سفر الجامعة – الإصحاح ١
تفاهة الحياة
أولًا. مُقدِّمة: الواعظ، كاتب سفر الجامعة
أ ) الآية (١أ): الواعظ
١كَلاَمُ الْجَامِعَةِ…
١. كَلاَمُ الْجَامِعَةِ (كلمة ’الجامعة‘ تعني ’الواعظ‘): سفر الجامعة هو أحد أكثر الأسفار خروجًا عن المعتاد، وربما هو أكثر أسفار الكتاب المُقدَّس صعوبةً في الفهم. ينطوي السفر على روح اليأس، ولا يحتوي على أي تسبيح أو سلام. ويبدو أنّه يروِّج لسلوك يثيرٍ التساؤل والشك. ومع هذا، فإن كَلاَمُ الْجَامِعَةِ هذا يُرينا بطلان وتفاهة وحماقة الحياة التي تُعاش من دون منظور أبدي.
• لا يتعلَّق السؤال قيد العلاج في سفر الجامعة بوجود الله. فالكاتب ليس مُلحِدًا، والله موجود دائمًا. لكن المسألة المطروحة هي هل الله ’يهتمّ.‘ والإجابة عن ذلك السؤال مرتبطة بصورة حيوية بمسؤولية أمام الله تتجاوز هذه الحياة الأرضية.
• “إنّه يؤمن بـ’الله،‘ ولكنّ الأمر اللافت جدًا أنّه لا يستخدم الاسم المُقدَّس ’الرب‘ أو ’يهوه.‘ حرَّر الكاتب نفسه، أو يتمنّى أن يقدِّم شخصيةً حرَّرت نفسها من ’الإعلان الإلهي،‘ وهو يتصارع مع مشكلة الحياة ومعناها وقيمتها من دون معونة الشريعة أو نبيّ أو مزمور.” ماكلارين (Maclaren)
• وسعيًا للوصول إلى إجابة، بحث الْجَامِعَة في أعماق التجربة الإنسانية، بما في ذلك اليأس. امتحن بصورة حثيثة فراغ الحياة وبطلانها حين تُعاش ’من دون‘ الأبدية قبل أن يصل إلى الاستنتاج بضرورة الأبدية.
• “نواجه استنتاجًا مريعًا بأنّه لا معنى لشيء، وأن لا شيء تَحْتَ الشَّمْسِ مُهم. ولكنْ بعد ذلك نستطيع أن نسمع خبرًا سارًّا أن كلّ شيء مُهم، ’لأَنَّ اللهَ يُحْضِرُ كُلَّ عَمَل إِلَى الدَّيْنُونَةِ، عَلَى كُلِّ خَفِيٍّ، إِنْ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا.‘” كيدنر (Kidner)
• “فما هو إذًا قصد سفر الجامعة؟ إنّه مقالٌ في الدفاعيات. إنّه يدافع عن حياة الإيمان بإلهٍ رحيم كريم بالإشارة إلى بشاعة البدائل.” إيتون (Eaton)
• “لا يأتي بصفته فيلسوفًا رسميًا. فهو لديه كلمة من الله يرغب بأن يشارك بها، بالرغم من نهجه التأمُّلي الهادئ. فهو لا يقدِّم نصف دزينةٍ من الحجج على وجود الله، ولكنّه يختار أسئلتنا: هل تستطيع أن تتكيَّف مع الحياة من دون أن تكون لديك فكرة عمّا أنتَ تعمله؟ ليست لديك كل الإجابات بشأن ألغاز الحياة، أليس كذلك؟ نظرتك الوثنية الجديدة إلى الحياة لا تعطيك أي رجاء بأن تُنجِز الكثير، أليس كذلك؟ لن تجيب الطبيعة عن أسئلتك، وقد مللتَ الأمر أيضًا. يربِك التاريخ محاولاتنا لفهم الأمر. أنت لا ترغب بأن تفكِّر بموتك، ومع هذا فهو أكثر حقائق وجودك يقينيةً.” إيتون (Eaton)
• “لا يتظاهر الجامعة بأنَّه يكرز ببشارة الإنجيل. فهو يشجِّع القارئ على أن يتبنّى نظرة تتمحور حول الله، بدل أن يقع ضحيةً لإحباطات وأسئلة غير مُجاب عنها. ينبغي ألا يُرفَضُ أي شيءٍ من محتويات السفر في ضوء العهد الجديد.” رايت (Wright)
٢. الْجَامِعَةِ: هذه ترجمة للكلمة العبرية “قوهيلت (Kobellet).” تشير هذه الكلمة إلى شخصٍ يجمع أو يقود مجموعة من الناس، ويتكلَّم إليهم.
