رسالة يوحنا الأولى – الإصحاح ٥
الولادة من الله والإيمان بابن الله
أولًا. الولادة من الله
أ ) الآية (١): الولادة من الله هي مصدر المحبة.
١كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللهِ. وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ ٱلْوَالِدَ يُحِبُّ ٱلْمَوْلُودَ مِنْهُ أَيْضًا.
- كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللهِ: غالبًا ما كرّر يوحنا فكرة الولادة من الله (كما في يوحنا الأولى ٢٩:٢، ٩:٣، ٧:٤). وهو هنا يخبرنا كيف يولد المرء من الله: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ. ويعني هذا أن يسوع هو المسيّا، لا المسيّا بالمعنى العام السائب.
- ركّز يوحنا على المحبة كثيرًا، لكنه لم يُرِد أن يعتقد أحد أن المرء يمكن أن يكتسب الخلاص بمحبته للآخرين. فنحن نولد ثانية عندما نضع ثقتنا في يسوع وعمله الخلاصي على الصليب.
- ونحن نفهم أن يوحنا لم يكن يتحدث عن مجرد موافقة ذهنية على أن يسوع هو المسيّا (فالشياطين توافق على ذلك ذهنيًّا، كما في يعقوب ١٩:٢). وبدلًا من ذلك، فإنه يعني ثقة واعتمادًا على يسوع بصفته المسيّا.
- وفضلًا عن ذلك، يوضح يوحنا أنه يتوجب علينا أن نؤمن بأن يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ. فهنالك أشخاص كثيرون يتبعون شيئًا قريبًا من فكر “العصر الجديد” حيث يؤمنون أن يسوع كان يمتلك “روح المسيح” فقط – ويقولون إن هذا ينطبق على كونفوشيوس ومحمد وبوذا وبعض المُحْدِثين أيضًا. ولكن لا يمكننا أن نقول أبدًا إن يسوع “يمتلك روح المسيح” أو “يمتلك المسيح” – فيَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ.
- وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ ٱلْوَالِدَ يُحِبُّ ٱلْمَوْلُودَ مِنْهُ أَيْضًا: للولادة من الله تأثيران. فمن المؤكد أننا سنحب الله الذي وَلَدَنا (أنجبنا) لأننا نولد في عائلة. ومن المؤكد أيضًا أننا سنحب المولودين منه – إخوتنا وأخواتنا في المسيح.
- هذه هي الأرضية المشتركة للمؤمنين بالمسيح – ليس العِرق أو الطبقة الاجتماعية أو الثقافة أو اللغة أو أي شيء آخر باستثناء الولادة المشتركة في يسوع وربوبيته المشتركة.
- تعني محبتك لكل الآخرين في عائلة الله أنك لا تَقْصُر محبتك على طائفتك أو على مجموعتك أو منزلتك الاجتماعية أو وضعك المالي أو جنسك أو منظورك السياسي أو على اقتناعاتك اللاهوتية الدقيقة. فإذا كان أيٌّ من هذه يعني لنا أكثر من خلاصنا المشترك، وربوبية يسوع المشتركة، عندئذٍ فإن هنالك خللًا كبيرًا.
- يحس الوالدون بالغضب الشديد، وحتى بالاشمئزاز، عندما يتقاتل أبناؤهم ويبدو أنهم يبغضون بعضهم بعَضًا. فكيف تتوقع أن تكون مشاعر الله عندما يرى أولاده يتقاتلون فيما بينهم؟
ب) الآيات (٢-٣): إظهار محبة الله.
٢بِهذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا نُحِبُّ أَوْلاَدَ اللهِ: إِذَا أَحْبَبْنَا اللهَ وَحَفِظْنَا وَصَايَاهُ. ٣فَإِنَّ هذِهِ هِيَ مَحَبَّةُ اللهِ: أَنْ نَحْفَظَ وَصَايَاهُ. وَوَصَايَاهُ لَيْسَتْ ثَقِيلَةً.
- بِهَذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا نُحِبُّ أَوْلَادَ ٱللهِ: محبتنا لشعب الله تعكس محبتنا لله (كما في يوحنا الأولى ١٠:٣، ١٧)، فمحبتنا وطاعتنا لله هي إظهار لمحبتنا لجسد المسيح.
- يقال أحيانًا إن أفضل شيء يمكن أن يفعله أب من أجل أبنائه هو أن يحب زوجته، أي أمهم. وبنفس الطريقة، فإن أفضل طريقة لابنٍ لله أن يحب إخوته وأخواته في جسد المسيح هو أن يحب الله ويطيعه. فإن كنت تحب الوالد، فإنك ستحب أولاده. فكل هذه الأمور تعمل معًا.
- إِذَا أَحْبَبْنَا ٱللهَ وَحَفِظْنَا وَصَايَاهُ: لا يوجد للمؤمن بالمسيح الذي لا يحب الله ولا يحفظ وصاياه تأثير إيجابي يُذْكر في جسد المسيح. وهذا أمر صحيح حتى عندما يكون هذا المؤمن (المؤمنة) منخرطًا في خدمة كثيرة ويحتل منصبًا رسميًّا في الخدمة في الكنيسة.
- عندما تبرد محبتنا وطاعتنا لله، فإننا لا نؤذي أنفسنا فحسب، بل نؤذي إخوتنا وأخواتنا أيَضًا. يحْدث الضرر، على الأقل لأننا نشكل عائقًا أمام التطور الروحي لشعب الله.
- إن كنا لا نريد أن نحب الله ونطيعه من أجل خيرنا نحن، فإنه ينبغي لنا أن نفعل ذلك على الأقل بدافع من محبتنا للآخرين.
- فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ مَحَبَّةُ ٱللهِ: أَنْ نَحْفَظَ وَصَايَاهُ: يعني أن تحب الله أن تحفظ وصاياه. وهذا يشبه الشخص الذي يقول إنه يحب الله بينما يسلك في حياة العصيان، ذاك المؤمن الذي يقول إنه يسلك في شركة مع الله بينما يسلك في الظلمة (كما في يوحنا الأولى ٦:١) – إنه كاذب.
- من المؤكد أنه خطرت ببال يوحنا كلمات يسوع في يوحنا ١٥:١٤ “إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَٱحْفَظُوا وَصَايَايَ.”
- تظهر المحبة في الطاعة. “كثيرًا ما يحاول المؤمنون بالمسيح أن يحوّلوا محبتهم لله إلى خبرة عاطفية متطرفة، لكن يوحنا لا يسمح بذلك في رسالته.” بويس (Boice)
- وَصَايَاهُ لَيْسَتْ ثَقِيلَةً: يحس بعض المؤمنين بأن وصايا الله ترهقهم كثيرًا. غير أن يوحنا يؤكد أنها ليست ثَقِيلَةً.
- وَصَايَاهُ لَيْسَتْ ثَقِيلَةً عندما ندرك مدى حكمة الله وصلاحه. إنها هبة منه لنا لتبيّن لنا أفضل حياة ممكنة وأكثرها إشباعًا وتحقيقًا. فوصايا الله تشبه “كتيّب تعليمات” الشركة الصانعة لمنتَج الحياة. فهو يخبرنا بما يجب أن نفعله لأنه يعرف كيف نعمل على أفضل وجه. ولا تهدف وصاياه إلى أن تقيّدنا أو أن تؤلمنا أو لأن الله مثل رجل عجوز غاضب.
