رسالة يوحنا الأولى – الإصحاح ٤
الثبات في الله ومحبته
أولًا. روح الحق والحماية من روح الضلال
أ ) الآية (١): حقيقة وجود أنبياء زائفين والحاجة إلى امتحان الأرواح.
١أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لاَ تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ، بَلِ امْتَحِنُوا الأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ لأَنَّ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةً كَثِيرِينَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى الْعَالَمِ.
- لَا تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ: حذّر يوحنا من تصديق كُلَّ رُوحٍ. ويعني هذا أنه لا ينبغي أن نفترض أبدًا أن كل مصدر خبرة روحية أو أي إظهار للقوة الروحية هو من الله. فعلينا أن نمتحن الخبرات الروحية والظواهر الروحية لنرى إن كانت من الله حقًّا أم لا.
- يُعجب كثيرون ويُدهشون بشكل زائد بحقيقة العالم الروحي عندما يواجهونه لأول مرة حتى إنهم لا يسألون إن كانت الظواهر الروحية مِنَ اللهِ أم لا. ويؤدّي هذا إلى خداع سهل.
- بَلِ ٱمْتَحِنُوا ٱلْأَرْوَاحَ: هذا أمر مهم لِأَنَّ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةً كَثِيرِينَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ. رغم أنه كانت للكنيسة الأولى حياة قوية ومقدار كبير من النقاوة، إلا أن يوحنا عرف خطر الأنبياء الكذبة وأن رسالتهم كانت حقيقية في الكنيسة الأولى.
- ٱمْتَحِنُوا ٱلْأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ ٱللهِ؟ هذه مسؤولية كل مؤمن، وبشكل خاص قادة الكنيسة. فحسب رسالة كورنثوس الأولى ٢٩:١٤ (ولْيَحْكُمِ ٱلْآخَرُونَ)، وتسالونيكي الأولى ٢١:٥ (امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ، تَمَسَّكُوا بِٱلْحَسَنِ)، فإن امتحان الأرواح هو عمل جسد المسيح. ويتوجب عمل هذا باستخدام مواهب التمييز التي أعطاها الله للمؤمنين بشكل عام، وبشكل خاص قادة الكنيسة المحلية.
- يجب الحكم على كل النبوّات بمقاييس كتابية. ولا ينبغي أن تُقبَل لمجرد أنها قُدِّمت بصورة درامية أو من شخص معيّن. ونحن نثق بالمبدأ أن الله لا يمكن أن يناقض نفسه، ونحن نعرف ما قاله بالفعل في كلمته.
- تخبرنا رسالة بطرس الثانية ٢٠:١-٢١ أن كل نبوّة لا يمكن أن تأتي أبدًا مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ. ويعني هذا أنه سيكون اتفاق وتثبيت من جسد المسيح، رغم أنه ليس الجميع يتفقون أو يثبّتون على الأرجح.
ب) الآيات (٢-٣): كيف تعرف أن نبيًّا زائفًا يتكلم؟
٢بِهذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ، ٣وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ. وَهذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ الْمَسِيحِ الَّذِي سَمِعْتُمْ أَنَّهُ يَأْتِي، وَالآنَ هُوَ فِي الْعَالَمِ.
- كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ ٱللهِ: ستقدِّم النبوّة الصحيحة والتعليم الصحيح يسوع الحقيقي، كما يقدمه الكتاب المقدس. فكانت المسألة الملحة في زمن يوحنا إن كان يسوع جاء في جسد حقيقي من اللحم والدم. إذ قال معلمون كثيرون تأثّروا بالفكر الأغنوسي إنه رغم أن يسوع كان هو الله، إلا أنه ما كان ممكنًا أن يصبح كائنًا بشريًّا من دم ولحم، على أساس أنه لا يمكن أن تكون لله شراكة مع جسد مادي “غير نقي.”
- “يمكن أن توجَّه هذه العبارة ضد شكل ما من أشكال الهيئية (Docetism) التي قالت إن يسوع كان روحًا بدا فقط إنسانًا حقيقيًا.” بويس (Boice)
- تُنكر بعض الجماعات اليوم (كشهود يهوه والمورمون والمسلمون) أن يسوع هو الله. ولكن في الماضي البعيد، في زمن يوحنا الأقرب إلى حياة يسوع الفعلية وخدمته على الأرض، لم تكن لدى الناس مشكلة في كون يسوع الله. فكانت مشكلتهم الحقيقية في صعوبة تصديق أنه إنسان حقيقي. فقال ذلك التعليم الزائف إن يسوع هو الله فعلًا (وهو أمر صحيح)، لكنه كان يتظاهر بأنه إنسان حقيقي.
- ونحن اليوم متحمسون جدًّا للقول إن “يسوع هو الله” كما ينبغي. لكن هذا ليس أقل أهمية من أن نقول إن “يسوع إنسان” لأن ألوهة يسوع وناسوته جوهريان في أهميتهما للخلاص.
- كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ ٱللهِ: يعتقد بعضهم أن هذا هو الامتحان الوحيد للعقيدة الزائفة. وهو ليس كذلك، لكنه كان القضية المهمة التي كانت تمثل تحدّيًا للكنيسة في زمن يوحنا المباشر. واليوم، ربما نجد من يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَد، لكنه لا يعترف بأنه هو الله كما يعلّم الكتاب المقدس. وهم يقدّمون عقيدة زائفة لأنهم لا يقدمون يسوع الحقيقي، أي كما يقدّمه الكتاب المقدس.
- إن مبدأ تقديم يسوع الحقيقي أمر جوهري في أهميته لامتحان الأرواح. فلا يمكن أن يُعَد أي شخص يقدم يسوع زائفًا أو يقدم يسوع بطريقة غير أمينة مع الكتاب المقدس، نبيًّا حقيقيًّا.
- هنالك فضول كبير اليوم حول “يسوع الحقيقي.” فيقول أكاديميون كثيرون إنهم يريدون أن يكتشفوا”يسوع الحقيقي.” وعندما يقولون ذلك، فإن ما يقصدونه هو: “ليس يسوع الحقيقي هو يسوع الكتاب المقدس. فيسوع الكتاب المقدس وهم. وينبغي أن نكتشف يسوع الحقيقي وراء أساطير الكتاب المقدس.”
- ليس موقفهم هذا متسمًا بالجهل فحسب (متجاهلين الشرعية التاريخية للعهد الجديد)، إلا أنه ينمّ عن غطرسة أيضًا. فحالما يتجاهل الأكاديميون الشرعية التاريخية للعهد الجديد والكتابات القديمة الموثوقة الأخرى، فلا يملكون إلا أن يبنوا فهمهم ليسوع على رأيهم الشخصي الخاص. فهم يقدمون آراء بلا أساس كما لو أنها حقائق مبنية على البحث الدقيق الأمين.
- هَذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ ٱلْمَسِيحِ: إن إنكار يسوع الحقيقي أساس رُوحُ ضِدِّ ٱلْمَسِيحِ الذي ذكره يوحنا بالفعل في يوحنا الأولى ١٨:٢-٢٣. إنه الروح الذي يقاوم يسوع الحقيقي ويقدم يسوع بديلًا عنه.
- لا يهم إبليس إن كنت تعرف يسوع أو تحب يسوع أو تصلي ليسوع – ما دام ليس يسوع الحقيقي، يسوع وهميًّا، يسوع غير موجود، وبالتالي لا يمكنه أن يخلّصك.
- وَٱلْآنَ هُوَ فِي ٱلْعَالَمِ: رغم أن روح ضد المسيح لن يظهر بشكله النهائي المكتمل إلا في قائد سياسي اقتصادي في آخر الزمان، إلا أن جوهره موجود معنا اليوم. فهو موجود حيثما يُرَوَّج ليسوع زائف بدلًا من يسوع الكتاب المقدس.