• “ترتبط هذه الكلمة في العبرية بمعنى الجمع، ويقترح شكلها نوعًا من صاحب المركز… ومن المحاولات الكثيرة لترجمة هذا اللقب: ’الجامعة،‘ ’الواعظ،‘ ’المتكلِّم،‘ ’الرئيس،‘ ’الناطق الرسمي،‘ ’الفيلسوف.‘ كما يمكننا أن نُضيف ’الأستاذ‘!” كيدنر (Kidner)
• مؤكَّد أنّ هذا كَلاَمُ الْجَامِعَةِ، ولكن في هذه العظة ذات الأغراض الدفاعية، يأتي تركيزه على الله بصورة غير مباشرة. “لا يذكر يهوه، الرب، أيْ اسم الله في إيمان عهد إسرائيل. ونادرًا ما يُشير إلى شريعة الله، حيث الإشارة الممكنة الوحيدة إليها تأتي في جامعة ١٢: ١٣. ونادرًا ما يشير إلى شعب إسرائيل (باستثناء ١: ١٢). فلماذا هذا الإغفال؟ يبدو أن الجواب هو أن حجة الواعظ مستقلّة ولا تعتمد بشأن صحّتها على إيمان عهد إسرائيل. إنّه يعتمد على حقائق مرئية عالميًا.” إيتون (Eaton)
ب) الآية (١ب): هوية الواعظ.
… ابْنِ دَاوُدَ الْمَلِكِ فِي أُورُشَلِيمَ.
١. ابْنِ دَاوُدَ: هذا يعرِّف ’الواعظ‘ بكونه ابن داود، سليمان. يعتقد البعض أن شخصًا آخر كتب السفر باسم سليمان، ولكن ليس من سببٍ وجيه للقول إنّ شخصًا غير سليمان كتبه.
• “في ضوء التقاليد المتعلِّقة بسليمان (١ملوك ٢: ١٢-١٢؛ ٢أخبار ١-٩)، فإنّه من دون مزيدٍ من التعريف، حتمًا سيقود اللقب أيّ قارئ للافتراض بأن الإشارة هنا إلى سليمان. كما أن الوصف المُقدَّم في جامعة ٢: ١-١١ يُذكِّرنا بسليمان بقوة، حيث لكل عبارة تقريبًا ما يوازيها في الروايات عن سليمان.” إيتون (Eaton)
• “تأتي ملاحظة مُلغِزة ومُحَيّرة أخرى في الآية ١٦، مع ادّعاء الكاتب بامتلاك حكمة تفوق ’كُلِّ مَنْ كَانَ قَبْلِي عَلَى أُورُشَلِيمَ.‘ هذا يستبعد أي خليفةٍ لسليمان الفريد.” كيدنر (Kidner)
٢. الْمَلِكِ فِي أُورُشَلِيمَ: بسبب مركز سليمان الملكي، كانت لديه الحكمة والحرّيّة والموارد والمركز لكتابة هذا السِفر.
