رسالة غلاطيّة – الإصحاح ٦
تعليمات نهائية
أوَّلا. المسؤولية الشخصيّة ومساعدة الآخرين
أ ) الآية (١): استرداد أولئك الذين انزلقوا في الخطيّة.
١أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ، إِنِ ٱنْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ ٱلرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا بِرُوحِ ٱلْوَدَاعَةِ، نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلَّا تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا.
- إِنِ ٱنْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا: انتبه بولس إلى أنَّ بعض المؤمنين في غلاطيّة ربَّما قد ٱنْسَبَقوا فِي زَلَّةٍ مَا (إنْ أُمسِكَ شَخْصٌ فِي خَطِيَّةٍ). يبدو أن بولس لم يستبعد الشخص الذي ٱنْسَبَقَ (انزلق) من الإخوة، ومع ذلك يجب ألَّا يبقى أبدًا في حالة الزلل.
- لا تدلّ صياغة بولس هنا على خاطئ أثيم مصرّ على المعصية. بل المقصود شخص وقع في الخطيّة، ووجد نفسه محاصرًا في مكان لم يظنّ أبدًا أنَّه سيقع فيه. ٱنْسَبَقَ “تحتوي على فكرة السقوط. لا يقع التأكيد هنا على الجانب المتعمَّد والمدبَّر، بل على العنصر غير المقصود. فالمقصود بالكلمة الخطأ، لا الإساءة المتعمّدة، مع أنَّ ذلك لا يُعفِي المخطئ من المسؤولية.” ريدربوس (Ridderbos) بحسب اقتباس موريس (Morris)
- “إذا قيّمنا كلمات الرسول بعناية، لأدركنا أنَّه لا يتحدّث عن الأخطاء والمغالطات العقائدية، بل عن أخطاء أقل بكثير ينزلق فيها الشخص بسبب ضعف جسده. هذا يفسّر سبب اختيار الرسول لمصطلح أكثر ليونة ’زلّة.‘ ولتقليل الإساءة أكثر من ذلك، كما لو كان ينوي تبرئة المذنب تمامًا وإزاحة اللوم كله من على مرتكب الخطأ، يتحدّث عنه كأنه ’أُخِذَ‘ على غفلة، أي أُغرِي من الشيطان والجسد… فهذه الجملة المعزّية أنقذت حياتي ذات مرَّة.” لوثر (Luther)
- فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ ٱلرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا: أولئك الذين يُؤخَذون على غفلة، يحتاجون إلى الإصلاح أو الإسترداد ولا يجب تجاهلهم. كما لا ينبغي التماس العذر لهم أو تدميرهم. إنَّما الهدف دائمًا هو الإصلاح أو ردهم للإيمان.
- ستوت (Stott) بخصوص «أَصْلِحُوا»: “الفعل غني بالمعلومات. فمعنى كاتريدزو Kataritzo ’رتّب‘ وكذلك ’أعاد شيئًا إلى حالته السابقة‘… وكان يُستَخدم في اليونانيّة كمصطلح طبي بمعنى تجبير العظم المكسور أو المخلوع. فهو قد استُخدِم في مرقس ١٩:١ حين كان الرسولان ’يُصْلِحَانِ‘ شباكهما.”
- غالبًا ما تُهمَل مهمّة الإصلاح هذه في الكنيسة. فنحن نميل إمّا إلى التظاهر بأن الخطيّة لم تحدث أو إلى الرد بقسوة على المخطئ. أمَّا التوازن بين هذين النقيضين فلا يُتوصَّل إليه إلَّا بواسطة ٱلرُّوحَانِيِّينَ. فمن الطبيعيّ أن نفعل ما يأمر به الله هنا، لكنّ الواقع ليس كذلك. فمن السهل للغاية الرد على خطيّة شخص ما بنقل الكلام عنه في غيابه وإصدار حكم قاسٍ عليه أو بالموافقة على تصرّفه دون تمييز.
- فَأَصْلِحُوا … مِثْلَ هَذَا بِرُوحِ ٱلْوَدَاعَةِ: يجب أن تتم عمليّة الإصلاح دائمًا بِرُوحِ ٱلْوَدَاعَةِ مع فهم كامل لضعفنا وفسادنا. وأولئك الذين يقومون بالإصلاح يجب عليهم الحذر من إغراء الغرور، وكذلك من الإغراء ذاته الذي أوقع بالشخص المخطِئ.
- “دعوا خُدّام الإنجيل يتعلّمون من بولس كيفية التعامل مع من أخطأوا. إنَّه يقول: «أيها الإخوة، إذا انغلب شخص ما من خطأ، فلا تزوّدوا حزنه ولا توبّخوه ولا تدينوه، بل أقيموه وأصلحوا إيمانه بوداعة».” لوثر (Luther)
- “هذا يشير إلى أن الوداعة تتولّد من شعورنا بضعفنا وكوننا عرضة للخطيّة.” ستوت (Stott)
- إنَّ تأثير الناموسيّين بين أهل غلاطيّة جعل هذا التحذير ضروريًّا؛ “لا شيء يكشف عن شر الناموسيّة أفضل من الطريقة التي يعامل بها الناموسيّون من يخطئون.” ويرزبي (Wiersbe)
ب) الآيات (٢-٥): تحمُّل أعباء بعضهم البعض وتحمُّل الإنسان عبء نفسه.
