سفر مراثي إرميا – الإصحاح ١
رثاء على المدينة الساقطة
يتألف سفر مراثي إرميا من خمس قصائد أو أغاني ترثي سقوط أورشليم ومملكة يهوذا.
“كان شعر الرثاء، الذي يجسده سفر مراثي إرميا، شائعًا في العصور القديمة في الشرق الأدنى. لذلك برثاء دمار أورشليم وخراب يهوذا عام ٥٨٧ ق. م. اتبع كاتب سفر مراثي إرميا سلسلة طويلة ومرموقة من التقليد الأدبي.” آر. كي. هاريسون (R.K. Harrison)
يعتبر سفر مراثي إرميا سفرًا استثنائيًا لأن القصائد الأربع الأولى، من بين القصائد الخمس، مرتبة ترتيبًا أبجديًا، أي أن كل سطر وقسم من هذه القصائد يبدأ بحرف من حروف الأبجدية العبرية الاثنين والعشرين.
“يرمز استخدام كل الحروف الأبجدية – من الألف إلى الياء – إلى التعبير عن كمال الحزن.” إتش. إل. إليسون (H.L. Ellison)
لقد كانت تلك المراثي تعكس حزن الشعب اليهودي على مدينتهم الساقطة، كما كانت تذكّرهم بهذا الحزن وتعطيهم الكلمات ليعبروا عنه. “بحسب ما يمتد التقليد إلى الوراء، كانت المراثي تُقرأ في ليلة ’تيشـْعاه بئاڤ‘ (أي التاسع من آب – ذكرى خراب الهيكل المقدس). لذلك صار من المنطقي افتراض أنها كانت مُعدّة لهذا الغرض منذ البداية.” إتش. إل. إليسون (H.L. Ellison)
يقول غريغوريوس النزينزي (Gregory Nazianzen): “في كل مرة كنت أقرأ فيها سفر مراثي إرميا كان يخونني صوتي، وتغمرني الدموع. وإذا جاز التعبير، كانت معاناة ذلك الشعب البائس تتجلى بوضوح أمامي، فيتأثر قلبي ويتألم بشدة.” جون تراب (John Trapp)
أولًا. أورشليم البائسة بلا تعزية
أ ) الآيات (١-٢): الحزن على مدينة خاوية وخربة.
١كَيْفَ جَلَسَتْ وَحْدَهَا الْمَدِينَةُ الْكَثِيرَةُ الشَّعْبِ! كَيْفَ صَارَتْ كَأَرْمَلَةٍ الْعَظِيمَةُ فِي الأُمَمِ. السَّيِّدَةُ في الْبُلْدَانِ صَارَتْ تَحْتَ الْجِزْيَةِ! ٢تَبْكِي في اللَّيْلِ بُكَاءً، وَدُمُوعُهَا علَى خَدَّيْهَا. لَيْسَ لَهَا مُعَزّ مِنْ كُلِّ مُحِبِّيهَا. كُلُّ أَصْحَابِهَا غَدَرُوا بِهَا، صَارُوا لهَا أَعْدَاءً.
١. كَيْفَ جَلَسَتْ وَحْدَهَا الْمَدِينَةُ: كتب إرميا بعد كارثة هزيمة أورشليم مفكرًا في التباين بين أورشليم السعيدة والمزدهرة والمدينة التي جَلَسَتْ وَحْدَهَا خاوية ومنهزمة بعد الغزو البابلي. لقد كانت ذات يوم كَثِيرَةُ الشَّعْبِ، وهي الآن خالية من السكان. كانت المدينة قبلًا هي الْعَظِيمَةُ فِي الأُمَمِ، والآن قد صارت تَحْتَ الْجِزْيَةِ كالعبد.
• لم يُذكر صراحةً أن إرميا هو كاتب سفر مراثي إرميا، إلا أنه استنتاج معقول يستند إلى التقليد الطويل الأمد وأيضًا إلى التشابه الكبير مع سفر إرميا. ومن المحتمل أنه كتب هذه المجموعة من القصائد الخمس بعد أن هزم البابليون أورشليم، وقبل أن يُنقل إلى مصر ضد إرادته (إرميا ٤٣). ويُذكر بشكل صريح في سفر أخبار الأيام أن إرميا هو كاتب مراثي أخرى (٢ أخبار الأيام ٣٥: ٢٥).