• بمعنى ما، سليمان هو الوحيد الذي يستطيع أن يكتب هذا السِفر. فقد كانت لديه الحكمة والموارد ليعالج هذه المشكلات. “مع قوهيلت نرتدي عباءة سليمان، أذكى الناس وأقلهم محدوديّة، للانطلاق في هذا البحث. وبسبب ما نمتلكه من هبات وسلطة، سيكون غريبًا أن نعود بلا نتيجة.” كيندر (Kidner)
• حين كتب سُليمان هذا السفر، كتبه بأسلوب يُفَهم ويُقدَّر في زمنه. “نوع الحكمة الذي يتّصف به سفر الجامعة شائع في العالم القديم. يمكننا أن ندعوه ’أدب التشاؤم.‘ وسفر الجامعة هو المثال الكتابي الوحيد على هذا التقليد الأدبي القديم.” إيتون (Eaton)
• “في كتاب مصري، كُتِب في الفترة ما بين ٢٣٠٠ و٢١٠٠ ق م.، اسمه “الإنسان الذي تعب من الحياة” (The Man Who Was Tired of Life)، دخل رجلٌ في جدالٍ مع نفسه بشأن هل تستحقّ الحياة أن تُعاش أو أن الانتحار هو العمل المنطقي الوحيد. تذمَّر لنفسه قائلًا: ’الحياة حالة عابرة. أنتَ حي، ولكنْ ما المنفعة التي تحصِّلها من ذلك؟ ومع هذا تتوق إلى الحياة مثل إنسان غنيّ.‘ الموت هو ’جالب البكاء؛‘ وبعده الإنسان ’لا يرى الشمس.‘ لا يمكن عمل الكثير. ولذا، ’عِش اليوم السعيد وانسَ الاهتمام بالأمور.‘” إيتون (Eaton)
• كتب المُفسِّر التطهُّري جون تراب (John Trapp) ما يؤمن آخرون به أيضًا، وهو أن سفر الجامعة كان بيان سليمان بشأن الخطأ والتوبة، والدليل على أنه عاد إلى الله في نهاية حياته، بالرغم من غياب مثل هذا التأكيد في ١ملوك ١١. “كتب عظة التوبة هذه، بعد أن شاخ وجرَّب كل شيء كتب عنه، ويُفضَّل الآن أن يبدأ حديثه لعلمائه.” تراب (Trapp)
ثانيًا. المشكلة المُقدَّمة: تفاهة الحياة
أ ) الآية (٢): مُلخَّص الواعظ: الحياة باطلة وبلا معنى.
٢بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، قَالَ الْجَامِعَةُ: بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ.
١. بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ: يبدأ الواعظ عظته بأول استنتاجٍ له (وإن كان ليس استنتاجه النهائي). فبنظره إلى الحياة حوله، يحكم بأنّ الكل فيها ’بَاطِل‘ – لا شيء، بلا منفعة، بلا معنى.
• “نفخة بخار، نفخة ريح، مجرَّد نفَس – ليس من شيءٍ يمكنك أن تُمسِك به بيدك، أقرب شيء إلى الصفر. هذا هو ’الباطل‘ الذي يتحدَّث عنه السِفر.” كيدنر (Kidner)
• “يشمل ’الباطل‘ (هِيبِل]: (١) القِصَر والوهم والفراغ… (٢) عدم إمكانية الاعتماد عليها، الضعف… (٣) اللاجدوى، كما في أيوب ٩: ٢٩ (في العبرية)، حيث معنى ’باطلًا‘ هو ’بلا تأثير‘؛ (٤) الغرور والخداع (انظر إرميا ١٦: ١٩؛ زكريا ١٠: ٢).” إيتون (Eaton)
٢. بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ: ليعزِّز الواعظ فكرته، حكم بأن الحياة ’باطل تامّ‘: بَاطِلُ الأَبَاطِيل. تُستخدَم هذه الصياغة العبرية للتعبير عن شدّة شيء معين أو أسمى أشكاله، مثل عبارة ’قُدْسِ الأَقْدَاسِ.‘
• ستُستخدَم هذه العبارة (أو ما يشابهها) حوالي ٣٠ مرّة في هذا السِفر القصير. وهذا أحد المواضيع الرئيسية في سفر الجامعة.
٣. الْكُلُّ بَاطِلٌ: ليعزِّز سليمان فكرته، لم يكتفِ بالإشارة إلى أن الحياة ’بَاطِلٌ،‘ بل وإلى أنه ’الْكُلُّ بَاطِلٌ.‘ يبدو أنَّ كلَّ جزءٍ في الحياة عانت هذا الفراغ واللامعنى.
• نرى من الآيتين الأوليين أن سليمان كتب هذا السِفر بمنظور معيَّن، منظور سيكشفه بالسِفر ويُظهِر أنّه غير كافٍ بل وخاطئ. وقد كُتِب معظم سفر الجامعة بذلك المنظور – بعيني إنسان يفكِّر ويعيش كما لو كان الله غير مهمّ.