٢اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ، وَهكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ. ٣لأَنَّهُ إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَغُشُّ نَفْسَهُ. ٤وَلكِنْ لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْفَخْرُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ فَقَطْ، لاَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. ٥لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ.
- اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ: عندما أثار بولس قضية الشخص الذي انسبق ووقع في زلة، كان يرسم صورة شخص ينوء تحت عبء ثقيل. وهو هنا يتوسع في فكرة تشجيع كل مؤمن على حمل بَعْضُهم أَثْقَال بَعْضٍ.
- لا ينصب التركيز على ’توقّعوا أن يحمل الآخرون أثقالكم.‘ فهذا تمحور حول الذات، يؤدي دائمًا إلى الشعور بالفخر والإحباط والتعاسة والاكتئاب. بل إنَّ الله يوجّهنا دائمًا إلى التركيز على الآخرين، فيقول: ’اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ.‘
- هذه وصية يمكننا طاعتها بسهولة. ابحث عن أخ أو أخت يحمل ثقلاً وساعده على حمله. المسألة ليست معقدة ولا تتطلب برنامجًا ضخمًا أو بنية تحتية للقيام به. إنَّما ابحث عن ثقل يحتاج إلى حمله.
- “لاحظ الفرضية التي تكمن وراء هذا الأمر، أي أننا جميعًا عندنا أثقال وأنّ الله لا يريد أن نحملها بمفردنا.” ستوت (Stott)
- وَهَكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ ٱلْمَسِيحِ: بما أننا نتحمّل أعباء بعضنا بعضًا، فنحن نتمّم شريعة المسيح البسيطة: «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. بِهَذَا يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلَامِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ» (يوحنا ٣٤:١٣-٣٥).
- في طول هذه الرسالة وعرضها حارب بولس الناموسيّين بين مؤمني غلاطيّة. وهو هنا قد ضربهم مرَّة أخرى. فقد قال بولس ما معناه: ’هل تريدون أن تتمّموا الناموس؟ هذا هو ناموسكم الذي عليكم تتميمه: اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ، وَهَكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ ٱلْمَسِيحِ.‘
- “لذلك فإنَّ بولس ربَّما يقول لهم، في الواقع، إنه بدلًا من فرض الناموس كعبء على الآخرين، عليهم رفع الأعباء عن الآخرين وبذلك يتمّمون ناموس المسيح.” ستوت (Stott)
- لِأَنَّهُ إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَغُشُّ نَفْسَهُ: الكبرياء تمنعنا من حمل بَعْضنا أَثْقَال بَعْضٍ ومن تتميم نَامُوس ٱلْمَسِيحِ. إن الكبرياء غالبًا ما تمنعنا من تسديد احتياجات بعضنا البعض كما ينبغي.
- الكبرياء ليست سوى التركيز على الذات. الكبرياء لا تقول بالضرورة: ’أنا أفضل منك‘ بل تقول ببساطة: ’أنا أهمّ منك، لذا فأنا أستحقّ المزيد من اهتمامي وحبي أكثر مِمَّا تستحقّ أنت.‘ أمَّا التواضع الكتابيّ فيقول: ’أنا لست أكثر أهمّيّة منك. دعني أهتم بأعبائك واحتياجاتك.‘
- عندما يظنّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا، فإنه يخنق الخدمة بطريقة أخرى أيضًا. فبدافع الكبرياء، يرفض الناس تلقّي المساعدة عندما يعرض عليهم شخص آخر المساعدة في حمل أثقالهم.
- مهمّ أن نفهم أنَّ بولس كان يكتب لكل مؤمن عندما قال: ’وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا.‘ يجوز القول إنَّ بولس يستخدم هنا فكرة أنَّه ليس بعض المؤمنين شَيْئًا، بينما البعض الآخر ليسوا شيئًا، والمشكلة هي أنَّ أولئك الذين هم لا شيء يعتقدون أنهم شيء. وبدلًا من ذلك، يكتب بولس من منطلق نفس الفكرة الواردة في فيلبّي ٣:٢ب-٤ «بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لَا تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ [أي لا يهتم كل واحد بمصلحته فقط]، بَلْ [ينظر] كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِآخَرِينَ أَيْضًا». إذا كنت أقدّرك وأعطيك مكانة أعلى مني، وأنت تقدّرني وتعطيني مكانة أعلى منك، فإنَّ شيئًا رائع سيحدث: يكون لدينا مجتمع يحترم فيه الجميع بعضهم البعض ولا يحتقر فيه أحد الآخر.
- “المعنى أكثر شمولًا، وبالتالي يجب التعبير عنه كما يلي: ’بما أنَّ جميع الناس ليسوا شيئًا، فمن يرغب أنْ يظهر وكأنه شيء ويقنع نفسه بأنه شخص صاحب مكانة، يخدع نفسه.‘” كالفن (Calvin)
- فَإِنَّهُ يَغُشُّ نَفْسَهُ: الكبرياء من أكثر الأمور التي تنطوي على خداع الذات. فالمتكبّر أعمى – أعمى تجاه نعمة الله ومواهبه المجانية، أعمى تجاه خطاياه وفساده، أعمى تجاه الخير الذين في الآخرين، وأعمى تجاه حماقة الانحصار في الذات.
