تفسير انجيل مرقس – الإصحاح ١
بداية الإنجيل
أولاً. المقدمة: ميزات إنجيل مرقس
أ ) تصف الآية في رؤية يوحنا ٧:٤ الْكَرُوبِيمِ حول عرش الله ككائنات لها أربعة وجوه: أَسَد وعِجْل وإِنْسَان ونَسْر. ووفقاً لما وصلنا من تاريخ الكنيسة الأولى، نسبت الكنيسة هذه ’الوجوه‘ لكل إنجيل بناءًا على طبيعة ورسالة كل إنجيل. وتتكرر هذه الفكرة مرارًا وتكرارًا في الكاتدرائيات حول أوروبا من خلال نقوش ورسومات لهذه الكائنات التي يرتبط كل منها بإنجيل معين. ووفقاً لتدوينات تاريخ الكنيسة أيضًا، فإن الكائن الذي يمثل إنجيل مرقس كان العجل أو الثور – وهو الكائن الذي يعمل ويخدم باستمرار. إذاً يظهر إنجيل مرقس يسوع كخادم الله والعامل معه.
- لهذا السبب، نجد أن إنجيل مرقس مليء بالأحداث، ونرى يسوع دائم الحركة ويتنقل بسرعة من حدث لآخر. الكلمة الرئيسية في إنجيل مرقس هي ’لِلْوَقْتِ‘ وقد ظهرت أكثر من ٤٠ مرة. ولأن يسوع هو الخادم نراه مشغولاً باستمرار في تسديد الاحتياجات كونه مسيح الرب.
- يشدد إنجيل مرقس على أفعال يسوع أكثر من كلماته. “يصور إنجيل مرقس يسوع يعمل، أي كلام قليل وفعل كثير.” روبرتسون (Robertson)
ب) تقول تقاليد الكنيسة إن بطرس الرسول هو المصدر الرئيسي للمعلومات في إنجيل مرقس. فيمكنك اعتبار أن إنجيل مرقس هو “الإنجيل بحسب بطرس.”
- أحد المؤشرات على تأثير بطرس هو كلام بطرس المليء بالمحبة نحو مرقس، حتى أنه دعاه: ’مَرْقُسُ ٱبْنِي‘ في بطرس الأولى ١٣:٥. وكتب بطرس أيضاً أن مرقس كان معه في بطرس الأولى ١٣:٥.
- كان مرقس (الذي دعي أيضاً يوحنا مرقس في أجزاء أخرى مثل أعمال الرسل ٢٥:١٢) غير نافع للخدمة كما قال عنه بولس في سفر أعمال الرسل (أعمال الرسل ٣٦:١٥-٤١). ولكن علاقته مع بولس توطدت في النهاية (تيموثاوس الثانية ١١:٤).
- وكحال مرقس، عرف بطرس أيضاً ما يعنيه أن يفشل المرء في اتباع يسوع بعد إنكاره ثلاث مرات، ولكنه استرد إيمانه في النهاية.
- مؤشر آخر على تأثير بطرس هو التفاصيل الدقيقة للقصة التي تشهد أن قائلها كان شاهد عيان على حوادثها. “يبدو أن التفاصيل الرائعة مصدرها كلام بطرس الذي سمعه مرقس، مثل ٱلْعُشْبِ ٱلْأَخْضَرِ (٣٩:٦)، ألفَينِ من الخَنازيرِ (١٣:٥)، نَظَرَ حَوْلهُ (٥:٣، ٣٤).” روبرتسون (Robertson)
- “ينبض إنجيل مرقس بالحياة وبالتفاصيل الحية. نرى بعيون بطرس نظرة يسوع وايماءاته بينما كان يجول بين الناس شافياً أجسادهم وأرواحهم.” روبرتسون (Robertson)
- مؤشر ثالث على تأثير بطرس هو “استخدم مرقس الكثير من العبارات الآرامية وهي اللغة التي تحدث بها بطرس، مثل: «بوانَرجِسَ» (١٧:٣)، «طَليثا، قومي» (٤١:٥)، «قُربان» (١١:٧)، «إفَّثا» (٣٤:٧)، «أبا» (٤٦:١٤).” روبرتسون (Robertson)
ج) يرى الكثيرون أن مرقس كان أول أنجيل كتب من بين الأناجيل الأربعة، وأنه كتب في مدينة روما.
- اتفق معظم المفسرين على أن إنجيل مرقس كان أول إنجيل كتب، رغم أن البعض يعتقد أن إنجيل متى ربما كتب أولًا.
- “أحد أهم نتائج الدراسة النقدية الحديثة للأناجيل هي تأكيد التاريخ المبكر لكتابة إنجيل مرقس، ولكننا لا نعلم التاريخ بالتحديد. ولكن يميل بعض المفسرين الكبار لأن يكون هذا حول سنة ٥٠م.” روبرتسون (Robertson)
- لم يكن مرقس واحداً من التلاميذ الإثني عشر. ولعل الإشارة الوحيدة إليه في الإنجيل كانت إشارة مبهمة في مرقس ٥١:١٤-٥٢. وكونه شاباً، ربما كان من ضمن الحشد الكبير الذي تبع يسوع.
- كان الكنيسة الأولى تجتمع في بيت مريم التي من أورشليم، وكانت مريم أم مرقس (أعمال الرسل ١٢:١٢).
- ولأن الرومان كانوا معروفين بكدهم وبسعيهم وراء الإنجازات، كتب مرقس أنجيله مشدداً على يسوع خادم الله. وبسبب عدم اهتمام أحد بنسب أي خادم، لم يسجل مرقس نسب يسوع.
- استخدام مرقس للكثير من الكلمات اللاتينية كان إشارة أخرى إلى أنه كتب إنجيله مخاطباً العقل الروماني أكثر من أي إنجيل آخر. “هناك العديد من العبارات والكلمات اللاتينية مثل: قائدُ المِئَةِ (٣٩:١٥)، رُبعٌ (٤٢:١٢)، جَلَدَهُ (١٥:١٥)، سيّافاً (٢٧:٦)، جِزيَةٌ (١٤:١٢)، أباريقَ (٤:٧)، الدّارِ (١٦:١٥)، أكثر بكثير مما في الأناجيل الأخرى.” روبرتسون (Robertson)
- يبدأ مترجمو الكتاب المقدس عادة بترجمة إنجيل مرقس حين يتوجهون لشعب لا يملك الكتاب المقدس بلغته الأصلية. فإنجيل مرقس هو أكثر الكتب التي ترجمت في العالم. أولاً لأنه أقصر إنجيل، وثانياً لأنه كتب لأشخاص لا يعرفون شيئاً عن يهودية القرن الأول. فقد كتب مرقس إنجيله للرومان.
ثانياً. يوحنا المعمدان والاستعداد لمجيء يسوع، المسيا
أ ) الآيات (١-٥): مكان وخدمة يوحنا المعمدان
١بَدءُ إنجيلِ يَسوعَ المَسيحِ ابنِ اللهِ، ٢كما هو مَكتوبٌ في الأنبياءِ: «ها أنا أُرسِلُ أمامَ وجهِكَ مَلاكي، الّذي يُهَيِّئُ طريقَكَ قُدّامَكَ. ٣صوتُ صارِخٍ في البَرّيَّةِ: أعِدّوا طريقَ الرَّبِّ، اصنَعوا سُبُلهُ مُستَقيمَةً». ٤كانَ يوحَنا يُعَمِّدُ في البَرّيَّةِ ويَكرِزُ بمَعموديَّةِ التَّوْبَةِ لمَغفِرَةِ الخطايا. ٥وخرجَ إليهِ جميعُ كورَةِ اليَهوديَّةِ وأهلُ أورُشَليمَ واعتَمَدوا جميعُهُمْ مِنهُ في نهرِ الأُردُنِّ، مُعتَرِفينَ بخطاياهُمْ.
- بَدءُ إنجيلِ يَسوعَ المَسيحِ ابنِ اللهِ: كل قصة رائعة تحتاج الى بداية، وها هو مرقس يقدم لنا بِدَايَةُ البشارة. فكلمة ’إنجيلِ‘ في اللغة اليونانية القديمة تعني ’الأخبار السارة،‘ إذاً هذا الكتاب هو الخبر السار عن يَسوعَ المَسيحِ ابنِ اللهِ. إنها البشارة السارة عن يسوع.
