رسالة غلاطيّة – الإصحاح ٢
دفاع بولس عن إنجيل النعمة
أوَّلاً. بولس يقدم إنجيل النعمة، الذي أعلنه يسوع له، لقادة الكنيسة في أورشليم
أ ) الآيات (١-٢): رحلة بولس اللاحقة إلى أورشليم.
١ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضًا إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذًا مَعِي تِيطُسَ أَيْضًا. ٢وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلَانٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ ٱلْإِنْجِيلَ ٱلَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ ٱلْأُمَمِ، وَلَكِنْ بِٱلِٱنْفِرَادِ عَلَى ٱلْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلَّا أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلًا.
- ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضًا إِلَى أُورُشَلِيمَ: في غلاطيّة ١٨:١-١٩، وصف بولس رحلة قام بها إلى أورشليم بعد ثلاث سنوات من التقائه بيسوع في الطريق إلى دمشق. أمَّا هنا فيصف رحلة ثانية إلى أورشليم، بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
- تذكّر قصد بولس في غلاطيّة ١. لقد بيّن أنَّ إنجيله جاء بوحي يسوع لا من البشر، ولا حتّى من الرسل في أورشليم. فزيارتان يتيمتان إلى أورشليم على مدى ١٤ عامًا تقطعان بأنّ بولس لم يجلس عند أقدام تلاميذ يسوع ليتعلّم الإنجيل.
- مَعَ بَرْنَابَا، آخِذًا مَعِي تِيطُسَ أَيْضًا: سافر مع بولس إلى أورشليم كلُّ من بَرْنَابَا (الذي كان يحظى باحترام كبير بين القيادة في أورشليم بحسب أعمال الرسل ٣٦:٤-٣٧ و ٢٢:١١) وتِيطُس (اليهوديّ الأمميّ).
- كان تِيطُس رجلًا بارزًا ومساعدًا للرسول بولس. يبيّن لنا عدد كبير من المقاطع أنَّ بولس كان يحبّ تِيطُس ويثق به ويعتبره شريكًا مهمًا.
- في كورنثوس الثانية ١٣:٢، وصف بولس تِيطُس بأَنَّه «أخي»، وقال إنَّه لم يشعر بالسلام طالما كان تِيطُس غائبًا.
- تقول كورنثوس الثانية ٦:٧ كيف ارتاح بولس… بمجيء تِيطُس.
- تُظهر كورنثوس الثانية ٦:٨ كيف كان بولس يثق في تلقّي تِيطُس تبرّعات من كنيسة كورنثوس.
- تقول كورنثوس الثانية ١٦:٨ إنَّ تِيطُس كان يملك نفس الاهتمام الجادّ الذي كان يملأ قلب بولس.
- قال بولس في كورنثوس الثانية ٢٣:٨ «أَمَّا مِنْ جِهَةِ تِيطُسَ فَهُوَ شَرِيكٌ لِي وَعَامِلٌ مَعِي لِأَجْلِكُمْ».
- وتحدّث بولس مرَّة أخرى في كورنثوس الثانية ١٨:١٢ عن تِيطُس، كيف أنّه يشارك مشاعر بولس: «هَلْ طَمِعَ فِيكُمْ تِيطُسُ؟ أَمَا سَلَكْنَا بِذَاتِ ٱلرُّوحِ ٱلْوَاحِدِ؟ أَمَا بِذَاتِ ٱلْخَطَوَاتِ ٱلْوَاحِدَةِ؟»
- وفي تيطس ٤:١، دعا بولس تِيطُس بـ «ٱلِٱبْنِ ٱلصَّرِيحِ (أي الحقيقيّ) حَسَبَ ٱلْإِيمَانِ ٱلْمُشْتَرَكِ».
- وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلَانٍ: الفكرة هي أنَّ بولس ذهب إلى أورشليم بتوجيه صريح من الله. ولم يذهب لأنَّ أحدًا من الناس دعاه للمجيء. لقد حدث ذلك لأنَّ الله أمره بالذهاب.
- وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ ٱلْإِنْجِيلَ ٱلَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ ٱلْأُمَمِ: هذه الرحلة إلى أورشليم هي على الأرجح المذكورة في أعمال الرسل ٢٧:١١-٣٠، عندما أحضر بولس عطيّة من المؤمنين في مدن أخرى إلى المؤمنين في أورشليم الذين كانوا يعانون من المجاعة. عندما كان بولس في أورشليم في ذلك الوقت، طمأن القادة هناك بأنَّه كان مطيعًا لله في عرضه للإنجيل للأُمّم.
