرادوا من بولس أن يُقِرّ ويعترف بأنّ الآخرين أكثر فعالية في الخدمة منه. ولم يفهموا أنَّ بولس لم يهمّه ذلك أبدًا، ذلك أنّه لم يكن مدفوعًا بروح التنافس في الخدمة.
- كتب توزر (W. Tozer) هذا المقطع القويّ يوبّخ فيه موقف المنافسة الشائع بين الخدام: “يا ربّ، أنا أرفض من الآن فصاعداً التنافس مع أي من خدامك. وإن كانت كنائسهم أكبر من كنيستي، فليكن، فأنا سأفرح بنجاحهم. وإن كانت لهم مواهب أعظم، فهذا رائع. فإنّ ذلك ليس في مقدورهم ولا في مقدوري. فأنا ممنون لمواهبهم العظيمة ولمواهبي البسيطة. وصلاتي الوحيدة هي أن استخدم مواهبي المتواضعة التي أملكها لمجدك. وأعدك بإني لن أقارن نفسي بأي شخص، ولن أحاول رفع ذاتي على حساب الآخرين في عملك المقدس. وأعلن إنكاري التام لكل قيمة ذاتية. فأنا مجرد عبد بطّال، مستعد للذهاب بكل سرور إلى الصليب واعترف بأني أقل فرد في شعبك. وإن أخطأت في تقديري لذاتي وقلّلت من قدر نفسي، فهذا لا يهم ولا أريد من يخبرني بالأمر. وأنا أعزم على الصلاة من أجل الآخرين وأن أفرح بنجاحهم كما لو كان نجاحي. فهم شعبي كما أنهم شعبك، فما يخصك يخصني أيضاً. وبينما واحدًا يزرع وآخر يسقي، أنت وحدك الذي تُنمِي.” (من كتاب بعنوان: ثمن التراخي The Price of Neglect، ص ١٠٤-١٠٥)
- غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ سَوَاءٌ كَانَ بِعِلَّةٍ أَمْ بِحَقٍّ يُنَادَى بِٱلْمَسِيحِ، وَبِهَذَا أَنَا أَفْرَحُ. بَلْ سَأَفْرَحُ أَيْضًا: قد بشّر الناس بالإنجيل بنشاط أكبر، مدفوعين بسجن بولس. ورغم أن دافع البعض كان جيدًا ودافع البعض الآخر كان سيئًا، لكن ما أسعد قلب بولس هو الحماس الذي تمتع به الجميع.
- تذكّر أن مبعث قلق بولس هنا لم يكن محتوى الإنجيل الذي كان يُنَادَى به، بل دوافع أولئك الذين يكرزون به. فبولس سيعترض حتماً إذا قُدم الإنجيل بصورة مشوهة أو محرفة مهما كانت الدوافع جيدة (غلاطية ٦:١-٩).
- يمكن التعبير عن موقف بولس على هذا النحو: “إذا بشّرتَ بالإنجيل الحقيقيّ، لا تهمّني دوافعك. وإن كانت دوافعك سيئة، فسيتعامل الله معك – ولكنك على الأقل تبشّر بالإنجيل. ولكن إذا بشّرت بإنجيل مزيَّف، فلا يهمني دوافعك مهما كانت جيّدة. فأنت خطر ويجب أن تتوقف عن الكرازة بإنجيلك المزيَّف، ودوافعك الجيّدة ليست عذرًا لرسالتك المزيَّفة.”
- إذا لم يستطع سجن بولس إعاقة الإنجيل، فلن تستطيع ذلك دوافع البعض الخاطئة. فعمل الله يُتَمَّم، وكان هذا سببًا كافياً للفرح.
ج ) الآيات (١٩-٢٠): ثقة بولس في ظروفه الحاليّة.
١٩لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هذَا يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ بِطَلْبَتِكُمْ وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، ٢٠حَسَبَ انْتِظَارِي وَرَجَائِي أَنِّي لاَ أُخْزَى فِي شَيْءٍ، بَلْ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ كَمَا فِي كُلِّ حِينٍ، كَذلِكَ الآنَ، يَتَعَظَّمُ الْمَسِيحُ فِي جَسَدِي، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ.
- لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يَؤُولُ لِي إِلَى خَلَاصٍ: كان بولس يعلم أنَّ الربّ مسيطر على جميع الأحداث، على الرغم من أنَّ سجنه ومحاكمته الوشيكة أمام الإمبراطور نيرون جعلا الوضع يبدو قاتمًا للغاية.