- وَصَايَاهُ لَيْسَتْ ثَقِيلَةً عندما نولد ثانية ونعطى قلوبًا جديدة – قلوبًا تريد بغريزتها أن ترضي الله. وكجزء من العهد الجديد، كتب الله ناموسه على قلب كل مؤمن (إرميا 33:31).
- وَصَايَاهُ لَيْسَتْ ثَقِيلَةً عندما نقارنها بالقوانين التي يضعها الناس. فلا يحاول يوحنا أن يخبرنا أن الطاعة أمر سهل. فلو كان الأمر كذلك، لكان سهلًا جدًّا أن لا نخطئ، فقد سبق وأقرّ يوحنا بالفعل بأننا جميعًا نخطئ (يوحنا الأولى ٨:١). فكان يوحنا يفكر في المقابلة التي طرحها يسوع بين المتطلبات الدينية لقادة الدين في عصره وبساطة محبة الله واتِّباعه. إذ قال يسوع إن كل القواعد والأنظمة التي وضعها الكتبة والفريسيون كانت أحمالًا ثقيلة (متى ٤:٢٣). وبالمقابل، قال يسوع عن نفسه: “نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ” (متى ٣٠:١١). وبدلًا من المتطلبات المرهقة لحفظ مئات القواعد والأنظمة الصغيرة، يقول يسوع لنا: “أحِبّوني وأحِبّوا شعبي، وستسلكون في الطاعة.”
- وَصَايَاهُ لَيْسَتْ ثَقِيلَةً عندما نحب الله حقًّا. فحين نحب الله، فإننا نريد أن نطيعه ونرضيه. فعندما تحب شخصًا، فإن كل التعب والصعوبات التي نواجهها من أجل مساعدته أو إرضائه تبدو تافهةً، بل سنستمتع بخوضها. ولكن لو اضطررنا إلى عمل ذلك من أجل عدو، فسنتذمر طيلة الوقت. وكما قضى يعقوب سبع سنوات في العمل لدى لابان من أجل أن يتزوج من راحيل، فكانت يالنسبة له مجرد أيام قليلة (تكوين ١٨:٢٩)، كذلك لا تبدو طاعة وصايا الله ثقيلة لنا عندما نحبه حقًّا. وكما يقول مثل قديم: “لا يشعر الحب بأية أحمال.”
ج) الآيات (٤-٥): الولادة من الله هي مصدر الانتصار.
٤لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ يَغْلِبُ الْعَالَمَ. وَهذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا. ٥مَنْ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ الْعَالَمَ، إِلاَّ الَّذِي يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ؟
- أَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱللهِ يَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ: يبدأ يوحنا بمبدأ بسيطٍ مع أنه قوي جدًّا – إن كنا مولودين من الله، فإننا سنغلب العالم. فكانت فكرة أن أي شخص مولود من الله يمكن أن يُهزم من العالم غريبة بالنسبة ليوحنا، وينبغي أن تكون كذلك بالنسبة لنا أيضًا.
- وَهَذِهِ هِيَ ٱلْغَلَبَةُ ٱلَّتِي تَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ: إِيمَانُنَا: بما أن الإيمان به هو مفتاح الولادة من الله (يوحنا الأولى ١:٥)، فإن مفتاح الانتصار هو الإيمان، وهو ليس الإيمان الأوليّ الذي بموجبه “نتقدم إلى المذبح ونحصل على الخلاص،” لكنه إيمان ثابت دائم. إنه اتكال مستمر على المسيح وثقة به.
- يكرر يوحنا الفكرة بهذه الكلمات: مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ، إِلَّا ٱلَّذِي يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱللهِ؟ إن حياة الإيمان الثابت والثقة بيسوع المسيح هي الحياة التي تتغلب على ضغوطات العالم وتجاربه.
- إن معرفتنا بهوية يسوع – لا كمجرد حقائق ومعلومات – بل كغذاء للحياة، “تملأ النفس بأشياء رائعة حوله… بحيث تحوِّل بسهولة هذا العالم إلى ظلٍّ جدير بالازدراء، وتسلبه من قوته السابقة علينا.” بوله (Poole)
- مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ: يخبرنا هذا أننا نغلب في المقام الأول بفضل هويتنا في المسيح، لا بفضل ما نفعله نحن. فنحن نغلب لأننا مولودون من الله. ونحن مولودون من الله لأننا نؤمن بأن يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ. ومرة أخرى، ليس بمعنى ذهني فقط، لكن عندما نجعل ركيزة حياتنا حقيقة أن كون يسوع هو ابن الله لنا.
- “انظر إلى أي قاموس يوناني تريده وستجد أن كلمة “إيمان” أو “يؤمن” لا تعني مجرد أن يعتقد، بل أن يثق أو أن يأتمن على الأسرار أو يكرس أو يعهد بمسؤولية، وما إلى ذلك. إن جوهر معنى الإيمان هو الثقة والاعتماد.” سبيرجن (Spurgeon)
- كيف يمكننا أن نصبح منتصرين على العالم في يسوع؟
- “فِي ٱلْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ ٱلْعَالَمَ.” (يوحنا ٣٣:١٦). لأن يسوع غلب العالم، ونحن الآن ثابتون (ساكنون) فيه، فإننا غالبون فيه.
- قال يوحنا للذين كانوا ينمون في مسيرتهم مع يسوع: “قَدْ غَلَبْتُمُ ٱلشِّرِّيرَ.” (يوحنا الأولى ١٣:٢-١٤). فعندما نسلك في يسوع، وننمو في ذلك السلوك، سننتصر على أعدائنا الروحيين.
- سيتمتع الغالبون بمكانة خاصة في العالم الآتي. فقد وعد يسوع: “مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ.” (رؤيا يوحنا ٢١:٣).
- يغلِب الغالبون لأن دم يسوع يغلب اتهامات إبليس. وتغلب كلمة شهادتهم خداعات إبليس، وعدم محبتهم لحياتهم تغلب عنف إبليس. (رؤيا يوحنا ١١:١٢)
ثانيًا. مصدر علاقتنا بالله: يسوع المسيح
أ ) الآيات (٦-٨): تحديد هوية يَسُوع بدقة، ابن الله، ذاك الذي يتوجب علينا أن نؤمن به.
٦هذَا هُوَ الَّذِي أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ. لاَ بِالْمَاءِ فَقَطْ، بَلْ بِالْمَاءِ وَالدَّمِ. وَالرُّوحُ هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ، لأَنَّ الرُّوحَ هُوَ الْحَقُّ. ٧فَإِنَّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي السَّمَاءِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الآبُ، وَالْكَلِمَةُ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ. وَهؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ وَاحِدٌ. ٨وَالَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي الأَرْضِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الرُّوحُ، وَالْمَاءُ، وَالدَّمُ. وَالثَّلاَثَةُ هُمْ فِي الْوَاحِدِ.
- ٱلَّذِي أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ: يوضح يوحنا أن يسوع الذي يتكلم عنه ليس يسوع “الشبح” الأغنوسي الذي كان أكثر قداسة مما أن تكون له أية علاقة بهذا العالم. ويسوع الذي يتوجب أن نؤمن به هُوَ ٱلَّذِي أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ، الذي كان جزءًا من أرض حقيقية مادية، كان من لحم ودم.