- في تلك المَرَّة، ثار خلاف حول مكانة الأُمَم في الكنيسة. فالله استخدم بطرس لاستقبال الأُمَم في الكنيسة في أعمال الرسل ١٠. لكنَّ بعض المؤمنين الذين من خلفيّة يهوديّة قالوا إنَّ الأُمَم يمكنهم نيل الخلاص فعلاً إذا تهوّدوا أوّلًا وخضعوا لناموس موسى. وكانت فكرتهم تقوم على أنَّ الخلاص في يسوع متاح للشعب اليهوديّ فقط، وكان على الأُمَم أن يتهودّوا قبل أن يصبحوا مؤمنين مسيحيين.
- “ومع ذلك، فإن اليهود المؤمنين لم يستطيعوا أنْ يفهموا أن الختان ليس ضروريًّا للخلاص. وقد شجعهم على موقفهم الخاطئ رسل كَذَبة. وكانت النتيجة أنَّ الناس هاجوا على بولس ومذهبه.” لوثر (Luther)
- عِلمًا بوجود هذا الخلاف، أراد قادة الكنيسة في أورشليم معرفة ما كان يعلّمه بولس. لذا فعندما زار أورشليم، كان هذا هو الوقت المثالي لإخبارهم، لذا عَرَض عَلَيْهِمِ بولس ٱلْإِنْجِيلَ ٱلَّذِي يَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ ٱلْأُمَمِ.
- وَلَكِنْ بِٱلِٱنْفِرَادِ عَلَى ٱلْمُعْتَبَرِينَ: كان بولس يعلم أنَّه يكرز بالإنجيل الحقيقيّ؛ لكنه لم يكن يعرف كيف سيستقبله ٱلْمُعْتَبَرونَ (أصحاب السُّمعة الحسنة) في أورشليم. فلعلّ بعض الرسل أنفسهم مخطئون في هذه النقطة، وكانوا بحاجة إلى تصحيح! ولكن إذا كان هناك أي داعٍ للمواجهة، فإنَّ بولس فعل ذلك على انفراد مع أولئك الذين كانوا يتمتعون بسمعة طيبة. فبذل قصارى جهده حتّى لا يحرج علنًا أولئك الذين يتمتعون بسمعة طيبة في أورشليم.
- هذا دليل على محبّة بولس وحساسيته الرائعتين. وألا لكان سهلاً عليه أن يقول: “أنا على صواب وأي شخص يختلف معي على خطأ، وكم أشتاق إلى مواجهته علنًا.” لكنه لم يفعل ذلك. لقد كان يعلم أنَّ كونه على صواب لا يبرّر الوقاحة.
- لِئَلَّا أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلًا: لم ينبع هذا غالبًا من خوفه هو نفسه من الارتداد. بل كان الخوف ينبع على الأرجح من أنَّ الصراع غير الضروريّ مع قادة الكنيسة في أورشليم قد يؤدّي إلى إلحاق الضرر بسمعته وخدمته بشكل أو بآخر. كذلك، كان الخطر يكمن في أن يقوم المعلمون الزائفون – إذا شجّعهم القادة في أورشليم بطريقة ما – بهدم عمل بولس في زرع الكنائس وإعداد التلاميذ ليسوع، وبالتالي يكون عمل بولس قد ذهب سُدًى.
ب) الآيات (٣-٥): الخلاف حول ختان تِيطُس.
٣لكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ الَّذِي كَانَ مَعِي، وَهُوَ يُونَانِيٌّ، أَنْ يَخْتَتِنَ. ٤وَلكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً، الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَسًا لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا، ٥اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ..
- لَكِنْ لَمْ يُضْطَرَّ وَلَا تِيطُسُ ٱلَّذِي كَانَ مَعِي، وَهُوَ يُونَانِيٌّ، أَنْ يَخْتَتِنَ: النقطة التي أشار إليها بولس هي أنَّ القيادة في أورشليم قبلت تِيطُس (وهو مؤمن غير يهوديّ) رغم أنَّه ليس مختونًا وفقًا لناموس موسى. وهذا يدلّ على أنَّ قيادة أورشليم قبلت إنجيل النعمة كما يفهمه بولس.