- كل كلمة تصف يسوع في إنجيل مرقس مهمة للغاية. أولاً، إنجيل مرقس هو الخبر السار عن يَسوع، وهو شخص حقيقي مشى على هذه الأرض مثل غيره من البشر، وهو الخبر السار عن المَسيح (أي المسيا) وهو المخلص الموعود به للبشر، وهو الخبر السار عن ابنِ الله، والابن هنا لا تحمل نفس المعنى الذي يفكر به البشر عادة. فيسوع هو ابنِ اللهِ الوحيد، وهو أيضاً الله الابن.
- علق لاين (Lane) على كلمة إنجيلِ وقال: “معنى الكلمة بالنسبة للرومان هو ’البشارة المفرحة‘ وكانت هذه البشارة مرتبطة عادة بالإمبراطور، فعند ولادته وبلوغه سن الرشد وتوليه العرش كانت تنظم المهرجانات للاحتفال به حول العالم. وكانت أخبار هذه المهرجانات تسمى “evangels” في نقوش وبرديات العصر الإمبراطوري. فقد وجدت نقوش لتقويم يعود للسنة التاسعة قبل الميلاد في برين في آسيا الصغرى عن الإمبراطور اوكتافيان (أوغسطس) تقول: ‘نعلن هنا أن ميلاد الإله بالنسبة للعالم هو بداية الأخبار السارة (البشارة المفرحة).’ وهذا النقش يشبه إلى حد كبير الاستهلال الذي بدأ به مرقس إنجيله الذي يوضح ماهية البشارة “evangel” في العالم القديم: أي حدث تاريخي يبشر بحالة جديدة في العالم.”
- كما هو مَكتوبٌ في الأنبياءِ: أول ما يقوله مرقس عن خدمة يوحنا المعمدان هو أن العهد القديم تنبأ عنه (ملاخي ١:٣ وإشعياء ٣:٤٠). فهذه الآيات تنبأت عن ’المنادي‘ الّذي سيعد طريقَ الرَّبِّ، وقد دعاه الله ’مَلاكي.‘
- كلمة ’مَلاكي‘ (أو رسول) مهمة جداً لأنها كانت أول إعلان إلهي يسمعه الشعب اليهودي (باستثناء الإعلانات التي سمعها كل من حنة وسمعان في لوقا ٢) بعد صمت إلهي دام ٣٠٠ سنة. فقد ظن البعض أن الله توقف عن إرسال الأنبياء لأنه لم يعد هناك المزيد ليقوله، ولكن يوحنا أظهر أن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق.
- إن كنت تتساءل ماذا كان يقصد مرقس عندما دعى يسوع ابنِ اللهِ، فستجد التوضيح هنا. قال مرقس أن خدمة يوحنا المعمدان هي أن يهيئ الطريق قدام الرب ويعد الطريق قدام يسوع. ففي ذهن مرقس، يسوع هو الرَّبِّ.
- أعِدّوا طريقَ الرَّبِّ، اصنَعوا سُبُلهُ مُستَقيمَةً: عندما اقتبس مرقس الآية من إشعياء ٣:٤٠ كان في ذهنه تمهيد طريق عظيم لوصول ملك عظيم. وكان الهدف من ذلك هو ملء الثغرات وهدم التلال الموجودة في الطريق.
- فكرة إعداد طريق الرب هي مجرد صورة، لأن الإعداد الحقيقي يجب أن يحدث داخل قلوبنا. فبناء أي طريق يشبه إلى حد كبير الإعداد الذي يجب أن يفعله الله في قلوبنا. فكلاهما مكلف جداً وكلاهما يتطلب التعامل مع عدة مشاكل ومع بيئات مختلفة، وكلاهما يتطلب مهندسًا ماهرًا.
- يسوع هو المسيا المنتظر الموعود والملك، وكان يوحنا المعمدان صوتُ صارِخٍ في البَرّيَّةِ. ومن خلال رسالته عن التوبة أعد طريقَ الرَّبِّ. وغالباً ما نفشل في تقدير أهمية التهيئة والإعداد لعمل الرب. فأي عمل عظيم لله ينبغي أن يبدأ بإعداد عظيم. وقد أتم يوحنا بشكل رائع هذه الخدمة المهمة. “كان يوحنا هو الأداة التي استخدمها الله لشق وبناء هذه الطريق.” ستيدمان (Steadman)
- كانَ يوحَنا يُعَمِّدُ في البَرّيَّةِ ويَكرِزُ بمَعموديَّةِ التَّوْبَةِ لمَغفِرَةِ الخطايا: يصف هذا كيف كان يوحنا يعد الطريق. جاء يُعَمِّدُ مقدماً اغتسالاً طقسياً يعبر عن التوبة ومغفرة الخطايا.
- تعني المعمودية ببساطة أن ’يغمر أو يغطس‘ الجسم في الماء. فيوحنا لم يرش الناس بالماء بل عمدهم بالانغماس الكامل في الماء كما كان شائعاً عند اليهود. “المعمودية في نظرهم ليست رش الجسم بالماء بل غسله وتطهيره بالمياه المقدسة.” باركلي (Barclay)
- مارس المجتمع اليهودي المعمودية كجزء من طقوس الاغتسال، ولكن هذه الممارسة كانت مخصصة للأمم الذين يرغبون في أن يصبحوا يهوداً. أما ممارسة المعمودية من قبل شخص يهودي كانت بمثابة القول لهذا الشخص: “أنا أعترف بأنني إنسان خاطئ كالأممي واحتاج أن أتصالح مع الله.” كان هذا عملاً حقيقياً للروح القدس.
- ربما كانت معمودية يوحنا تشبه معمودية الأممين المتهودين أو الاغتسال الطقسي الذي كان يمارسه اليهود في ذلك اليوم. وعلى الرغم من أنه قد يكون هناك نوع من الترابط بينهم، إلا أن معمودية يوحنا كانت فريدة للغاية لدرجة أنه أصبح معروفاً باسم ’يوحنا المعمدان.‘ فما كان ليوحنا أن يحصل على هذه اللقب الفريد لو كانت تلك المعمودية تمارس من قبل الكثيرين.
- إن المعمودية حسب الكتاب المقدس تشبه معمودية يوحنا، بمعنى أنها إعلان عن التوبة، ولكنها أيضاً أكثر من ذلك بكثير. فالمعمودية تعني أننا قَدْ دُفِنَّا مَعَهُ مِنْ خِلَالِ مَعمُودِيَّتِنَا لِنَشتَرِكَ مَعَهُ فِي مَوْتِهِ وفي قيامته (رومية ٣:٦).
- وخرجَ إليهِ جميعُ كورَةِ اليَهوديَّةِ وأهلُ أورُشَليمَ: كانت التجاوب مع خدمة يوحنا رائعاً للغاية. فالكثيرون أدركوا خطيتهم وحاجتهم لاستقبال وقبول المسيح، وكانوا مستعدين أن يفعلوا شيئاً حيال الأمر.
- لم تكن رسالة يوحنا الرئيسية: ’أنتم خطاة وتحتاجون إلى التوبة.‘ بل كانت رسالة يوحنا الرئيسية: ’المسيا آتٍ.‘ فالدعوة إلى التوبة كانت التجاوب اللائق مع الخبر بأن المسيا قادم.
ب) الآيات (٦-٨): يوحنا المعمدان: الرجل والرسالة
٦وكانَ يوحَنا يَلبَسُ وبَرَ الإبِلِ، ومِنطَقَةً مِنْ جِلدٍ علَى حَقوَيهِ، ويأكُلُ جَرادًا وعَسَلًا بَرّيًّا. ٧وكانَ يَكرِزُ قائلًا: «يأتي بَعدي مَنْ هو أقوَى مِنّي، الّذي لَستُ أهلًا أنْ أنحَنيَ وأحُلَّ سُيورَ حِذائهِ. ٨أنا عَمَّدتُكُمْ بالماءِ، وأمّا هو فسيُعَمِّدُكُمْ بالرّوحِ القُدُسِ».