- يعود يوحنا إلى موضوع بدأه في بداية رسالته، وهو الأساس التاريخي الحقيقي لثقتنا بيسوع المسيح. كان التركيز في يوحنا الأولى ١:١-٣ على ما شوهدَ وسُمعَ ولُمِسَ وَجُسَّ – شخص مادي حقيقي. فكما أن الدم والماء حقيقيان، كذلك كان مجيء ابن الله، يسوع المسيح.
- ٱلَّذِي أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ: كانت هنالك عبر القرون أفكار كثيرة متنوعة حول ما قصده يوحنا بهذه العبارة. “هذا هو أكثر جزء من هذه الرسالة تحييرًا في العهد الجديد.” بويس (Boice) نقلًا عن بلامر (Plummer)
- يرى بعضهم أن الماء يشير إلى معموديتنا، بينما يشير الدم إلى الاشتراك في مائدة الرب، وكيف أن يوحنا يكتب كيف يأتي يسوع إلينا في سِرَّي المعمودية ومائدة الرب (كان لدى لوثر وكالفن هذه الفكرة). لكن إن كان هذا واقع الحال، فإن هذا لا يتفق مع المنظور التاريخي الذي كان يوحنا يتكلم عنه عندما قال أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ (جاء عن طريق الماء والدم). إذ يبدو أنه كتب عن شيء حدث في الماضي، لا عن شيء مستمر.
- ويعتقد آخرون (من بينهم أوغسطين) أن الماء والدم يشيران إلى الدم والماء اللذين جرى من يسوع عندما طُعن بحربة على الصليب. “لَكِنَّ وَاحِدًا مِنَ ٱلْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ.” (يوحنا ٣٤:١٩). كان هذا حدثًا مهمًّا بالنسبة للرسول يوحنا، لأنه بعد وصفه لجريان الدم والماء، أضاف فورًا: “وَٱلَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ.” (يوحنا ٣٥:١٩). ولكن إن كان هذا هو ما قصدَه يوحنا، فإنه أمر غير واضح بعض الشيء، كيف يمكن أن يقال إن يسوع أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ.
- ويعتقد آخرون أن الماء يشير إلى ولادة يسوع الذي وُلِد من ماء الرحم، بينما يشير الدم إلى موته. وإن كان هذا واقع الحال، فإن يوحنا يقول لنا بشكل رئيسي: “عاش يسوع ومات كأي إنسان عادي. كان إنسانًا بشكل تام، فلم يكن كائنًا روحيًّا خارقًا لم يكن له اتصال حقيقي بالعالم المادي.” اعتقد الأغنوسيون أن يسوع كان مجرد كائن روحي خارق.
- ٱلَّذِي أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ: لعل أفضل تفسير (رغم أنه توجد جوانب جيدة لبعض الآراء الأخرى) هو أقدم التفسيرات المدونة لهذا النص (أول من سجّله اللاهوتي ترتليان القديم). يقول هذا الفهم إن الماء يشير إلى معمودية يسوع، بينما يشير الدم إلى صلبه.
- عندما تعمّد يسوع، لم يتعمد ليتوب عن خطاياه (إذ لم تكن لديه أية خطايا)، بل أراد أن يتوحد مع البشرية الخاطئة. فعندما جاء بالماء، فإن لسان حاله هو: “أنا واحد منكم.”
- عندما مات يسوع على الصليب، لم يمت لأنه كان مضطرًا إلى ذلك (إذ لم تكن للموت قوة عليه)، بل وضع حياته ليتوحد مع البشرية الآثمة وليخلّصنا من خطايانا. وعندما جاء بالدم، فقد فعل ذلك لكي يقف في مكاننا كخاطئ مذنب، ولكي يأخذ عنا عقاب خطايانا الذي كنا نستحقه.
- يرتبط هذا التفسير على أفضل نحو بما قاله يسوع في يوحنا ٥:٣ “ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللهِ.” تتحدث الولادة من الماء في هذا النص عن المياه التطهيرية للمعمودية.
- ٱلَّذِي أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ: علَّم بعضهم (وما زالوا يعلِّمون) أن يسوع حصل على “روح المسيح” عند معموديته، وأن “روح المسيح” تركه عندما مات على الصليب (إذ إنه أمر غير معقول أن يعلَّق الله على صليب). ولكن يوحنا يصر على أن يسوع لم يأتِ بماء المعمودية فحسب، بل أيضًا بدم الصليب أيضًا. فقد كان يسوع ابن الله على الصليب تمامًا كما كان عندما أعلن الآب “أَنْتَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ.” (لوقا ٢٢:٣) عند معمودية يسوع.
- قد نجد صعوبة في تفهُّم هذا الأسلوب القديم من محاولة تجنُّب عثرة الصليب بالقول: “لم يكن ابن الله هو الذي كان معلَّقًا على الصليب.” لكن لدينا في عصرنا الجديد طرقنا الخاصة في محاولة تجنُّب عثرة الصليب. إذ ينكر بعضهم أن يسوع هو الله على الإطلاق، وينظرون إليه على أنه مجرد “شهيد نبيل.” ويُتَفِّه بعضهم الصليب جاعلين إياه مجرد زينة حسب التقليعات الجديدة في الأزياء الشعبية والمجوهرات. ويستبدل آخرون الصليب بإنجيل علم النفس الذي يهدف إلى العون الذاتي وتقدير الذات، أو بكرازة بلا صليب.
- وَٱلرُّوحُ هُوَ ٱلَّذِي يَشْهَدُ، لِأَنَّ ٱلرُّوحَ هُوَ ٱلْحَقُّ: يشهد الروح القدس أيضًا لشخص يسوع، تمامًا كما قال يسوع (فَهُوَ يَشْهَدُ لِي… ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ (يوحنا ٢٦:١٥؛ ١٤:١٦). ورسالة الروح القدس المنسجمة لنا هي: “ها هو يسوع.”
- “كان الكاهن (في العهد القديم) يُرسَم بدم ذبيحة وماء تطهيري وزيت يشير إلى مسحة الروح القدس. فكان لدى يسوع هؤلاء الشهود الثلاثة لخدمته الكهنوتية.” سبيرجن (Spurgeon)
- ٱلرُّوحُ، وَٱلْمَاءُ، وَٱلدَّمُ: هؤلاء كلهم شهود منسجمون في إخبارنا عن هوية يسوع. ويمكن أن نعرف أنهم يتفقون كواحد (وَهؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ وَاحِدٌ). فلا يخبرنا الروح شيئًا، بينما يخبرنا الماء شيئًا آخر، ويخبرنا الدم شيئًا مختلفًا. فحياة يسوع وموته والروح كلها تخبرنا عن هوية يسوع، وكلهم متفقون في ذلك.
ب) كلمات قليلة حول هذا في ما يتعلق بالملاحظات الموجودة في الهوامش أو الحواشي في ترجمات كثيرة للكتاب المقدس بشأن يوحنا الأولى ٧:٥-٨
- تضم ترجمة نسخة الملك جيمس الجديدة ملاحظة هامشية حول يوحنا الأولى ٧:٥-٨ تقول إن الكلمات: “فِي ٱلسَّمَاءِ هُمْ ثَلَاثَةٌ: ٱلْآبُ، وَٱلْكَلِمَةُ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ. وَهَؤُلَاءِ ٱلثَّلَاثَةُ هُمْ وَاحِدٌ. وَٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي ٱلْأَرْضِ هُمْ ثَلَاثَةٌ” غير موجودة في الغالبية العظمى من المخطوطات اليونانية للعهد الجديد.