- غالبًا ما نغضب عندما يغشّنا (يخدعنا) أحد. بَيْدَ أنَّنا لا نأخذ خطر خداع أنفسنا بالجدّية الواجبة. إنَّه شيء خطير وفظيع أن تخدع نفسك. “إن سبب بؤس معظم الناس هو أنَّ عقولهم وعيونهم موجَّهة في الاتّجاه الخاطئ؛ فهي لا تنظر إلى الداخل على الإطلاق.” تراب (Trapp)
- هذا يساعد في شرح أعظم خدعة لأكبر مخادع – أي الشيطان نفسه. فإنه إن كان هناك أَحَدٌ يظنّ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا، فهو الشيطان قبل السقوط وبعده. وإن كان هناك شخص يَغُشُّ نَفْسَهُ، فمن المؤكّد أنَّه الشيطان الذي يواصل العمل ضد الله خادعًا ذاته على أمل أنْ ينتصر ذات يوم.
- وَلَكِنْ لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ: بدلًا من خداع أنفسنا، يجب أن نفحص أعمالنا أمام الله فحصًا دقيقًا وواعيًا. وإن لم نفعل ذلك، بل واصلنا خداعنا الذاتي، فربما اعتقدنا أنَّ أعمالنا تنال رضا الله، في حين أنَّها ليست كذلك. فكل واحد يريد أن ينال عمله رضا الله، حتّى يكون لَهُ ٱلْفَخْرُ في يوم الحساب بعمله (مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ فَقَطْ)، لا بعمل شخص آخر (لَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ).
- هناك جانب آخر للْفَخْرُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ. فهذا يعني الشعور بالابتهاج بمسيرك مع الرب، لا الشعور بالروحانية (والتعالِي) لأنَّ شخصًا ما من حولك رُبَّما انزلق ووقع في زلة.
- لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ: يتحدّث الكتاب المُقدَّس عن يوم تفحص فيه أعمالنا أمام الربّ. وهذا هو كرسي قضاء المسيح الموصوف في رومية ١٠:١٤ و كورنثوس الثانية ١٠:٥. في ذلك اليوم، كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ.
- لا يوجد أي تناقض بين «اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ» (غلاطيّة ٢:٦) وكُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ (غلاطيّة ٥:٦). ففي غلاطيّة ٥:٦، تحدّث بولس عن الحساب النهائي أمام الله. أمَّا في غلاطيّة ٢:٦، فتحدّث عن حاجتنا لرعاية الآخرين في جسد المسيح.
- هناك أيضًا اختلاف في الصياغة التي يستخدمها بولس. فالكلمة التي تعني حِمْل في غلاطيّة ٥:٦ كانت مصطلحًا شائعًا يدلّ على حقيبة يحملها الرجل على ظهره. أمَّا كلمة «أثقال» في غلاطيّة ٢:٦ فهي ترجمة لكلمة مختلفة تعني ’الأعباء الثقيلة‘ – أي تلك التي يجب أن يحملها أكثر من شخص. ففي النهاية، سنكون جميعًا مسؤولين عن عملنا، لكن يمكننا المساعدة في حمل أثقال (أي أعباء) الآخرين.
ج) الآيات (٦-١٠): عمل الخير للآخرين الذين من أهل الإيمان.
٦وَلكِنْ لِيُشَارِكِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَلِمَةَ الْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ. ٧ لاَ تَضِلُّوا! اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا. ٨لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً. ٩فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ. ١٠فَإِذًا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ.
- وَلَكِنْ لِيُشَارِكِ ٱلَّذِي يَتَعَلَّمُ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمُعَلِّمَ: في سياق رعاية بعضهم البعض، يأمر بولس أولئك الذين يتعلّمون بدعم (لِيُشَارِكِ … فِي جَمِيعِ ٱلْخَيْرَاتِ) أولئك الذين يعلّمونهم.
- تركّز عبارة لِيُشَارِكِ … فِي جَمِيعِ ٱلْخَيْرَاتِ على الدعم المادّي، ولكنها لا تقتصر عليه. “من بين مجموعة متنوعة من تفاسير كلام بولس هنا، فإنَّ التفسير الأكثر شيوعًا هو الأكثر ترجيحًا أيضًا: أي أخذ «لِيُشَارِكِ» بمعنى العطاء النشط و«جَمِيعِ ٱلْخَيْرَاتِ» بمعنى الأمتعة المادية (لوقا ٥٣:١؛ ١٨:١٢-١٩؛ ٢٥:١٦).” فونغ (Fung)
- يترجم لايتفوت (Lightfoot) معنى ذلك هكذا: “لقد تحدّثت عن تحمّل أعباء بعضنا البعض. وهناك تطبيق واحد خاصّ لهذه القاعدة أودّ عرضه. أي توفير الاحتياجات الزمنية لمعلّميكم في المسيح.”
- مقاطع مثل هذه مهمّة، ولكنها قد تكون محرجة بالنسبة إلى الواعظ. كتب مارتن لوثر: “هذه المقاطع كلها هدفها فائدتنا نحن الخُدّام. والحقيقة إني لا أجد متعة كبيرة في شرح هذه الآيات. حيث أنني أظهر وكأنني أتحدّث لمصلحتي الخاصّة.”