- وكانَ يوحَنا يَلبَسُ وبَرَ الإبِلِ، ومِنطَقَةً مِنْ جِلدٍ علَى حَقوَيهِ: كان يوحنا المعمدان، في شخصيته وخدمته، يشبه كثيراً إيليّا الجريء (ملوك الثاني ٨:١)، الذي دعا إسرائيل إلى التوبة بكل جسارة.
- يأتي بَعدي مَنْ هو أقوَى مِنّي: كانت رسالة يوحنا المعمدان بسيطة للغاية. فقد كرز يوحنا عن يسوع فقط، لا عن نفسه، ووجه أنظار الناس إلى يسوع لا إلى نفسه.
- الّذي لَستُ أهلًا أنْ أنحَنيَ وأحُلَّ سُيورَ حِذائهِ: قد يبدو هذا نوعاً من المبالغة الروحية من طرف يوحنا. ولكنه قال ذلك لأن التعليم السائد في زمنه كان يسمح للمعلم أن يطلب من تلميذه أن يفعل أي شيء باستثناء حلّ سيور الحذاء، فهذا كان أمراً زائداً عن حده. ومع ذلك قال يوحنا أنه لم يكن مستحقاً حتى أن يفعل هذا من أجل يسوع.
- “قال التلمود البابلي (Ketuboth ٩٦a): ’على العبد أن يتمم كل واجباته نحو سيده على أكمل وجه، باستثناء حلّ سيور حذاءه.‘” لاين (Lane)
- وأمّا هو فسيُعَمِّدُكُمْ بالرّوحِ القُدُسِ: أدرك يوحنا أن معموديته لم تكن سوى تمهيداً لما سيقدمه يسوع. فالمسيح سيقدم الانغماس في الروح القدس الذي كان أعظم بكثير من الانغماس في الماء كتعبير عن التوبة.
- يمكن لمعمودية يوحنا أن تعبر عن التوبة، لكنها لن تطهر من الخطية حقاً، ولن تساهم في حلول الروح القدس كما سيفعل يسوع لاحقاً بعد الصلب.
ج) الآيات (٩-١١): معمودية يسوع
٩وفي تِلكَ الأيّامِ جاءَ يَسوعُ مِنْ ناصِرَةِ الجَليلِ واعتَمَدَ مِنْ يوحَنا في الأُردُنِّ. ١٠ولِلوقتِ وهو صاعِدٌ مِنَ الماءِ رأى السماواتِ قد انشَقَّتْ، والرّوحَ مِثلَ حَمامَةٍ نازِلًا علَيهِ. ١١وكانَ صوتٌ مِنَ السماواتِ: «أنتَ ابني الحَبيبُ الّذي بهِ سُرِرتُ».
- جاءَ يَسوعُ مِنْ ناصِرَةِ الجَليلِ واعتَمَدَ مِنْ يوحَنا في الأُردُنِّ: لم يعتمد يسوع لأنه احتاج إلى التطهير من الخطية؛ فهو بلا خطية، وقد فهم يوحنا هذا جيداً (متى ١٤:٣). ولكن اعتمد يسوع ليفعل ما اعتاد أن يفعله طيلة خدمته على الأرض: أن يفعل مشيئة الآب ويتحد مع الإنسان الخاطئ.
- لم يكن على يسوع أن يعتمد ولا أن يموت على الصليب بدلاً عنا. ولكنه فعل كل هذا ليعبر عن تضامنه مع الإنسان الخاطئ.
- ولِلوقتِ: الكلمة اليونانية هي ’euthus‘ وهذا هو أول استخدام لهذه الكلمة من أكثر من ٤٠ مرة في إنجيل مرقس.
- «أنتَ ابني الحَبيبُ الّذي بهِ سُرِرتُ»: عرف الجميع عندما تكلم الآب من السماء أن يسوع لم يكن مجرد رجل آخر ينال المعمودية. كما عرفوا أن يسوع هو ابن الله الكامل (الّذي بهِ سُرِرتُ) الذي اتحد مع الإنسان الخاطئ. وهكذا عرف الجميع أن يسوع كان مختلفاً. فقد اعتمد يسوع ليعلن اتحاده مع الإنسان الخاطىء، ولكنه اعتمد أيضاً لكي يتعرف الإنسان الخاطئ عليه.
- عرض هذا المشهد الغريب البداية المتواضعة:
- كان يَسوعُ: اسم شائع غير مميز البتة.
- من ناصِرَة: قرية عادية ومحتقرة.
- الجَليلِ: المنطقة الوثنية والبعيدة جداً عن الإيمان.
- واعتَمَدَ: اتحد مع الإنسان الخاطئ.
- في الأُردُنِّ: نهر عادي ومياهه سيئة. والتقاليد اليهودية القديمة تنهى عن استخدام مياه نهر الأردن في التطهير (وفقاً للمنشنا ١٠).” لاين (Lane)
- ولكن هذا المشهد يعرض مجداً عظيماً أيضاً:
- السماواتِ قد انشَقَّتْ: فتحت أبواب السماء على مصراعيها لهذا الحدث. الجملة اليونانية القديمة التي تعبر عن هذا قوية للغاية، وتحمل معنى أن السماء انشقت إلى نصفين كالستارة التي تفتح لبدء عرض رائع.” بروس (Bruce)
- والرّوحَ … نازِلًا علَيهِ: كان روح الله حاضراً، وبطريقة ما كان حضوره ملحوظاً.
- مِثلَ حَمامَةٍ: عبر لوقا (٢٢:٣) عن الحدث بهذه الطريقة: “ونَزَلَ علَيهِ الرّوحُ القُدُسُ بهَيئَةٍ جِسميَّةٍ مِثلِ حَمامَةٍ. وكأن الروح القدس، بشكل أو بآخر، كان حاضراً في المكان وَهَبَطَ على يسوع مِثلَ حَمامَةٍ.
- وكانَ صوتٌ مِنَ السماواتِ: من النادر أن نقرأ في الكتاب المقدس أن الله تكلم بصوت مسموع من السماء، لكن هذه واحدة من تلك المناسبات المجيدة.
- أنتَ ابني الحَبيبُ الّذي بهِ سُرِرتُ: هل هناك ما هو أعظم من أن يمدحك الله الآب علناً ويعلن دعمه لك؟
- عرض هذا المشهد الغريب البداية المتواضعة:
- والرّوحَ مِثلَ حَمامَةٍ نازِلًا علَيهِ: لم تكن هذه مجرد سحابة تحوم فوق يسوع، بل أخذ شكل مِثلَ الحَمامَةٍ. يقول لوقا (٢٢:٣) إن الروح القدس نَزَلَ علَيهِ بهَيئَةٍ جِسميَّةٍ مِثلِ حَمامَةٍ. ولكن هذا لا يعني أن الروح القدس كان حمامة، لكنه ظهر مِثلَ حَمامَةٍ. ونحن نعلم أيضاً أن يوحنا المعمدان رأى الروح القدس ينزل على يسوع (يوحنا ٣٢:١).
- قد ارتبط الروح القدس بشكل الحمامة بسبب ما جاء في سفر التكوين ٢:١، فالآية ’روحُ اللهِ يَرِفُّ علَى وجهِ المياهِ‘ وقت الخليقة جعلت بعض معلمي اليهود القدامى يقولون أن هذا تعبير عن حركة الحمامة. وأضافوا أيضاً بأن الحمامة هي من الطيور الرقيقة والمسالمة التي لا تقاوم ولا تدافع عن نفسها. وهذا يمثل عمل الروح القدس اللطيف والصادق.
- هذه واحدة من المقاطع المألوفة للعهد الجديد التي تظهر لنا الثالوث يعمل معاً. فالله الابن يعتمد والله الآب يتكلم من السماء والله الروح القدس ينزل مثل حمامة.
- لقد لاحظنا حتى الآن في إنجيل مرقس أن هناك أربع شهود على هوية يسوع. فهل نحتاج لمزيد من الأدلة؟
- قال مرقس أن يسوع هو ابن الله (مرقس ١:١).