ج) الآية (٤): حماية أبناء الله.
٤أَنْتُمْ مِنَ اللهِ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، وَقَدْ غَلَبْتُمُوهُمْ لأَنَّ الَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ الَّذِي فِي الْعَالَمِ.
- أَنْتُمْ مِنَ ٱللهِ أَيُّهَا ٱلْأَوْلَادُ، وَقَدْ غَلَبْتُمُوهُمْ: لا يلزم لأي ابن لله أن يخشى ضد روح المسيح، رغم أنه ينبغي أن يحذروا منه، لأن روح الله ساكن فيهم (يوحنا الأولى ٢٤:٣). فالروح القدس الساكن فيهم أَعْظَمُ مِنَ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ – من إبليس وكل أعوانه.
- لِأَنَّ ٱلَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ: لدى المؤمن مورد للانتصار، وهو حضور يسوع الساكن فيه، والذي يجعل الانتصار ممكنًا دائمًا – إذا اعتمدنا على الذي فينا بدلًا من الاعتماد على أنفسنا.
- يعطينا هذا الفهم ثقة عظيمة وقوة روحية. فبالنسبة للذين يسلكون في هذا الحق، فإن هذا النصر مضمون – وَقَدْ غَلَبْتُمُوهُمْ. وهذه عبارة إيجابية، وليست تمنّيًا أو أملًا.
- لِأَنَّ ٱلَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ: يعني هذا أنه لا مكان للخوف في قلب المؤمن. ورغم أن لدينا أعداء روحيون كثيرون، لكن ليس بينهم من هو أقوى من يسوع الساكن فينا.
- سبق أن أثار يوحنا فكرة العالم وكيف أنه يهدد الحياة المسيحية (يوحنا الأولى ١٥:٢-١٧). ولم يقدم ٱلْعَالَمِ بصفته الكرة الأرضية أو كل الكتلة البشرية التي يحبها الله (يوحنا ١٦:٣). فالعالم المقصود هو المجتمع البشري المتحد في تمرده على الله. وهنا، يقول يوحنا إن هنالك قوى روحية ظلامية ترشد ذلك ٱلْعَالَمِ وتؤثّر فيه.
د ) الآيات (٥-٦): مقابلة بين الذين من العالم والذين من الله.
٥هُمْ مِنَ الْعَالَمِ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ يَتَكَلَّمُونَ مِنَ الْعَالَمِ، وَالْعَالَمُ يَسْمَعُ لَهُمْ. ٦نَحْنُ مِنَ اللهِ. فَمَنْ يَعْرِفُ اللهَ يَسْمَعُ لَنَا، وَمَنْ لَيْسَ مِنَ اللهِ لاَ يَسْمَعُ لَنَا. مِنْ هذَا نَعْرِفُ رُوحَ الْحَقِّ وَرُوحَ الضَّلاَلِ.
- هُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ: من الواضح أن هؤلاء ينتمون إلى ٱلْعَالَمِ لأنهم يَتَكَلَّمُونَ كما يتكلم ٱلْعَالَمِ. فتأثير العالم واضح في كلامهم. فكما قال يسوع: “مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ ٱلْفَمُ.” (يوحنا ٣٤:١٢)
- وَٱلْعَالَمُ يَسْمَعُ لَهُمْ: من الواضح أنهم مِنَ ٱلْعَالَم، لأن ٱلْعَالَمُ يَسْمَعُ لَهُمْ. وهم لا يواجهون الرفض الذي يتعرض له أبناء الله (يوحنا الأولى ١:٣) لأنهم أصدقاء للعالم.
- وَٱلْعَالَمُ يَسْمَعُ لَهُمْ: يريد المؤمن على الدوام أن يخاطب العالم وأن يجلب رسالة المسيح له. وإنه لأمر مثير عندما يستمع العالم إلى رسالة الإنجيل. ولكن ينبغي أن نتنبّه إلى أنهم لا يسمعوننا لأننا نتكلم مِنَ ٱلْعَالَمِ. فلا يُثْبت مجرد استماع العالم إلى الرسالة أنها رسالة الله.
- فَمَنْ يَعْرِفُ ٱللهَ يَسْمَعُ لَنَا: يتمتع الذين من ٱللهَ بالشركة مع المؤمنين الآخرين. فهم يتكلمون اللغة نفسها مع الله والمؤمنين الآخرين، لأن أحدهم يتدفق من الآخر (يوحنا الأولى ٣:١).
- تتجاوز لغة الشركة اللغة أو الثقافة أو الطبقات الاجتماعية أو العِرق أو أي حاجز آخر. فهي هبة حقيقية من الله.
- زعمت الكنيسة الكاثوليكية أنها هي المقصودة بـ “لَنَا” في عبارة “فَمَنْ يَعْرِفُ ٱللهَ يَسْمَعُ لَنَا.” ولكن يوحنا لم يكن يتحدث إلا عن الرسل والإعلان الإلهي الموثوق في الكتاب المقدس عندما قال “لَنَا.” فعندما نعرف الله، ونكون من الله، فإننا نسمع ما يقوله الكتاب المقدس.
- “لو كان هذا المتكلم هنا مجرد فرد عادي، لكان ادّعاؤه تجاسُرًا. لكنه ليس كذلك. فهو واحد من الرسل الذين يقتبسون الشهادة الجماعية لكل الرسل ويجعلون تلك الشهادة قياس الحق والعقيدة القويمة.” بويس (Boice)
- وَمَنْ لَيْسَ مِنَ ٱللهِ لَا يَسْمَعُ لَنَا: يساعدنا فهمنا لمن يسمع ما علّمه الله من خلال الرسل من خلال ما دوّنوه في العهد الجديد أن نعرف رُوحَ ٱلْحَقِّ وَرُوحَ ٱلضَّلَالِ. فإذا سمع أحدهم ما قاله الله في الكتاب المقدس، فإننا نعرف أنه يمتلك رُوحَ ٱلْحَقِّ. وإن لم يسمعه، فإنه يمتلك رُوحَ ٱلضَّلَالِ.
- يوضح يوحنا أن للضلال ديناميكة روحية. فليست هذه مجرد مسألة كون المرء مثقّفًا أو ذكيًّا. إذ يمكن لبعض الأشخاص المثقفين جدًّا والأذكياء جدًّا أن يتأثّروا بروح الضلال. وبما أن للضلال ديناميكية روحية، فإن البقاء في روح الحق مسألة روحية.
- نحن نثْبتُ في روح الحق بالتمسك بيسوع، ذاك الذي قال: “أنا هو الحق.” (يوحنا ١٤:٦)
ثانيًا. المحبة المكَمَّلة بيننا
أ ) الآيات (٧-٨): الدعوة إلى المحبة.
٧أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ. ٨وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ.
- أَيُّهَا ٱلْأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ: يبدأ النص اليوناني بداية مذهلة: “أيها المحبوبون، أَحِبُّوا.” نحن لسنا مأمورين بأن يحب بَعْضُنَا بَعْضًا لنكتسب محبة الله أو لنكون جديرين بها. فنحن نحب بَعْضُنَا بَعْضًا لأننا محبوبون من الله، ولأننا تلقّينا هذه المحبة، ولأننا نحيا في نورها.
- لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، لِأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ ٱللهِ: إن توكيد يوحنا للمحبة بين شعب الله (كما يظهر في مقاطع مثل يوحنا الأولى ٩:٢-١١ و ١٠:٣-١٨) قوي جدًّا. وهو هنا يبيّن سبب أهميتها. فإن كانت ٱلْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ ٱللهِ، فعندئذٍ يتوجب على الذين يزعمون أنهم مولودون من الله، وأنهم يعرفون الله، أن يكونوا قادرين على أن يحب بعضهم بعضًا في جسد المسيح.