• “في جميع نسخ الترجمة السبعينية، سواء كانت من الطبعات الرومانية أو الإسكندرانية، تُوجد الكلمات التالية كجزء من النص: ’وحدث بعد سبي إسرائيل وخراب أورشليم، أن إرميا جلس يبكي ويرثي أورشليم وقال هذه المراثي.‘” كلارك (Clarke)
• كَيْفَ جَلَسَتْ وَحْدَهَا الْمَدِينَةُ: “توضح الْعُمْلَة ’يهودا كابتا‘ التي أصدرها فيسباسيان بعد احتلال أورشليم هذا التعبير: شجرة نخيل (شعار يهوذا) وتحتها امرأة (شعار أورشليم) تجلس متكئة حزينة.” كلارك (Clarke)
• الْعَظِيمَةُ فِي الأُمَمِ: “هكذا كانت أثينا، التي كانت مجد اليونان بسبب فنونها وأسلحتها، أصبحت الآن مسكنًا خربًا. وبالمثل إسبرطة أو سبارتا، التي كانت ذو المكانة الخاصة باليونان، أصبحت الآن جحرًا صغيرًا يُدعى مسيثرا، ليس لديها ما تفاخر به سوى صيتها وأفكار عظمتها السابقة.” تراب (Trapp)
٢. تَبْكِي في اللَّيْلِ بُكَاءً: بمهارة شعرية، فكر إرميا في أورشليم كأميرة أرملة ذليلة تبكي بجنون ولَيْسَ لَهَا مُعَزّ. إن حزن إرميا عميق وواضح. وعلى الرغم من أن هزيمة أورشليم أثبتت صدق نبوءاته الكثيرة عليها، إلا أنه لم يشعر بالنصرة أو بالشماتة. لقد حزن إرميا بعمق مع حزن أورشليم ويهوذا.
• “للتأكيد على مأساة الدمار، يستخدم الكاتب صورة امرأة ثكلى فقدت زوجها وأطفالها، ترثي حالتها الحالية المزرية بمرارة وقلق وخوف.” هاريسون (Harrison)
• “في سفر المراثي الموجز هذا، تتجلى روح إرميا بشكل لافت. فلا يوجد تهليل بتحقيق نبوءاته؛ لكنه بدلًا من ذلك، يظهر ولاءه المزدوج طوال الوقت، أولًا لله في الاعتراف بالخطية، ثم ولاء لشعبه من خلال التعبير عن حزنهم.” مورجان (Morgan)
٣. كُلُّ أَصْحَابِهَا غَدَرُوا بِهَا: في الأيام الخوالي تمتعت أورشليم بتحالفات موالية. والآن كل هؤلاء الأصحاب صَارُوا لهَا أَعْدَاءً.
• “كانت إسرائيل تواجه دائمًا خيارًا لا مفر منه. فإما أن تتكل على الله لحمايتها من العدوان الخارجي، أو يمكنها التوجه إلى حلفاء كبار وصغار.” أليسون (Ellison)
ب) الآيات (٣-٦): تحت تأديب من الرب.