- قال الأنبياء أن يسوع هو الرب (مرقس ٢:١-٣).
- قال يوحنا المعمدان بأن يسوع يأتي بَعدي وهو أقوَى مِنّي (مرقس ٧:١-٨).
- قال الله الآب بأن يسوع هو ابن الله الحَبيب (مرقس ١٠:١-١١).
د ) الآيات (١٢-١٣): تجربة يسوع في البرية مع الوحوش
١٢ولِلوقتِ أخرَجَهُ الرّوحُ إلَى البَرّيَّةِ، ١٣وكانَ هناكَ في البَرّيَّةِ أربَعينَ يومًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيطانِ. وكانَ مع الوُحوشِ. وصارَتِ المَلائكَةُ تخدِمُهُ.
- ولِلوقتِ أخرَجَهُ الرّوحُ إلَى البَرّيَّةِ: بعد الظهور الرائع للروح القدس في معمودية يسوع، كان على الروح القدس أن يقود يسوع ويخرجه إلَى البَرّيَّةِ.
- لقد استخدم مرقس كلمة غريبة هنا: ’أخرَجَهُ الرّوحُ.‘ وهو العمل الذي قام به يسوع لاحقاً حينما كان يخرج الشياطين من الناس.” مورغان (Morgan)
- وكانَ هناكَ في البَرّيَّةِ أربَعينَ يومًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيطانِ: اتحد يسوع مع الخطاة في المعمودية. ونراه هنا يتحد مع الخطاة في تجربتهم أيضاً. تذكرنا الآية في سفر العبرانيين ١٥:٤ ’لأنْ ليس لنا رَئيسُ كهَنَةٍ غَيرُ قادِرٍ أنْ يَرثيَ لضَعَفاتِنا، بل مُجَرَّبٌ في كُلِّ شَيءٍ مِثلُنا، بلا خَطيَّةٍ.‘
- كان يسوع في البَرّيَّةِ أربَعينَ يومًا: الرقم ٤٠ هو الرقم الذي يُظهر عادة فترة التجربة أو الدينونة. ففي طوفان نوح مثلاً، أمطرت السماء ٤٠ يوماً و٤٠ ليلة. وتاه الشعب اليهودي في البرية لمدة ٤٠ سنة. ورعى موسى الغنم في البرية لمدة ٤٠ سنة. وهذه هي المدة التي قضاها يسوع يجرب في البرية.
- أربَعينَ يومًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيطانِ: قدم كل من متى ولوقا تفاصيل التجارب الثلاثة التي تعرض لها يسوع في تلك الفترة وكيف قاوم يسوع الشيطان في كل مرة مستخدماً كلمة الله. ولكن يخبرنا مرقس أن يسوع واجه أكثر من الثلاث تجارب التي وصفها متى ولوقا. فقد جُرب يسوع خلال هذه الفترة برمتها.
- وكانَ مع الوُحوشِ: رغم أن متى ولوقا لم يذكرا شيئاً عن هذا، إلا أنه أمر ضروري للغاية. فالتشديد في القواعد اليونانية القديمة كان على ’مع.‘ وبكلمات أخرى، كان يسوع يعيش في سلام مع الوُحوشِ. وهذا يظهر أمرين:
- يسوع هو آدم الثاني، ومثل آدم الأول قبل السقوط، كان يعيش في سلام مع كل الحيوانات.
- بقي يسوع بلا خطية رغم التجربة وتمتع بسلطان كامل على الوُحوشِ.
- “رأت هذه المخلوقات الساقطة كمال صورة الله في المسيح؛ وبالتالي قدمت له الإجلال كرب لها، تماماً كما فعلت مع آدم قبل سقوطه.” تراب (Trapp)
- وصارَتِ المَلائكَةُ تخدِمُهُ: وكأن مرقس يريد أن يقول بأن الملائكة صارت تخدمه بعد انتهاء فترة التجارب الصعبة. وهذا يظهر أن يسوع لا يملك السلطان على الوُحوشِ فحسب بل على المَلائكَةُ أيضاً. فالملائكة هي خدامه.
- “لأنه الكامل والمترفع عن كل شيء، هو سيد الخليقة، والملائكة رهن أمره، وهذا هو المعنى الحقيقي لهذه الجملة. فهو الله الإنسان الكامل رغم التجربة.” مورغان (Morgan)
ثالثاً. دعوة التلاميذ الأربعة الأولين
أ ) الآية (١٤أ): بداية خدمة يسوع في منطقة الجليل
١٤وبَعدَما أُسلِمَ يوحَنا جاءَ يَسوعُ إلَى الجَليلِ
- وبَعدَما أُسلِمَ يوحَنا: هناك وصف مفصل لمصير يوحنا في السجن في مرقس ١٧:٦-٢٨.
- جاءَ يَسوعُ إلَى الجَليلِ: صرف يسوع معظم وقته في منطقة الجَليلِ، وكان يصعد إلى أورشليم في فترة الأعياد فقط. وكانت منطقة الجليل كبيرة ومأهولة بالسكان وتقع شمالي اليهودية وأورشليم، وكان يقطنها خليط من اليهود والأمم ولكن كلٌ في منطقته الخاصة.
- لم تكن الجليل منطقة صغيرة. فوفقاً للمؤرخ اليهودي القديم يوسيفوس، كانت مساحتها تمتد نحو ٦٠ ميلاً عرضاً و٣٠ ميلاً طولاً وتضم ٢٠٤ قرية، وكان عدد سكان أصغر هذه القرى نحو ١٥٠٠٠ نسمة. مما يعني أن عدد سكان منطقة الجليل بأكملها كان يزيد عن ثلاثة ملايين نسمة.
ب) الآية (١٤ب-١٥): ماذا فعل يسوع أثناء الخدمة
يَكرِزُ ببِشارَةِ ملكوتِ اللهِ ١٥ويقولُ: «قد كمَلَ الزَّمانُ واقتَرَبَ ملكوتُ اللهِ، فتوبوا وآمِنوا بالإنجيلِ».
- يَكرِزُ ببِشارَةِ ملكوتِ اللهِ: كان يسوع كارزاً وأتى ببشارة سيادة ملكوت الله على الأرض، رغم أن هذا الملكوت لم يكن بالطريقة التي توقعها الشعب أو رغبها. فقد أراد معظم الناس مملكة سياسية لتخلصهم من الاحتلال الروماني.
- كان الملكوت الذي كرز به يسوع مخالفاً تماماً لتوقعات الناس في وقته، فقد جاء يسوع بملكوت المحبة لا القهر، النعمة لا الناموس، التواضع لا الكبرياء، ولكل الناس لا للشعب اليهودي فقط، ملكوت يقبله الإنسان طوعاً ولا يفرض عليه بالقوة.
- سوف يشدد إنجيل مرقس – وبقية هذا الأصحاح – على عمل يسوع ومعجزاته الرائعة. ولكن يذكرنا مرقس بهذا البيان الافتتاحي بأن تركيز خدمة يسوع هي أن يَكرِزُ ببِشارَةِ ملكوتِ الله. فقد كان يسوع كارزاً يصنع المعجزات الرائعة، وليس صانعاً للمعجزات يكرز أحياناً.
- ويقولُ: «قد كمَلَ الزَّمانُ واقتَرَبَ ملكوتُ اللهِ»: عندما كرز يسوع ببِشارَةِ ملكوتِ اللهِ، أراد للناس أن يعرفوا أن الوقت قد حان واقترب جداً أكثر مما يتصوروا، فلم يكن الأمر بعيد المنال أو حلم. آن الأوان الآن لاختبار ملكوتِ الله.
- قد كمَلَ الزَّمانُ: هناك كلمتان لترجمة “الزمن” في اليونانية القديمة. الأولى كرونوس (chronos)، وتعني ببساطة الوقت أو الترتيب الزمني. والثانية كايروس (kairos) وتعني: “الفرصة المواتية أو الوقت الحاسم.” وأراد يسوع حينما قال “قد كمَلَ الزَّمانُ” أن ينقل لنا المعنى الثاني. وكأنه يقول: “الفرصة المواتية لقبول ملكوت الله هي الآن، فهذه فرصتك، لا تضيعها.”