- كان ختان تِيطُس مسألة مُتوقَّعة لأنَّ الختان – أي قطع غُرلة الذكر – كان علامة على الدخول في الإيمان اليهوديّ والعهد الموسويّ. فإن أراد رجل غير يهوديّ أن يصبح يهوديًّا، يجب أن يُختَن وهو بالغ. أمَّا الرجال اليهود فيَختتنون وهم أطفال. وبما أنَّ جميع الرجال اليهود مختونون ومعظم الرجال الأُمَم غير مختونين، كانت هذه وسيلة سهلة للإشارة إلى ’أولئك المشاركين في العهد‘ و’أولئك الذين هم خارج عهد موسى.‘
- “بالطبع، إن أراد أي شخص أنْ يعيش حياة الطاعة للناموس فلابد أن يبدأ بالختان.” موريس (Morris)
- “بولس لم يُدِن الختان كما لو كان الحصول عليه خطيّة. لكنه أصرّ، وقد أيّده المجمع في ذلك، على أنَّ الختان ليس له أي علاقة بالخلاص، وبالتالي فلا يجوز فرضه على الأُمَم.” لوثر (Luther)
- وَلَكِنْ (حدث ذلك) بِسَبَبِ ٱلْإِخْوَةِ ٱلْكَذَبَةِ: بَيْدَ أنَّ غُرلة تِيطُس أصبحت مشكلة بسبب ٱلْإِخْوَةِ ٱلْكَذَبَةِ الذين حاولوا أنْ يستعبدوا بولس وغيره من المؤمنين.
- من الأهمّيّة بمكان أنَّ بولس يدعو هؤلاء الناس إخوة كذبة – وهو وصف قاسٍ. وهم بالطبع لم يظنّوا في أنفسهم أنَّهم إخوة زائفون. فلا بُدّ أنَّهم كانوا يعتقدون أنَّهم إخوة حقيقيّون. لكن لأنهم عارضوا وناقضوا الإنجيل المُعلَن لبولس من قِبَل يسوع، فقد كانوا إخوة كذبة، وفقًا لمعيار غلاطيّة ٦:١-٩.
- من الأهمّيّة بمكان أنَّ بولس يقول عن هؤلاء الناس إنَّهم مُدْخَلونَ خُفْيَةً، ٱلَّذِينَ دَخَلُوا ٱخْتِلَاسًا. إنَّهم لم يدخلوا حاملين شارات تقول: ’إخوة كذبة.‘ ولم يأتوا مصرِّحين عن غرضهم بالقول: ’قد جئنا لِنَتَجَسَّس حُرِّيَّتَكم ٱلَّتِي لَكم فِي ٱلْمَسِيحِ كَيْ نَسْتَعْبِدَكم.‘ رُبَّما كان لهؤلاء الناس نوايا طيبة، لكنهم لم يزالوا أشخاصًا خطرين كانت تلزم مواجهتهم.
- كتب ستوت (Stott) بخصوص «ٱلْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً»: “قد يعني هذا إمّا أنهم لم يكونوا أعضاء في شركة الكنيسة على الإطلاق أو أنَّهم تطفّلوا بالقوّة على المؤتمر الخاصّ التابع للرسل.”
- من الأهمّيّة بمكان أنَّ بولس يقول إنَّ هؤلاء الناس قد جاءوا كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا. بالنسبة إلى بولس، لم تكن هذه مُجرَّد مشكلة بين الإخوة الزائفين والأُمَم. ولعلّه كان سهلًا على بولس أن يقول: “هذا أمر لا يؤثّر عليّ. فأنا يهوديّ وقد خُتِنْتُ وفقًا لناموس موسى. سأدع تِيطُس أو غيره من الأُمَم يعالجون هذه القضيّة، لأنَّ هؤلاء الإخوة الكذبة على خلاف معهم وليس معي.” لكنّ بولس قد أدرك أنَّه إذا تمّ المساس برسالة الإنجيل، فلم يتحوّل الأمر إلى مُجرَّد عبوديّة بالنسبة إلى الأُمَم، بل إلى عبوديّة لجميع المدعوّين باسم يسوع.
- الَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِٱلْخُضُوعِ وَلَا سَاعَةً: ردًا على ذلك، ظل بولس صامدًا. وقد يكون ردّ فعل البعض بهذه الطريقة بدافع الكبرياء أو العناد. لكنَّ بولس فعل ذلك لِيَبْقَى (أي يستمرّ) عِنْدَكُمْ (أي عند المؤمنون من الأُمَم أمثال أهل غلاطيّة) حَقُّ ٱلْإِنْجِيلِ.