- لا ترِد هذه الكلمات المعنية في أية مخطوطة يونانية حتى القرن الرابع عشر باستثناء واحدة في القرن الحادي عشر وأخرى في القرن الثاني عشر حيث أُضيفت إلى الهامش بيد أخرى.
- كانت في القرون القليلة الأولى من المسيحية مناقشات حول الطبيعة الدقيقة للثالوث وفهمه. وفي كل المناقشات، لم يقتبس أحد تلك الكلمات المعنية في يوحنا الأولى ٧:٥-٨. فإذا كان الرسول يوحنا قد كتبها في الأصل، فإنه يبدو غريبًا جدًا أنه ما مِن كاتب مسيحي في القرون الأولى اقتبسها. بل إن أيًّا من المسيحيين الأوائل لم يقتبس هذه الآية، بينما اقتبس عدة كُتّاب يوحنا الأولى ٦:٥ و ٨:٥. فلماذا يتجاوزون عن الآية السابعة ولا سيما أنها تشكل تصريحًا رائعًا للثالوث؟
- لا يظهر هذا المقطع المتنازع عليه في الترجمات القديمة كلها – السريانية والعربية والحبشية والقبطية والساهيدية والأرمينية والسلوفانية، وغيرها. وهي لا تظهر إلّا في الفلجاتا اللاتينية فقط.
- يرجّح أن أفضل شيء هو أن نَعُد هذه الكلمات إضافة من ناسخ مفرط في حماسته اعتقد أن العهد الجديد احتاج إلى بعض العون حول عقيدة الثالوث، وفكّر أن هذا هو المكان المناسب لفعل ذلك. أو ربما بدأت هذه الكلمات كملاحظات في الهامش، لكن الناسخ التالي للمخطوطة ظن أنها تنتمي إلى المخطوطة نفسها، ولهذا أدخلها.
- رغم أنه لا يوجد بيان صريح حول عقيدة الثالوث (كهذا)، إلا أنها منسوجة في نسيج العهد الجديد كله – حيث نجد الآب والابن والروح القدس يعملون معًا كأقانيم متساوين، لكن متميزين (متى ١٦:٣-١٧، ١٩:٢٨، لوقا ٣٥:١، يوحنا ٣٣:١-٣٤، ١٦:١٤، ٢٦، ١٣:١٦-١٥، ٢١:٢٠-٢٢، أعمال الرسل ٣٣:٢-٣٨، رومية ١٦:١٥، كورنثوس الثانية ٢١:١-٢٢، ١٤:١٣، غلاطية ٦:٤، أفسس ١٤:٣-١٦، ٤:٤-٦، بطرس الأولى ٢:١).
- فكيف أُدخِلت هذه الكلمات إن لم تكن موجودة في أية مخطوطة يونانية قديمة؟ لقد أُدخِلت هذه الكلمات في الترجمات اللاتينية للكتاب المقدس. وفي عام ١٥٢٠ قام باحث عظيم اسمه إيراسموس بإخراج طبعة دقيقة للكتاب المقدس في اليونانية القديمة. وعندما درس الناس نسخة إيراسموس للكتاب المقدس، لاحظوا أن تلك الكلمات غير موجودة، فانتقدوه على ذلك. فردَّ على انتقادهم بالقول: “لن تجدوا هذه الكلمات في أية مخطوطة يونانية قديمة. وإذا وجدتموها في أية مخطوطة يونانية، فسأُدخلها في طبعتي التالية.” وقد اكتشف أحدهم مخطوطة تحمل هذه الكلمات، لكنها لم تكن مخطوطة قديمة على الإطلاق. وقد عرف إيراسموس ذلك، لكنه سبق أن وعد بإضافة الكلمات في طبعته لعام ١٥٢٢. غير أنه أضاف على مضض حاشية قائلًا فيها إنه يعتقد أن هذه المخطوطة اليونانية الجديدة قد كُتبت عمدًا بغرض إحراجه فحسب. وهذه المخطوطة (Codex Montfortii) معروضة في مكتبة كلية الثالوث في دبلن.
- يسمى هذا المقطع (Johannine Comma) أو يسمى خطأً (Johannian Comma) وهو موجود في ثلاث مخطوطات يونانية. وقد كُتبت (Codex Guelpherbytanus) في القرن السابع عشر، ونحن نعرف أن هذه المخطوطة تعود إلى ذلك القرن لأنها تتضمن اقتباسًا كُتب في القرن السابع عشر. وهنالك مخطوطة (Codex Ravianus) أو (Berolinensis) وهي نص طُبع في ١٥١٤. ونحن نعرف أنها نُسخت من ذلك النص لأنها تكرر نفس الأخطاء المطبعية التي يتضمنها نص عام ١٥١٤. والمخطوطة الثالثة هي تلك التي “اكتُشِفت” (أي زُوِّرتْ) في أيام إيراسموس، وهي تُعرف باسم (Codex Montfortii).
- وبما أن النص اليوناني للعهد الجديد الذي طبعه إيراسموس أصبح واحدًا من النصوص المستخدمة لإخراج ترجمة نسخة الملك جيمس، صارت هذه الكلمات المضافة جزءًا من تلك النسخة.
- لا تقدم مقاطع كهذه أي سبب للخوف من أن يكون العهد الجديد غير موثوق. ففي العهد الجديد كله لا يوجد إلا خمسون مقطعًا يدور عليه ما يشبه علامة استفهام حول موثوقية النص، وليس أيٌّ من هذه يشكل الأساس الوحيد لأية عقيدة مسيحية أو معتقد مسيحي. إن بدا رقم “الخمسين” كبيرًا، انظر إليه على هذا النحو: لا تتجاوز النصوص التي تدور حولها أسئلة واحدًا بالألف.
- وفضلًا عن ذلك، عندما يُدخل نص كهذا، فإن الدليل النصّي من المخطوطات يبرز وكأنه إبهام متألم. ومن شأن هذا أن يعطينا توكيدًا وطمأنينة، لا شكًّا.
- ربما لا يعرف الإنجيليون الكثير عن هذه النصوص، لكن متدينين كثيرين لا يؤمنون بالثالوث (مثل شهود يهوه) يعرفون القضايا النصية حول هذا النص. ولهذا، فإذا استخدمتَ هذه الآية لدعم موقفك، سيبيّنون لك أن هذا النص لا ينتمي إلى الكتاب المقدس. وربما يدفع بعضهم إلى التفكير، “ربما لا تكون عقيدة الثالوث صحيحة. وربما ليس يسوع هو الله. ربما كان هذا اختراعًا من أشخاص حاولوا أن يحرّفوا الكتاب المقدس.” ويمكن أن يؤدي هذا إلى ضرر حقيقي.
- وهكذا، فإن نصًّا كهذا ينبّهنا أنه في ما يتعلق بمثل هذه الأمور، فإن الله لا يحتاج إلى عوننا. فالعهد الجديد كافٍ كما أوحى به الله، ولا يحتاج إلى أية تحسينات من قِبَلنا. ورغم أن تعليم الكلمات المضافة صحيح، لا ينبغي أن تكون موجودة في الكتاب المقدس، لأنه لا ينبغي أن نضيف كلماتنا إلى الكتاب المقدس وندّعي أنها كلام الله.