- ومرة أخرى، يصر يوحنا على أن شيئًا يعطى للمؤمن عندما يولد من الله، وهو محبة تُمنح لحياتهم لم تكن موجودة من قبل. فليس المؤمنون بالمسيح أشخاصاً “غُفِر لهم” فحسب، بل هم مولودون ثانية من روح الله.
- وَيَعْرِفُ ٱللهَ: هنالك عدة كلمات مختلفة في اليونانية القديمة تعني “يعرف.” وتعني كلمة “يعرف” (ginosko) هنا المعرفة الاختبارية. ويقول يوحنا إنه عندما نختبر الله حقًّا، سينعكس هذا على محبتنا بعضنا لبعض.
- وبطبيعة الحال، فإن هذه المحبة لا تكَمَّل في حياة المؤمن في هذه الحياة. ومع أنها غير مكمَّلة الآن، يتوجب أن تكون موجودة – وينبغي أن تنمو. فلا يمكنكم أن تنموا في خبرتكم بالله من دون أن تنموا في محبتكم بعضكم لبعض. ويقول يوحنا بجسارة: وَمَنْ لَا يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ ٱللهَ. فإن لم تكن هنالك محبة لشعب الله في حياتك، فإنّ زعْمك أنك تعرف الله وتختبره غير صحيح.
- لِأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ ٱللهِ: كلمة “المحبة” التي يتكلم يوحنا عن نفسها مأخوذة من الكلمة اليونانية القديمة أغابي، وهي تصور المحبة التي تعطي ذاتها وتعطي من دون مطالبة بثمن أو مقابل ولا تتوقع تسديد الدين. إنه حب إلهي.
- بما أن نوع هذه المحبة إلهيٌّ، فإنها تدخل حياتنا من خلال علاقتنا به. فإذا أردنا أن يحب بَعْضُنَا بَعْضًا أكثر، ينبغي أن نقترب إلى الله أكثر.
- كل علاقة بشرية مثل مثلث. والشخصان المنخرطان في العلاقة هما في قاعدة المثلث، بينما يكون الله في أعلى المثلث. وعندما يقترب الاثنان إلى أعلى المثلث، إلى الله، فإنهما يقتربان أحدهما إلى الآخر أكثر. وهكذا، فإن العلاقات الضعيفة تتقوى عندما يقترب كلا الشخصين أكثر إلى الرب.
- وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللهِ… وَمَنْ لَا يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ ٱللهَ: لا يعني هذا أن كل إظهار للمحبة في العالم لا يأتي إلا من مؤمن بالمسيح. فهنالك أشخاص غير مؤمنين بالمسيح يستطيعون أن يظهروا أعمال محبة.
- “لأن البشر مخلوقون على صورة الله، وهي صورة شوّهها السقوط ولم يقضِ عليها بشكل كامل، فإنهم يمتلكون القدرة على المحبة… غير أن المحبة البشرية، مهما كانت نبيلة ومدفوعة بدوافع سامية، إلا أنها تُقَصِّر إذا رفضت أن تشمل الآب والابن كالموضوعين الأسمى للمحبة.” مارشال (Marshall)
- لِأَنَّ ٱللهَ مَحَبَّةٌ: هذه حقيقة مجيدة. تصف المحبة معدن الله الأدبي وقلبه. فهو غني جدًّا بالمحبة والرأفة حتى إنها تصف كينونته ذاتها.
- عندما نقول إن ٱللهَ مَحَبَّةٌ، فإننا لا نقول بهذا كل شيء. فالمحبة جانب جوهري من معدنه الأدبي، وتلوّن كل جانب من طبيعته. لكنها لا تلغي قداسته أو بره أو عدالته. وبدلًا من ذلك، نعرف أن قداسة الله مُحِبة وأن بر الله مُحِب وأن عدالة الله مُحِبة. فكل ما يفعله الله يعبّر عن محبته بطريقة أو أخرى.
- “لا يبغض الله شيئًا صنعه. ولا يستطيع أن يبغض لأنه محبة. وهو يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلْأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلْأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ. ولم يخلق كائنًا بشريًّا من أجل هلاكه، ولم يجعل مستحيلًا أيضًا، بمرسوم مُلزِم، أن تجد نفس ساقطة رحمة. وقد أعطى برهانًا وافيًا لمحبته لكل الجنس البشري بتجسد الابن الذي ذاق الموت من أجل كل إنسان. فكيف يمكن لاتهامٍ بوجود مرسوم مطلق غير مشروط برفضه الجزء الأكبر، أو حتى أي جزء، من الجنس البشري أن يقف أمام نصّ كهذا؟” كلارك (Clarke)
- “لا تظن أبدًا أن أي إنسان بعيد عن متناول رحمة الله ما دام على قيد الحياة. وأنا أقف هنا لأكرز عن محبة الله التي لا حدود لها والنعمة غير المحدودة لأكثر الأشرار شرًّا، لأشخاص ليس فيهم ما يستحق الاعتبار من الله، أشخاص ينبغي أن يُجرفوا إلى الهاوية التي لا قرار لها فورًا إذا عوملوا بالعدل.” سبيرجن (Spurgeon)
- تحدث مشكلات كبيرة عندما نحاول أن نقول إن الله محبة. ويعود هذا إلى أن المحبة لا تُعَرِّف كل شيء في طبيعة الله الأدبية، ولأنه عندما يستخدم الناس كلمة المحبة، فإنهم لا يفكرون في المحبة الحقيقية، النوع الإلهي من المحبة، لكنهم يفكرون في قضاء يوم جميل من حب إسفنجي ضعيف بلا قوة، حب يثمِّن كون الشخص الآخر لطيفًا أكثر من رغبته في ما هو الأفضل حقًّا له.
- يخبرنا الكتاب المقدس أن الله روح (يوحنا ٢٤:٤) وأن الله نور (يوحنا الأولى ٥:١) وأن الله نار آكلة (عبرانيين ٢٩:١٢).
- ٱللهُ مَحَبَّةٌ: هنالك قلة قليلة من الناس الذين يعرفون حقًّا ويصدقون حقًّا أن ٱللهَ مَحَبَّةٌ. ولسبب ما، فإنهم لا يقبلون محبة الله ولا يسمحون لها بتغيير حياتهم بشكل جذري. ولكن معرفتنا محبة الله بهذه الطريقة تغير حياتنا بشكل جذري.
- “هنالك محبة في أماكن كثيرة، مثل أشعة الشمس المتجولة. لكن الشمس جزء واحد من السماء. ونحن ننظر إليها ونقول: ’هذا هو النور.‘ لم ينظر إلى كنيسة الله ويقُلْ عن أعداد المؤمنين التي لا تحصى، والذين يحسبون حياتهم عزيزة: ’هذه هي المحبة‘ لأن محبتهم مجرد انعكاس لسطوع محبة الشمس العظيمة.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٩-١١): معنى المحبة وتطبيقها.
٩بِهذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. ١٠فِي هذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا. ١١أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ أَحَبَّنَا هكَذَا، يَنْبَغِي لَنَا أَيْضًا أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا.
- بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ ٱللهِ فِينَا: أَنَّ ٱللهَ قَدْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ: يبيّن هذا ما هي المحبة وما تعنيها. ولا تُعرَّف المحبة بذبيحة يسوع (كما هو مذكور في يوحنا ١٦:٣) فقط، بل هي تعرَّف أيضًا بعطاء الآب. فكانت تضحية من الآب أن يرسل الأقنوم الثاني في الثالوث، وكانت تضحية أن يصب دينونته التي نستحقها نحن على الله الابن.