- ويقولُ… «توبوا»: عندما كرز يسوع ببِشارَةِ ملكوتِ اللهِ، أراد للناس أن يعرفوا ما يعنيه دخول الملكوت. فلا يمكنهم دخول الملكوت بنفس الطريقة التي كانوا يعيشون فيها. فالطريقة الوحيدة ليختبروا ملكوتِ اللهِ هي أن يغيروا مسار حياتهم بالكامل.
- يعتقد البعض أن التوبة لها علاقة بالمشاعر، خاصة مشاعر الندم على الخطية. من الرائع بالطبع أن تشعر بالندم على خطيتك، لكن التوبة تتطلب أن تفعل شيئاً حيال الأمر لا أن تشعر بالندم فقط. طلب يسوع منا أن نغير عقولنا لا أن نشعر بالندم على خطايانا فقط. فالتوبة هي تغيير في الاتجاه وليست مجرد حزن أو ندم في القلب.
- لا تصف التوبة شيئاً علينا فعله قبل الاقتراب من الله، بل تصف معنى الاقتراب من الله. فإن كنت في مدينة نيويورك مثلاً، وطلبت منك أن تأتي إلى لوس أنجيلس، فلست بحاجة أن أقول لك: “اترك نيويورك وتعال إلى لوس أنجيلس.” فالمجيء إلى لوس أنجيلس يعني أنك تركت نيويورك، وإن لم تترك نيويورك فبالتأكيد لن تصل إلى لوس أنجيلس. لا يمكننا الدخول إلى ملكوتِ اللهِ إن لم نترك خطايانا ونترك حياتنا المتمحورة حول الذات.
- ويقولُ… «آمِنوا»: عندما كرز يسوع ببِشارَةِ ملكوتِ اللهِ، أراد للناس أن يعرفوا معنى العيش في الملكوت. فالملكوت الذي كرز عنه يسوع لم يكن مجرد تغيير أخلاقي، بل الثقة بالله وبكلامه والسير بالاتكال الكامل عليه.
- الكلمة اليونانية القديمة التي استخدمها يسوع للإيمان (pisteuo) تعني أكثر من مجرد المعرفة أو الاتفاق العقلي، لكنها تتحدث عن علاقة مبنية على الثقة والتسليم والاعتماد الكلي على الله.
- “كثيرون يؤمنون بالإنجيل، لكنهم لا يؤمنون بكلامه حقاً. كانت تلك دعوة لا لقبول البشارة ككلام منطقي، بل لكي تطمئن النفس إليه وفيه. فقد كانت دعوة لراحة القلب.” مورغان (Morgan)
ج) الآيات (١٦-٢٠): دعوة أربعة تلاميذ
١٦وفيما هو يَمشي عِندَ بحرِ الجَليلِ أبصَرَ سِمعانَ وأندَراوُسَ أخاهُ يُلقيانِ شَبَكَةً في البحرِ، فإنَّهُما كانا صَيّادَينِ. ١٧فقالَ لهُما يَسوعُ: «هَلُمَّ ورائي فأجعَلُكُما تصيرانِ صَيّادَيِ النّاسِ». ١٨فللوقتِ ترَكا شِباكَهُما وتَبِعاهُ. ١٩ثُمَّ اجتازَ مِنْ هناكَ قَليلًا فرأى يعقوبَ بنَ زَبدي ويوحَنا أخاهُ، وهُما في السَّفينَةِ يُصلِحانِ الشِّباكَ. ٢٠فدَعاهُما للوقتِ. فترَكا أباهُما زَبدي في السَّفينَةِ مع الأجرَى وذَهَبا وراءَهُ.
- أبصَرَ سِمعانَ وأندَراوُسَ: لم تكن تلك المرة الأولى التي تقابل بها يسوع مع هؤلاء الرجال. يصف إنجيل يوحنا (٣٥:١-٥٤:٤) لقاءهم الأول.
- كانا صَيّادَينِ: كان هؤلاء رجالاً عاديين، دون أي شهادات في اللاهوت أو أي مكانة في المجتمع. التقى يسوع بهم أثناء عملهم الطبيعي. اختار يسوع هؤلاء التلاميذ ليس لأجل ما كانوه، بل لما سيفعله من خلالهم.
- “من المؤكد أن الصفات الجيدة للصيادين الناجحين ستساهم في نجاح الخدمة الصعبة في ربح النفوس للمسيح: الشجاعة والقدرة على العمل معاً والصبر والنشاط والقدرة على التحمل والإيمان والمثابرة. فالصيادون المحترفون لا يمكنهم ببساطة أن يكونوا من الخاسرين أو المتذمرين!” ويرزبي (Wiersbe)
- هَلُمَّ ورائي: قدم يسوع في هذه الدعوة جوهر المسيحية: اتباع يسوع. فأساس المسيحية ليس الأنظمة اللاهوتية أو القوانين أو حتى مساعدة الناس، بل أساس وجوهر المسيحية هو اتباع يسوع.
- “تحمل عبارة ’اتبعني‘ معنى أخلاقياً أيضاً عند استخدامها في ذلك الزمان، فصاحب المقام الأعلى كان يمشي في المقدمة ويتبعه من هو أقل منه مكانة. فعلاقة المعلم بتلميذه تفهم ضمنياً هنا.” كول (Cole)
- فأجعَلُكُما تصيرانِ صَيّادَيِ النّاسِ: قال يسوع أنه سيجعلهما صيادي الناس. فإن حصل هؤلاء الرجال على شيء رائع نتيجة اتباعهم ليسوع، فمن اللائق أن يعطوه للآخرين، وهو أن “يصطادوا” الناس ويدخلوهم في نفس ملكوت الله.
- عندما دعاهم يسوع ليكونوا صيادي الناس، دعاهم ليفعلوا ما فعله هو. فيسوع أعظم صياد للناس على الإطلاق. وأراد من الآخرين أن يقوموا بنفس العمل الذي قام به؛ أولاً من خلال هؤلاء الأربعة ثم إثنى عشر ثم المئات ثم الآلاف عبر القرون.
- فأجعَلُكُما تصيرانِ: “مُشيراً إلى عملية تدريب تحدث تدريجياً.” بروس (Bruce)
- يُصلِحانِ الشِّباكَ: “تعني عبارة مرقس أنهما كانا يُجَهِّزَانِ الشِّبَاكَ أو يرتبانها لتكون جاهزة للصيد في المساء التالي، وهذا يشمل تنظيفها وإصلاحها وطيها.” لاين (Lane). ومن الملاحظ أن بولس استخدم اشتقاقاً لهذه الكلمة نفسها في أفسس ١٢:٤ حينما أراد أن يصف تجهيز وإعداد القديسين للخدمة. ويربط قاموس سترونغ (Strong) هذه الكلمة بكلمة إعداد وبالتالي تعني الإعداد الكامل أو الضبط أو الملاءمة أو وضع الشيء في الإطار الصحيح أو تعديله أو جعله مثالياً أو ربطه أو إصلاحه وتأهيله للعمل.
رابعاً. يوم حافل في الجليل
أ ) الآيات (٢١-٢٢): يسوع يعلم في المجمع
٢١ثُمَّ دَخَلوا كفرَناحومَ، ولِلوقتِ دَخَلَ المَجمَعَ في السَّبتِ وصارَ يُعَلِّمُ. ٢٢فبُهِتوا مِنْ تعليمِهِ لأنَّهُ كانَ يُعَلِّمُهُمْ كمَنْ لهُ سُلطانٌ وليس كالكتبةِ.
- ثُمَّ دَخَلوا كفرَناحومَ: يستطيع المرء اليوم أن يدخل كفرَناحومَ ويرى بقايا المجمع اليهودي القديم، ولكن أساساته التي علم عليها يسوع ما زالت موجودة.
- ولِلوقتِ دَخَلَ المَجمَعَ في السَّبتِ وصارَ يُعَلِّمُ: لم يكن للمجمع عادة معلمين ثابتين، بل كان هناك حرية في التعليم، وجرت العادة أن يطلب من الضيوف المتعلمين أن يقدموا تعليقاً على النص الكتابي لذلك اليوم. فالتقاليد قدمت ليسوع الفرصة ليكرز.