- بِطَلْبَتِكُمْ: كان بولس واثقًا جدًا لأنَّه كان يعلم أنَّ أهل فيلبّي يصلّون من أجله. فإنّ خلاصه في الوضع الحاليّ مرتبط بطلبة (أي صلاة) أهل فيلبّي.
- يمكننا أن نقول على سبيل الجدل أنّ أهل فيلبّي إذا لم يصلّوا من أجل بولس، كان إنقاذ الله له سيتعطّل. ويبدو أكيدًا أنَّ بولس كان يفكّر بهذه الطريقة، وهذا يدلّ على أهمّيّة الصلاة وجدّيتها.
- بِطَلْبَتِكُمْ وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: لم تكنَّ صلاة أهل فيلبّي في حدّ ذاتها هي التي ستلبّي حاجة بولس. بل مُؤَازَرَة رُوحِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ التي دبّرت خلاص بولس من خلال صلاة أهل فيلبّي. قد تمّت تلبية احتياجات بولس بواسطة روح الله، لكنّ تدبير احتياج بولس حدث بفضل صلوات أهل فيلبّي.
- حَسَبَ ٱنْتِظَارِي وَرَجَائِي: هذه كلمات تعبر عن الإيمان. فقد وثق بولس بالله كثيراً، وكان واثقاً أن ظنه لن يخيب أبداً (لاَ أُخْزَى فِي شَيْءٍ). وآمن بأنّ الله لن يتخلى عنه أو ينقلب ضده.
- على الرغم من أنّه كان في السجن وكان ينتظر المحاكمة أمام قيصر، إِلَّا أنَّ بولس كان على ثقة بأنّه في قلب إرادة الله. وكان يعلم أنّ الله لم يعاقبه بالمحنة التي كان يخوضها في ذلك الوقت.
- يَتَعَظَّمُ ٱلْمَسِيحُ فِي جَسَدِي، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ: كان بولس يثق بهذا أيضًا، واعترف لأهل فيلبّي بأنّه قد لا يتمّ الإفراج عنه من سجنه الحاليّ، بل قد يؤدي سجنه إلى استشهاده.
- لم يعِش بولس حياته للحفاظ على نفسه ورفع شأنه، بل لتمجيد يسوع المسيح. فإن قرّر يسوع ذات يوم أنَّ بولس يمكنه تمجيده على أفضل وجه ببذل حياته، فسيسعد بولس جدًا بهذه الفرصة.
- بَيْد أنَّ صدمة أهل فيلبّي لابُدَّ أنْ كانت قويّة، حيث أنّهم سبق وشاهدوا الله يفعل الكثير من معجزات الإنقاذ الرائعة في حياة بولس بينهم (أعمال الرسل ١١:١٦-٤٠). وكان من السهل على أهل فيلبّي ربط مجد الله بتخليص الفرد من مشاكله فقط، لا بتخليصه وسط مشاكله.
- من السهل علينا أن نُملِي على الله كيف يستطيع أو لا يستطيع أن يمجّد نفسه في حياتنا. ولكنَّ بولس كان حكيمًا، إذ ترك هذا كله لله.
د ) الآيات (٢١-٢٦): عدم خوف بولس من الموت وأثر ذلك على نظرته للخدمة.
٢١لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ. ٢٢وَلكِنْ إِنْ كَانَتِ الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي، فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي! ٢٣فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ الاثْنَيْنِ: لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا. ٢٤وَلكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي الْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ. ٢٥فَإِذْ أَنَا وَاثِقٌ بِهذَا أَعْلَمُ أَنِّي أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي الإِيمَانِ، ٢٦لِكَيْ يَزْدَادَ افْتِخَارُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ فِيَّ، بِوَاسِطَةِ حُضُورِي أَيْضًا عِنْدَكُمْ.
- لِأَنَّ لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ وَٱلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ: كان بولس يعلم أنّ الموت ليس هزيمة للمؤمن. بل هو مُجرَّد تخرّجًا للمجد، أي رِبْحٌ صافٍ للمؤمن.
- سيكون موت بولس في ذلك الوقت ربحًا في حالتين.
- أولًا، موته من أجل قضية المسيح سيمجّد يسوع، وذلك في حدّ ذاته رِبْحٌ.
- ثانيًا، الوجود في حضور الربّ المباشر رِبْحٌ لبولس.
- فكرة أن بولس اعتبر الموت ربحًا حاليًا تتعارض مع فكرة ’نوم الروح.‘ حيث يقول هذا التعليم الخاطئ إنّ الموتى من المؤمنين يبقوا في حالة من السبات حتّى وقت القيامة. كما تتعارض أيضًا مع فكرة ’المطهر‘ التي تقول إنَّه يجب تطهير الموتى المؤمنين بواسطة التألّم قبل دخول محضر الله.
