رسالة كورنثوس الأولى – الإصحاح ٤
هل أنتم مُمجدون بدوننا؟
أولاً. كيف ينبغي أن ينظر أهل كورنثوس إلى بولس والرُسُل
أ ) الآيات (١-٢): الخدام والوكلاء.
١هكَذَا فَلْيَحْسِبْنَا الإِنْسَانُ كَخُدَّامِ الْمَسِيحِ، وَوُكَلاَءِ سَرَائِرِ اللهِ، ٢ثُمَّ يُسْأَلُ فِي الْوُكَلاَءِ لِكَيْ يُوجَدَ الإِنْسَانُ أَمِينًا.
- هكَذَا فَلْيَحْسِبْنَا الإِنْسَانُ: يطلب بولس من أهل كورنثوس أن ينظروا إليه وإلى الرُسُل الآخرين كَخُدَّامِ. واجه بولس مشكلة حقيقية مع أهل كورنثوس؛ فقد كانوا يميلون إلى النظر إليه وإلى سُلطته الرسولية بعدم احترام. لذا، بكلمات مختارة بعناية، سوف يُوضح بولس لأهل كورنثوس كيف يجب أن ينظروا إليه وإلى الرُسُل الآخرين – بلا تعظيم أو تحقير.
- هكَذَا فَلْيَحْسِبْنَا.. كَخُدَّامِ الْمَسِيحِ: هناك عدة كلمات مختلفة في لغة العهد الجديد لوصف الخادم. يستخدم بولس هنا كلمة (hyperetas هيبريتاس) التي تصف الخادم المرؤوس الذي يعمل كرجل حر. وبولس هنا لا يستخدم كلمة العهد الجديد الأكثر شيوعًا للخادم وهي (doulos دولوس) التي تشير إلى العبد بالمعنى المألوف.
- تعني كلمة (hyperetas هيبريتاس) حرفيًا ’المُجدّف‘ بمعنى الشخص الذي يجدف على متن سفينة كبيرة. فمع أنها ليست الكلمة الأكثر تحقيرًا للخادم، إلا أنها بالتأكيد ليست مكانة مرموقة. يخدم المُجدفون “المسيح قبطان السفينة ويساعدونه في تقدم السفينة نحو ملاذ السماء.” تراب (Trapp)
- يصف مورغان (Morgan) هذا ’المُجدّف‘ كالتالي: “الشخص الذي ينفذ الأوامر دون طرح أية أسئلة، وهو الشخص الذي يقوم بالشيء الذي عُيّن للقيام به دون تردد، كما أنه الشخص الوحيد الذي يرفع تقاريره إلى الشخص الذي يعلوه في المنصب.”
- وَوُكَلاَءِ: بالإضافة إلى كونه خادم، يطلب بولس أن يُنظر إليه باعتباره وكيلًا. والوكيل هو الذي كان يدير شؤون المنزل.
- بالنسبة لسيد المنزل، كان الوكيل عبدًا؛ ولكن بالنسبة للعبيد الآخرين، كان الوكيل سيدًا.
- “كان الوكيل نائب عن سيد المنزل في تنظيم شؤون الأسرة وتوفير وجبات الطعام والتأكد من تقديمها في الأوقات والمواسم المناسبة وبالكميات المناسبة. وكان يأخذ مبلغاً من المال وينفقه لسد احتياجات الأسرة الضرورية، لهذا كان يحتفظ بسجلات دقيقة ويقدم تقرير مفصل لسيده في بعض الأوقات.” كلارك (Clarke)
- وُكَلاَءِ سَرَائِرِ اللهِ: ما الذي ’يديره‘ بولس والرسل الآخرين في بيت الله؟ من بين أمور أخرى، كانوا وُكَلاَءِ سَرَائِرِ اللهِ. فقد كانوا يديرون (بمعنى الحفاظ على والصيانة) ويقومون بتوزيع حق الله.