- ينبغي أن نقدّر بشكل وافٍ ونقبل محبة الله الأبوية التي أعطانا إياها. فيعتقد بعض المؤمنين، لسبب ما، أن الله بعيد ومتعالٍ ومتحفظ من جهتنا، وأنه ليس لطيفًا وهو الإله الغاضب في العهد القديم. ففي هذا التفكير الخطأ، يتخيل كثيرون أنهم يفضّلون يسوع اللطيف والمحب بدلًا منه. لكن الآب يحبنا أيضًا، والمحبة التي أظهرها يسوع في خدمته هي نفس المحبة التي يحبنا بها الآب. ويمكننا أن نقبل القوة الشفائية في محبة الله لنا.
- أَنَّ ٱللهَ قَدْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ (المولود) ٱلْوَحِيدَ إِلَى ٱلْعَالَمِ: يحرص يوحنا على أن يدعو يسوع الابن المولود الوحيد. يعني هذا التعبير الخاص أن بُنُوّة يسوع فريدة (ٱلْوَحِيد)، وتشير الكلمة إلى أن يسوع والآب من نفس الجوهر، نفس الكينونة الجوهرية.
- نستخدم كلمة “يخلق” لوصف شيء ربما جاء من شخص ما، لكنه لا يملك نفس الطبيعة أو الكينونة الجوهرية. فيمكن لإنسان أن يخلق تمثالًا يشبهه، لكنه لن يكون إنسانًا. غير أننا نستخدم كلمة “يلد” أو “يُنجب” لوصف شيء مثلنا تمامًا في طبيعته وكينونته الجوهرية. نحن أبناء وبنات متبنّون من الله، لكن ليس لدينا طبيعته وكينونته الجوهرية – فنحن كائنات بشرية. لكن يسوع هو الابن المولود الوحيد، بمعنى أن بُنُوّته مختلفة عن بُنُوّتنا نحن. فقد كان وما يزال من نفس طبيعة الله وكينونته الجوهرية. نحن كائنات بشرية، بينما يسوع كائن إلهي أضاف ناسوتًا إلى ألوهته.
- لِكَيْ نَحْيَا بِهِ: لم تتمثل محبة الآب لنا في إرسال الابن فحسب، بل في ما ينجزه هذا الإرسال من أجلنا أيضًا. فهو يجلب حياة لكل الذين يتكلون على يسوع وعمله من أجلهم، لأنه جاء كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا.
- تحمل “الكفارة” فكرة ذبيحة تصرف غضب الله عنا. لقد عدَّنا الله بحق، بمعزل عن يسوع، أهدافًا تستحق الدينونة. كنا متمردين وأعداء له، حتى ولو لم نكن نعرف ذلك. لكن يسوع أخذ على الصليب العقاب الذي تستحقه خطايانا. إذ أبعدت ذبيحته الدينونة التي كنا سننالها لولا ذلك. ونحن نفكر بسهولة كيف أن هذا يبيّن محبة يسوع، لكن يوحنا يريدنا أن نعرف أن هذا يبيّن محبة الآب أيضًا. لقد أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ٱبْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا.
- لِكَيْ نَحْيَا بِهِ: لا تظهر عظمة محبة الله في تخليصنا من الدينونة التي كنا نستحقها فحسب، بل أيضًا في رغبته في أن نَحْيَا بِهِ. فهل تحيا به؟ فهذه طريقة رائعة لوصف الحياة المسيحية – أن نَحْيَا بِهِ.
- أَنَّ ٱللهَ قَدْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ: يبيّن هذا محبة الله، لأن المحبة تعطينا أفضل ما لديها. فلم يكن لدى الآب شيء أفضل يعطيه للبشرية الهالكة من ابن الله نفسه كهبة. وكما يصفها بولس في رسالته الثاني إلى أهل كورنثوس ١٥:٩، كان يسوع عَطِيَّتِهِ (عطية الآب) ٱلَّتِي لَا يُعَبَّرُ عَنْهَا.
- “إن كان هنالك من ضرورة للمصالحة بين الله والإنسان، كان على الإنسان أن يرسل طلبًا لله. فعلى المسيء أن يقدم طلبًا للغفران. وعلى الضعيف أن يلتمس العون من القوي. وعلى المسكين أن يتوسل لمن يوزع الصدقات. لكن، فِي الله المُحب هو من أرسل وقدم. فكان أول من يرسل وفدًا للسلام.” سبيرجن (Spurgeon)
- هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ٱبْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا: يبيّن هذا محبة الله. ربما أظهر الله محبة بما يكفي بإرساله للابن، وليس بإرسال ملاك من درجة دنيا. لكنه أرسل الابن، لا في إرسالية رأفة لتَقَصّي الحقائق – أرسل الابن ليموت من أجلنا.
- “لو أن الله أرسل يسوع ليعلّمنا عن نفسه، لكان ذلك رائعًا بما يكفي. ولكان هذا أكثر بكثير مما نستحق. ولو أرسل الله يسوع ليكون مثالًا لنا، لكان هذا جيدًا أيضًا ولكان فيه بعض القيمة… لكن الأمر الرائع أن الله لم يتوقف عند هذه الأمور. بل أرسل الابن، لا ليعلّمنا أو ليكون مثالًا لنا فحسب، بل ليموت ميتة مجرم لكي يخلصنا من الخطية أيضًا.” بويس (Boice)
- لِخَطَايَانَا: يبيّن هذا محبة الله. فقد بذل ابنه ليموت، وليموت لأجل الخطاة. ويمكننا أن نفكر في شخص يدفع ثمنًا باهظًا ليخلص شخصًا جديرًا بالإنقاذ، شخصًا صالحًا، شخصًا نبيلًا، شخصًا فعل الكثير من أجله. لكن الله فعل ذلك من أجل متمردين، من أجل خطاة، من أجل الذين أداروا ظهورهم له.
- “لكن من منكم يمكن أن يفكر في التخلي عن ابنه من أجل عدوه لشخص لم يقدم له خدمة واحدة بل عامله بجحود وصدّ ألف مبادرة متسمة بالرقة والحنان وواصل عناده وتصلُّبه؟ لا أحد يفعل هذا.” سبيرجن (Spurgeon)
- فِي هَذَا هِيَ ٱلْمَحَبَّةُ: لا تُعرَّف أو تُحَدد المحبة الحقيقية، محبة أغابي، بمحبتنا لله. فمحبته لنا هي التي أنشأت علاقة محبتنا له. ومحبتنا له مجرد استجابة لمحبته لنا. ولا يمكننا أن نحب الله كما ينبغي ما لم نتلقَّ محبته ونَعِشْها.
- لا تقول محبتنا لله شيئًا عظيمًا عنا، لأنها مجرد استجابة عاقلة لمعرفتنا بالله وقبولها.
- إِنْ كَانَ ٱللهُ قَدْ أَحَبَّنَا هَكَذَا: بعد أن قبِلنا هذه المحبة من الله، فإننا مأمورون بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا. فكان نمط الأخذ من الله ثم إعطاء الآخرين مألوفًا ليوحنا (يوحنا ١٤:١٣).
- عندما قام يسوع بغسل أقدام تلاميذه وأظهر محبة وروح خدمة عظيمتين لهم، ربما توقّعنا أن يختتم بالإشارة إلى قدميه سائلًا من منهم كان مستعدًّا أن يفعل من أجله نفس ما فعله من أجلهم. وبدلًا من ذلك، قال يسوع: “فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا ٱلسَّيِّدُ وَٱلْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ.” (يوحنا ١٤:١٣) فالطريقة الملائمة لأن نحب الله استجابة لمحبته لنا هي أن يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا.