٣قَد سُبِيَتْ يَهُوذَا مِنَ الْمَذَلَّةِ وَمِنْ كَثْرَةِ الْعُبُودِيَّةِ. هِيَ تَسْكُنُ بَيْنَ الأُمَمِ. لاَ تَجِدُ رَاحَةً. قَدْ أَدْرَكَهَا كُلُّ طَارِدِيهَا بَيْنَ الضِّيقَاتِ. ٤طُرُقُ صِهْيَوْنَ نَائِحَةٌ لِعَدَمِ الآتِينَ إِلَى الْعِيدِ. كُلُّ أَبْوَابِهَا خَرِبَةٌ. كَهَنَتُهَا يَتَنَهَّدُونَ. عَذَارَاهَا مُذَلَّلَةٌ وَهِيَ فِي مَرَارَةٍ. ٥صَارَ مُضَايِقُوهَا رَأْسًا. نَجَحَ أَعْدَاؤُهَا لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَذَلَّهَا لأَجْلِ كَثْرَةِ ذُنُوبِهَا. ذَهَبَ أَوْلاَدُهَا إِلَى السَّبْيِ قُدَّامَ الْعَدُوِّ. ٦وَقَدْ خَرَجَ مِنْ بِنْتِ صِهْيَوْنَ كُلُّ بَهَائِهَا. صَارَتْ رُؤَسَاؤُهَا كَأَيَائِلَ لاَ تَجِدُ مَرْعًى، فَيَسِيرُونَ بِلاَ قُوَّةٍ أَمَامَ الطَّارِدِ.
١. قَد سُبِيَتْ يَهُوذَا: بعد تقديم الصور الشعرية في الأبيات القليلة الأولى، قدم إرميا الحقيقة ببساطة. لقد سقطت يهوذا وسُبِيَت. صارت أبوابها التي كانت يومًا ما مزدحمة خاوية تمامًا (كُلُّ أَبْوَابِهَا خَرِبَةٌ)، وأغتمّ كل من كان له علاقة بأورشليم؛ صاروا يَتَنَهَّدُونَ وفي مَذَلَّةِ. لقد نَجَحَ أَعْدَاء يهوذا وصاروا مباركون ورَأْسًا لهم.
• لِعَدَمِ الآتِينَ إِلَى الْعِيدِ: “إن الطرق المؤدية إلى أورشليم، والتي كانت يومًا ما مزدحمة بالزائرين الصاعدين إلى الهيكل لممارسة الطقوس الاحتفالية، أصبحت الآن مهجورة بالكامل.” هاريسون (Harrison)
٢. لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَذَلَّهَا: فهم إرميا أن هذه المأساة لم تكن نتيجة القدر أو قسوة الإنسان أو الدورات التاريخية العشوائية. بل كانت بسبب أن مملكة يهوذا أخطأت لفترات طويلة وانغمست بشدة في الخطية، حتى أن الله أَذَلَّهَا بتأديب شديد. لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَذَلَّهَا لأَجْلِ كَثْرَةِ ذُنُوبِهَا.
• لأَجْلِ كَثْرَةِ ذُنُوبِهَا: “على الرغم من أن كلمة (pesa) تُترجم تقليديًا لوصف كلمة ’ذُنُوب‘ إلا أنها في الأساس كلمة علمانية تعني العصيان والتمرد – وهي كلمة يظهر معناها بشكل أكمل في هذا النوع من السياق.” أليسون (Ellison)
• ذَهَبَ أَوْلاَدُهَا إِلَى السَّبْيِ قُدَّامَ الْعَدُوِّ: “بسبب كَثْرَةِ ذُنُوبِهَا – الأمر المتناقض تمامًا مع وعد الرب لها ببركات الطاعة – قد أخذ العدو بالقوة صغارنا وشيوخنا، وحتى أطفالنا كالغنم لعبودية بائسة.” بوله (Poole)
٣. وَقَدْ خَرَجَ مِنْ بِنْتِ صِهْيَوْنَ كُلُّ بَهَائِهَا: شعر إرميا بحزن أكبر عندما تذكر كيف كانت أورشليم فيما قبل. والآن، أصبح الشعب مهزومًا ومدينة أورشليم نفسها مقفرة.
٤. صَارَتْ رُؤَسَاؤُهَا كَأَيَائِلَ: لقد فقدت مدينة أورشليم الأمل وقادتها هجروها. هرب رُؤَسَاؤُهَا مثل أَيَائِلَ، ولكن دون جدوى أيضًا (فَيَسِيرُونَ بِلاَ قُوَّةٍ أَمَامَ الطَّارِدِ).
• “تتناقض صورة الأيائل التي بلا مرعى بشدة مع المشهد الموصوف في المزمور ٢٣.” هاريسون (Harrison)
ج) الآية (٧): تَذَكُّر الأيام الجميلة.