- “العلاقة الصحيحة بين المعلّم والمتعلّم أو الراعي وشعبه، هي علاقة كوينونيا koinonia، أي «شركة» أو «شراكة». لهذا يكتب بولس: «لِيُشَارِكِ (كوينونيتو koinoneito) ٱلَّذِي يَتَعَلَّمُ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ ٱلْخَيْرَاتِ».” ستوت (Stott) هذا ليس أجرًا، بل مشاركة.
- هذا مبدأ روحيّ أساسيّ، حتّى وإن كان مُهمَلًا في بعض الأحيان. فأولئك الذين يغذّونكم ويباركونكم روحيّا يجب أن تدعموهم ماليًّا. وقد كرّر بولس هذا المبدأ في عدة أماكن أخرى. «إِنْ كُنَّا نَحْنُ قَدْ زَرَعْنَا لَكُمُ ٱلرُّوحِيَّاتِ، أَفَعَظِيمٌ إِنْ حَصَدْنَا مِنْكُمُ ٱلْجَسَدِيَّاتِ؟» (كورنثوس الأولى ١١:٩). «هَكَذَا أَيْضًا أَمَرَ ٱلرَّبُّ: أَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَ بِٱلْإِنْجِيلِ، مِنَ ٱلْإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ» (كورنثوس الأولى ١٤:٩). «أَمَّا ٱلشُّيُوخُ ٱلْمُدَبِّرُونَ حَسَنًا فَلْيُحْسَبُوا أَهْلًا لِكَرَامَةٍ مُضَاعَفَةٍ، وَلَا سِيَّمَا ٱلَّذِينَ يَتْعَبُونَ فِي ٱلْكَلِمَةِ وَٱلتَّعْلِيمِ» (تيموثاوس الأولى ١٧:٥). إذا كنتم تأتمنونهم على صحتكم الروحيّة، فيجب أن تأتمنوهم أيضًا أنْ يكونوا وكلاء أمناء على مواهب شعب الله (إنجيل لوقا ١١:١٦).
- “كثيرًا ما تساءلت لماذا كـرّر جميع الرسل هذا الطلب بمثل هذا الإلحاح المحرج… نحن ندرك الآن ضرورة تكرار هذه الآية. فعندما لا يستطيع الشيطان أن يوقف الكرازة بالإنجيل بالقوّة، فإنّه يحاول تحقيق هدفه بضرب خُدّام الإنجيل بالفقر.” لوثر (Luther)
- لَا تَضِلُّوا! ٱللهُ لَا يُشْمَخُ عَلَيْهِ (لا يُستَهزَأ بِه). فَإِنَّ ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلْإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا: بالنسبة إلى أولئك الذين يتردّدون في المشاركة فِي جَمِيعِ ٱلْخَيْرَاتِ مع أولئك الذين يعلمونهم، ذكّرهم بولس بمبدأ الزرع والحصاد الإلهيّ. فعطاؤه (أي مشاركة ٱلَّذِي يَتَعَلَّمُ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ ٱلْخَيْرَاتِ) ليس إهدارًا للمال؛ إنَّه مثل زرع البذور، وٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلْإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا.
- إنَّ اعتبار مشاركة ٱلَّذِي يَتَعَلَّمُ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ ٱلْخَيْرَاتِ كإهدار للموارد هو سخرية من الله. إنَّها أنانيّة أنْ نسخر من سخاء الله نحو أولئك الذين يبذلون حياته في خدمته. وقد عبّر لوثر عن ذلك بلهجة قويّة: “احذروا، أيها المستهزئون. قد يؤجل الله عقابه لبعض الوقت، لكنه سيطالبكم في الوقت المناسب، وسيعاقبكم على احتقار عبيده. فإنكم لا تستطيعون أن تضحكوا على الله.”
- قصد بولس هو أن شعب الله يجب أنْ يُشَارِكِ… ٱلْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ ٱلْخَيْرَاتِ لأنَّ ذلك مفيد للمعلّم. بل يجب أن يفعلوا ذلك لأنَّه مفيد للشخص المتعلّم أنْ يشارك، ومبدأ الزرع والحصاد يثبت ذلك.
- فَإِنَّ ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلْإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا. لِأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ ٱلرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً: إذا أردنا أن نحصد للروح، فلا ينبغي لنا أن نتردّد في الزرع للروح بأي موارد رزقنا بها الله.
- المزارع يحصد نفس ما زرعه. فلو زرع قمحًا، جنى قمحًا. وبالطريقة نفسها، إذا زرعنا للجسد، فإنَّ الجسد سيزداد في الحجم والشدّة.
- كذلك يحصد المزارع نفس ما زرعه، لكن ليس بالضبط. فبذور التفاح لا تنتج المزيد من بذور التفاح، بل المزيد من التفاح المحتوي على البذور. رغم ذلك، عندما نزرع لِلرُّوحِ – حتّى وإن كان بالأمور المادية – فما نحصده ليس بالضرورة أمورًا مادية، بل شيئًا أفضل: فَمِنَ ٱلرُّوحِ نحصد حَيَاةً أَبَدِيَّةً. لذلك فنحن لا نعطي على سبيل ’الاستثمار‘ أو بقصد كسب المال ومضاعفته، رغم أننا على ثقة تامّة بأننا لن نخسر أبدًا إذا أعطينا.