- تؤدي هذه المحبة إلى التطبيق العملي. “هل أساء إليك أحد؟ اسعَ إلى التصالح معه. وإذا اعترضتَ قائلًا: ’لكني أنا المُساء إليه!‘ كذلك كان الله، وقد جاء إلينا مباشرة وسعى إلى المصالحة. أخي، افعل نفس الشيء. وإذا اعترضتَ قائلًا: ’لقد تعرضتُ للإهانة!‘ كذلك كان الله. فكانت كل مساوئنا موجهة إليه، لكنه بادر فأرسَل. وإذا اعترضتَ قائلًا: ’لكن الطرف الآخر غير مستحق!‘ فكذلك أنت. ولكن الله أحبَّك وأرسل ابنه. فابدأ بالكتابة حسب هذه النسخة.” سبيرجن (Spurgeon)
- إن لم يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، فكيف يمكننا أن نقول إننا تلقّينا محبة الله وأننا مولودون منه؟ فالمحبة هي البرهان الذي تَعلَّمْنا أن نبحث عنه. فإذا كانت لديك ماسورة مسدودة، سيتدفق الماء إليها دائمًا، لكنه لن يخرج منها أبدًا. فهذه الماسورة عديمة الفائدة. ولهذا أنت تستبدلها. وبنفس الطريقة، فإن الله يضع محبته في قلوبنا لكي تتدفق منها. نريد من الله أن ينظفنا ويملأنا حتى تتدفق محبته من خلالنا.
ثالثًا. طبيعة علاقة المحبة بالله
أ ) الآية (١٢): رؤية الله من خلال دليل المحبة.
١٢اَللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ. إِنْ أَحَبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَاللهُ يَثْبُتُ فِينَا، وَمَحَبَّتُهُ قَدْ تَكَمَّلَتْ فِينَا.
- ٱللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ: يطرح يوحنا مبدأ أساسيًا حول الله الآب – ٱللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ (أي أحد) قَطُّ. وإن من يدعي أنه رأى الله الآب فإنه في أحسن الأحوال يتحدث من خياله الخاص، لأن يوحنا يصرح بوضوح أن ٱللهَ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ.
- كتب بولس عن الله الآب في تيموثاوس الأولى ١٧:١ “مَلِكُ ٱلدُّهُورِ ٱلَّذِي لَا يَفْنَى وَلَا يُرَى.” وأعلن يسوع أن الله الآب روح (يوحنا ٢٤:٤)، ما يعني أنه لا يوجد لله الآب جسم محسوس يمكن أن يُرى.
- يفترض أن تجعلنا معرفتنا بأن الله الآب لا يُرى أكثر تواضعًا في علاقتنا به. فليس الله الآب معروفًا لنا بشكل تام. ولا يمكننا أن نفهم الله بشكل كامل أو أن نعرف كل أسراره. فهو ليس في متناولنا.
- وبطبيعة الحال، لم يرَ أحد الله الروح القدس قط مع أنه مثَّلَ نفسه بطرق متنوعة. ومن المؤكد بالقدر نفسه أن الله الابن، يسوع المسيح، قد رُئِيَ، حيث شهد يوحنا نفسه على هذه الحقيقة في يوحنا الأولى ١:١-٣. أما عن الله الآب، فإنه يمكن أن يقال بحق: ٱللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ.
- “لم تتضمن الظهورات الإلهية في العهد القديم، بما في ذلك العبارة المتناقضة ظاهريًّا في خروج ١٠:٢٤ إعلانًا كاملًا لله كما هو في نفسه، لكن لمحة من طبيعته بشكل يمكن أن يفهمه إنسان.” بويس (Boice)
- إِنْ أَحَبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَٱللهُ يَثْبُتُ فِينَا: هذا هو أعظم دليل على حضور الله وعمله فينا – المحبة. وبما أنه لم يرَ أحد الله قط، فإن هذا يقدم دليلًا على حضور الله.
- يعتقد بعضهم أن أعظم دليل على حضور الله أو عمله هو قوته. ويعتقد آخرون أن أعظم دليل على حضور الله أو عمله هو الشعبية. ويعتقد آخرون أن أعظم دليل على حضور الله أو عمله هو المشاعر القوية. ولكن أعظم دليل على حضور الله أو عمله هو المحبة. فحيثما يحضر الله ويعمل ستكون هنالك محبة.
- بدا يسوع أحيانًا ضعيفًا ومفتقرًا إلى القوة، لكنه كان على الدوام ممتلئًا بالمحبة. ولم يلهم يسوع أحيانًا مشاعر مشبوبة على الإطلاق في الناس، لكنه كان على الدوام ممتلئًا بالمحبة. كانت المحبة الدليل الثابت والأعظم على حضور الله وعمله في يسوع المسيح.
- وَمَحَبَّتُهُ قَدْ تَكَمَّلَتْ فِينَا: الكلمة اليونانية القديمة المترجمة إلى “تَكَمَّلَتْ” هي (Teleioo) وهي لا تعني “أصبحت كاملة” بقدر ما تعني “أصبحت ناضجة” و”تامة.” فإِنْ أَحَبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، فإن محبة الله “ناضجة” و”تامة” فينا.
- يعود يوحنا إلى الفكرة المألوفة: إن كنا نسلك في محبة الله لنا، فسيكون هذا واضحًا في محبتنا بعضنا لبعض.
- سيتسم المؤمن بالمسيح بالمحبة. ومرة أخرى، ليس المعيار الحقيقي للنضج صورة القوة أو الشعبية أو المشاعر المشبوبة، بل حضور محبة الله الساكن في حياتنا، والتي نقدمها للآخرين.
ب) الآيات (١٣-١٥): توكيد عمل الله ثلاثي الأقانيم فينا.
١٣بِهذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا نَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِينَا: أَنَّهُ قَدْ أَعْطَانَا مِنْ رُوحِهِ. ١٤وَنَحْنُ قَدْ نَظَرْنَا وَنَشْهَدُ أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَ الابْنَ مُخَلِّصًا لِلْعَالَمِ. ١٥مَنِ اعْتَرَفَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ، فَاللهُ يَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِي اللهِ.
- نَعْرِفُ أَنَّنَا نَثْبُتُ فِيهِ: بدأ يوحنا هذه العبارة بـتعبير “بِهَذَا” وهو بهذا يربط فكرة هذه الآية بشكل مباشر بالآية السابقة. يمكننا أن نعرف باختبارنا أننا نحيا (نثبت) في الله، إذا تَكَمَّلَتْ مَحَبَّتُهُ فِينَا. ونحن نعرف أن مَحَبَّتَهُ قَدْ تَكَمَّلَتْ فِينَا إِنْ أَحَبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا.
- يستطيع المؤمنون بالمسيح أن يقولوا: “نحن نَعْرِفُ.” فليسوا مضطرين إلى أن يقولوا: “نحن نأمل أننا مخلّصون، ونحن نأمل أن نصل إلى السماء،” من دون الحصول على توكيد الخلاص قبل أن ينتقلوا من هذا العالم إلى الآخر. فيمكننا أن نَعْرِفَ، ويمكننا أن نَعْرِفُ الآن ونحن موجودون في هذه الحياة.
- أَنَّنَا نَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِينَا: ليس ثباتنا في يسوع أمرًا أُحادي الجانب بحيث نكافح حتى نثبت فيه وهو يحاول أن يتملص منا. فكما أنه صحيح أَنَّنَا نَثْبُتُ فِيهِ، فإنه يثبت فِينَا أيضًا.
- قال يسوع في يوحنا ٤:١٥ “اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ.” وقال في يوحنا ٧:١٥ “إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كَلَامِي فِيكُمْ.” فمن الطرق التي يثبت (يحيا، يسكن) يسوع فينا هي كلمته، الكتاب المقدس.