- فبُهِتوا مِنْ تعليمِهِ: لا نعلم ما علم به يسوع، ولكن البشير اخبرنا عن تأثير تلك التعاليم على الناس. فلم يسمعوا من قبل تعاليم كهذه.
- لأنَّهُ كانَ يُعَلِّمُهُمْ كمَنْ لهُ سُلطانٌ وليس كالكتبةِ: نادراً ما كان الكتبةِ في أيام يسوع يعلمون بمجاهرة. كانوا ببساطة يقتبسون تفاسير من معلمين آخرين. أما يسوع فعلم بكل سلطان ومجاهرة.
- عَلَم يسوع بسُلطان لأنه كان يملك السلطان. جاء برسالة إلهية وكان واثقاً أنها من الله. فلم يقتبس رسالته من البشر بل من الله.
- عَلَم يسوع بسُلطان لأنه اختبر ما كان يتكلم عنه. فلا يمكنك أن تعلم بسلطان إن لم تختبر المادة التي تقدمها.
- عَلَم يسوع بسُلطان لأنه آمن بما علم. سيصبح إيمانك في تعليمك جلياً للناس لأنه سيكون بسلطان.
- رأينا أولاً خضوع يسوع: خضوعه للآب في المعمودية، وخضوعه للروح القدس بالذهاب إلى البرية. ونرى الآن سلطان يسوع. فالسلطان ينبع من الخضوع. فلن نحصل على السلطان الحقيقي من الله إن لم نخضع بالكامل له.
- أظهر يسوع سلطانه عندما كان مع الوحوش.
- أظهر يسوع سلطانه عندما خدمته الملائكة.
- أظهر يسوع سلطانه عندما أعلن حضور ملكوت الله وقاد الناس للتوبة والإيمان.
- أظهر يسوع سلطانه عندما دعا التلاميذ لاتباعه.
- وسوف يظهر يسوع سلطانه بطرق أكثر لاحقاً.
ب) الآيات (٢٣-٢٤): هيجان روح نجس
٢٣وكانَ في مَجمَعِهِمْ رَجُلٌ بهِ روحٌ نَجِسٌ، فصَرَخَ ٢٤قائلًا: «آهِ! ما لنا ولكَ يا يَسوعُ النّاصِريُّ؟ أتَيتَ لتُهلِكَنا! أنا أعرِفُكَ مَنْ أنتَ: قُدّوسُ اللهِ!».
- رَجُلٌ بهِ روحٌ نَجِسٌ: استخدم مرقس في وصفه للرجل الذي به روح نجس ذات الوصف والأسلوب الذي استخدمه بولس في وصف المؤمن ’في المسيح‘ (كورنثوس الأولى ٣٠:١). كان الروح النجس هو إله هذا الرجل المسكين.
- إن التشابه بين وصف المؤمن الذي يسكن فيه المسيح ووصف هذا الرجل الذي يسكن فيه الروح النجس يبرهن على أنه فينا ونحن فيه. فيسوع فينا ويملكنا بالمعنى الصحيح، وامتلائه وتأثيره هو لخيرنا.
- وكما يسكن يسوع فينا، هكذا يسكن الشيطان في الإنسان البعيد عن يسوع، إن كان ذلك بدعوة عن وعي أو بغير وعي. فالانفتاح على أمور مثل تحضير الأرواح والأبراج وممارسة السحر والمخدرات أمر خطير للغاية، ويفتح الأبواب أمام قوى شيطانية من الأفضل أن تبقى مغلقة.
- أنا أعرِفُكَ مَنْ أنتَ: قُدّوسُ اللهِ!: شهد الشيطان بأن يسوع قدوس وبار. واعترفت الشياطين بأن تجاربها في البرية فشلت في إفساد يسوع.
ج) الآيات (٢٥-٢٨): انتهر يسوع الروح ونال تهليل رائع
٢٥فانتَهَرَهُ يَسوعُ قائلًا: «اخرَسْ! واخرُجْ مِنهُ!». ٢٦فصَرَعَهُ الرّوحُ النَّجِسُ وصاحَ بصوتٍ عظيمٍ وخرجَ مِنهُ. ٢٧فتحَيَّروا كُلُّهُمْ، حتَّى سألَ بَعضُهُمْ بَعضًا قائلينَ: «ما هذا؟ ما هو هذا التَّعليمُ الجديدُ؟ لأنَّهُ بسُلطانٍ يأمُرُ حتَّى الأرواحَ النَّجِسَةَ فتُطيعُهُ!». ٢٨فخرجَ خَبَرُهُ للوقتِ في كُلِّ الكورَةِ المُحيطَةِ بالجَليلِ.
- فانتَهَرَهُ يَسوعُ: لم يكن يسوع بحاجة لممارسة أعمال السحر أو طقوس معينة، بل أظهر ببساطة سلطان الله.
- اخرَسْ!: كثيراً ما طلب يسوع من الشياطين أن يسكتوا. أما اليوم، فيشجع العديد من الذين يخرجون الأرواح بقوتهم الذاتية الشياطين على الكلام، حتى أنهم يصدقون كلام الشياطين. لكن يسوع تجنّب مثل هذه العروض المسرحية وببساطة كان يحرر الشخص من تلك الأرواح.
- «اخرَسْ! واخرُجْ مِنهُ!»: كان هناك العديد من طاردي الأرواح أيام يسوع، فلم يكن يسوع هو الوحيد الذي حاول إخراج الشياطين. ولكن هناك فرق شاسع بين يسوع وطاردي الأرواح. فهؤلاء يستخدمون طقوساً طويلة ومعقدة ومليئة بالخرافات وغالباً باءت محاولاتهم بالفشل. أما يسوع فلم يفشل أبداً في إخراج أي روح، ولم يستخدم أبداً أي طقوس.
- يصف لاين (Lane) ما كتبه يوسيفوس عن عمل طارد أرواح يدعى العازار عاش زمن يسوع: “كان العازر يضع على أنف الرجل المسكون بعض جذور الأشجار التي ذكرها سليمان الحكيم، وكلما اشتم الرجل رائحة الجذر، خرج الشيطان من أنفه، وعندما يقع الرجل أرضاً يأمر العازر الشيطان بألا يعود ثانية مردداً اسم سليمان ثم يتلو تعاويذ ألفها. بعد ذلك، ورغبة منه في إقناع الحضور بأنه يمتلك هذه القوة، كان لعازر يضع كأساً أو حوضاً مملوءاً بالماء ويأمر الشيطان الذي خرج من الرجل أن يقلبه وهكذا يثبت للحضور أن الشيطان غادر الشخص فعلاً.”
- “اعتاد الناس على التعاويذ السحرية التي كان يستخدمها طاردي الأرواح (متى ٢٧:١٢، أعمال الرسل ١٣:١٩)، ولكن ما حدث هنا كان مختلفاً تماماً.” روبرتسون (Robertson)
د ) الآيات (٢٩-٣١): شفاء حماة بطرس
٢٩ولَمّا خرجوا مِنَ المَجمَعِ جاءوا للوقتِ إلَى بَيتِ سِمعانَ وأندَراوُسَ مع يعقوبَ ويوحَنا، ٣٠وكانتْ حَماةُ سِمعانَ مُضطَجِعَةً مَحمومَةً، فللوقتِ أخبَروهُ عنها. ٣١فتقَدَّمَ وأقامَها ماسِكًا بيَدِها، فترَكَتها الحُمَّى حالًا وصارَتْ تخدِمُهُمْ.
- جاءوا للوقتِ إلَى بَيتِ سِمعانَ وأندَراوُسَ: جاء يسوع إلى هذا البيت المتواضع في كفرناحوم والتقى بامرأة مريضة. فيسوع لم يصنع المعجزات أمام الجموع فحسب، بل نراه هنا يخدم شخصاً واحداً في منزل خاص. فقد كان اهتمام يسوع الأول هو تلبية احتياجات الأفراد لا الشهرة. ولم يحتاج إلى تصفيق الجموع ليقوم بخدمته.