• “إنه بيان دقيق تمامًا للحياة حين تُعاش في ظروفٍ مُعيَّنة، ولكنّه ليس بيانًا صحيحًا لما ينبغي للحياة أن تكون عليه بالضرورة” مورجان (Morgan). إن قُلتَ: ’إن الحياة ليست باطلةً، وليست بلا معنى. وحياتي تمتلئ بالمعنى والهدف،‘ فهذا رائع، ولكنّك لا تستطيع أن تتجاهل نقطة انطلاق الواعظ – وهي منظور الحياة تَحْتَ الشَّمْس.
• ولذا، فإن سفر الجامعة يمتلئ بما ندعوه أكاذيب صحيحة. وإن قبلنا جدلًا المنظور بأن ’الله غير مهمّ،‘ فإنه صحيحٌ أيضًا أن ’الْكُلُّ بَاطِلٌ.‘ ولأن ذلك المنظور خاطئ، فإنه ليس صحيحًا أن الْكُلُّ بَاطِلٌ. ومع هذا، فإن سليمان يدعونا إلى التفكير بحسب هذا المنظور الخاطئ بصورة شاملة عبر صفحات سِفر الجامعة.
• يفكِّر سليمان بحسب هذا المنظور، ولكنّه لم يكن أول من نظر إلى الحياة بهذه الطريقة ولا آخرهم. وكثيرون من المعاصرين يحكمون بتفاهة الحياة بالقدر نفسه.
“نعيش جميعًا في بيت مشتعل، وليس من دائرة مطافئ للاتّصال بها، وليس من مخرج باستثناء نافذة الطابق العلوي للنظر إلى الخارج بينما النار تحرق البيت، ونحنُ عالقون فيه لا نستطيع الخروج.” الكاتب المسرحي – تنيسي ويليمز (Tennessee Williams)
“يحظى معظم الناس بقدر معقول من المتعة في حياتهم، ولكن بصورة عامة، الحياة معاناة، والصغار جدًا أو الأغبياء جدًا هم الوحيدون الذين يتخيَّلون غير ذلك.” المؤلف جورج أورويل (George Orwell)
“الحياة تشبه علبة السردين، حيث نحنُ جميعًا نبحث عن المفتاح.” الكاتب المسرحي – ألن بنيت (Alan Bennett)
ب) الآية (٣): الحياة والعمل تَحْتَ الشَّمْس.
٣مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ الَّذِي يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ؟
١. مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ: باستخدام لغةٍ من عالم الأعمال، سأل الواعظ سؤالًا قيّمًا: “ما قيمة ما نعمل؟ ما الْفَائِدَةُ منه؟
• الْفَائِدَةُ: “هذه كلمة تجارية؛ الحياة ’لا توزِّع أرباحًا‘.” إيتون (Eaton)
• عبَّر يسوع عن فكرةٍ شبيهة في مرقس ٨: ٣٦ “لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟”
• “كل الأشياء أكثر حلاوة في الطموح ممّا هي في تحقُّق الطموح. ثمة باطلٌ واحد في هذا البؤس السامي.” تراب (Trapp)
٢. الَّذِي يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ: هذا أول بيان بشأن موضوع أساسي يُرى في سفر الجامعة. تتكرَّر عبارة ’تَحْتَ الشَّمْسِ‘ أكثر من ٢٥ مرّة في السِفر. ليس المقصود هنا هو ’في يومٍ مشمس‘ أو شيءٍ يتعلق بالطقس. فالمقصود هو ’في هذا العالم الذي نستطيع رؤيته، العالم المادي.‘ إنّها النظر إلى الحياة ’من دون‘ منظور الأبدية.
• “إن كانت نظرتنا إلى الحياة لا تتجاوز ’تَحْتَ الشَّمْسِ،‘ فإن لكل مساعينا نغمة البؤس.” إيتون (Eaton)
• استخدام عبارة ’تَحْتَ الشَّمْسِ‘: “يُظهر أن اهتمام الكاتب كان كونيًا شاملًا، وليس محصورًا في شعبه وأرضه.” رايت (Wright)
ج) الآيات (٤-٧): الدورة المتكررة بلا انتهاء للخليقة.