- ينبغي أن يُقرأ نص يوحنا الأولى ٧:٥-٨ بشكل دقيق: “إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ ثَلَاثَةٌ: ٱلرُّوحُ، وَٱلْمَاءُ، وَٱلدَّمُ. وَٱلثَّلَاثَةُ هُمْ فِي ٱلْوَاحِدِ.”
ج ) الآيات (٩-١٠): شهادة الناس وشهادة الله.
٩إِنْ كُنَّا نَقْبَلُ شَهَادَةَ النَّاسِ، فَشَهَادَةُ اللهِ أَعْظَمُ، لأَنَّ هذِهِ هِيَ شَهَادَةُ اللهِ الَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا عَنِ ابْنِهِ. ١٠مَنْ يُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ فَعِنْدَهُ الشَّهَادَةُ فِي نَفْسِهِ. مَنْ لاَ يُصَدِّقُ اللهَ، فَقَدْ جَعَلَهُ كَاذِبًا، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا اللهُ عَنِ ابْنِهِ.
- إِنْ كُنَّا نَقْبَلُ شَهَادَةَ ٱلنَّاسِ، فَشَهَادَةُ ٱللهِ أَعْظَمُ: يقبل الجميع كل يوم شهادة الناس حول أمور مختلفة. ولهذا يجب أن تكون لدينا ثقة أكبر بشهادة الله عندما يخبرنا عن هوية يسوع.
- لا يريدنا يوحنا أن نؤمن إيمانًا أعمى. لكن ينبغي أن يرتكز إيماننا على شهادة موثوقة. ولدينا أكثر شهادة موثوقيةً ممكنة، وهي شَهَادَةُ ٱللهِ.
- مَنْ يُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللهِ فَعِنْدَهُ ٱلشَّهَادَةُ فِي نَفْسِهِ: عندما نؤمن بيسوع، فإننا نقبل الروح القدس كتثبيت داخلي حول وضعنا أمام الله. تصوغ رومية ١٦:٨ هذه الفكرة هكذا: “اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لِأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلَادُ ٱللهِ.”
- مَنْ لَا يُصَدِّقُ ٱللهَ، فَقَدْ جَعَلَهُ كَاذِبًا: عندما نرفض أن نؤمن بيسوع، فإننا نرفض “ٱلشَّهَادَةَ ٱلَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا ٱللهُ عَنِ ٱبْنِهِ.” وبالتالي، فإننا ندعو الله كاذبًا في عدم إيماننا.
- يعبّر يوحنا هنا عن خطية عدم الإيمان. إن معظم الذين يرفضون أن يصدقوا الله (بالمعنى الحقيقي لكلمة “يصدق”) لا ينوون أن يدعوا الله كاذبًا. لكنهم يفعلون ذلك على أية حال. “غالبًا ما يتم الكلام باستخفاف وبروح التتفيه عن عدم الإيمان بالرب يسوع، كما لو أن هذا لا يصل إلى حد الخطية على الإطلاق. لكن، حسب هذا النص، وبالفعل وفقًا لمضمون الكتاب المقدس كله، فإن عدم الإيمان هو بمنزلة تكذيب الله. وماذا يمكن أن يكون أسوأ من ذلك؟” سبيرجن (Spurgeon)
- ماذا لو قال أحدهم: “أريد أن أومن، لكني لا أستطيع.” يردّ سبيرجن على هذا: “اسمع، يا غير المؤمن. أنت قلتَ: لا أستطيع. لكن كان يمكن أن يكون الأمر أكثر صدقًا لو قلت: ’لا أريد أن أومن.‘ وتكمن الخسارة في أن عدم الإيمان هو خطؤك لا مصيبتك. إنه مرض، لكنه جريمة أيضًا. إنه مصدر رهيب لتعاستك، لكن من العدل أن يكون الأمر كذلك، لأنها إهانة فظيعة لإله الحق.”
- ماذا لو قال أحدهم: “أريد أن أومن. وسأظل أحاول ذلك.” يخاطب سبيرجن هذا القلب قائلًا: “ألم أسمع شخصًا ما يقول: آه، يا سيدي. كنتُ أحاول أن أومن لسنوات. هذه كلمات رهيبة! وهي تجعل المسألة أسوأ. تخيلْ أني بعد أن قلتُ شيئًا أعلن شخص أنه لم يصدقني. بل إنه لم يستطع أن يصدقني مع أنه يود ذلك. لو حصل ذلك، لكنت شعرت بحزن كبير فعلًا، لكن الأمور ستصبح أسوأ لو أضاف: “بل إني كنت أحاول أن أصدقك على مدى سنين، لكني لا أستطيع أن أصدقك.” فماذا يعني بذلك؟ لا يمكن أن يعني ذلك إلا أني زائف بشكل كبير بحيث يتعذر إصلاحي، وأني كذاب بشكل مؤكد مصادَقٍ عليه. ومع أنه يود أن ينسب لي بعض الفضل، إلا أنه لا يستطيع ذلك. ومع كل الجهود التي يبذلها في صالحي، إلا أنه يجد أن أمر تصديقه لي أمر يتجاوز قدرته. والآن، بالنسبة للشخص الذي يقول، “كنت أحاول الإيمان بالله”، فإنه يقول نفس ما قاله الرجل لي… فالحديث عن محاولة الإيمان مجرد ذريعة. لكن أكان الأمر ذريعة أم لا، دعني أذكّركم بأنه لا يوجد نص في الكتاب المقدس يقول: “حاوِلْ أن تؤمن.” لكنه يقول: “آمن بالرب يسوع المسيح.” إنه ابن الله. وقد برهن ذلك بمعجزاته. ومات لكي يخلص الخطاة، ولهذا ثق به. وهو يستحق اتكالًا صريحًا وثقة كثقة الأطفال. هل تنكر عليه هذه؟ إن كان الأمر كذلك، فإنك شوّهت طبيعته الأدبية ووصفته بأنه كاذب.”
- يمكن أن يؤدي مثل هذا الرفض لشهادة الله إلى مكان يتقسى فيه الشخص بشكل دائم ضد الله، إلى مكان يجدّف فيه المرء على الروح القدس، كما حذّر يسوع في مرقس ٢٨:٣-٢٩. فأيّ رجاء يمكن أن يكون لشخص يثابر على سماع ما يقوله الله ويدعوه كاذبًا؟
د ) الآيات (١١-١٣): توكيد الحياة في الابن.
١١وَهذِهِ هِيَ الشَّهَادَةُ: أَنَّ اللهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ فِي ابْنِهِ. ١٢مَنْ لَهُ الابْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ. ١٣كَتَبْتُ هذَا إِلَيْكُمْ، أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِاسْمِ ابْنِ اللهِ، لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلِكَيْ تُؤْمِنُوا بِاسْمِ ابْنِ اللهِ.
- وَهَذِهِ هِيَ ٱلشَّهَادَةُ: أخبرنا يوحنا للتوّ في الآية السابقة حول خطورة مسألة كيفية تلقّي شهادة الله. وهو الآن يخبرنا ما هي هذه ٱلشَّهَادَةُ.