- “لو كانوا قد طلبوا ذلك بحجة المحبّة الأخويّة، لَمَا أنكر بولس عليهم ذلك. ولكن لأنَّهم طالبوا بذلك على أساس أنَّه ضروريّ للخلاص، تحدّاهم بولس وتغلّب عليهم، ولم يختتن تِيطُس.” لوثر (Luther)
- “المقطع صعب من ناحية القواعد النحويّة… ومن الواضح أنَّ بولس كان منفعلاً بشدّة وهو يكتب هذا المقطع حتّى أنَّه لم يهتمّ كثيرًا بجماليّات الأسلوب اللغويّ.” موريس (Morris)
ج) الآية (٦): بولس يلخّص وجهة نظره: أوراق اعتماده الإنجيلية أو الرسوليّة لم تعتمد على موافقة البشر أو سلطتهم، بمن فيهم أصحاب النفوذ.
٦وَأَمَّا ٱلْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ شَيْءٌ – مَهْمَا كَانُوا، لَا فَرْقَ عِنْدِي، ٱللهُ لَا يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ – فَإِنَّ هَؤُلَاءِ ٱلْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ.
- وَأَمَّا ٱلْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ شَيْءٌ: كان بولس يعلم بوجود قادة في أيامه من ذوي النفوذ الكبير – أو مسيحيّين ’مشاهير‘، إن صحّ التعبير. لكنهم لم يبهروا بولس ولم يخيفوه. مَهْمَا كَانُوا، لَا فَرْقَ عِنْدِي، ٱللهُ لَا يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ.
- فَإِنَّ هَؤُلَاءِ ٱلْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ: على الرغم من أنَّ بولس التقى بمؤمنين مشاهير من أصحاب النفوذ عدة مَرّات، إلَّا أنَّهم لم يلقّنوه الإنجيل الذي يبشّر به. فقادة أورشليم لم يضيفوا شيئًا إلى الإنجيل الذي يبشّر به بولس أو إلى السلطة الرسوليّة التي كان يمتلكها.
- لم ينتظر بولس شخصًا آخر ليجعله مؤمناً عظيمًا. بل كان يعلم أنَّ الأمر يتعلّق بعلاقة شخصيّة بينه وبين يسوع. وهذا لا يعني أنَّ بولس لم يتلقَّ شيئًا من الآخرين أو أنَّ أحدًا لم يستطِع أن يباركه؛ بل إنَّ حياته الروحية لم تكن مبنيّة على ما فعله الآخرون من أجله.
- “كلام بولس ليس إنكارًا ولا علامة على عدم احترامه لسلطتهم الرسوليّة. بل إنَّه يشير ببساطة إلى أنَّه، على الرغم من قبوله منصبهم كرسل، إلَّا أنَّه لم يشعر بالرهبة من شخصيّاتهم التي تم تضخيمها (من المعلّمين الكذبة).” ستوت (Stott)
د ) الآيات (٧-١٠): موافقة قادة الكنيسة في أورشليم على إنجيل بولس.
٧بَلْ بِالْعَكْسِ، إِذْ رَأَوْا أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ الْخِتَانِ. ٨فَإِنَّ الَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ الْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضًا لِلأُمَمِ. ٩فَإِذْ عَلِمَ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا وَيُوحَنَّا، الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ، أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ، وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ. ١٠غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الْفُقَرَاءَ. وَهذَا عَيْنُهُ كُنْتُ اعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ.
- إِذْ رَأَوْا أَنِّي ٱؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ ٱلْغُرْلَةِ: قَبِل قادة كنيسة أورشليم (أي يعقوب، شقيق يسوع وصفا، المعروف أيضًا باسم بطرس، ويوحنا) بولسَ وخدمته بين الأُمَم. وقد وافقوا على خدمة بولس، مع العلم بأنّ بولس لم يفرض على الأُمَم أن يخضعوا لناموس موسى لنوال رضا الله.
- أَنِّي ٱؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ ٱلْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ ٱلْخِتَانِ: كانت خدمة بولس الرئيسيّة موجّهة للأُمَم، وكانت خدمة بطرس الرئيسيّة موجّهة لليهود. هذه الفروق لم تكن مطلقة، فكل منهما خدم المجموعات الأخرى.