٤دَوْرٌ يَمْضِي وَدَوْرٌ يَجِيءُ، وَالأَرْضُ قَائِمَةٌ إِلَى الأَبَدِ. ٥وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَتُسْرِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُشْرِقُ. ٦اَلرِّيحُ تَذْهَبُ إِلَى الْجَنُوبِ، وَتَدُورُ إِلَى الشَّمَالِ. تَذْهَبُ دَائِرَةً دَوَرَانًا، وَإِلَى مَدَارَاتِهَا تَرْجعُ الرِّيحُ. ٧كُلُّ الأَنْهَارِ تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ. إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ الأَنْهَارُ إِلَى هُنَاكَ تَذْهَبُ رَاجِعَةً.
١. دَوْرٌ يَمْضِي وَدَوْرٌ يَجِيءُ، وَالأَرْضُ قَائِمَةٌ إِلَى الأَبَدِ: باستخدام الواعظ لأمثلة كثيرة، يلاحظ أنّه يبدو أن لا شيء يتغيَّر كثيرًا في دورة متكرِّرة بلا نهاية في الطبيعة.
• “ينظر إلى البشرية، ويرى أنّه من ناحية يمتلئ العالم بالولادات، ومن ناحية أخرى يمتلئ بالميتات. يبدو أن الأكفان والمُهُود هي قطع الأثاث الرئيسية، ويسمع دوس أقدام أجيال تسير فوق تراب يمتلئ بالقبور.” ماكلارين (Maclaren)
٢. وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ… اَلرِّيحُ تَذْهَبُ إِلَى الْجَنُوبِ… كُلُّ الأَنْهَارِ تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ: ممّا يراه سليمان تَحْتَ الشَّمْسِ، عبَّرت هذه الدورات المتكرِّرة عن الرتابة غير المتغيِّرة للحياة، مما قاد إلى تفاهتها واللامعنى فيها.
• “بالنسبة لموقف العهد القديم الأورثوذوكسي، تدوِّي الخليقة بتسابيح الرب. الخليقة مُلْكه… ولكنّ الواعظ يقول: أبعدوا إلهها، فلا تعود الخليقة تعكس مجده. هذا يوضِّح تعب ومشقة الجنس البشري.” إيتون (Eaton)
• “قد تتدفق كل أنهار الفرح الأرضي إلى قلبك، ولكنّها لن تملأه. قد تتراجع، أو تجفّ، أو تنحسر. ولكن حتّى لو لم يحدث هذا، فإنّها لن تُشبِعك… ولكنْ في المسيح، هناك فائدة دائمة… علينا ألا نخرج خارجه لأجل مسرّات جديدة؛ ومعرفته تعني امتلاك سرٍّ يجعل كلَّ الأشياء جديدة.” ماير (Meyer)
د ) الآيات (٨-١١): الدورة غير المنتهية من كدح الإنسان.
٨كُلُّ الْكَلاَمِ يَقْصُرُ. لاَ يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يُخْبِرَ بِالْكُلِّ. الْعَيْنُ لاَ تَشْبَعُ مِنَ النَّظَرِ، وَالأُذُنُ لاَ تَمْتَلِئُ مِنَ السَّمْعِ. ٩مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ. ١٠إِنْ وُجِدَ شَيْءٌ يُقَالُ عَنْهُ: «انْظُرْ. هذَا جَدِيدٌ!» فَهُوَ مُنْذُ زَمَانٍ كَانَ فِي الدُّهُورِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَنَا. ١١لَيْسَ ذِكْرٌ لِلأَوَّلِينَ. وَالآخِرُونَ أَيْضًا الَّذِينَ سَيَكُونُونَ، لاَ يَكُونُ لَهُمْ ذِكْرٌ عِنْدَ الَّذِينَ يَكُونُونَ بَعْدَهُمْ.