- كلما سمع بولس انتقادًا لأسلوبه أو طريقته كان يسأل ببساطة: “هل قدمت لك الحق؟” فكل ما اهتم به بولس هو أن يكون وكيلاً صالحاً.
- يُسْأَلُ فِي الْوُكَلاَءِ لِكَيْ يُوجَدَ الإِنْسَانُ أَمِينًا: أهم ما يميز الوكلاء هو الأمانة، لأن عليهم أن يُديروا موارد السيد بشكل جيد. فالوكيل لم يمتلك العقارات أو مصدر الدخل؛ لكنه ببساطة يديره من أجل سيده وكان عليه أن يفعل هذا بأمانة.
ب) الآيات (٣-٥): كوننا خدام لله، فنحن مسئولون أمامه هو وحده.
٣وَأَمَّا أَنَا فَأَقَلُّ شَيْءٍ عِنْدِي أَنْ يُحْكَمَ فِيَّ مِنْكُمْ، أَوْ مِنْ يَوْمِ بَشَرٍ. بَلْ لَسْتُ أَحْكُمُ فِي نَفْسِي أَيْضًا. ٤فَإِنِّي لَسْتُ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ فِي ذَاتِي. لكِنَّنِي لَسْتُ بِذلِكَ مُبَرَّرًا. وَلكِنَّ الَّذِي يَحْكُمُ فِيَّ هُوَ الرَّبُّ. ٥إِذًا لاَ تَحْكُمُوا فِي شَيْءٍ قَبْلَ الْوَقْتِ، حَتَّى يَأْتِيَ الرَّبُّ الَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا الظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ الْقُلُوبِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللهِ.
- فَأَقَلُّ شَيْءٍ عِنْدِي أَنْ يُحْكَمَ فِيَّ مِنْكُمْ: يُصر بولس على أن تقديرهم المتدني له لا يهم كثيرًا؛ فما يهمه فعلاً هو حُكم الله (الَّذِي يَحْكُمُ فِيَّ هُوَ الرَّبّْ).
- هل يمكن أو هل ينبغي لكل مؤمن اليوم أن يتخذ نفس الموقف؟ أينبغي أن نتجاهل نظرة المؤمنين الآخرين لنا ونقول: الَّذِي يَحْكُمُ فِيَّ هُوَ الرَّبُّ؟ فيمكننا أن نقول هذا فقط، بالمعنى الذي قصده بولس، إن كنا رسلًا. فإن رفض أهل كورنثوس حُكم بولس عليهم بحجة أنهم ينتظرون حكم الله، فسوف يُذكرهم بولس بأنه أباهم وأن له الحق في تصحيح سلوكهم.
- بَلْ لَسْتُ أَحْكُمُ فِي نَفْسِي: حتى تقديرنا لأنفسنا عادةً ما يكون خطأ. ففي معظم الأحيان نكون إما قساة للغاية أو متساهلين جدًا مع أنفسنا. فبولس يُدرك هذا جيداً، لذلك لن يحكم حتى على نفسه. ففي النهاية، الَّذِي يَحْكُمُ فِيَّ هُوَ الرَّبُّ.
- فَإِنِّي لَسْتُ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ فِي ذَاتِي. لكِنَّنِي لَسْتُ بِذلِكَ مُبَرَّرًا: يدرك بولس أيضًا أنه ليس بريء لمجرد أنه مُرتاح الضمير. فقد عرف بولس أن بره قد جاء من يسوع وليس من حياته الشخصية – على الرغم من أنه كان يعيش بالتقوى.
- إِذًا لاَ تَحْكُمُوا فِي شَيْءٍ قَبْلَ الْوَقْتِ: يبدو الأمر كما لو كان بولس يقول: “أنتم يا أهل كورنثوس تتصرفون كحكام المباريات؛ فهم مؤهلون لمنح الكأس للبعض واستبعاد الآخرين كخاسرين. ولكن يسوع هو الحَكَم الوحيد، وأنت تحكُم قبل موعد نهاية المباراة.”
- الَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا الظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ الْقُلُوبِ: عندما يحكم يسوع، سيحكم وفقاً لدوافع القلب وليس الأعمال. ولهذا حُكم البشر في أغلب الأحيان حكمًا خاطئًا، ولهذا لم يتأثر بولس بحكم أهل كورنثوس القاسي عليه.
- حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللهِ: كان بولس يعلم أنه لم يحصل إلا على القليل من المدح من أهل كورنثوس، لكن هذا لم يكن يُقلقه. فقد كان يعي تمامًا أنه سيأتي يوم يكون فيه المدح من الله وليس من الإنسان.
ثانياً. توبيخ ساخر لتفاخُر أهل كورنثوس
أ ) الآية (٦): التطبيق الأوسع لكلمات بولس.
٦فَهذَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ حَوَّلْتُهُ تَشْبِيهًا إِلَى نَفْسِي وَإِلَى أَبُلُّوسَ مِنْ أَجْلِكُمْ، لِكَيْ تَتَعَلَّمُوا فِينَا: «أَنْ لاَ تَفْتَكِرُوا فَوْقَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ»، كَيْ لاَ يَنْتَفِخَ أَحَدٌ لأَجْلِ الْوَاحِدِ عَلَى الآخَرِ.
- حَوَّلْتُهُ تَشْبِيهًا: تحدث بولس في الآيات القليلة الأولى من هذا الإصحاح عن الرُسُل كخدام ووكلاء. ولكنه لا يعني هذا حرفيًا ولكن مجازيًا، حتى يتعلم مؤمنو كورنثوس كيف ينبغي أن ينظروا إلى الرُسُل.
- لِكَيْ تَتَعَلَّمُوا فِينَا: «أَنْ لاَ تَفْتَكِرُوا فَوْقَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ»: يأمل بولس أن تساعد كلماته مؤمني كورنثوس في التفكير بطريقة كتابية وأن لا يستخدموا معايير أخرى غير كلمة الله في الحكم على بولس أو على الرُسُل الآخرين.
- كثير من الناس اليوم يقيّمون الراعي أو الخادم وفق معايير غير كتابية؛ فيكون حكمهم على أساس حسه الفكاهي أو قدرته الترفيهية أو مظهره أو مهارته التسويقية. وهذا هو ما يقصده بولس بقوله: أَنْ لاَ تَفْتَكِرُوا فَوْقَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ.
- بمعنى أوسع، هذا درس مهم: أَنْ لاَ تَفْتَكِرُوا فَوْقَ مَا هُوَ مَكْتُوب. فعلينا أن نأخذ كل إشارة من الكتاب المقدس. في السابق، كل شيء كان يُعتبر كتابياً إن ذُكر في الكتاب المقدس؛ أما الآن، يصف الناس الأمور بأنها ’كتابية‘ إن لم يتمكنوا من العثور على آية تدينها بصفة خاصة. هذا هو المقصود بالتفكير فَوْقَ مَا هُوَ مَكْتُوب.
- كَيْ لاَ يَنْتَفِخَ أَحَدٌ لأَجْلِ الْوَاحِدِ عَلَى الآخَرِ: عندما استخدم مؤمنو كورنثوس معايير غير كتابية للحكم على الرُسُل، كان من السهل عليهم أن يحبوا أحدهم ويبغضوا الآخر بناءً على معايير سيئة.و لكن إن تعلموا أَنْ لاَ يَفْتَكِرُوا فَوْقَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ، فلن يتحيزوا لبعض الرُسُل بتفاخُر كما ذُكر في كورنثوس الأولى ٤:٣.
ب) الآية (٧): ثلاثة أسئلة للحد من الكبرياء.