- قَدْ أَعْطَانَا مِنْ رُوحِهِ: يطرح يوحنا مسألة عمل الروح القدس فينا عند هذه النقطة من أجل إيضاح نقطتين ذات صلة. أولًا، إن روح الله القدوس فينا هو حضور يسوع الثابت فينا – فحضور الروح القدس هو الكيفية التي بها يثبت فينا يسوع. ثانيًا، فإن شهادة الروح القدس في داخلنا هي التي تمكننا من أن نَعْرِفَ أَنَّنَا نَثْبُتُ فِيهِ. فكما يقول بولس في رومية ١٦:٨ “اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لِأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلَادُ ٱللهِ.” فالروح القدس هو الذي يعطينا هذا التوكيد.
- وَنَحْنُ قَدْ نَظَرْنَا وَنَشْهَدُ: يتحدث يوحنا في هذه الآية بلغة المتكلم الجمع (نَحْنُ)، وهو يشير بها إلى تلاميذ يسوع الذين رأوا يسوع في الأصل، وهم شهود على حضوره، ويشهدون عنه الآن. فقد عرف هؤلاء أَنَّ ٱلْآبَ قَدْ أَرْسَلَ ٱلِٱبْنَ مُخَلِّصًا لِلْعَالَمِ.
- وَنَحْنُ قَدْ نَظَرْنَا وَنَشْهَدُ: يتحدث يوحنا بصفته شخصًا يمتلك روح الله (قَدْ أَعْطَانَا مِنْ رُوحِهِ)، ويعلن ثلاث حقائق جوهرية عن هوية الله أو كينونته والكيفية التي يخلصنا بها.
- أَنَّ ٱلْآبَ قَدْ أَرْسَلَ ٱلِٱبْنَ.
- أَنَّ ٱلْآبَ قَدْ أَرْسَلَ ٱلِٱبْنَ مُخَلِّصًا لِلْعَالَمِ.
- أنّ معرفتنا وفَهْمنا ليسوع هو أساس ثباتنا فيه (مَنِ ٱعْتَرَفَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱللهِ، فَٱللهُ يَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِي ٱللهِ).
- مَنِ ٱعْتَرَفَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱللهِ، فَٱللهُ يَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِي ٱللهِ: لا يكفي أن نعرف الحقائق حول هوية يسوع وطبيعته وكينونته. إذ يتوجب أن نعترف بالحق أيضًا. والفكرة وراء كلمة “يعترف” هي أن “نكون على اتفاق مع…”. إذ يتوجب علينا أن نتفق مع الله حول هوية يسوع وأن نكتشف ما يقوله الله عن يسوع من خلال كلمته. فأنت قد تعرف شيئًا من دون أن تتفق حوله. ويطالب الله منا أن نتفق معه اتفاقًا حقيقيًّا.
- رغم أن يوحنا كتب الكثير عن المحبة، إلا أنه لا يتجاهل مسألة الحق. لا يعتقد يوحنا أنه أمر كافٍ أن يمتلك شخص نوعًا ما من المحبة في حياته من دون أن يعْتَرِفَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱللهِ. فليست القضية قضية الاختيار بين المحبة والحق. إذ يتوجب علينا أن يكون لدينا كلاهما.
- “ليس الإقرار بأن يسوع هو ابن الله ببساطة تقديم بيان حول منزلته الميتافيزيقية، بل هو التعبير عن اتكال متسم بالطاعة على ذاك الذي يمتلك تلك المنزلة.” مارشال (Marshall)
- “ليس الإيمان بيسوع أو محبة الإخوة شرطين لكي نثبت في الله، بل هما دليلان على حقيقة أن الله قد امتلك حياتنا بالفعل ليجعل هذا الأمر ممكنًا.” بويس (Boice)
ج) الآية (١٦): استجابة المؤمن لله ولمحبته.
١٦وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي لِلهِ فِينَا. ٱللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي ٱللهِ وَٱللهُ فِيهِ.
- نَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي لِلهِ فِينَا: هذه هي استجابة المؤمن الملائمة لهوية الله وكيفية محبته لنا. ونحن مطالبون أن نأخذ المحبة والنعمة اللتين يعطينا الله إياهما، وأن نعرفهما بالخبرة، وأن نصدقهما. هذا هو هدف الشركة مع الله.
- يستجيب الناس لمحبة الله بطرق مختلفة.
- يستجيب بعضهم بشعور بالتفوق الذاتي (أنا عظيم جدًّا حتى إن الله يحبني!).
- يستجيب بعضهم بالشك (هل من المعقول أن يحب الله شخصًا مثلي؟).
- يستجيب بعضهم بطريقة شريرة (الله يحبني، ولهذا سأفعل كل ما يحلو لي).
- يستجيب بعضهم بمعرفة اختبارية مصدقين ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي لِلهِ فِينَا.
- يتوجب على المؤمن أن يعرف ويصدق ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي لِلهِ فِينَا. فينبغي أن نضع في اعتبارنا ما يمكن أن يجعلنا نتوقف عن تصديق أن الله يحبنا. وقد عرف بولس أنه ما من شيء يمكن أن يفصله عن محبة المسيح التي في يسوع المسيح (رومية ٣٥:٨-٣٩). ويفترض أن يمتلك كل مؤمن نفس هذه الثقة.
- “أن تشعر بمحبة الله أمرٌ ثمين جدًّا، لكن أن تؤمن به عندما لا تشعر بذلك فإن هذا أنبل شيء.” سبيرجن (Spurgeon)
- يستجيب الناس لمحبة الله بطرق مختلفة.
- وَمَنْ يَثْبُتْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي ٱللهِ وَٱللهُ فِيهِ: إن المؤمن الذي يتمتع بهذا النوع من العلاقة بالله “سيُغَطَّس” فعليًّا في محبة الله. وستصبح هذه المحبة بيئته ومكان سُكناه.
د ) الآيات (١٧-١٨): تكميل المحبة الآن وفي الأبدية معًا.
١٧بِهذَا تَكَمَّلَتِ الْمَحَبَّةُ فِينَا: أَنْ يَكُونَ لَنَا ثِقَةٌ فِي يَوْمِ الدِّينِ، لأَنَّهُ كَمَا هُوَ فِي هذَا الْعَالَمِ، هكَذَا نَحْنُ أَيْضًا. ١٨لاَ خَوْفَ فِي الْمَحَبَّةِ، بَلِ الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرَحُ الْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ لأَنَّ الْخَوْفَ لَهُ عَذَابٌ. وَأَمَّا مَنْ خَافَ فَلَمْ يَتَكَمَّلْ فِي الْمَحَبَّةِ.
- تَكَمَّلَتِ ٱلْمَحَبَّةُ: لا يستخدم يوحنا كلمة (Teleioo) للتعبير عن كلمة “تَكَمَّلَت” هنا التي تحمل معنى النضج والتمام. لكنه يستخدم تعبير (teleioo teleioo) والذي يتحدث عن محبة “تَكَمَّلَت بشكل كامل” أو “تُمِّمت بشكل تام”.
- فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ: أي عندما يظهر اكتمال عمل المحبة فينا. وبقدر ما يمكننا أن نعرف اكتمال محبة الله الآن، سنعرفها بشكل أوفى فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ.
- يمكنك أن تعرف أنك خاطئ الآن. وستعرف هذا فعلًا فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ.
- يمكنك أن تعرف أنك لست شخصًا أفضل من أولئك الذين سيذهبون إلى الجحيم. وستعرف هذا فعلًا فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ.
- يمكنك أن تعرف حقيقة الجحيم الآن. وستعرف هذا فعلًا فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ.
- يمكنك أن تعرف عظمة خلاص يسوع الآن. وستعرف هذا فعلًا فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ.