- وهذا أيضًا دليل واضح على عدم خوف بولس من الموت. فعلى الرغم من خوف البشر من الموت، لا ينبغي لأي مؤمن أن يخشاه. “خوف البشر من الموت يؤكد على أنهم أشرار، لكن خوف المؤمنين من الموت يؤكد على أنهم في حالة من الضعف والمرض الشديد.” سبيرجن (Spurgeon)
- سيكون موت بولس في ذلك الوقت ربحًا في حالتين.
- وَلَكِنْ إِنْ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ فِي ٱلْجَسَدِ هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي: كان بولس واثقًا من أنَّ الله قصد له أنْ يكون مثمرًا. ولم يكن يساوره شكّ في أنّ هذه خطّة الله له. فإذا عاش بولس، ستكون حياته مثمرة.
- لكنْ من المؤسف أنَّ الكثيرين من المؤمنين لم يصلوا إلى حالة النضج التي يثقون فيها أنَّ حياتهم ستأتي بثمار لملكوت الله.
- فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ ٱلِٱثْنَيْنِ: مع علمه بأنّ موته يمكن أن يكون رِبحًا – سواء بالنسبة للإنجيل أو له شخصيًّا – كان بولس مُمزَّقًا بين وجوده مع الربّ واستمراره في خدمة أهل فيلبّي وغيرهم.
- لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ: رغم شدة هذا القول، ولكن يجب أن نقول إنَّ بولس، بطريقة ما، أراد أن يموت. وفي الواقع، تصف كلمة «ٱشْتِهَاءٌ» شوقًا قويًا: “قال إنَّه يشتهي الانطلاق، وكانت شهوته في ذلك قويّة. فالكلمة اليونانية هنا تعبّر عن رغبة شديدة. إذ أنّه يلهث بل يتوق إلى الرحيل.” سبيرجن (Spurgeon)
- أراد أناس آخرون أيضًا أن يموتوا.
- اشتهى بعض الناس الموت، بسبب ما عانوا من اكتئاب وظلام يؤدي إلى الانتحار.
- وقد سئم البعض من هذا العالم وقسوة الآخرين فظنّوا أنَّ الموت أفضل.
- وأراد البعض الموت بسبب أزمة تعرّضوا لها فسبّبت لهم الألم.
- لكنَّ ٱشْتِهَاء بولس أَنْ يَنْطَلِقَ لم يكن له أي علاقة بمواقف هؤلاء الناس. وربما كانت دوافع بولس للانطلاق كثيرة.
- الانطلاق إلى الفردوس يعني أنّه سوف ينتهي أخيرًا من الخطيئة والتجارب.
- الانطلاق إلى الفردوس يعني أنّه سوف يرى الإخوة والأخوات الذين انطلقوا إلى السماء من قبله.
- والأهم من ذلك كله، الانطلاق إلى الفردوس يعني أنّه يكون مَعَ ٱلْمَسِيحِ بطريقة أقرب وأفضل من أي وقت مضى.
- لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ: “يبدو أنَّ هذه استعارة من كلام رُبّان سفينة في ميناء غريب يشعر برغبة قويّة في الإبحار والوصول إلى بلده وعائلته؛ لكنَّ هذه الرغبة يقابلها اقتناع بأنّ المصالح العامة للرحلة تقتضي إقامته فترة أطول في ذلك الميناء؛ فسفينته ليست عند الرصيف ولم تجنح، بل هي راسية في الميناء، وقد ترفع المرساة وتنطلق في أيّة لحظة.” كلارك (Clark)
- كان بولس يعلم أنّه إذا انطلق، فلن تكون الرحلة طويلة. “الشراع منشور، والنفس تتوق إلى العمق. فكم ستطول رحلتها؟ وكم من رياح مزعجة ستضرب شراعها قبل أنْ تطوي شراعها في مرفأ السلام؟ وكم مَرَّة تتدافع الأمواج تلك النفس قبل أن تبلغ البحر الخالي من العواصف. خبّروا، خبّروا في كل مكان؛ إنَّ تلك السفينة التي غادرت للتو قد بلغت المرفأ. ما أنْ نشرت شراعها حتّى بلغت الميناء.” سبيرجن (Spurgeon)
- وَلَكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي ٱلْجَسَدِ أَلْزَمُ (أفيد) مِنْ أَجْلِكُمْ: كان بولس يدرك أنَّ الآخرين لم يزالوا بحاجة إليه وأنّ عمله لم ينته بعد. لذا، فرغم إقراره بإمكانية استشهاده، قال لأهل فيلبّي إنَّه يتوقع أن ينجو هذه المَرَّة (أَعْلَمُ أَنِّي أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ).