٧لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ، فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟
- لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟: كانت حالة الإنتفاخ التي يعيشها مؤمني كورنثوس تعني أنهم كانوا يعانون من مشكلة الكبرياء والتفاخر. وعلى الرغم من أن التفاخُر كان واضحًا في التفافهم حول الرسل المختلفين، الا أن هذه الانقسامات لم تكن هي المشكلة بقدر ما كان الكبرياء. ولهذا يخاطب بولس كبريائهم بثلاثة أسئلة.
- مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ إن كان هناك اختلافات بيننا، فذلك بسبب عمل الله فينا، إذاً ليس هناك سبب للتفاخُر.
- وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ كل ما لدينا أخذناه من الله، إذاً ليس هناك سبب للتفاخُر.
- فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟ إذا كان ما لديك من الناحية الروحية هو هبة من الله، فلماذا تفتخر به كما لو كان من إنجازك الخاص؟ لا يوجد سبب لهذا التفاخُر الذي يمجد الذات.
- يجب أن تدفعنا هذه الأسئلة الثلاثة على طرح أسئلة أخرى: هل أُرجع حقًا الفضل في خلاصي لله؟ هل أعيش بروح الامتنان المتواضع؟ بالنظر إلى ما أعطاني الله إياه، ماذا يمكنني أن أقدم له؟
- استخدم أغسطينوس هذا النص كثيرًا في إعلان الفساد التام للإنسان حينما كان يتصدى لهرطقة البيلاجيانية (Pelagian). وكان يُعلّم أنه لا يوجد شيء صالح فينا إلا ما أخذناه من الله.
ج ) الآيات (٨-١٣): توبيخ بولس الساخر.
٨إِنَّكُمْ قَدْ شَبِعْتُمْ! قَدِ اسْتَغْنَيْتُمْ! مَلَكْتُمْ بِدُونِنَا! وَلَيْتَكُمْ مَلَكْتُمْ لِنَمْلِكَ نَحْنُ أَيْضًا مَعَكُمْ! ٩فَإِنِّي أَرَى أَنَّ اللهَ أَبْرَزَنَا نَحْنُ الرُّسُلَ آخِرِينَ، كَأَنَّنَا مَحْكُومٌ عَلَيْنَا بِالْمَوْتِ. لأَنَّنَا صِرْنَا مَنْظَرًا لِلْعَالَمِ، لِلْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ. ١٠نَحْنُ جُهَّالٌ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحُكَمَاءُ فِي الْمَسِيحِ! نَحْنُ ضُعَفَاءُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَقْوِيَاءُ! أَنْتُمْ مُكَرَّمُونَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَبِلاَ كَرَامَةٍ! ١١إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ نَجُوعُ وَنَعْطَشُ وَنَعْرَى وَنُلْكَمُ وَلَيْسَ لَنَا إِقَامَةٌ، ١٢وَنَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا. نُشْتَمُ فَنُبَارِكُ. نُضْطَهَدُ فَنَحْتَمِلُ. ١٣يُفْتَرَى عَلَيْنَا فَنَعِظُ. صِرْنَا كَأَقْذَارِ الْعَالَمِ وَوَسَخِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى الآنَ.
- إِنَّكُمْ قَدْ شَبِعْتُمْ! قَدِ اسْتَغْنَيْتُمْ! مَلَكْتُمْ بِدُونِنَا! وَلَيْتَكُمْ مَلَكْتُمْ لِنَمْلِكَ نَحْنُ أَيْضًا مَعَكُمْ: وكأنه يقول: “يبدو أنكم قد ملكتم كل شيء! أليس غريباً أننا نحن الرُسُل لا نملك أي شيء!”