- أَنْ يَكُونَ لَنَا ثِقَةٌ فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ: يبيّن هذا عظمة عمل الله فينا. فربما نرضى بمجرد النجاة فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ، لكن الله يريد أن يملأنا بمحبته وحقه إلى درجة أَنْ يَكُونَ لَنَا ثِقَةٌ فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ.
- يقول الكتاب المقدس إنه ذات يوم، سيجتمع كل البشر أمام كرسي الله الأبيض العظيم ويواجهون الدينونة. وهذا اليوم آتٍ! “إن يوم الدين ثابت في جدول الله الأزلي كأي يوم آخر في تاريخ العالم.” بويس (Boice)
- يظن بعضهم أنهم سيذهبون إلى هناك وسيقاضون الله قائلين: “عندما أرى الله، لديّ بعض الأسئلة له!” لكن هذا هراء. فالطريقة الوحيدة لأن يَكُونَ لَنَا ثِقَةٌ فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ هي أن نقبل محبة الله المغيِّرة لنا بشكل جذري اليوم، وأن نسلك فيها.
- ثِقَةٌ فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ: كيف يمكن لأي أحد أن يمتلك مثل هذه الثقة؟ يمكننا أن نتخيل يسوع جسورًا أمام عرش الله، لكن ماذا عنا؟ لكن إذا كنا نَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِينَا (يوحنا الأولى ١٣:٤)، عندئذٍ ستكون هويتنا مرتبطة بيسوع ومتضمَّنة فيه: لِأَنَّهُ كَمَا هُوَ فِي هَذَا ٱلْعَالَمِ، هَكَذَا نَحْنُ أَيْضًا.
- كيف يسوع الآن؟ إنه ممجد ومبرر وبار وجسور إلى الأبد، جالسًا عن يمين الله الآب. ومن ناحية روحية، يمكننا أن نتمتع بنفس وضعه الآن بينما نحن فِي هَذَا ٱلْعَالَمِ لِأَنَّهُ كَمَا هُوَ فِي هَذَا ٱلْعَالَمِ، هَكَذَا نَحْنُ أَيْضًا.
- من المؤكد أن هذا المجد الذي فينا الآن موجود على شكل “بذرة” فقط. فلم يتطور بعد إلى ما سيكون عليه. لكنه موجود، وتُظهر حضوره هذا محبتنا بعضنا لبعض واتفاقنا على الحق الإلهي – ومن شأن هذا أن يساعد في إعطائنا ثقة.
- لَا خَوْفَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ: تعني اكتمال المحبة أننا لا نجبن خوفًا أمام الله، مرتعبين من دينونته، سواء أكان ذلك الآن أم فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ. ونحن نعرف أن كل الدينونة التي كنا نستحقها – ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا – وُضِعت على يسوع المسيح على الصليب.
- لكن ماذا عن النصوص الكثيرة في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد (مثل جامعة ١٣:١٢ وبطرس الأولى ١٧:٢) التي تخبرنا أنه ينبغي لنا أن نخاف الله؟ ليس الخوف الذي يتحدث عنه يوحنا هنا التوقير الملائم الذي يجب أن نقدمه جميعًا لله، لكنه خوف يتضمن عذابًا – أي أنه خوف مُعَذِّب يسلب من نفسنا كل فرح وثقة أمام الله. وهو خوف يأتي بالمقابل مع ثقتنا فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ.
- وَأَمَّا مَنْ خَافَ فَلَمْ يَتَكَمَّلْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ: إذا كانت علاقتنا بالله متسمة بهذا الخوف المُعَذِّب، فإن هذا يبيّن أننا لم نتكمَّلْ في المحبة. محبتنا تامّة وناضجة.
- كان تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) رجلًا كرز بكل مشورة كلمة الله، وكان يحرص على أن لا يكرر نفسه بشكل مفرط في أية ناحية واحدة. غير أنه وعظ خمس عظات رائعة حول هذه الكلمات القليلة وحدها.
هـ) الآية (١٩): سبب محبتنا ليسوع.
١٩نَحْنُ نُحِبُّهُ لِأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلًا.
كان تشارلز سبيرجن رجلًا يعظ بِكُلِّ مَشُورَةِ اللهِ، وكان حريصًا ألا يكرر كلامه بشكل مُغالٍ في أي موضوع. ومع ذلك، فقد ألقى بخمس عظات رائعة حول هذه الكلمات وحدها. التعليقات التالية مستمدة من عظة سبيرجن حول هذه الآية.
- نَحْنُ نُحِبُّهُ: يبدأ يوحنا في هذه العبارة العظيمة بإعلان كل قلب حقيقي ليسوع المسيح. ويقول ببساطة وجرأة: نَحْنُ نُحِبُّه.
- هذه حقيقة لكل تابع حقيقي ليسوع. “لا يوجد استثناء لهذه القاعدة. إن كان شخص لا يحب الله، فإنه غير مولود من الله. أرِني نارًا من دون حرارة، ثم أرِني تجديدًا لا ينتج محبة لله.” سبيرجن (Spurgeon)
- إنه أمر ينبغي لكل مؤمن بالمسيح أن يعلنه: “أنا أحبه. أحب يسوع.” هل يمكنك أن تقول ذلك؟ هل يُحرجك قول ذلك؟ هل تستطيع أن تقول: “أنا أحب يسوع”؟
- “لا أستطيع أن أتخيل شخصًا يقول: ’أنا أحب المسيح، لكني لا أريد أن يعرف الآخرون أني أحبه لئلا يضحكوا عليّ.‘ فهذا أمر يدعو إلى الضحك أو إلى البكاء عليه. هل تخشى أن يضحكوا عليك؟ هذا خوفٌ جبانٌ حقًّا، يا سيدي.” سبيرجن (Spurgeon)
- “انظر عبر صفحات التاريخ كلها واطرح سؤالًا على أنبل الرجال والنساء: ’من يحب يسوع؟‘ وفي الحال، تتعالى من زنازن مظلمة ورفوف قاسية صرخة المعترفين: ’نحن نحبه.‘ ومن أعمدة ملتهبة، حيث صفقوا بأيديهم ترحيبًا وهم يُحرَقون حتى الموت، يخرج الجواب نفسه: ’نحن نحبه.‘ لو كان بإمكانك أن تمشي أميالًا في سراديب الموتى في روما، ولو قُدِّرَ للمقدَّسين الموتى الذين يقبع رفاتهم هناك أن يستيقظوا فجأة، فإنهم سيهتفون جميعًا: ’نحن نحبه.‘ كان أفضل الرجال وأَشْجعهم، وأنبل النساء وأنقاهنّ، بين هذه الصحبة المجيدة. ولهذا، من المؤكد أنك لن تخجل من أن تتقدم إلى الأمام وتقول: ’ضعوا اسمي بين أسمائهم.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- “كن مكرّسًا له بشكل كامل. أظهر للعيان ألوانك ولا تُخْفِها أبدًا. بل سمِّرْها عاليًا على الصاري، وقل لكل الذين يستهزئون بالقديسين: ’إن كانت لديكم كلمات سيئة تود أن توجهوها إلى أتباع المسيح، اسكبوها عليَّ أنا… لكن اعرفوا ذلك – ستسمعونها مني سواء أأحببتم ذلك أم لم تحبوه – ’أنا أحب يسوع.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلًا: لا تعلن هذه الآية عن محبتنا ليسوع فحسب، بل تخبرنا أيضًا متى أحبنا. يتخيل بعضهم أن يسوع أحبنا لأنه عرف أننا سنحبه وأننا سنؤمن به. لكنه أحبنا قبل ذلك، وحتى قبل خلق العالم، عندما كان وجودنا في فكر الله وقلبه، أحبنا يسوع.