١. كُلُّ الْكَلاَمِ يَقْصُرُ. لاَ يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يُخْبِرَ بِالْكُلِّ: وبعد ذلك لاحظ سليمان أن تفاهة الحياة لا تظهر في الطبيعة فقط. فهذا الإحباط واضحٌ أيضًا في جهود البشر ومساعيهم. فالإنسان لا يشبع رغم ما ’يصنعه‘ و’ينظره‘ و’يسمعه.‘
• “يعسر حساب مقدار القلق والألم والجهد والإنهاك اللازمة لإتمام عمليات الحياة المشتركة. ولكنّ الرغبة اللامنتهية بتحقيق المكسب والفضول اللامنتهي لرؤية تنوعٍ من النتائج، تجعل البشر يستمرّون في العمل وبذل الجهد.” كلارك (Clarke)
• “ما هو الفرق بين سنجاب في قفص كل ما يستطيع عمله هو جعل سجنه يدور بصورة أسرع بفعل ركضه السريع، والإنسان الذي يعيش أيامًا مُرهِقة لأجل أغراضٍ عابرة قد لا يتمكن من تحصيلها أبدًا؟” ماكلارين (Maclaren)
٢. مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ: بالرغم من كل عمل وتقدُّم يحقِّقه الإنسان، تبدو الحياة نفسها بصورة رتيبة. الأشياء التي تبدو جديدة سرعان ما تصبح قديمةً، ولذا يمكن القول: فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ.
• كلما ازداد تغيُّر الأشياء ازداد بقاؤها على حالها. التقِ بالمدير الجديد، فترى أنّهُ مثل المدير القديم. “تستمرّ الطرق القديمة في ثوبها الجديد. نحنُ كجنس بشري لا نتعلَّم أبدًا.” كيدنر (Kidner)
• قد لا يكون هناك جديد ’تَحْتَ الشَّمْسِ،‘ ولكن نشكر الله أن أتباع يسوع، المولودين ثانيةً من روح الله، لا يعيشون ’تَحْتَ الشَّمْسِ‘ بهذا المعنى. فحياتهم تمتلئ بأشياء جديدة.
اسم جديد (إشعياء ٦٢: ٢؛ رؤيا ٢: ١٧)
جماعة جديدة (أفسس ٢: ١٤)
معونة جديدة من الملائكة (مزمور ٩١: ١١)
وصية جديدة (يوحنا ١٣: ٣٤)
عهد جديد (إرميا ٣١: ٣٣؛ متّى ٢٦: ٢٨)
طريقة حياة جديدة متجهة نحو السماء (عبرانيين ١٠: ٢٠)
نقاوة جديدة (١ كورنثوس ٥: ٧)
طبيعة جديدة (أفسس ٤: ٢٤)
خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ في يسوع المسيح (٢ كورنثوس ٥: ١٧)
الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا (٢ كورنثوس ٥: ١٧؛ رؤيا ٢١: ٥)
٣. لَيْسَ ذِكْرٌ لِلأَوَّلِينَ. وَالآخِرُونَ أَيْضًا الَّذِينَ سَيَكُونُونَ، لاَ يَكُونُ لَهُمْ ذِكْرٌ: يبدو أن تفاهة الحياة تمتدّ في الاتّجاهين، في اتجاه الماضي وفي اتجاه المستقبل. يعمل الإنسان بجدٍّ واجتهاد، ومع هذا لا يبدو أنّ هذا يعمل فرقًا باقيًا، وببساطة يُنسى كلُّ شيء.
• “كم من الأمور التي يمكن تذكُّرها لم تُسجَّل! كم من السجلات القديمة تلِفت من زمانٍ بعيد!” تراب (Trapp)
ثالثًا. عجز الحكمة عن أن تُشبِع وتملأ
أ ) الآيات (١٢-١٥): البحث بحِكْمَة.
١٢أَنَا الْجَامِعَةُ كُنْتُ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ فِي أُورُشَلِيمَ. ١٣وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِلسُّؤَالِ وَالتَّفْتِيشِ بِالْحِكْمَةِ عَنْ كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ. هُوَ عَنَاءٌ رَدِيءٌ جَعَلَهَا اللهُ لِبَنِي الْبَشَرِ لِيَعْنُوا فِيهِ. ١٤رَأَيْتُ كُلَّ الأَعْمَالِ الَّتِي عُمِلَتْ تَحْتَ الشَّمْسِ فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ. ١٥اَلأَعْوَجُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَوَّمَ، وَالنَّقْصُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْبَرَ.
١. أَنَا الْجَامِعَةُ كُنْتُ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ فِي أُورُشَلِيمَ: كان سليمان شهيرًا على مستوى العالم بحكمته. فإن أمكن أن تُوجَد الإجابات عن تفاهة الحياة وفراغها في الحكمة، فسيكون سليمان هو من يجد هذه الإجابات.