- أَنَّ ٱللهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهَذِهِ ٱلْحَيَاةُ هِيَ فِي ٱبْنِهِ: هذه هي رسالة الله الجوهرية للإنسان – أن الحياة الأبدية هبة من الله نحصل عليها في يسوع المسيح. مَنْ لَهُ ٱلِٱبْنُ فَلَهُ ٱلْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ٱبْنُ ٱللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ ٱلْحَيَاةُ. فالأمر كله يرتكز على يسوع، والحياة في يسوع دليل على الحياة الأبدية.
- “إنه عبث أن نتوقع المجد الأبدي إن لم يكن يسوع المسيح في قلوبنا. يعطينا المسيح الساكن فينا صك الملكية له ومشروعيته. هذا هو سجل الله. فلا يخدع أحد نفسه هنا. مسيحٌ ساكن يعني مجدًا؛ فإذا لم يكن هنالك مسيحٌ ساكن، فلا يوجد مجد. يتوجب أن يصمد سجل الله.” كلارك (Clarke)
- كَتَبْتُ هَذَا إِلَيْكُمْ، أَنْتُمُ ٱلْمُؤْمِنِينَ… لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ حَيَاةً أَبَدِيَّةً: يأمل يوحنا، بصياغته رسالته بمثل هذا الوضوح والبساطة، في أن يقنعنا بأن نؤمن. وحتى لو كنا مؤمنين بالفعل، فإنه يريد أن نعرف أنّ لنا حَيَاةً أَبَدِيَّةً لكي نحصل على هذا التوكيد والاطمئنان ولكي نواصل في إيماننا.
- لا تنتهي الحاجة إلى الاستماع إلى رسالة إنجيل الخلاص بيسوع حالما يعتنق المرء رسالة الإنجيل. فنحن نستفيد منها، ونطمئن بها، وتساعدنا في مواصلة الإيمان عندما نسمعها ونعتنقها مرة تلو الأخرى.
- لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ حَيَاةً أَبَدِيَّةً: إن ثقة يوحنا مثيرة للإعجاب. يريدنا أن نعرف أن لدينا حَيَاةً أَبَدِيَّة. ويمكننا أن نعرف هذا إذا كان خلاصنا يرتكز على يسوع، لا على أدائنا. فإن كان يعتمد عليَّ، فإني أحس في يوم جيد بأني مخلّص، وفي يوم سيئ لن أعرف. ولكن إذا كان الأمر كله يتوقف على يسوع، فإنه يمكنني أن أعرف.
ثالثًا. عون للمؤمن المُصلّي
أ ) الآيات (١٤-١٥): الثقة في الصلاة.
١٤وَهذِهِ هِيَ الثِّقَةُ الَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئًا حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا. ١٥وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبْنَا يَسْمَعُ لَنَا، نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا الطِّلِبَاتِ الَّتِي طَلَبْنَاهَا مِنْهُ.
- وَهَذِهِ هِيَ ٱلثِّقَةُ ٱلَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: طوّر يوحنا فكرة الثقة به (الله). وكتب في الآية السابقة، يوحنا الأولى ١٣:٥ “إِلَيْكُمْ، أَنْتُمُ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللهِ، لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ حَيَاةً أَبَدِيَّةً.” وهو الآن يريد أن يوصل للذين يعرفون أن لهم حياة أبدية فكرة ٱلثِّقَةُ به في الصلاة.
- إِنْ طَلَبْنَا شَيْئًا حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا: نرى هنا قصد الصلاة وسر القوة في الصلاة. إنه إن طَلَبْنَا شَيْئًا حَسَبَ مَشِيئَتِهِ؛ وحالما نطلب، ينبغي أن تكون لدينا الثقة بأنه يَسْمَعُ لَنَا.
- أولًا، يريدنا الله أن نطلب في الصلاة. ويفشل قدر كبير من صلاتنا لأننا لا نسأل شيئًا. والله إله محب، وهو معطاء – وهو يريدنا أن نطلب منه.
- ثانيًا، يريدنا الله أن نطلب شَيْئًا، أي شيء، في الصلاة. ولا يعني هذا ضِمنًا أن الله سيمنح أي شيء نطلبه، لكنه يعني أنه يمكننا، بل يجب علينا، أن نصلي حول كل شيء. فكما كتب بولس في فيلبي ٦:٤ “لَا تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِٱلصَّلَاةِ وَٱلدُّعَاءِ مَعَ ٱلشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى ٱللهِ.”
- وبعد ذلك، يريدنا الله أن نطلب حَسَبَ مَشِيئَتِهِ. يَسهُل علينا أن نهتم بمشيئتنا أمام الله، وأن تكون لدينا نظرة قدرية تجاه مشيئته (سينجز مشيئته بصلاتي أو من دون صلاتي. أليس كذلك؟) لكن الله يريدنا أن نرى ونميز مشيئته من خلال كلمته، وأن نصلي حسب مشيئته إلى أن تتحقق. وعندما كتب يوحنا هذا، خطرت بباله كلمات يسوع في يوحنا ٧:١٥ “إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كَلَامِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ.” فعندما نثبت في يسوع – أن نحيا فيه يومًا فيومًا – ستصبح مشيئتنا أكثر انسجامًا مع مشيئته، ويمكننا أن نطلب ما نرغب فيه، وسنجد أننا نطلب أكثر فأكثر حَسَبَ مَشِيئَتِهِ. عندئذ، سنرى استجابة لصلواتنا.
- إن كان أمر ما إرادة الله، فلماذا لا يفعله الله فحسب، بمعزل عن صلواتنا. ولماذا ينتظر تحقيق مشيئته إلى أن نصلي؟ لأن الله عيّننا لنكون شركاء معه في العمل كما تقول الآية في كورنثوس الثانية ١:٦ “إِذْ نَحْنُ عَامِلُونَ مَعَهُ.” فيريدنا الله أن نعمل معه، ويعني هذا أن نجعل مشيئتنا وأجندتنا منسجمتين مع مشيئته وأجندته. فالله يريدنا أن نهتم بالأمور التي يهتم بها، وهو يريدنا أن نهتم بها بما يكفي أن نصلي بحرارة من أجلها.
- نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا ٱلطَّلَبَاتِ ٱلَّتِي طَلَبْنَاهَا مِنْهُ: عندما نسأل حسب مشيئة الله، ونحن نصلي حول وعود الله، فإن لدينا هذه الثقة، ولهذا نصلي بإيمان حقيقي مؤكد.
- يجب أن تكون الصلوات أكثر من مجرد إلقاء تمنيات على السماء. فهي متجذرة في فهمنا مشيئة الله ووعوده حسب كلمته، والصلاة إلى أن تتحقق هذه الوعود. ولكل طلبة في الصلاة، ينبغي أن نسأل ذهنيًا أو بصوت مسموع: “ما هو السبب المحتمل لاعتقادي بـأن الله سيستجيب لهذه الصلاة.” ويفترض أن نكون قادرين على الإجابة عن هذا السؤال من كلمته.