- المزارع يحصد المزيد أيضًا إذا زرع المزيد، والعلاقة بين ما يزرع وما يحصد تضاعفيّة. فقد يزرع المزارع تفاحة واحدة ويحصل على مئات التفاحات بمرور الوقت.
- فَإِنَّ ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلْإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا: لهذا المبدأ تطبيق يتخطّى حدود العطاء ودعم المعلّمين والخُدّام. فإنه له تطبيق عام في الحياة. فإنَّ ما نحصل عليه من الحياة هو غالبًا ما نُدخِله فيها. بَيْدَ أنَّ بولس لا يروّج لقانون «الثواب» الإلهي القائل بأننا نحصل على الخير إذا فعلنا الخير، أو نحصل دائمًا على الشر عندما نفعل الشر. إذا كان هناك مثل هذا القانون الروحيّ المطلق، فإننا بالتأكيد سوف نهلك جميعًا. بدلًا من ذلك، يقرن بولس مبدأ الزرع والحصاد ببساطة بالطريقة التي ندبّر بها مواردنا أمام الربّ. يستخدم نفس الصورة في كورنثوس الأولى ٩:٩ و كورنثوس الثانية ٦:٩-١٠.
- قد نخدع أنفسنا عندما نتوقّع الكثير بينما نحن زرعنا القليل، لكن لا يمكننا خداع الله؛ ونتائج زرعنا الشحيح ستكون واضحة.
- فَلَا نَفْشَلْ فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ لِأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لَا نَكِلُّ (أو نفشل): يعوزنا الصبر ونحن ندبّر مواردنا بحكمة أمام الله بموجب مبدأ الزرع والحصاد. هذا لأنَّ الحصاد لا يأتي بعد زرع البذور مباشرةً.
- ما أسهل، وما أخطر، أن نَكِلُّ (أو نفشل). ففي العالم القديم، كانت هذه العبارة المترجمة بـ «نَكِلُّ» تُستَخدم للدلالة على نوع من الخوف والإرهاق تختبره المرأة أثناء المخاض قبل الولادة. فهي تصف وقتًا يكون فيه العمل شاقًّا ومؤلمًا، ولكنه أيضًا غير مكتمل وغير مجزٍ. فمن السهل أن نَكِلُّ عندما نشعر بذلك، ولكن هذا هو الوقت عينه الذي يجب فيه أن نصمد ولَا نَكِلُّ من عمل الخير.
- فَإِذًا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ، فَلْنَعْمَلِ ٱلْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلَا سِيَّمَا لِأَهْلِ ٱلْإِيمَانِ: بلا كلل، نسعى إلى عمل الخير بمواردنا، وعمل ٱلْخَيْر لِلْجَمِيعِ – ولكن خصوصًا لأهل بيت الله.
- عندما كتب بولس حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ ولْنَعْمَلِ ٱلْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، ضمّ نفسه بوضوح إلى من كان يكتب لهم. لقد كان يتحدّث إلى نفسه هنا بقدر ما كان يتحدّث إلى أهل غلاطيّة. فبسبب الخطر الذي يمثّله الناموسيّون، لم يُكافَأ عمل بولس بينهم بعد، لذلك كان عليه أن يتذكّر ألَّا يكلّ هو نفسه.
ثانيًا. الخاتمة
أ ) الآية (١١): مقدّمة لتذييل بولس الشخصيّ.
١١اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ ٱلْأَحْرُفَ ٱلَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي!
- كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي: كانت عادة بولس، كما كان معتادًا في العالم القديم، إملاء رسائله على سكرتير. بَيْدَ أنَّه كان غالبًا يكتب جزءًا قصيرًا في النهاية بيده، سواء للتصديق على الرسالة أو لإضافة لمسة شخصيّة.
- من الأمثلة الأخرى على هذا التذييل ما جاء في كورنثوس الأولى ٢١:١٦-٢٤ (اَلسَّلَامُ بِيَدِي) و كولوسي ١٨:٤ (اَلسَّلَامُ بِيَدِي أَنَا بُولُسَ). ومن أسباب قيام بولس بذلك إثبات أنَّه كاتب الرسالة بالفعل، كما في تسالونيكي الثانية ١٧:٣ «اَلسَّلَامُ بِيَدِي أَنَا بُولُسَ، ٱلَّذِي هُوَ عَلَامَةٌ فِي كُلِّ رِسَالَةٍ. هَكَذَا أَنَا أَكْتُبُ».
- اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ ٱلْأَحْرُفَ ٱلَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي: يشير بولس إلى أنَّه كتب تذييله بـأحرف كبيرة. يستنتج الكثيرون أنَّ ذلك كان بسبب ضعف بصره وعجزه على القراءة أو الكتابة بأحرف صغيرة. ولكن من الأرجح أنَّه كتب بحروف كبيرة كوسيلة للتأكيد.