• كانت حكمة سليمان العظيمة هبة من الله. حين عرض الله أن يعطيه ما أراد، طلب الحكمة، وخاصّة الحكمة ليقود شعب الله (١ ملوك ٣: ٥-٢٨). ولذا، جعل الله سليمان حكيمًا جدًا، فكتب آلاف الأمثال، وكان يُعتبَر أحكم من كل البشر في زمنه (١ ملوك ٤: ٢٩-٣٤).
٢. وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِلسُّؤَالِ وَالتَّفْتِيشِ بِالْحِكْمَةِ عَنْ كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ: إذْ كان سليمان يتمتَّع بقدرة فريدة على البحث، بحث عن إجابات بِالْحِكْمَةِ، التي قصد بها الحكمة البشرية، التي كانت تستبعد الإجابات المعطاة في ضوء الأبدية.
• وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِلسُّؤَالِ وَالتَّفْتِيشِ: “الكلمتان ’السُّؤَال‘ و’التَّفْتِيش‘ ليستا مترادفتين. فالكلمة الأولى تعني الدخول في عمق شيء ما أمام الإنسان، أما الكلمة الثانية فتشير إلى عمل مسحٍ شامل لقضايا بعيدة عن الشيء. وهكذا يُشار إلى طريقتين ومجالين في التفحُّص والبحث.” ديين (Deane)
• هذه هي حكمة الذين يُرشِدوننا إلى حياة أفضل في الوقت الحاضر، لتعريفنا بكيف نعيش بصحة أفضل وسعادة أكبر وحياة أكثر نجاحًا. مؤكَّد أن لهذه الحكمة قيمة، وستصير حياة كثيرين أفضل باتّباع هذه الحكمة. ومع هذا، فهي تستبعد التقدير الحقيقي للأبدية ومسؤولياتنا في العالم الآتي. لا تملك هذه الحكمة جوابًا حقيقيًا بشأن تفاهة الحياة. كل ما تعمله هذه الحكمة هو أن ترينا كيف نعيش حياتنا التافهة التي لا معنى لها بصورة أفضل.
• في مواقع أخرى في سِفر الحكمة يُنظَر إلى الْحِكْمَة باعتبارها بركة – وهذا صحيح، حتى الحكمة التي لا تضع الأبدية في اعتبارها (جامعة ٧: ١١-١٢؛ ٧: ١٩). ومع هذا، فإن هذا النوع من حكمة ’تَحْتَ الشَّمْسِ‘ لا تستطيع أن تُسلِّط الضوء على مشكلة تفاهة الحياة وبطلانها ولامعناها.
٣. كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ: لا يُشار إلى سماء الله والأبدية هنا، فما يُشار إليه هنا هو نهار وليل الحياة اليومية. هذه العبارة مرادفة لعبارة ’تَحْتَ الشَّمْسِ.‘ يبدو كل عَمَل الإنسان وإنجازاته وبحثه عن الحكمة بلا قيمة.
• “تبين عبارة ’كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ‘ أن كل مصادر النظرة الكونية المحدودة هي موضوع الدراسة. فالناحية العامودية ليست مطروحة بعد.” إيتون (Eaton)
٤. هُوَ عَنَاءٌ رَدِيءٌ جَعَلَهَا اللهُ لِبَنِي الْبَشَرِ لِيَعْنُوا فِيهِ: التفاهة الظاهرة للحياة تأتي من الله. فهو ’جعلها‘ أو ’أعطاها‘ للإنسان. بنى الله عن قصدٍ نظامًا تبدو الحياة فيه تافهة وفارغة من دون فهمٍ لله الحي والعامل، الذي سنقدِّم له حسابًا.
• قد يبدو ابتكار الله لمثل هذا النظام قسوةً من الله، ولكنّه في الحقيقة دليل على محبته ورحمته العظيمتَين. فقد بنى ووضع فينا الرغبة والاحتياج إلى ما يأتي بالمعنى والشبع إلى الحياة. وكما كتب أغسطينوس: خلق الله فراغًا في كل واحدٍ فينا على شكل الله، ولذا لا يمكن أن يملأه إلا الله.