٧قَدْ ذَكَرَتْ أُورُشَلِيمُ فِي أَيَّامِ مَذَلَّتِهَا وَتَطَوُّحِهَا كُلَّ مُشْتَهَيَاتِهَا الَّتِي كَانَتْ فِي أَيَّامِ الْقِدَمِ. عِنْدَ سُقُوطِ شَعْبِهَا بِيَدِ الْعَدُوِّ وَلَيْسَ مَنْ يُسَاعِدُهَا. رَأَتْهَا الأَعْدَاءُ. ضَحِكُوا عَلَى هَلاَكِهَا.
١. قَدْ ذَكَرَتْ أُورُشَلِيمُ… كُلَّ مُشْتَهَيَاتِهَا: لقد تفاقمت مأساة سقوط أورشليم بعد تذكّر ما كانت عليه الأمور في السابق. فذكرى كُلَّ مُشْتَهَيَاتِهَا كانت بمثابة اللدغة فِي أَيَّامِ مَذَلَّتِهَا وَتَطَوُّحِهَا.
٢. عِنْدَ سُقُوطِ شَعْبِهَا بِيَدِ الْعَدُوِّ وَلَيْسَ مَنْ يُسَاعِدُهَا: عندما هاجم العدو أورشليم، وقفت وحيدة، ولم تصل تلك المساعدة المتوقعة من مصر أبدًا. ونتيجة لذلك، رَأَتْهَا الأَعْدَاءُ وضَحِكُوا عَلَى هَلاَكِهَا.
د ) الآيات (٨-١١): سبب افتقار أورشليم لمن يُعَزِّيها.
٨قَدْ أَخْطَأَتْ أُورُشَلِيمُ خَطِيَّةً، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ صَارَتْ رَجِسَةً. كُلُّ مُكَرِّمِيهَا يَحْتَقِرُونَهَا لأَنَّهُمْ رَأَوْا عَوْرَتَهَا، وَهِيَ أَيْضًا تَتَنَهَّدُ وَتَرْجعُ إِلَى الْوَرَاءِ. ٩نَجَاسَتُهَا فِي أَذْيَالِهَا. لَمْ تَذْكُرْ آخِرَتَهَا وَقَدِ انْحَطَّتِ انْحِطَاطًا عَجِيبًا. لَيْسَ لَهَا مُعَزّ. «انْظُرْ يَا رَبُّ إِلَى مَذَلَّتِي لأَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ تَعَظَّمَ». ١٠بَسَطَ الْعَدُوُّ يَدَهُ عَلَى كُلِّ مُشْتَهَيَاتِهَا، فَإِنَّهَا رَأَتِ الأُمَمَ دَخَلُوا مَقْدِسَهَا، الَّذِينَ أَمَرْتَ أَنْ لاَ يَدْخُلُوا فِي جَمَاعَتِكَ. ١١كُلُّ شَعْبِهَا يَتَنَهَّدُونَ، يَطْلُبُونَ خُبْزًا. دَفَعُوا مُشْتَهَيَاتِهِمْ لِلأَكْلِ لأَجْلِ رَدِّ النَّفْسِ. «انْظُرْ يَا رَبُّ وَتَطَلَّعْ لأَنِّي قَدْ صِرْتُ مُحْتَقَرَةً».
١. قَدْ أَخْطَأَتْ أُورُشَلِيمُ خَطِيَّةً، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ صَارَتْ رَجِسَةً: بينما يصور إرميا السقوط المأساوي لأورشليم، من الطبيعي أن يتساءل المرء عن السبب. والجواب بسيط: بسبب الخطية العظيمة التي ارتكبها أهل المدينة على مر الأجيال.
• “إن قصة خرابها ممتزجة باعترافاتها بخطيتها. إنها تتساءل بجرأة عما إذا كان هناك أي حزن مماثل لحزنها، ثم تعترف بأن لا شيء من معاناتها يفوق حجم خطاياها.” ماير (Meyer)
٢. لأَنَّهُمْ رَأَوْا عَوْرَتَهَا: المدينة التي كانت ذات يوم لها كرامة أصبحت الآن مُهانة ومُتَعَرية. مثل ملكة جُردت من ردائها الملكي، تَتَنَهَّدُ وَتَرْجعُ إِلَى الْوَرَاءِ.