- أحبّنا ونحن بعد خطاة: “لم يأتِ كل شخص حصل على الخلاص إلى الله كعاشق لله، وبعد ذلك آمن بمحبة الله له كخاطئ.” سبيرجن (Spurgeon)
- “لقد أَحبَّك الله عندما كنت تعيش بلا مبالاة، وعندما كنتَ تهمل كلمته، وعندما لم تكن تحني ركبتيك للصلاة. لقد أحبَّ بعضكم وهم في محلات الرقص وفي الملاهي وحتى في بيوت الدعارة. لقد أحبَّك عندما كنت عند بوابة الجحيم، وأنت تجرع الخمر اللعينة كل ليلة. أحبك عندما لم يكن بمقدورك أن تكون أسوأ مما كنت عليه أو أن تقطع شوطًا أبعد مما وصلت من الشر. يا يسوع، محبتك مذهلة وغريبة.” سبيرجن (Spurgeon)
- نَحْنُ نُحِبُّهُ لِأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلًا: تخبرنا هذه الآية من أين تنبع محبتنا. فمحبتنا لله تأتي دائمًا كاستجابة لمحبته لنا. فهو يبادر ونحن نستجيب. ونحن لا نبادر أبدًا إلى الاقتراب إليه. بل هو الذي يقترب إلينا.
- “١. نَحْنُ نُحِبُّهُ لِأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلًا. ٢. نحن نحبه من إحساس بالالتزام والعرفان بالجميل. ٣. نحن نحبه بتأثير من محبته لنا. فمحبتنا تنبثق من محبته المنسكبة في قلوبنا. إنها البذرة التي تنبع منها محبتنا.” كلارك (Clarke)
- “إنه نافورة المحبة، وأما محبتنا فهي مجرد جدول. محبته هي الدافع والنمط والعلّة الفعّالة لمحبتنا. فمن يحب أولًا يحب طوعًا وبسخاء، وأما المحبوب فيحب تحت الالتزام.” بوله (Poole)
- “لاحظت أحيانًا وأنا أخاطب أطفال مدارس الأحد أنه ليس من غير المألوف أنهم يتعلمون أن الطريق إلى الخلاص هي أن يحبوا يسوع، وهذا أمر غير صحيح. إن الطريقة للخلاص بالنسبة للرجل أو المرأة أو الطفل هي أن يثق بغفران يسوع لخطاياه. وبعد ذلك تأتي محبته ليسوع كثمر لثقته بيسوع. فمحبتنا ليست هي الأصل. فالإيمان هو الذي يحتل المكان الأول.” سبيرجن (Spurgeon)
- نَحْنُ نُحِبُّهُ لِأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلًا: تخبرنا هذه الآية عن سبب محبتنا ليسوع، وكيف يمكننا أن نحبه أكثر.
- “المحبة التي آمنّا بها هي أصل المحبة التي نَرُدُّها.” سبيرجن (Spurgeon)
- “غير أنه لا يتوجب علينا أن نحاول إجبار أنفسنا على أن نحب الرب، بل أن ننظر إلى محبة المسيح أولًا، لأن محبته لنا هي التي تنجب محبتنا له. أعرف أن بعضكم حزينون جدًا لأنهم لا يستطيعون أن يحبوا المسيح قدر ما يريدون، ولهذا فإنهم محبطون. والآن انسوا محبتكم له، وفكّروا في محبته العظيمة لكم. وعتدئذٍ، وعلى الفور، ستصبح محبتك أكثر شبهًا بما كنت تتوق إليه.” سبيرجن (Spurgeon)
- “والآن، تذكّر أننا لا نجبر أنفسنا على محبة يسوع بجلد أنفسنا لأننا لا نحبه أكثر. فنحن نحب الناس أكثر عندما نعرفهم أكثر… فإذا كنت تود أن تحب المسيح أكثر، فكّرْ فيه أكثر، وفكّرْ في ما حصلت عليه منه.” سبيرجن (Spurgeon)
- هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلًا: يعني هذا أنه صحيح أن يسوع يحبنا الآن. فهل تصدق ذلك؟ “إذا كنت تصدق حقًّا أنه أحبك هكذا، فاجلس وقلِّب الأمر في فكرك، وقل لنفسك: يسوع يحبني. يسوع اختارني. يسوع تذكّرني. يسوع غفر لي. وحّدني يسوع معه.” سبيرجن (Spurgeon)
و ) لآيات (٢٠-٢١): الوصية بأن نحب.
٢٠إِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟ ٢١وَلَنَا هذِهِ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ يُحِبُّ اللهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضًا.
- إِنْ قَالَ أَحَدٌ: غالبًا ما يكون سهلًا على أحدهم أن يقول إنه يحب الله، لأن هذا يتعلق بعلاقة خاصة بإله غير منظور. ولكن يوحنا يصر على أن ادعاءنا أننا نحب الله كاذب إذا لم نكن نحب أخانا، ويتوجب أن تكون هذه المحبة منظورة.
- قد يكون المرء قزمًا روحيًّا لأنه يفتقر إلى المحبة. ربما يعرف المرء كلمة الله، وربما لا يفوّت أي اجتماع، وربما يصلي بحرارة، وربما يظهر مواهب الروح. ومع ذلك كله، ربما يكون مثل قايين الذي قدّم لله ثمر يديه، لا ثمر الروح.
- إِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ ٱللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ: قال يسوع إنه بهذا المقياس الحاسم يمكن للعالم أن يقيس وضعنا كتلاميذ، مقياس محبتنا بعضنا لبعض: “بِهَذَا يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلَامِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ.” (يوحنا ٣٥:١٣)
- هنالك فرق بين محبة الإنسان ومحبة الله. “تعادِل هاتان الآيتان القول إنه لا يستطيع شخص أن يمارس محبة أجابي ما لم يمارس أولًا محبة فيليا – المحبة الأخوية.” بويس (Boice)
- وَلَنَا هَذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ مِنْهُ: لدينا وصية بأن نحب. ورغم أن محبتنا تنبع من شركتنا الثابتة مع الله ومن كوننا مولودين ثانية، إلا أن هنالك جانبًا جوهريًا يتضمن إرادتنا. ولهذا فإننا مأمورون بأن يحب بعضنا بعضًا. ولهذا فإننا مأمورون بأن نحب أخانا في المسيح.
- من شأن ولادتنا من الله والثبات فيه أن يعطينا القدرة على المحبة. ولكن هذا خيار متاح لإرادتنا لأن تستفيد من هذا المورد وتعطيه للآخرين. ولهذا فإننا نُعطى وصية بأن نحب. مَنْ يُحِبُّ ٱللهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضًا.
- ولهذا، فإن العذر المقدم: “لا أستطيع أن أحب ذلك الشخص” (أو أي عذر آخر) غير مشروع. فإن كنا مولودين منه وثابتين فيه، فإن الموارد للمحبة موجودة. ويتوقف الأمر علينا في الاستجابة لوصيته بإرادتنا وكل كياننا.
- مَنْ يُحِبُّ ٱللهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضًا: يمكننا أن نتعلم أيضًا أن نحب الله بأن نحب الناس. قد يقول بعضهم: “أريد أن أحب الله أكثر. أريد أن أنمو في محبتي له. لكن كيف لي أن أحب إلهًا غير منظور؟” وسيرد الرب: “تعلَّمْ أن تحبني، يا من لا تستطيع أن تراني، بأن تحب أبنائي الذين تستطيع أن تراهم.”
- قال يسوع في متى ٢٣:٥-٢٤ “فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى ٱلْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لِأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، فَٱتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ ٱلْمَذْبَحِ، وَٱذْهَبْ أَوَّلًا ٱصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ.” يكون الله أكثر رضًا عندما تكون في علاقة سليمة بأخيك. وبعد ذلك، يمكنك أن تجلب لله ذبائح تسبيح أو أية موارد تريدها.