- فتقَدَّمَ وأقامَها ماسِكًا بيَدِها، فترَكَتها الحُمَّى حالًا: أظهر يسوع في شفائه لحماة بطرس البساطة والقوة في آن واحد. فبذات السلطان شفى يسوع وأخرج الأرواح.
- كانت حماة بطرس تعاني مما يصفه التلمود ’الحمى الشديدة.‘ وكانت هذه منتشرة ولا تزال في تلك المنطقة من الجليل. حتى أن التلمود يذكر أساليب التعامل معها. إذ كانوا يربطون سكيناً من الحديد مجدولة بخصلة شعر إلى شجرة شوكية، ثم يقرأون في أول يوم خروج ٢:٣-٣ وثاني يوم خروج ٤:٣ وثالث يوم خروج ٥:٣. وأخيراً يقرأون تعويذات محددة لهذا المرض يؤمنون أنها تأتي بالشفاء. أما يسوع فلم يلجأ إلى شعوذة اليهود وسحرهم، بل بحركة واحدة وكلمة سلطانه الفريد شفى المرأة.” باركلي (Barclay)
- وصارَتْ تخدِمُهُمْ: علينا أن نتجاوب مع البركات التي ينعمها بها يسوع على حياتنا كما فعلت حماة بطرس. إذ قامت وصارت تخدم يسوع في الحال رداً للجميل.
هـ) الآيات (٣٢-٣٤): شفاء الجموع
٣٢ولَمّا صارَ المساءُ، إذ غَرَبَتِ الشَّمسُ، قَدَّموا إليهِ جميعَ السُّقَماءِ والمَجانينَ. ٣٣وكانتِ المدينةُ كُلُّها مُجتَمِعَةً علَى البابِ. ٣٤فشَفَى كثيرينَ كانوا مَرضَى بأمراضٍ مُختَلِفَةٍ، وأخرَجَ شَياطينَ كثيرَةً، ولَمْ يَدَعِ الشَّياطينَ يتَكلَّمونَ لأنَّهُمْ عَرَفوهُ.
- إذ غَرَبَتِ الشَّمسُ: استمر يسوع يخدم بعد غروب الشمس، وهكذا انتهى يوم السبت (مرقس ٢١:١). ولأن السبت قد انتهى، تحرر الناس من قيود يوم السبت، وجاؤوا إلى يسوع طالبين الشفاء.
- فشَفَى كثيرينَ: كان يوماً مليئاً بالأحداث، ثم حل الظلام وخدم يسوع المدينةُ كُلُّها التي اجتمعت علَى البابِ. عمل يسوع بجد دائماً لتلبية احتياجات الآخرين وكان يضع احتياجاتهم قبل احتياجاته.
خامساً. كرازة وشفاء في الجليل
أ ) الآية (٣٥): يسوع يصلي منفرداً
٣٥وفي الصُّبحِ باكِرًا جِدًّا قامَ وخرجَ ومَضَى إلَى مَوْضِعٍ خَلاءٍ، وكانَ يُصَلّي هناكَ.
- وفي الصُّبحِ: بعد يوم حافل وطويل، سنعذر يسوع إن أراد أن ينام لوقت أطول. ولكنه في الصُّبحِ باكِرًا جِدًّا قامَ وقرر أن يصرف وقتاً أقل في النوم ووقتاً أطول في الصلاة.
- “لا تنظر في وجه أي إنسان قبل أن ترى وجه الله. ولا تتكلم مع أي إنسان قبل أن تتكلم مع القدير.” سبيرجن (Spurgeon)
- وكانَ يُصَلّي هناكَ: لم يكن يسوع بحاجة إلى الصلاة لأنه كان ضعيفاً بل لأنه كان قوياً، ومصدر قوته كان علاقة بأبيه السماوي. عرف يسوع أن ضغط الخدمة والمشغولية ينبغي أن يدفعنا نحو الصلاة لا بعيداً عنها.
- نحن لا نعرف تحديداً ما الذي صلى يسوع لأجله، ولكنه استخدم هذه الوقت على الأغلب للتمتع بالشركة مع الله الآب التي كان يتوق إليها، التي تعزز وتقوي روحه. وليس من الصعب أن نخمن أيضاً أنه صلى من أجل نفسه ومن أجل تلاميذه ومن أجل الذين التقى بهم وخدمهم في الليلة السابقة، وحتماً صلى من أجل من سيلتقي بهم ويخدمهم في ذلك اليوم.
- إلَى مَوْضِعٍ خَلاءٍ: عرف يسوع أهمية قضاء وقت خاص مع الله. ورغم أهمية قضاء وقت في الشركة مع الآخرين في محضر الله، إلا أننا سنتعلم ونتختبر المزيد عن حياتنا الروحية حينما نصرف وقتاً مع الله في مَوْضِعٍ خَلاءٍ.
- “ويل لذلك الإنسان الذي لا يصرف وقتاً في الصلاة في موضع خلاء. فالصلاة السرية هي سر الصلاة، وروح الصلاة هو ختم الصلاة وقوتها. فإن كنت لا ترفع صلوات شخصية، فأنت لا تصلي على الإطلاق. لا يهمني إن كنت تصلي في الشارع أو في الكنيسة أو في عملك أو في الكاتدرائية؛ لكن على قلبك أن يتكلم مع الله على انفراد، وإلا فكأنك لم تصلِ.” سبيرجن (Spurgeon)
- “هناك قوة وفائدة في اتحادنا في الصلاة العامة والخاصة، أما في الصلاة السرية فهناك حرية أكبر وتواصل كامل لأرواحنا مع الله. لهذا اختار المسيح وقت الصباح الباكر لأنه خالي من أي تشتيت وفيه اعتزال عن الناس؛ وموضع الخلاء هو أفضل مكان يمكنك فيه أن تقوم بواجبك السري هذا.” بوله (Poole)
- يبين هذا المقطع العديد من الأمور عن الصلاة في حياة يسوع.
- الشركة مع الله بالنسبة ليسوع لا تقتصر على يوم السبت فقط.
- أراد يسوع أن يكون منفرداً وهو يصلي.
- أراد يسوع أن يكون وحده ليشارك أبيه بمكنونات قلبه.
ب) الآيات (٣٦-٣٩): جولة في منطقة الجليل
٣٦فتبِعَهُ سِمعانُ والّذينَ معهُ. ٣٧ولَمّا وجَدوهُ قالوا لهُ: «إنَّ الجميعَ يَطلُبونَكَ». ٣٨فقالَ لهُمْ: «لنَذهَبْ إلَى القرَى المُجاوِرَةِ لأكرِزَ هناكَ أيضًا، لأنّي لهذا خرجتُ». ٣٩فكانَ يَكرِزُ في مجامعهمْ في كُلِّ الجَليلِ ويُخرِجُ الشَّياطينَ.
- ولَمّا وجَدوهُ: في بداية العلاقة بين يسوع والتلاميذ كانوا يخرجون لِيَبْحَثُوا عَنْهُ كلما أختفى، لكنهم تعلموا مع الوقت أنه في كل مرة يختفي بها كان على الأرجح في موضع خلاء يصلي.
- «إنَّ الجميعَ يَطلُبونَكَ»: ربما ظن التلاميذ أن يسوع سيكون مسروراً بالشهرة وسيرغب في قضاء المزيد من الوقت مع الجمع الذي انبهر به في اليوم السابق.
- لنَذهَبْ إلَى القرَى المُجاوِرَةِ: لم يبق يسوع في تلك القرية ليستفيد من الشهرة التي اكتسبها هناك. إذ كان يعلم أن خدمته هي الكرازة في منطقة الجليل لا التمتع بالشهرة.
- كانت الكرازة هي محور اهتمام خدمة يسوع: لأنّي لهذا خرجتُ. صحيح أن خدمة الشفاء والمعجزات كانت مثيرة للإعجاب، لكنها لم تكن محور اهتمامه أبداً.
ج ) الآية (٤٠): الأبرص ويسوع
٤٠فأتَى إليهِ أبرَصُ يَطلُبُ إليهِ جاثيًا وقائلًا لهُ: «إنْ أرَدتَ تقدِرْ أنْ تُطَهِّرَني».