• “هنا تُشبَّه أورشليم بعاهرة حقيرة شعثاء، تكشف عورتها بلا خجل، ولا تبالي ببقع دم الحيض.” إليسون (Ellison)
• نَجَاسَتُهَا فِي أَذْيَالِهَا: “إنها بالأحرى تفتخر بشرّها بدلًا من أن تشعر بأدنى خجل – وقد عبّر عن ذلك بصورة مجازية لامرأة حائض غير محتشمة.” تراب (Trapp)
٣. لَمْ تَذْكُرْ آخِرَتَهَا: كامرأة (أو رجل) أحمق، لم تفكر أورشليم أبدًا فيما ستكون عواقب الخطية والتمرد. إن عدم تفكيرها المُسبق كان يعني انحطاطها انْحِطَاطًا عَجِيبًا.
٤. انْظُرْ يَا رَبُّ إِلَى مَذَلَّتِي: هذه الصلاة، التي يبدو أنها خرجت من شفاه المدينة المنكوبة، تقتحم المشهد البائس فجأة. كل ما بوسع أورشليم أن تفعله هو الصراخ إلى الله الذي رفضته قبلًا لأنه لَيْسَ لَهَا مُعَزّ ليساعدها عندما يعَظَّمَ الْعَدُوَّ نفسه.
• فَإِنَّهَا رَأَتِ الأُمَمَ دَخَلُوا مَقْدِسَهَا: “حتى هؤلاء الأمم الذين كانوا ممنوعين سابقًا من الدخول لجماعة بني إسرائيل، أصبحوا الآن يدنسون الهيكل المقدس بأكثر الطرق وحشية.” هاريسون (Harrison)
٥. انْظُرْ يَا رَبُّ وَتَطَلَّعْ لأَنِّي قَدْ صِرْتُ مُحْتَقَرَةً: هذه صلاة أخرى ترتفع من أورشليم، المدينة الجائعة تصرخ طلبًا للمساعدة (يَطْلُبُونَ خُبْزًا).
هـ) الآية (١٢): حزن لا يُضَاهى.
١٢أَمَا إِلَيْكُمْ يَا جَمِيعَ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟ تَطَلَّعُوا وَانْظُرُوا إِنْ كَانَ حُزْنٌ مِثْلُ حُزْنِي الَّذِي صُنِعَ بِي، الَّذِي أَذَلَّنِي بِهِ الرَّبُّ يَوْمَ حُمُوِّ غَضَبِهِ؟
١. أَمَا إِلَيْكُمْ يَا جَمِيعَ عَابِرِي الطَّرِيقِ: نظر العالم غير المتعاطف إلى بؤس أورشليم واعتبره كلا شيء. ولم يكن لها من يُعَزِّيها. (مراثي ١: ٩). وتعجبت أورشليم المُجَسّدة في هذه المرثاة من غياب التعاطف.
٢. إِنْ كَانَ حُزْنٌ مِثْلُ حُزْنِي: شعرت أورشليم بما يشعر به العديد من المتألمين؛ وهو أنه لا مثيل لحُزنِها ولا يمكن للآخرين فهمه. وفي حين أن هذا حقيقي بشكل ما، إلا أن أولئك الذين يمرون بظروف صعبة ويتألمون كثيرًا يشتركون في هذا الشعور، وقليلون جدًا إن وُجدوا، هم من يستطيعوا فهم أعماق حُزْنهم بشكل كامل.
• “إن الخراب والضيق الذي لحق بهذه المدينة وشعبها ليس له مثيل حقًا. فالانتهاك الشديد لمراحم الله الوفيرة يستدعي عقوبة استثنائية رادعة.” كلارك (Clarke)
٣. الَّذِي أَذَلَّنِي بِهِ الرَّبُّ: عرف إرميا (وأورشليم المُجَسّدة) مصدر حزنهم الحقيقي، فهو لم يكن البابليون، بل الرَّبّ هو الذي أَذَلَّهم بهذا الدمار.