- إن أقوى الصلوات في الكتاب المقدس هي على الدوام تلك التي تفهم مشيئة الله وتطلب منه أن يحققها. ربما ننزعج عندما يقول أحد أبنائنا: “بابا، هذا هو ما وعدتني به. أرجو أن توفي بوعدك الآن.” ولكن الله يُسَر بتلك الصلاة. إذ يبيّن هذا أننا منسجمون مع مشيئته، وأننا معتمدون عليه، وأنه يأخذ كلمته على محمل الجِد.
- ليس خطأً بالضرورة أن نطلب شيئًا من الله لم يَعِد به، لكننا في هذه الحالة ندرك أننا لا نأتي إليه على أساس وعد محدد. وليس لدينا الثقة بأن نَعْلَمَ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبْنَا يَسْمَعُ لَنَا، نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا ٱلطَّلَبَاتِ ٱلَّتِي طَلَبْنَاهَا مِنْهُ.
ب) الآيات (١٦-١٧): الصلاة من أجل أخ يخطئ.
١٦إِنْ رَأَى أَحَدٌ أَخَاهُ يُخْطِئُ خَطِيَّةً لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ، يَطْلُبُ، فَيُعْطِيهِ حَيَاةً لِلَّذِينَ يُخْطِئُونَ لَيْسَ لِلْمَوْتِ. تُوجَدُ خَطِيَّةٌ لِلْمَوْتِ. لَيْسَ لأَجْلِ هذِهِ أَقُولُ أَنْ يُطْلَبَ. ١٧كُلُّ إِثْمٍ هُوَ خَطِيَّةٌ، وَتُوجَدُ خَطِيَّةٌ لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ.
- إِنْ رَأَى أَحَدٌ أَخَاهُ يُخْطِئُ خَطِيَّةً… يَطْلُبُ: عندما نرى أخًا في حالة خطية، فإن أول شيء يتوجب علينا أن نفعله، حسب يوحنا، هو أن نصلي من أجله. ولكن في أحيان كثيرة جدًّا، فإن الصلاة هي آخر ما نفعله أو هي أصغر شيء نفعله من أجل أخ يواجه أوقاتًا عصيبة.
- فَيُعْطِيَهُ حَيَاةً: وعد الله بأن يبارك الصلاة التي تقدَّم من أجل شخص في حالة خطية. ربما تحمل صلوات كهذه قوة أمام الله لأنها صلوات تقدَّم تحقيقًا للوصية بأن نحب الإخوة. ومن المؤكد أن أفضل طريقة لأن يحب بعضنا بعضًا أن يصلي بعضنا لأجل بعض.
- تُوجَدُ خَطِيَّةٌ لِلْمَوْتِ (تؤدي إلى الموت): لأن يوحنا كان يكتب في سياق “الإخوة” المؤمنين، فإن من الخطأ أن نفهم أنه يقصد خطية تؤدي إلى موت روحي. فعلى الأرجح أنه كان يقصد خطية تؤدي إلى موت مادي (جسمي).
- هذا مفهوم صعب، لكن نجد مثلًا له في كورنثوس الأولى ٢٧:١١-٣٠، حيث يتحدث أنه بين مؤمني كورنثوس أشخاص مرضوا ومات كثيرون منهم بسبب سلوكهم المخزي عند عشاء الرب. (مِنْ أَجْلِ هَذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى، وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ.) جاء هذا الموت كحكم بالدينونة، لكن كحكم تصحيحي أيضًا. (وَلَكِنْ إِذْ قَدْ حُكِمَ عَلَيْنَا، نُؤَدَّبُ مِنَ ٱلرَّبِّ لِكَيْ لَا نُدَانَ مَعَ ٱلْعَالَمِ.) (كورنثوس الأولى ٣٢:١١)
- من الواضح أنه قد يخطئ مؤمن إلى درجة يرى الله عندها أن أفضل شيء هو أن يأتي به إلى بيته، لأنه على الأرجح ساوم على شهادته بشكل كبير إلى درجة تستوجب إحضاره إلى بيته عند الله.
- غير أن من التجاسر الزائد أن نعتقد هذا حول كل حالة موت قبل أوانه بالنسبة للمؤمن، أو أن نستخدمه كتحريض على الانتحار للمؤمن الذي يستحوذ عليه الإحساس الشديد بالذنب. فحياتنا هي بين يدي الله، فإذا رأى أن من المناسب أن يجلب أحد أبنائه إلى بيته في السماء، فإن هذا أمر لا بأس به.
- يعتقد بعضهم أن يوحنا يستخدم كلمة “أخ” هنا بمعنى فضفاض، وأن ما يعنيه يوحنا بتعبير “خَطِيَّةٍ لِلْمَوْتِ” هو التجديف على الروح القدس، وهو الرفض الإرادي المتعمد الدائم ليسوع المسيح. لكن سيكون هذا استخدامًا غريبًا لتعبير “أخ،” وبشكل خاص، وفق الكيفية التي استخدمها يوحنا بالفعل في رسالته.
- لَيْسَ لِأَجْلِ هَذِهِ أَقُولُ أَنْ يُطْلَبَ: من الواضح أنه عندما يُقَوَّم مؤمن في ما يتعلق بِخَطِيَّةٍ لِلْمَوْتِ، فإنه لا فائدة من تعافيه أو استرداده – فالوضع كله بين يدي الله وحده.
- تُوجَدُ خَطِيَّةٌ لِلْمَوْتِ: يبذل يوحنا جهدًا في أن يوضح أنه ليست كل خطية تؤدي إلى موت بالطريقة التي يتحدث عنها، رغم أن كُلَّ إِثْمٍ هُوَ خَطِيَّةٌ.
رابعًا. حماية علاقتنا بالله
أ ) الآيات (١٨-١٩): معرفة هويتنا وهوية أعدائنا.
١٨نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ لاَ يُخْطِئُ، بَلِ الْمَوْلُودُ مِنَ اللهِ يَحْفَظُ نَفْسَهُ، وَالشِّرِّيرُ لاَ يَمَسُّهُ. ١٩نَعْلَمُ أَنَّنَا نَحْنُ مِنَ اللهِ، وَالْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي الشِّرِّيرِ.
- كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱللهِ لَا يُخْطِئُ: في معركتنا مع الخطية، من الضروري جدًّا أن نثبّت أذهاننا على هُوية يسوع المسيح. فإن كنا مولودين منه، فإن لدينا الموارد اللازمة للتحرر من الخطية المعتادة.
- يكرر يوحنا الفكرة المتضمنة في يوحنا الأولى ٦:٣ “كُلُّ مَنْ يَثْبُتُ فِيهِ لَا يُخْطِئُ.” وتوضح اللغة اليونانية الأصلية لهذا النص أن يوحنا يتحدث عن أسلوب حياة مستقر دائم من الخطية. وهو لا يعلّم هنا عن إمكانية الوصول إلى حالة الكمال الخالي من الخطية. وكما يقول ستوت (Stott): “توحي الفعل المضارع في اللغة اليونانية هنا بعادة، واستمرار، وتسلسل غير منقطع.”
- بَلِ ٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱللهِ يَحْفَظُ نَفْسَهُ، وَٱلشِّرِّيرُ لَا يَمَسُّهُ: إن كنا مولودين من الله، فإن لدينا حماية من ٱلشِّرِّيرُ، وهي حماية فريدة لا تنطبق على من هو غير مولود من الله. ومن شأن معرفتنا بهذا أن يعطينا ثقة تقيّة في حربنا الروحية.