- “عند هذه النقطة، يأخذ الرسول القلم من الكاتب، ويكتب الفقرة الختامية بيده… بل ويكتبها أيضًا بأحرف كبيرة وغليظة، كي يعكس خطّه حماسته وتصميمه الروحيين.” لايتفوت (Lightfoot)
- “معظم المفسّرين يقولون بأنَّه استخدم الحروف الكبيرة عن قصد، إمّا لأنَّه كان يعامل قُرّاءه معاملة الأطفال (أي يوبّخهم على عدم نضجهم الروحيّ باستخدام كتابة الطفل) أو لمجرد التأكيد… بقدر ما نستعمل الحروف الكبيرة أو نضع خطًّا تحت الكلمات اليوم.” ستوت (Stott)
ب) الآيات (١٢-١٣): كلمة أخيرة بشأن دوافع الناموسيّين بين أهل غلاطيّة.
١٢جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَرًا حَسَنًا فِي الْجَسَدِ، هؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا، لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا لأَجْلِ صَلِيبِ الْمَسِيحِ فَقَطْ. ١٣لأَنَّ الَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ هُمْ لاَ يَحْفَظُونَ النَّامُوسَ، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَتِنُوا أَنْتُمْ لِكَيْ يَفْتَخِرُوا فِي جَسَدِكُمْ.
- جَمِيعُ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَرًا حَسَنًا فِي ٱلْجَسَدِ، هَؤُلَاءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا: يشير بولس هنا إلى المؤمنين الناموسيّين بين أهل غلاطيّة ويكتب بصراحة عن دافعهم، أنَّهم يردون أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَرًا حَسَنًا فِي ٱلْجَسَدِ. لقد حرصوا على إخضاع المؤمنين الغلاطيّين الذين من خلفيّة غير يهودية للختان لأنَّ ذلك سيكون لهم منظر حسن لهم – لكنَّه مَنْظَر حَسَن فِي ٱلْجَسَدِ.
- لقد تظاهر الناموسيّون بأنهم كانوا مدفوعين بالاهتمام بالأشخاص الذين يحاولون إخضاعهم للناموس. ولكنَّ هذا الخداع لم ينطلِ على بولس، الذي أدرك أنَّ دافعهم في حقيقته أنانيّ، وأنهم يرغبون ببساطة في كرامة ومجد الـمَنْظَر الـحَسَن فِي ٱلْجَسَدِ. لقد أرادوا أن يختتن الغلاطيّون حتّى يتمكنوا من ارتداء خضوع هؤلاء الأُمَم كشارة على إنجازهم. وكما افتخر داود بالمائتي فلسطينيّ الغلف الذين قتلهم، فقد حرص هؤلاء الناموسيّون على الحصول على ولاء هؤلاء الأُمَم – في المقام الأول – كجائزة.
- كلمة يُلْزِمُونَكُمْ مهمّة. فلم يكن هناك أي عيب في اختتان الأُمَم. وإنَّما الخطأ كان إجبار الأُمَم على الختان، بزعم أنَّه لا يمكنهم التواجد في علاقة سليمة مع الله دون الخضوع لشريعة موسى.
- لِئَلَّا يُضْطَهَدُوا لِأَجْلِ صَلِيبِ ٱلْمَسِيحِ فَقَطْ: بخلاف افتخارهم، كان الدافع الآخر هو تجنب الاضطهاد لِأَجْلِ صَلِيبِ ٱلْمَسِيحِ فَقَطْ. فلو قال هؤلاء الناموسيّون: ’نحن نخلص بعمل صليب المسيح فقط، لا بطاعتنا للناموس،‘ لتعرّضوا للاضطهاد. ورُبَّما جاء الاضطهاد من مسيحيّين ناموسيّين آخرين أو من أتباع الديانة اليهوديّة. فإنَّ عدم استعدادهم لمواجهة هذا الضغط جعلهم يدافعون عن تعاليم زائفة.
- هناك احتمال آخر للتفكير بهذا الأمر. فبواسطة توفيق المسيحيّة مع اليهوديّة عن طريق التأكيد على أهمية الختان وناموس موسى، كان من الممكن الهروب من اضطهاد الرومان. “كانت الدعوة إلى الختان محاولةً للتوفيق بين الحركة الجديدة واليهوديّة، أي الديانة التي تتمتع بالحماية الرومانيّة الرسمية – وبالتالي لم تتعرّض للاضطهاد. رُبَّما ذكر الوعّاظ الذين عارضهم بولس الصليبَ في كرازتهم، لكن بواسطة إضافة ضرورة الختان تجنبوا الاضطهاد.” موريس (Morris)
ج) الآيات (١٤-١٥): بولس يكتب عن دوافعه.
١٤وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ. ١٥لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ.
- وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلَّا بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: لم يهتم قلب بولس فالفخر النابع من الشهرة. ولم يهتم بالفخر النابع من الثروة. ولم يهتم بالافتخار النابع من المكانة والسلطة بين الناس. وإنما كان همّه الافتخار النابع من صَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.