ثانيًا. يد الله في مأساة أورشليم
أ ) الآيات (١٣-١٥): ما فعله الرب بأورشليم.
١٣مِنَ الْعَلاَءِ أَرْسَلَ نَارًا إِلَى عِظَامِي فَسَرَتْ فِيهَا. بَسَطَ شَبَكَةً لِرِجْلَيَّ. رَدَّنِي إِلَى الْوَرَاءِ. جَعَلَنِي خَرِبَةً. الْيَوْمَ كُلَّهُ مَغْمُومَةً. ١٤شَدَّ نِيرَ ذُنُوبِي بِيَدِهِ، ضُفِرَتْ، صَعِدَتْ عَلَى عُنُقِي. نَزَعَ قُوَّتِي. دَفَعَنِي السَّيِّدُ إِلَى أَيْدٍ لاَ أَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ مِنْهَا. ١٥رَذَلَ السَّيِّدُ كُلَّ مُقْتَدِرِيَّ فِي وَسَطِي. دَعَا عَلَيَّ جَمَاعَةً لِحَطْمِ شُبَّانِي. دَاسَ السَّيِّدُ الْعَذْرَاءَ بِنْتَ يَهُوذَا مِعْصَرَةً.
١. مِنَ الْعَلاَءِ أَرْسَلَ نَارًا إِلَى عِظَامِي: ترمز النَار، في هذا السياق، إلى الدينونة التي أرسلها الله على أورشليم. لقد أتت الدينونة من السماء (مِنَ الْعَلاَءِ). ويوضح السياق إلى أن المتحدث هنا هي أورشليم، لكن إرميا يستخدم نفس صورة ’أَرْسَلَ نَارًا إِلَى عِظَامِي‘ التي استخدمها متحدثًا عن دعوته النبوية في إرميا ٢٠: ٩.
• “إن أعداء أورشليم ليسوا هم من حاصروها، بل الله نفسه قد حاصرها، مما أدى إلى سقوطها الحتمي والمخزي.” إليسون (Ellison)
٢. جَعَلَنِي خَرِبَةً. الْيَوْمَ كُلَّهُ مَغْمُومَةً: لقد كانت أورشليم كخصم محاصر ومحبوس ومقفر ومستنزف.
٣. شَدَّ نِيرَ ذُنُوبِي بِيَدِهِ، ضُفِرَتْ: صور إرميا أورشليم كثور وحشي مربوط بنِير، ولكن هذا النِير كان مصنوعًا من ذُنُوبِهم. كان مشَدودًا بهم بحبال ضُفِرَتْ بِيَدِ الله.
• شَدَّ نِيرَ ذُنُوبِي: “أنا الآن مُكَبَّل بسلاسل خطاياي التي ضُفِرَتْ، فصارت مُحكَمة وُمضَاعفة ومُلَتفة من حولي لدرجة أنني لا أستطيع تحرير نفسي. إنه تمثيل دقيق لمآسي النفس التائبة، التي تشعر بأن لا شيء يمكن أن يحلّها من هذا القيد سوى رحمة الله الرقيقة.” كلارك (Clarke)
٤. دَاسَ السَّيِّدُ الْعَذْرَاءَ بِنْتَ يَهُوذَا مِعْصَرَةً: استخدم إرميا صورة تلو الأخرى لوصف خراب أورشليم ويَهُوذَا، لكن يُفهم من كل صورة أن الفاعل هو يد الله.
• “لقد داس الرب على اليهود كما يدوس الرجال على العنب في المعصرة، حيث يسحقونه ليستخرجوا العصير، ثم يلقون بالقشور التي لا تصلح لشيء في المَزابِل. هذه مجرد تعبيرات متنوعة لتوضيح عمق المأساة الذي أدخل الله بها هذا الشعب بسبب خطاياهم.” بوله (Poole)
ب) الآيات (١٦-١٧): بُكاء بلا عَزَاء.