- لعله أكثر دقة في الآية 18 أن تكون الترجمة “يحفظه” بدلًا من “يحفظ نفسه.” ويرجح أن يوحنا يعني أن ٱلْمَوْلُودَ مِنَ ٱللهِ، أي يسوع المسيح، محفوظ. وهو يعني أننا محفوظون من قِبل المسيح ومحميون من إبليس أيضًا.
- لَا يَمَسُّهُ: تحمل كلمة “يمس” هنا فكرة ربط النفس بشيء. ومن الواضح أن يوحنا يقول إن الشرير، وأي واحد من أعوانه، لا يستطيع أن يربط أو يلصق نفسه بكل من هو مولود من الله.
- ما يقوله أخصائيو اللغة اليونانية حول كلمة “يمس“: “إنها أقوى من اللمسة العادية؛ بل تعني يُمسك بـ” أو “يقبض على.” سميث (Smith). “تعني “يمسك” أو “يقبض على” لا لمسة سطحية.” روبرتسون (Robertson)
- إن المكان الآخر الوحيد الذي يستخدم فيه يوحنا هذا الفعل نفسه هو في يوحنا ١٧:٢٠، حيث يقول يسوع لمريم “لا تلمسيني،” بمعنى “توقّفي عن التشبّث بي.” ولأننا مولودون من الله، لا يستطيع إبليس أن يربط نفسه بنا أو يتعلق بنا بالمعنى الذي يستطيع أن يفعله مع شخص غير مولود من الله.
- نَعْلَمُ أَنَّنَا نَحْنُ مِنَ ٱللهِ: إن كنا مولودين من الله، فإننا مفروزون عن العالم – لم نَعُد تحت تأثير الشرير رغم أن العالم كله تحت ذلك التأثير. وتعني معرفتنا بهذا أننا يمكن أن نكون أحرارًا لنعيش هويتنا في يسوع ونفصل أنفسنا من نظام العالم في التمرد على الله.
ب) الآيات (٢٠-٢١): اثبت في يسوع وتجنب الأصنام.
٢٠وَنَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ اللهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ الْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي الْحَقِّ فِي ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. هذَا هُوَ الإِلهُ الْحَقُّ وَالْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. ٢١أَيُّهَا الأَوْلاَدُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الأَصْنَامِ. آمِينَ.
- وَنَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ اللهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ الْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي الْحَقِّ فِي ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ: يعود يوحنا في ختام رسالته إلى موضوعه الرئيسي، وهو الشركة مع يسوع المسيح. يتوجب علينا أن نعرفه. والكلمة التي يستخدمها للإشارة إلى المعرفة هي (ginosko) وهي تشير إلى معرفة اختبارية. هكذا يريدنا يسوع أن نعرفه.
- وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً: يعطينا يسوع فهمًا، والقدرة على أن نعرفه، وأن نكون فيه – حياة الشركة الثابتة التي دعانا يوحنا إليها في يوحنا الأولى ٣:١.
- إنه لأمر ذو دلالة أنه يتوجب إعطاء هذا الفهم. إذ لا نستطيع أن نكتسبه بجهودنا. فلو لم يعلن الله نفسه لنا، لما كان لنا أن نجده. ونحن نعرفه، ويمكننا أن نعرفه، لأنه أعلن نفسه لنا.
- أعلن الله نفسه لنا، أكثر من أية طريقة أخرى، من خلال من هو حق (الحق نفسه)، فِي ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. فيسوع هو المفتاح ونقطة التركيز لكل ذلك. فنحن نرى شخصية الله وطبيعته الأدبية عندما ننظر إلى يسوع.
- ٱلْحَقَّ (من هو حقٌّ): يذكّرنا هذا بموضوع تناوله يوحنا عبر رسالته: أهمية المعتقد (الإيمان) الصحيح والثقة بيسوع الحقيقي، لا بيسوع مُختلَق. فيسوع الكتاب المقدس هو ٱلْحَقَّ (من هو حقٌّ)، الذي هو ٱبْنُهِ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ.
- هَذَا هُوَ ٱلْإِلَهُ ٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ: يخبرنا يوحنا عن هوية يسوع. كان إنسانًا (كما أعلن يوحنا في يوحنا الأولى ١:١، ٦:٥)، لكنه لم يكن مجرد إنسان. كان إنسانًا بكل الناسوت الممكن، وكان ٱلْإِلَهُ ٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ. ولا يؤكد يوحنا ألوهة يسوع على ناسوته ولا ناسوته على ألوهته. فهو كلاهما – هو كامل اللاهوت وكامل الناسوت.
- يعلق جون ستوت (John Stott) على هذه العبارة، هَذَا هُوَ ٱلْإِلَهُ ٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ: “هذا أكثر التصريحات جلاءً ووضوحًا وصراحة عن ألوهة يسوع المسيح في العهد الجديد، والذي سيسارع أبطال الإيمان الأورثوذوكسي (المستقيم) إلى استخدامه في مواجهة هرطقة آريوس.”
- ٱحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ ٱلْأَصْنَامِ: ربما تكون هذه طريقة غريبة يلجأ إليها يوحنا لإنهاء رسالته، لكنها تلائم موضوع الرسالة وهو العلاقة الحية الحقيقية بالله. وعدو الشركة مع الله هو الأصنام: اعتناق إله زائف أو فكرة زائفة عن الإله الحقيقي. ويختم يوحنا بهذا التحذير بعد أن صرف معظم الرسالة وهو يحذرنا من أخطار اتِّباع يسوع زائف كان معلمون زائفون يعلّمون عنه (يوحنا الأولى ١٨:٣-٢٣، ١:٤-٣، ٦:٥-٩).
- لا يمكننا أن نقيم علاقة حقيقية إلا بإله حقيقي موجود. وأما عبادة الأصنام، سواء أكانت واضحة (الصلاة إلى وثن) أم خفية (العيش من أجل حياتك المهنية أو من أجل شخص آخر) فستخنق كل علاقة حقيقية بالله، وستضر بعلاقاتنا بإخوتنا وأخواتنا في المسيح. فلا عجب أن يوحنا أنهى رسالته بقوله “ٱحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ ٱلْأَصْنَامِ.” فهكذا نحمي علاقتنا بالله.
- أشار تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) في عظة عظيمة حول آخر آية في هذه الرسالة أن يوحنا خاطب الأَوْلاَدُ الصغار أولًا:
- هذا لقب ينم عن المحبة المشبعة بالحنان.
- هذا لقب يشير إلى التجديد والعلاقة العائلية.
- هذا لقب يشير إلى التواضع.
- هذا لقب يشير إلى قابلية التعلُّم.
- هذا لقب يوحي بالإيمان.
- هذا لقب يشير إلى الضعف.
- ثم لاحظ سبيرجن أن يوحنا أعطى أمرًا: ٱحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ ٱلْأَصْنَامِ.
- يتحدث هذا عن أصنام واضحة منظورة.
- يحذر هذا من عبادة الذات. يمكننا أن نفعل ذلك بالإفراط في الطعام والشراب، أو بالكسل، أو بالاهتمام الزائد بالمظهر أو الملبس.
- يحذر هذا من عبادة الغنى.
- يحذر هذا من عبادة الهوايات.
- يحذر هذا من عبادة الأصحاب والأقارب الأعزاء.