- من الصعب علينا تقدير غرابة كلام بولس هنا. فبالنسبة لمن يعرفون تفاصيل الصلب، فإنَّ كلمتي ’الصليب‘ و’الافتخار‘ لا تتوافقان معًا. لقد كانتا متضادّتين لأنَّه لم يكن هناك طريقة للإعدام أكثر إهانة وعارًا من الصليب. فكان من المنطقيّ الافتخار بالمنظر الحسن في الجسد، لا بالصليب. لكنَّ بولس يفكّر ويكتب بمنطق سماويّ يتجاوز أي شيء خاصّ بالأرضيّات.
- “كانت كلمة كروكس (crux) هي من الكلمات التي لا يرد ذكرها في المجتمع الرومانيّ المهذَّب… حتّى عندما كان يُحكَم على أحد بالموت صلبًا، كانوا يستخدمون جملة ’عَلِّقوه على الشجرة التعيسة‘ وهي صيغة قديمة فيها نوع من المواربة.” بروس (Bruce) بحسب اقتباس موريس (Morris)، لكنَّ بولس لم يستخدم هذه الكلمة التي لا تُذكَر فقط، بل وافتخر بها.
- “ولكن ماذا كان يقصد بالصليب؟ بالطبع لم يكن قصده قطعة الخشب بعينها التي سُمِّرت فيها تلك اليدان والقدمان المباركتان، لأنّ تلك مُجرَّد مادّة، وهذا الفكر المادي قد تلاشى من الذهن. وإنَّما يقصد العقيدة المجيدة المتمثلة في التبرير – التبرير المجانيّ بواسطة ذبيحة يسوع المسيح الكفّاريّة.” سبيرجن (Spurgeon)
- ٱلَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ: في غلاطيّة ٢٤:٥، كتب بولس عن صلب «ٱلْجَسَد مَعَ ٱلْأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَاتِ». وبعد تعليقه الجسد على الصليب، إذ به يضع ٱلْعَالَم على الصليب، ويعتبر نفسه ميّتًا للعالم. ولا يمكن للعالم التأثير على بولس إذا كان ميّتًا، كما لا يمكن لبولس أنْ يستجيب لتأثيره طالما كان ميّتًا للعالم.
- ٱلْعَالَمُ، بالمعنى الذي يقصده بولس هنا، لا يتطابق مع الكرة الأرضية، ولا مع الجنس البشريّ (الذي يحبّه الله نفسه، يوحنا ١٦:٣)، بل مجتمع البشر الخطاة المتّحد في التمرد على الله.
- ما من شيء أكثر دنيوية من تقديم منظر حسن في الجسد. فعندما نعيش من أجل الافتخار النابع من الشهرة أو من الغنى أو من المكانة أو من السلطة بين الناس، نكون أحياء للعالم والعالم يكون حيًّا لنا.
- كان يمكن لبولس والعالم أن يتفقا على شيء واحد: أنَّهما لم يحبّا أحدهما الآخر. “معنى ’قَدْ صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي‘ هو أنني أُدين العالم. ومعنى ’أَنَا لِلْعَالَمِ‘ أنَّ العالم بدوره يدينني” لوثر (Luther). “أنا والعالم متفقان. فلا العالم يهتم بي، ولا أهتم أنا بالعالم.” تراب (Trapp)
- “إنَّ الحياة لخدمة البشر شيء، والحياة لمباركتهم شيء آخر؛ وهذا ما نريد عمله بمعونة الله، إذ نضحّي من أجل خيرهم. أمَّا الخوف من البشر، وطلب الإذن منهم للتفكير وطلب تعليماتهم بخصوص ما ينبغي أن نقول وكيف ينبغي أنْ نقوله، فهذا مستوى دنيء لا يمكن السماح به. وبنعمة الله، لم نتدنَّ إلى هذه الدرجة، ولن نتدنّى أبدًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- لِأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلْخَلِيقَةُ ٱلْجَدِيدَةُ: بلا شك، كان بولس يعلم أنَّ المؤمنين لهم معيار أخلاقي يعيشون بموجبه (وارد في مقاطع مثل غلاطيّة ١٩:٥-٢١). ولكن ما يهم حقًّا لم يكن ما نفعله نحن في حفظنا للناموس، لاسِيَّما طقوسه، ولكن ما فعله الله فينا – إذ جعلنا خَلِيقَة جَدِيدَة.
- بالنسبة إلى الناموسيّين بين مؤمني غلاطيّة، كان ٱلْخِتَانُ قضية كبيرة، لأنَّه كان علامة بداية الحياة في ظل ناموس موسى. وعلى الرغم من أنَّه كان مهمًا للناموسيّين، إلَّا أنَّ بولس كان يعلم أنَّه لا يهمّ على الإطلاق (لَيْسَ يَنْفَعُ شَيْئًا). فإذا كنت قد اختتنتَ ولكنك لست خَلِيقَة جَدِيدَة، فأنت لا تنتمي إلى يسوع. وإذا كنت غير مختون، لكنك خَلِيقَة جَدِيدَة، فأنت تنتمي إلى يسوع.
- نحن لا نجعل أنفسنا خَلِيقَة جَدِيدَة؛ إنَّما الله هو الذي يفعل ذلك فينا. فالمسيحيّة – في الأساس – هي شيء يفعله الله فينا وليست شيئًا نفعله من أجل الله. وهذا يمكن أن يحدّد ببساطة الفرق بين نظامي النعمة والناموس.
د ) الآية (١٦): حلول البركة على السالكين في الحقّ الإلهي.