- على الرغم من استخدام بولس للسخرية الاذعة، إلا أن هدفه ليس السخرية من مؤمني كورنثوس، بل هو يريدهم أن يتخلوا عن كبريائهم العنيد. “لقد كان يضحك عليهم ضحكًا مقدسًا، ولكن بازدراء تام لما كانوا يفعلونه.” مورغان (Morgan)
- وَلَيْتَكُمْ مَلَكْتُمْ: ألم يكن رائعًا لو كانوا قد ملكوا بالفعل؟ فيَمْلِكَ بولس أَيْضًا مَعَهُمْ!
- اللهَ أَبْرَزَنَا نَحْنُ: بدلاً من أن يكون الرُسُل قد شبعوا واستغنوا وملكوا كالملوك، عرضهم الله أمام الجميع وصاروا مَنْظَرًا مخزيًا لِلْعَالَمِ ولِلْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ. نظر مؤمنو كورنثوس إلى أنفسهم بتعالي، بينا وضع الله الرسل في آخر الصفّ.
- الصورة في كورنثوس الأولى ٩:٤ تشبه المدرج أو استعراض عسكري لجنرال روماني منتصر، حيث يقوم بعرض جيوشه أولاً والغنائم ثانيةً وفي نهاية الموكب الأسرى المهزومين الذين سيحكم عليهم بالموت في الساحة. وكما كان المصارعين يقولون قبل ذهابهم إلى الحلبة: “نحن الذين سنموت نقدم لكم التحية.” لذا فإن بولس الآن يُحيِّي مؤمني كورنثوس.
- كلمة ’مَنْظَرًا‘ هي (ثياترون theatron) التي يأتي منها الكلمة الإنجليزية (theater) أي المسرح. فعندما يقول بولس أننا قد صِرْنَا مَنْظَرًا لِلْعَالَمِ، فإنه يتحدث عن كيف تم إذلال الرسل علنًا. وكان هذا النوع من الإذلال مُرعبًا لكبرياء مؤمني كورنثوس.
- واجه مؤمنو كورنثوس مشكلتين: لقد كانوا فخورين بروحانيتهم وكانوا إلى حدٍ ما مُحرجين من بولس بسبب “ضعفه” وحاله المتواضع. ويحاول بولس هنا معالجة هاتين المشكلتين.
- نَحْنُ جُهَّالٌ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحُكَمَاءُ فِي الْمَسِيحِ! باستخدامه لتبايُن تلو الآخر، يُظهر بولس بسخرية جهل مؤمني كورنثوس الذين يعتقدون أنهم متميزون روحيًا ومُباركين ويملكون هبات أكثر من الرسل.
- نَجُوعُ وَنَعْطَشُ: إن وصف بولس لخدمته يرتكز على الحرمان والإذلال. فمثل هذه الأشياء أراد مؤمنو كورنثوس في كبريائهم أن يتجنبوها بأي ثمن.
- اليوم نجد الكنيسة مُثقلة بنفس توجُّه مؤمني كورنثوس. فمؤمنو كولوسي كانوا قلقين بشأن الصورة الدنيوية للنجاح والقوة واحتقر كثيرون منهم بولس والرسل الآخرين لأنهم لم يظهروا تلك الصورة. واليوم، لا يوجد نقص في الخُدام الذين يريدون اظهار الصورة الدنيوية للنجاج والقوة ولا يوجد نقص في المؤمنين الذين سيُقدّرن ذلك فقط في خادمهم.
- نَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا: في حبهم للحكمة اليونانية، اعتنق أهل كورنثوس الفكرة اليونانية التي مفادها أن العمل اليدوي كان مناسبًا للعبيد فقط، وإن عمل أحد رُسل الله بيديه يُسيء إليهم!
- يُفْتَرَى عَلَيْنَا فَنَعِظُ: يقول بولس أنه عندما كانوا يشوهون سُمعتهم كان الرسل يتعاملون بلطف معهم. وكان هذا أيضًا مهيناً بالنسبة للمثل الأعلى اليوناني؛ فقد كانوا يرون أن الرجل الذي لا يرد الإساءة بمثلها لا يُعد رجلاً.