- فأتَى إليهِ أبرَصُ: كان البرص أحد الأمراض الفظيعة في العالم القديم. واليوم، هناك أكثر من ١٥ مليون شخص في جميع أنحاء العالم مصابون بهذا المرض، معظمهم في دول العالم الثالث.
- يبدأ البرص كبقع صغيرة وردية اللون على الجلد، وبعد فترة وجيزة يكبر حجمها وتصبح بيضاء اللون ويصبح الجلد سميكاً. ثم تنتشر البقع في كل الجسم ويبدأ الشعر بالتساقط – بدءاً من الرأس وحتى الحاجبين. ثم تزداد الأمور سوءاً، فتبدأ أظافر اليدين والقدمين بالانفصال عن الجسد وتبدأ بالتعفن وفي النهاية تتساقط كلها. ثم تبدأ مفاصل الأصابع والقدمين بالتعفن وتبدأ في التساقط واحد تلو الآخر. ثم تبدأ اللثة بالانكماش مما يؤدي لتساقط الأسنان. ويستمر البرص بالانتشار في الوجه ليؤدي إلى تعفن الأنف والحنك وحتى العينين. ويبدأ جسد الأبرص بالتعفن والتلاشي تدريجياً حتى يموت المريض.
- بقدر فظاعة المعاناة الجسدية، إلا أن المعاناة الأسوأ هي تعامل المجتمع مع الأبرص. قال الله في العهد القديم أنه عندما يصاب أحدهم بالبرص بين شعب إسرائيل، يجب عزله وفحصه بعناية (لاويين ١٣-١٤). وكان على الأبرص أن يرتدي ملابس مثل تلك التي يرتديها من هم في حالة حداد، لأن الأبرص كا بمثابة الميت. وأينما ذهب كان عليه أن يحذر الناس من وجوده بصراخ عالٍ: ’نجس! نجس!‘ لم يكن هذا لأن المرض كان معدياً، بل لأن الله استخدم هذا المرض كمثال صارخ على الخطية وتأثيرها علينا.
- لكن الناس في زمن يسوع ذهبوا إلى ما هو أبعد مما علمه العهد القديم. فالناس في ذلك الوقت كان لديهم معتقدين بشأن البرص: فالأبرص كان يعتبر بمثابة الميت وهو يستحق هذا العقاب من الله. وكانت تحض التقاليد اليهودية على عدم إلقاء التحية على الأبرص، والابتعاد عنه مسافة مترين على الأقل. وتباهى أحد معلمي اليهود بأنه لن يشتري حتى بيضة إن رأى أبرص في أحد الشوارع، وتباهى آخر أنه ألقى الحجارة على أبرص ليبقيه بعيداً عنه. ولم يسمح معلم آخر لأبرص بأن يغسل وجهه حتى.
- يَطلُبُ إليهِ جاثيًا: عرف الأبرص مدى فظاعة مرضه، فلا عجب أن يأسه دفعه للاقتراب من يسوع بهذه الطريقة.
- تقدِرْ أنْ تُطَهِّرَني: آمن الأبرص حقاً بسلطان يسوع، وكان واثقاً بأنه قادر أن يشفيه. وهذا يظهر أن إيمان الأبرص كان قوياً، إذ لم يكن يسوع قد شفى أبرصاً بعد أثناء خدمته.
- عرف الجميع في ذلك الوقت أن الله وحده هو القادر على شفاء البرص. فلم يكن هناك علاج، ولم يسبق وأن تحسن أحد أو شفي. فالمصاب بالبرص لن يشفى إلا بتدخل مباشر من الله.
- تُطَهِّرَني: عرف الأبرص تماماً ماذا يريد من يسوع. لم يطلب الشفاء بل طلب التطهير. فالأبرص كان يحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من الشفاء الجسدي.
- مهما كان الشي الذي تعتقد أنك تحتاجه من الله، إلا أن الشيء الذي أنت في أمس الحاجة إليه حقاً من يسوع هو التطهير – التطهير من الخطية ومن حياة محورها الذات.
د ) الآيات (٤١-٤٥): يسوع يطهر الأبرص
٤١فتحَنَّنَ يَسوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقالَ لهُ: «أُريدُ، فاطهُرْ!». ٤٢فللوقتِ وهو يتَكلَّمُ ذَهَبَ عنهُ البَرَصُ وطَهَرَ. ٤٣فانتَهَرَهُ وأرسَلهُ للوقتِ، ٤٤وقالَ لهُ: «انظُرْ، لا تقُلْ لأحَدٍ شَيئًا، بل اذهَبْ أرِ نَفسَكَ للكاهِنِ وقَدِّمْ عن تطهيرِكَ ما أمَرَ بهِ موسَى، شَهادَةً لهُمْ». ٤٥وأمّا هو فخرجَ وابتَدأَ يُنادي كثيرًا ويُذيعُ الخَبَرَ، حتَّى لَمْ يَعُدْ يَقدِرُ أنْ يَدخُلَ مدينةً ظاهِرًا، بل كانَ خارِجًا في مَواضِعَ خاليَةٍ، وكانوا يأتونَ إليهِ مِنْ كُلِّ ناحيَةٍ.
- فتحَنَّنَ يَسوعُ: نشفق ونتحنن على المرضى عادة حينما نلتقي بهم، ولكن مرضى البرص لا يثيرون الشفقة عادة بل يثيرون الاشمئزاز بسبب مظهرهم.
- قال لوقا أن الرجل مَملوءٌ بَرَصاً (لوقا ١٢:٥)، بمعنى أن المرض قد تفاقم، وبدأت حياة وجسد هذا الرجل في التعفن.
- ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ: لقد شفى يسوع الناس بعدة طرق مختلفة، لكنه اختار هنا أن يشفي هذا الرجل بلمسة. كان بإمكانه أن يشفيه بكلمة أو بفكرة، لكنه قرر أن يمد يده ويلمسه.
- كان ما فعله يسوع مهماً للغاية لأن لمس الأبرص كان أمراً محرماً. وبما أن مرضه كان في مراحله الأخيرة، فهذا يعني أنه عانى منه لمدة طويلة، وقد مر وقت طويل منذ أن لمسه أحد بحنان.
- ما فعله يسوع كان انتهاكاً لشريعة التطهير اليهودية التي تحرم لمس الأبرص. ولكن يسوع لم يخالف الشريعة، لأن الرجل فارقه البرص ما أن لمسه يسوع.
- أرِ نَفسَكَ للكاهِنِ: طلب يسوع من الأبرص الذي شفي أن يذهب إلى الكهنة لتأدية شعائر تطهير الأبرص. وقد فعل يسوع هذا تنفيذاً لناموس الله أولاً، وثانياً ليكون شفاء مرض صعب كهذا شَهادَةً للكهنة.
- إن العناصر المستخدمة في شريعة تطهير الأبرص (خَشَبُ أرزٍ وقِرمِزٌ وزوفا) هي نفسها المستخدمة في تطهير شخص تدنس بلمس جثة ميت (سفر العدد ٦:١٩، ١٣:١٩، ١٨:١٩ وسفر اللاويين ٤:١٤-٧).
- لم يسبق للكهنة أن قاموا بمثل هذه الشعائر لأنه لم يحدث أي شفاء من هذا المرض من قبل. فعندما يضطر الكهنة إلى البحث عن هذه المراسم وتطبيقها لأول مرة سيكون هذا شهادة على أن المسيا قد جاء وصار بينهم.
- لا تقُلْ لأحَدٍ شَيئًا… وأمّا هو فخرجَ وابتَدأَ يُنادي كثيرًا ويُذيعُ الخَبَرَ: ربما فعل الرجل هذا بنية طيبة وربما اعتقد أنه كان يساعد يسوع بتصرفه هذا، لكن عصيانه أعاق خدمة يسوع: حتَّى لَمْ يَعُدْ يَقدِرُ أنْ يَدخُلَ مدينةً ظاهِرًا. فمن الأفضل دائماً أن نطيع أمر يسوع، وينبغي ألا نعتقد أبداً أن خطتنا أفضل من خطته.