١٦فَكُلُّ ٱلَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هَذَا ٱلْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلَامٌ وَرَحْمَةٌ، وَعَلَى إِسْرَائِيلِ ٱللهِ.
- فَكُلُّ ٱلَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هَذَا ٱلْقَانُونِ: كتب لايتفوت (Lightfoot) عن معنى كلمة «ٱلْقَانُونِ» أي كانون (kanon) في اليونانيّة القديمة، ما يلي: “إنها خط النجّار أو المسّاح الذي يحدّد الاتجاه.” فهناك قَانُون للحياة المسيحيّة كشفت عنه كلمة الله. فنحن لا نؤلّف هذا القانون بحسب اقتضاء الحال، بل يجب أن نقيس أنفسنا وفقًا له.
- عَلَيْهِمْ سَلَامٌ وَرَحْمَةٌ: تمامًا كما كان بولس مستعدًا للنطق بلعنة على أولئك الذين علّموا تعاليم زائفة (غلاطيّة ٨:١-٩)، كان مستعدًّا أيضًا للنطق بالبركة على أولئك ٱلَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هَذَا ٱلْقَانُونِ. وهؤلاء هم إِسْرَائِيلِ ٱللهِ الحقيقيّون الذين من نسل إبراهيم حسب الإيمان.
هـ) الآيات (١٧-١٨): كلام ختاميّ.
١٧فِي مَا بَعْدُ لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَابًا، لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ. ١٨نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. آمِينَ.
- لِأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ: كتب بولس كشخص تألّم من أجل يسوع ويحمل تلك السمات (العلامات) في جسده. فبعد أن تألّم هكذا، أمكنه أن يقول: فِي مَا بَعْدُ لَا يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَابًا، بمعنى أنَّه من غير المُجدِي أن يحاول أي شخص ذلك، لأنَّه قد تحمّل أسوأ الأتعاب والآلام بالفعل.
- في كورنثوس الثانية ٢٣:١١-٢٥، وصف بولس آلامه الجسديّة من أجل يسوع. فما تحمّله كان كثيرًا وترك آثار في جسده، أي سِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ.
- يعتقد البعض أنَّ ’لَا يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَابًا‘ كانت طريقة بولس في إبلاغ مسيحيّي غلاطيّة بما يلي: ’لا تزيدوا من تعبي باستمراركم في مداعبة هذه التعاليم الخاطئة – يكفي ما مررت به من آلام.‘
- سِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ: اعتقد البعض أنَّ بولس يتحدّث هنا عن ظاهرة تعرف باسم ستيغماتا (stigmata) أي السمات. حيث يقال إنَّها علامات في الجسم تشبه جروح يسوع، كالجروح على اليدين والقدمين والجنب والرأس نتيجة التشبه بيسوع. ولكن مثل هذا الرأي يحمل النص أكثر من معناه بكثير، وغالبًا ما يُستَخدم لتبرير نوع من التصوّف غير الصحّيّ.
- لم تكن سِمَات ٱلرَّبِّ يَسُوعَ جروحًا مشابهة لجروح يسوع؛ بل هي سِمَات تحدّد – أو ’تَسِم‘ – بولس باعتباره من أتباع يسوع. ففي العالم القديم، كان العبيد يُسمَّون باسم أسيادهم. “كثيرًا ما كان السيد يسم عبيده بعلامة تبيّن أنهم ملك له. وعلى الأرجح، ما يعنيه بولس هو أن آثار جروح الأشياء التي تألّم منها من أجل المسيح هي العلامات (السمات) الدالة على أنَّه عبد المسيح.” باركلي (Barclay)
- كانت ممارسة الوسم معروفة أيضًا في الحياة العسكرية. “هناك سجلات مدوَّنة عن جنود وسموا أنفسهم باسم قائدهم العسكري علامةً على ولائهم المطلق له.” رندال (Rendall). قال بولس إن سماته كانت ’علامات‘ الولاء.
- “كما كانت الحرب الأرضية لها زخارفها التي يُكرِّم بها القادة شجاعة جنودهم، فإنَّ المسيح قائدنا له سماته الخاصّة، التي يستخدمها في تزيين وتكريم بعض أتباعه. ولكنَّ هذه السمات تختلف اختلافًا كبيرًا عن غيرها من السمات؛ لأنَّ لها طبيعة الصليب، فهي عار في نظر العالم… لكنها في نظر الله والملائكة تفوق شرف العالم كله.” كالفين (Calvin)
- نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ: لم يكن في وسع بولس أنْ يتمنّى شيئًا أعظم من هذا للغلاطيّين. وإذا كان الأمر كذلك، فإنهم يسلكون في علاقة نِعْمَة مع الله بدلًا من العلاقة الناموسيّة القائمة على الأداء، التي عرّضتهم لكل هذا الخطر. وهذه نهاية مناسبة للرسالة وصلاة لحياتنا كلها.
- “بعد العاصفة والتوتّر والشدة في الرسالة، يأتي سلام البركة. لقد جادل بولس ووبّخ ورغّب؛ لكنَّ كلمته الأخيرة هي «النعمة». ذلك أنَّها الكلمة الوحيدة التي تهمّه حقًّا.” باركلي (Barclay)