- وَوَسَخِ كُلِّ شَيْءٍ: كان لدى بعض اليونانيين القدماء تقليد يتمثل في إلقاء بعض الأشخاص الذين لا قيمة لهم في البحر خلال فترة الوباء أو المجاعة بينما يقولون: “أنتم أوساخنا!” وقد أطلق على الضحايا اسم “المُخلّفات” اعتقاداً منهم بأنهم سيزيلون ذنب المجتمعات.
- ربما قصد بولس معنى مزدوج باستخدامه لكلمتي أَقْذَارِ وَوَسَخِ، فربما قصد أنه مُحتقر وضحية نيابة عنهم.
- صِرْنَا كَأَقْذَارِ الْعَالَمِ وَوَسَخِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى الآنَ: من المُحرج أن أقرأ وصف بولس لخدمته بينما أعمل أنا على جهاز كمبيوتر لطيف مُحاط بمئات الكتب. ولا سيما معرفة كم أود، مثل معظم الناس، أن أحظى باحترام وإعجاب العالم.
- فكر في سيرة بولس الرسول الذاتية: يتنقل من كنيسة إلى أخرى، يطرد من معظم المدن، يُتهم بإثارة الشغب، نادراً ما تدعمه الخدمة، يُلقى القبض عليه، يزج في السجن عدة مرات. من الذي سيُوظف بولس كراعي كنيسة؟
- مشكلتنا هي أننا نريد غالبًا طريقًا وسطًا: القليل من الشعبية والشهرة، لكن معهما مسحة الله. ونريد السلطة دون تكلفة. أصلي كي يساعدنا الله على اختيار طريق بولس، لأنه بالفعل هو طريق الله.
ثالثاً. تحذير بولس والتحدّي
أ ) الآيات (١٤-١٧): تأكيد بولس لحقه في التقويم كأب.
١٤لَيْسَ لِكَيْ أُخَجِّلَكُمْ أَكْتُبُ بِهذَا، بَلْ كَأَوْلاَدِي الأَحِبَّاءِ أُنْذِرُكُمْ. ١٥لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ، لكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ. ١٦فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي. ١٧لِذلِكَ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ تِيمُوثَاوُسَ، الَّذِي هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ وَالأَمِينُ فِي الرَّبِّ، الَّذِي يُذَكِّرُكُمْ بِطُرُقِي فِي الْمَسِيحِ كَمَا أُعَلِّمُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ.
- أُخَجِّلَكُمْ .. أُنْذِرُكُمْ: يعرف بولس أن مؤمني كورنثوس ربما يشعرون بالخزي الشديد بسبب سخريته اللاذعة، ولكنه كان يريدهم أن يعرفوا أنه لم يقل هذا تخجيلاً لهم، ولكن لتحذيرهم من خطر روحي كبير وهو الكبرياء.
- وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ: كان المُرشد أي “الوصي” أو “العبد المشرف” هو الذي يصطحب الأولاد من وإلى المدرسة ويُشرف على سلوكهم العام.
- لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ: كان للمُرشد سلطة شرعية، لكنها بالتأكيد ليست مثل سُلطة الأب. فكان بولس يتمتع بمكانة فريدة من السلطة والقيادة بين مؤمني كورنثوس، ليس فقط لأنه أب الكنيسة نفسها في كورنثوس (وَلَدْتُكُمْ بِالإِنْجِيلِ)، ولكن أيضًا بسبب سلطته الرسولية.
- نحن لا نملُك سلطة رسولية مثل هذه. فقيادة شخص ما إلى المسيح لا يمنحك سلطة خاصة على حياته، لكنها تمنحك علاقة خاصة معه.
- فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي: ربما يكون رد الفعل الأول لكثير من مؤمني كورنثوس هو الإشمئزاز الشديد. “نتمثل بك أنت، بولس؟ أنت تُعتبر أحمق وضعيف ومرفوض؛ أنت جائع وعطش، رث الثياب، بلا مأوى ومهزوم. أنت تعمل بجد لتدعم نفسك. ينظر إليك الناس فيرون قذارة ووَسَخ كل الأشياء. وتريدنا أن نتمثل بك؟”
- قد يجيب بولس: “نعم، تمثلوا بي. ليس بسبب كل هذه الصعوبات، ولكن على الرغم منها وغالباً بسببها، فإن مجد وقوة يسوع المسيح يشرقان من خلالي.”
- لأنهم لم يكونوا قد عرفوا الطباعة بعد في ذلك الوقت، لم يتمكن بولس من توزيع الكتب المقدسة عليهم، وكان على الناس أن يتعلموا الإنجيل من خلال ملاحظة حياته. ربما لم يكن هذا سيئًا في النهاية!
- أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ تِيمُوثَاوُسَ: يبدو أن تيموثاوس كان “حلال المشاكل” الرئيسي لدى بولس، فغالبًا ما كان يتم إرساله إلى الكنائس التي تعاني من مشاكل.
ب) الآيات (١٨-٢١): كيف تريدونني أن آتي إليكم؟
١٨فَانْتَفَخَ قَوْمٌ كَأَنِّي لَسْتُ آتِيًا إِلَيْكُمْ. ١٩وَلكِنِّي سَآتِي إِلَيْكُمْ سَرِيعًا إِنْ شَاءَ الرَّبُّ، فَسَأَعْرِفُ لَيْسَ كَلاَمَ الَّذِينَ انْتَفَخُوا بَلْ قُوَّتَهُمْ. ٢٠لأَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ لَيْسَ بِكَلاَمٍ، بَلْ بِقُوَّةٍ. ٢١مَاذَا تُرِيدُونَ؟ أَبِعَصًا آتِي إِلَيْكُمْ أَمْ بِالْمَحَبَّةِ وَرُوحِ الْوَدَاعَةِ؟
- فَانْتَفَخَ قَوْمٌ كَأَنِّي لَسْتُ آتِيًا إِلَيْكُمْ: كان بعض مؤمني كورنثوس متكبرين للغاية حتى أنهم ظنوا أن بولس كان يخشى زيارتهم. وظنوا أن بولس كان خائفاً منهم، مما جعلهم يشعرون يفتخرون أكثر.
- لَيْسَ كَلاَمَ الَّذِينَ انْتَفَخُوا بَلْ قُوَّتَهُمْ: إن مؤمني كورنثوس الذين أحبوا الكلمات الرنانة وصورتهم الناجحة كان لهم كَلاَمَ خاص، لكن بولس كان يتمتع بقوة الإنجيل الحقيقية. فالاختبار النهائي للحكمة هو القوة. فكلمة الصليب ليست فقط قادرة على إنارة العقل بل أيضاً على الخلاص الأخلاقي.
- فَانْتَفَخَ: يهدد بولس في الأساس بضرب فقاعات هذه الأكياس المُنتفخة.
- مَاذَا تُرِيدُونَ؟ يلقي بولس بالكرة في ملعبهم، فأي بولس تريدون أن يأتي إليكم: بولس مع عصا التصحيح (التي يستخدمها الرعاة لضرب الأغنام غير المطيعة) أم بولس بروح الوداعة؟ لا شك في أن بولس يفضل أن يأتي بالوداعة، لكنه سيترك هذا القرار لمؤمني كورنثوس.
- في هذا الجزء من الرسالة واجه بولس بعض التحديات الحقيقية للخدمة: كيف تواجه الخطية دون أن تكون قاسيًا للغاية أو أن توحي بأنك فوق الخطية؛ كيف تجعل الناس يُكيّفون حياتهم مع الإنجيل عندما يفكرون في أنفسهم بتعالي. وهذا عمل صعب والروح القدس هو الوحيد الذي يستطيع أن ينجزه!