- كان بولس وَاثِقًا ومليئًا بالإيمان، ولكن يبدو أنَّه لم يمتلك يقينًا مطلقًا. وافتقاره إلى اليقين المطلق سبّب تعزية لنا. فحتى هذا الرسول العظيم لم يملك يقينًا نبويًّا عن المستقبل.
- وكما نعلم، نجا بولس من هذا السجن وأُطلِق سراحه ولكن استشهد في روما في وقت لاحق. وقد جاء لزيارة أهل فيلبّي مَرَّة أخرى.
- لِكَيْ يَزْدَادَ ٱفْتِخَارُكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ فِيَّ، بِوَاسِطَةِ حُضُورِي أَيْضًا عِنْدَكُمْ: كانت صداقة بولس لأهل فيلبّي حميمة جدًا إلى درجة أنّه كان يعلم أنّهم سيفرحون برؤيته مَرَّة أخرى.
ثالثاً. كيف ينبغي لأهل فيلبّي أن يسلكوا في غياب بولس
أ ) الآية (٢٧): أراد بولس أن يعمل أهل فيلبّي معًا من أجل قضية الإنجيل.
٢٧فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، حَتَّى إِذَا جِئْتُ وَرَأَيْتُكُمْ، أَوْ كُنْتُ غَائِبًا أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ، مُجَاهِدِينَ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لإِيمَانِ الإِنْجِيلِ.
- فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ: الكلمة اليونانية المترجمة ’عِيشُوا‘ تعني حرفيًا: ’عيشوا كمواطنين.‘ فقد أوصى بولس أهل فيلبّي أن يكونوا مواطنين صالحين ووطنيين في ملكوت الله. وسيتطرق بولس لهذا الموضوع مَرَّة أخرى في رسالة فيلبّي.
- أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ: أراد بولس أنْ يعلمَ أهلُ فيلبّي أنّهم مسؤولون أمامه، وأنه سوف يتفقّد شؤونهم.
- أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ… بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ: أراد بولس أن يطمئنّ أن كنيسة فيلبّي باقية معًا كجسد واحد دون تفكُّك وانشقاق.
- مُجَاهِدِينَ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لِإِيمَانِ ٱلْإِنْجِيلِ: أراد بولس أن تُستغَلّ وحدتهم في غرض مثمر، بحيث تزداد الثقة والإيمان بالخبر السار عن يسوع المسيح بين المؤمنين وبين غير المؤمنين بعد.
ب) الآية (٢٨): بولس يريد أن يكون أهل فيلبّي جريئين أمام خصومهم.
٢٨غَيْرَ مُخَوَّفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُقَاوِمِينَ، الأَمْرُ الَّذِي هُوَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ لِلْهَلاَكِ، وَأَمَّا لَكُمْ فَلِلْخَلاَصِ، وَذلِكَ مِنَ اللهِ.
- غَيْرَ مُخَوَّفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ ٱلْمُقَاوِمِينَ: في اللغة اليونانية القديمة، كلمة «مُخَوَّفِينَ»: “هي مصطلح قوي فريد من نوعه في الكتاب المقدس اليوناني ويشير إلى تدافع الخيول الفزعة بطريقة لا يمكن السيطرة عليها” مارتن (Martin). ففي مواجهة هذا النوع من المقاومة، أراد بولس أن يتسلّحوا مؤمني فيلبّي بنفس الجرأة التي لديه.
- ٱلْأَمْرُ ٱلَّذِي هُوَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ لِلْهَلَاكِ: عندما لا يخشى المؤمنون ٱلْمُقَاوِمِينَ، فهذا في حدّ ذاته دليل على هلاك – أو دمار – ٱلْمُقَاوِمِينَ.
- تعني كلمة هَلَاك (الكلمة اليونانية القديمة هي أپوليا apolia) الدمار أو الفناء أو الدينونة. وتُستخدَم الكلمة أيضًا في أماكن مثل فيلبّي ١٩:٣ وبطرس الثانية ١:٢. وقد استخدم اللقب ’ابْنُ الْهَلاَكِ‘ على كلٍّ من يهوذا (يوحنا ١٢:١٧) وضدّ المسيح (تسالونيكي الثانية ٣:٢).
- عندما يصمد المؤمنون ضد تخويف العالم والجسد والشيطان، يُظهِر ذلك لهؤلاء الأعداء الروحيين أنَّ دمارهم النهائي محتوم.