• ليست هذه الرغبة موجودة فينا نحنُ البشر فقط، بل موجودة في الخليقة نفسها أيضًا. فقد أخضع الله الخليقة لهذا البطلان والتفاهة إلى أن يأتي بالتحقيق الموعود به يومًا ما. “إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ لَيْسَ طَوْعًا، بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَخْضَعَهَا عَلَى الرَّجَاءِ” (رومية ٨: ٢٠).
• وفي الوقت نفسه، فإنّ هذا ’عَنَاءٌ رَدِيءٌ.‘ فليس سهلًا دائمًا أن تجد إجابات عن هذه الأسئلة، لأن كبرياءنا واعتمادنا على ذواتنا ومحبتنا لذواتنا تعمل بعكس اتجاه إيجادها.
٥. اَلأَعْوَجُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَوَّمَ، وَالنَّقْصُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْبَرَ: لم يجنِ الواعظ من البحث الأوّلي عن إجاباتٍ بالحكمة (تَحْتَ الشَّمْسِ) إلا اليأس.
• “بصراحة قوهيلت (الْجَامِعَة) الشديدة المعتادة، نراه سريعًا في أن يُخبِرنا بالأسوأ. فبحثه لم يصِل إلى نتيجة.” كيدنر (Kidner)
• “يوضِّح الاستنتاج الثالث سبب الإحباط الشديد عند المُفكِّر ’تَحْتَ الشَّمْس.‘ السبب هو أن هناك انحرافات (الأعوج) وفجوات (النقص) في كل تفكير. مهما تأمَّل المُفكِّر فإنّه لا يستطيع تصويب حالات الشذوذ في الحياة، ولا أن يحوِّل كل ما يراه إلى نظامٍ جميل ومرتَّب.” إيتون (Eaton)
ب) الآيات (١٦-١٨): تأكيد فشل الحِكْمَة.
١٦أَنَا نَاجَيْتُ قَلْبِي قَائِلًا: «هَا أَنَا قَدْ عَظُمْتُ وَازْدَدْتُ حِكْمَةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَ قَبْلِي عَلَى أُورُشَلِيمَ، وَقَدْ رَأَى قَلْبِي كَثِيرًا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ». ١٧وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِمَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ وَلِمَعْرِفَةِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ هذَا أَيْضًا قَبْضُ الرِّيحِ. ١٨لأَنَّ فِي كَثْرَةِ الْحِكْمَةِ كَثْرَةُ الْغَمِّ، وَالَّذِي يَزِيدُ عِلْمًا يَزِيدُ حُزْنًا.
١. أَنَا نَاجَيْتُ قَلْبِي: هذا النهج طبيعي لأي شخصٍ يبحث عن إجابات تَحْتَ الشَّمْسِ من دون منظورٍ أبدي. إنّهم ينظرون إلى ’داخلهم‘ بحثًا عن الحكمة والإجابات بدل النظر إلى الله الذي يحكم الأبدية.
٢. وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِمَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ وَلِمَعْرِفَةِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ هذَا أَيْضًا قَبْضُ الرِّيحِ: لم يصل البحث المتكرِّر والشديد عن الحكمة إلى المعنى الأسمى. فلم يكن الحل بالتفكير بجديّة أكثر والبحث بصورة أفضل. فكلّ ذلك كان قَبْضُ الرِّيح، أي كمن يسعى للإمساك بالريح.
٣. لأَنَّ فِي كَثْرَةِ الْحِكْمَةِ كَثْرَةُ الْغَمِّ، وَالَّذِي يَزِيدُ عِلْمًا يَزِيدُ حُزْنًا: كلما ازداد فهم الواعظ للحياة ’تحتَ الشمس‘ ازداد يأسه. كلما تعلَّم أكثر أدرك أكثر أنّه لم يكن يعرف. وكلما ازدادت معرفته عرف أحزان الحياة أكثر.
• “طالما أن الحكمة تُحصَر بعالم ’تَحْتَ الشَّمْسِ،‘ فسترى اهتياج الخليقة المُضطرب، وركض الحياة في دوراتها المتكرِّرة، ولا شيء أكثر من هذا. ’كلّما ازداد فهمك ازداد وجعك.‘ موفات [Moffatt].” إيتون (Eaton)