١٦عَلَى هذِهِ أَنَا بَاكِيَةٌ. عَيْنِي، عَيْنِي تَسْكُبُ مِيَاهًا لأَنَّهُ قَدِ ابْتَعَدَ عَنِّي الْمُعَزِّي، رَادُّ نَفْسِي. صَارَ بَنِيَّ هَالِكِينَ لأَنَّهُ قَدْ تَجَبَّرَ الْعَدُوُّ». ١٧بَسَطَتْ صِهْيَوْنُ يَدَيْهَا. لاَ مُعَزِّيَ لَهَا. أَمَرَ الرَّبُّ عَلَى يَعْقُوبَ أَنْ يَكُونَ مُضَايِقُوهُ حَوَالَيْهِ. صَارَتْ أُورُشَلِيمُ نَجِسَةً بَيْنَهُمْ.
١. عَلَى هذِهِ أَنَا بَاكِيَةٌ: أحيانًا يُوصف إرميا بأنه النبي الباكي، وهو يتفق مع هذا الوصف. فالمراثي لم تُكتب بعينٍ جافة، بل بعينٍ زاخِرة بالدموع.
٢. لأَنَّهُ قَدِ ابْتَعَدَ عَنِّي الْمُعَزِّي، رَادُّ نَفْسِي: إن أسوأ جوانب بؤس أورشليم لم يكن الكارثة في حد ذاتها، بل كانت في أنهم بالكاد شعروا أو لم يشعروا بأي تعزية أو معونة من الله أثناء الكارثة وكأنه ابْتَعَدَ عنهم تمامًا.
٣. بَسَطَتْ صِهْيَوْنُ يَدَيْهَا. لاَ مُعَزِّيَ لَهَا: لم تحظ أورشليم بأي تعزية من الله، ولا حتى من الإنسان. لقد أصبح كل جيرانها هم مُضَايِقُيها، ونظروا إليها على أنها نَجِسَةً بَيْنَهُمْ وكان ذلك بترتيب من الله (أَمَرَ الرَّبُّ).
• أَمَرَ الرَّبُّ: “تم تمثيل الله هنا على أنه القاضي العادل الذي أخيرًا عاقب شعبه العنيد بسبب عصيانهم المزمن.” هاريسون (Harrison)
• صَارَتْ أُورُشَلِيمُ نَجِسَةً بَيْنَهُمْ: “لم يجسر أحد على الاقتراب من أورشليم (التي كانت كالمرأة نازفة الدم)، لمساعدتها أو لتعزيتها بحسب الناموس (لاويين ١٥: ١٩-٢٧).” كلارك (Clarke)
ج) الآيات (١٨-١٩): الاعتراف ببر الله وخطية أورشليم.
١٨بَارٌّ هُوَ الرَّبُّ لأَنِّي قَدْ عَصَيْتُ أَمْرَهُ. اسْمَعُوا يَا جَمِيعَ الشُّعُوبِ وَانْظُرُوا إِلَى حُزْنِي. عَذَارَايَ وَشُبَّانِي ذَهَبُوا إِلَى السَّبْيِ. ١٩نَادَيْتُ مُحِبِّيَّ. هُمْ خَدَعُونِي. كَهَنَتِي وَشُيُوخِي فِي الْمَدِينَةِ مَاتُوا، إِذْ طَلَبُوا لِذَوَاتِهِمْ طَعَامًا لِيَرُدُّوا أَنْفُسَهُمْ.
١. بَارٌّ هُوَ الرَّبُّ لأَنِّي قَدْ عَصَيْتُ أَمْرَهُ: اعترفت أورشليم المُجَسّدة بخطيتها وأعلنت بر الله. كان حُزْنِها وسبْيِها نتيجة عصيانها أمر الله.
• ” ومرة أخرى، يأتي الاعتراف بأن الله عادل. غالبًا ما يصعب تقديم هذا الإقرار. يمكن للمرء أن يشعر بالألم الذي يعتصر القلب حتى أثناء ممارسة الناس للإقرار بهذه الحقيقة.” رايت (Wright)
٢. نَادَيْتُ مُحِبِّيَّ. هُمْ خَدَعُونِي: صرخت أورشليم لتنادي على مُحِبِّيها طلبًا للمساعدة – كناية عن أولئك الذين أحبتهم ووضعت فيهم ثقتها بدلًا من يهوه الرب. لكنهم خَدَعُوا أورشليم ولم ينفعوها بشيء بينما كانت المدينة تموت جوعًا.