- وعندما يفشل أعداؤنا الروحيون في تخويفنا، فهم يفشلون تمامًا لأنَّ ليس لديهم سلاح آخر يستخدموه ضدنا سوى التخويف والإرهاب.
- لكنْ عندما نعجز عن أنْ نكون غَيْرَ مُخَوَّفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ ٱلْمُقَاوِمِينَ، فإننا نعطي ’أملاً‘ و’ثقة‘ لأعدائنا الروحيين، على الرغم من أنّهما أمل وثقة زائفان لأن هلاكهم لا يزال أكيدًا.
- وَأَمَّا لَكُمْ فَلِلْخَلَاصِ: عندما لا يكون المؤمنون مُخَوَّفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ مُقَاوِمِيـهم، فهذا دليل أيضًا على خلاصهم. فيمكننا أنْ نفاجئ أنفسنا في الربّ بجرأتنا.
ج) الآيات (٢٩-٣٠): لماذا لا ينبغي لأهل فيلبّي أنْ يرتعبوا من خصومهم: لأن الهجمات والتحديات التي يواجهونها مُرتَّبة من الله.
٢٩لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ. ٣٠إِذْ لَكُمُ الْجِهَادُ عَيْنُهُ الَّذِي رَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، وَالآنَ تَسْمَعُونَ فِيَّ.
- لِأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ: لقد وُهِبَ لأهل فيلبّي أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وبنفس الطريقة التي وُهِب لهم أنْ يؤمنوا به، وُهِب لهم أيضًا امتياز أَنْ يَتَأَلَّمُوا لِأَجْلِهِ.
- لم ينبغِ لأهل فيلبّي أنْ يخافوا لِئَلاَّ يكون معنى محنتهم الحاليّة (ومحنة بولس الحاليّة) أن الله تخلَّى عنهم. فمتاعبهم الحاليّة قد وُهِبَت لهم، ليس كعقاب، بل كوسيلة ليستخدمها الله لمجده وانتشار ملكوته.
- بَلْ أَيْضًا أَنْ تَتَأَلَّمُوا لِأَجْلِهِ: الكلمة اليونانية القديمة المترجمة هنا بكلمة «تَتَأَلَّمُوا» هي باسكو pasko. وهذه الكلمة تُستَخدم أساسًا بمعنى الاضطهاد. ولكنها تُستَخدم أيضًا بمعنى التألّم الجسدي غير المرتبط بالاضطهاد (أعمال الرسل ٥:٢٨ ومتّى ١٥:١٧) والتألّم وقت التجربة (عبرانيين ١٨:٢) وبمعنى المصاعب عمومًا (كورنثوس الأولى ٢٦:١٢ وغلاطية ٤:٣).
- “لا يمكن استئمان الجميع على التألُّم. ولا يمكن للجميع الصمود في المحن المحرقة. فقد يتكلمون بتهور وشكوى. لذلك ينبغي للسيد أن يختار بعناية وتمحيص تلك الأغصان التي يمكن أن تحتمل السكّين.” ماير (Meyer)
- “ارفع عينيك وتحمّل كل وخزة ألم وكل ساعة من الكرب كعطيّة. واجرؤ على أن تشكره عليه، وابحث داخل مظروف الألم عن الرسالة التي يحتويها. فالعلبة قاسية وخشنة فعلاً، لكنّها تحتوي على كنز.” ماير (Meyer)
- إِذْ لَكُمُ ٱلْجِهَادُ عَيْنُهُ ٱلَّذِي رَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، وَٱلْآنَ تَسْمَعُونَ فِيَّ: كان لأهل فيلبّي نفس ٱلْجِهَاد (العناء) الذي كان لبولس وهو بينهم في فيلبّي ونفس ٱلْجِهَاد الذي واجهه في روما. فكان جِهَادُ أهل فيلبّي يتعلّق بصعوبة السير مع الربّ والمناداة بالإنجيل عند تعرّضهم للاضطهاد والهجوم.
- ٱلْجِهَادُ هو الكلمة اليونانية القديمة أغون (agon) التي تصف المكان الذي كانت تقام فيه المسابقات الرياضية، وصارت تعني في وقت لاحق المسابقة نفسها. وكلمة agony وagonize (عذاب أو كرب بالإنجليزية) مشتقة من هذه الكلمة اليونانية القديمة.
- إذا كان أهل فيلبّي يعانون من جِهَاد (كرب) مثل جهاد بولس، فيمكنهم أيضًا الحصول على فرح بولس وثمره في وسط ذلك الكرب.