د ) الآيات (٢٠-٢٢): من الضِيق، خرج نداء لتحقيق العدالة.
٢٠انْظُرْ يَا رَبُّ، فَإِنِّي فِي ضِيق! أَحْشَائِي غَلَتْ. ارْتَدَّ قَلْبِي فِي بَاطِنِي لأَنِّي قَدْ عَصَيْتُ مُتَمَرِّدَةً. فِي الْخَارِجِ يَثْكُلُ السَّيْفُ، وَفِي الْبَيْتِ مِثْلُ الْمَوْتِ. ٢١سَمِعُوا أَنِّي تَنَهَّدْتُ. لاَ مُعَزِّيَ لِي. كُلُّ أَعْدَائِي سَمِعُوا بِبَلِيَّتِي. فَرِحُوا لأَنَّكَ فَعَلْتَ. تَأْتِي بِالْيَوْمِ الَّذِي نَادَيْتَ بِهِ فَيَصِيرُونَ مِثْلِي. ٢٢لِيَأْتِ كُلُّ شَرِّهِمْ أَمَامَكَ. وَافْعَلْ بِهِمْ كَمَا فَعَلْتَ بِي مِنْ أَجْلِ كُلِّ ذُنُوبِي، لأَنَّ تَنَهُّدَاتِي كَثِيرَةٌ وَقَلْبِي مَغْشِيٌّ عَلَيْهِ.
١. انْظُرْ يَا رَبُّ، فَإِنِّي فِي ضِيق: كان ملاذ أورشليم الوحيد هو التوسل إلى الله الذي تركته. لم يكن هناك مصدر آخر للمساعدة متاحًا أو راغبًا. إن الحرب والدمار قد جلبا الموت فِي الْخَارِجِ وفِي الْبَيْتِ.
٢. فَرِحُوا لأَنَّكَ فَعَلْتَ: كان هذا رد فعل الأمم المجاورة، أَعْدَاء يهوذا. ولأن النبي يعرف ذلك، فقد صلى من أجل أن تحل دينونتهم المعيّنة عاجلًا (افْعَلْ بِهِمْ كَمَا فَعَلْتَ بِي).
• فَرِحُوا: “من المرجح أن أعداء بني إسرائيل وجدوا بعض الرضا عندما عرفوا أن الله الذي جلب الدمار على أعداء شعبه المختار قبلًا، يوجه غضبه العقابي الآن نحو خاصته.” هاريسون (Harrison)
• افْعَلْ بِهِمْ كَمَا فَعَلْتَ بِي: “يمكننا أن نصلي بصورة مشروعة لتحلّ مثل هذه الشرور على أعداء الكنيسة وأعداء شعب الله المعاندين، بما يمكن أن يحد ويُضعف قوتهم ويجعلهم غير قادرين على الإضرار بميراث الرب: لكننا ملزمون، بسبب محبتنا لله وغيرتنا على مجده، أن نصلّي من أجل خيرهم، وأن نتخلى عن أي ثأر شخصي أو عداوة لهم.” بوله (Poole)
• “الآيتان الأخيرتان هما صلاة محتملة تطلب من الله أن يثبت بره بين الأمم الأخرى. إذا كانت يهوذا بحاجة لتختبر الدينونة لتقودها إلى التوبة، فإن الآخرين بحاجة أيضًا إلى اختبار الدينونة أيضًا.” رايت (Wright)
٣. لأَنَّ تَنَهُّدَاتِي كَثِيرَةٌ وَقَلْبِي مَغْشِيٌّ عَلَيْهِ: نحن نرى أورشليم وكأنها قد انتهت، وكل ما يمكنها فعله الآن هو مجرد سلسلة من التنَهُّدات وقلب مُغْشِيٌّ عَلَيْهِ.