- “فالتقسيم لم يضع حدودًا صارمة وباتّة لا يجوز تعدّيها، مثل تلك الخاصّة بالممالك والإمارات والمقاطعات.” كالفين (Calvin)
- ومع ذلك، فإنَّ التمييز مثير للاهتمام، خاصّة وأنَّ الروم الكاثوليك يدّعون بأنّ البابا هو خليفة بطرس – لكن أين هي خدمة البابا لليهود عبر التاريخ؟ “لكن إن كانت رسوليّة بطرس تختصّ باليهود على وجه الخّصوص، فبأي حق يستشهد الروم الكاثوليك بصدارته كمصدر لتعاقب باباواتهم؟ وإن كان بابا روما يدّعي الصدارة لأنَّه خليفة بطرس، فعليه أن يمارس هذه الصدارة مع اليهود. يعلن الكتاب هنا أن بولس هو الرسول الرئيسيّ للأُمَم، ومع ذلك ينكرون أنَّه كان أسقف روما. لذلك، إن أراد البابا حقاً أن يتقلد منصبه فعليه أن يجمع الكنائس من اليهود.” كالفين (Calvin)
- غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ ٱلْفُقَرَاءَ: كان التحذير الوحيد من جانب قادة أورشليم هو أن يتذكّر بولس ٱلْفُقَرَاءَ. رُبَّما كان هؤلاء هم القديسين الفقراء في أورشليم، الذين لا ينبغي أنْ ينساهم المؤمنون من الأُمَم.
- بالتأكيد تذكّر بولس ٱلْفُقَرَاءَ في أورشليم، وبذل الكثير من الجهد في جمع التبرّعات من بين الكنائس غير اليهوديّة من أجلهم.
ثانيًا. خلفيّة المواجهة التي جرت بين بولس وبطرس فيما يتعلّق بقبول الأُمَم
أ ) الآيات (١١-١٣): سبب توبيخ بولس العلنيّ للرسول بطرس.
١١وَلكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا. ١٢لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ، وَلكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفًا مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ. ١٣وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضًا انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ!
- وَلَكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ: وافق بُطْرُسُ على إنجيل بولس وخدمته عندما أتى بولس إلى أورشليم ( غلاطيّة ٩:٢)، واستخدم الله بطرسَ نفسه لاستقبال الأُمَم في رحاب المسيحيّة دون الاشتراط عليهم أنْ يتهوّدوا أوَّلاً (أعمال الرسل ١:١١-١٨).
- كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفًا مِنَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْخِتَانِ: ومع أنَّ بطرس كان متّفقًا في السابق على الترحيب بالأُمَم في الكنيسة دون إخضاعهم لناموس موسى، إلاَّ أنَّه عندما جاء إلى أَنْطَاكِيَةَ (كنيسة بولس الأصليّة)، اختلف الوضع. إذ رفض التعامل مع المؤمنين الأُمَميّين بمُجَرَّد وصول بعض المؤمنين اليهود من أورشليم.
- كان هؤلاء الناس مؤمنين من خلفيّة يهوديّة. دعاهم بولس قَوْمًا مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ … ومِنَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْخِتَانِ. لعلم بطرس بخلفيّتهم، أدرك أنَّهم سوف يستاؤون من شركته مع الأُمَم غير الخاضعين لناموس موسى. ففي نظرهم، لم يكن هؤلاء الأُمَم غير المختونين مؤمنين على الإطلاق. لذلك، إرضاءً لهم وتفاديًا للخلاف، عامل بطرس هؤلاء المؤمنين الأُمَم كما لو كانوا غير مؤمنين على الإطلاق.
- قد كان بطرس يعرف أنَّ الله لم يشترط على الأُمَم الخضوع لناموس موسى لأجل الخلاص. وقد عرف هذا من الرؤيا التي أراه الله إياها في أعمال الرسل ١٠:١٠-١٦، ومن انسكاب الروح القُدُس على الأُمَم الذين آمنوا (بمعزل عن الختان) في أعمال الرسل ٤٤:١٠-٤٨، ومن موافقة قادة الكنيسة الآخرين في أعمال الرسل ١:١١-١٨. أمَّا الآن فقد تراجع بطرس عن كل ما كان يعرفه عن مكانة الأُمَم في الكنيسة، وعامل الأُمَم غير المختونين كما لو كانوا غير مُخلَّصين على الإطلاق.
- “يبدو أنَّه قام بهذا الإجراء وهو يشعر بالخجل. على حدّ قول الأسقف لايتفوت (Lightfoot): ’الألفاظ تصف انسحابًا حذرًا جدًّا من جانب شخص خائف ويتجنّب الملاحظة.‘” ستوت (Stott)
- ”من الغريب أن أحدًا لم يتذكّر أنَّ يسوع كان يأكل «مَعَ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ»، مما يعني أنَّه لم يراعِ الممارسات اليهوديّة الصارمة.” موريس (Morris)
- من المحزن أنّ آخرين قد اتّبعوا خطى بطرس. “إنّ خطايا المعلّمين هي مدارس للخطايا.” تراب (Trapp)
- قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لِأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا: هذا يدلّ على مدى خطورة الأمر بالنسبة إلى بولس، حتّى أنَّه لم يتورّع عن مواجهة بطرس حول القضية علنًا («قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ ٱلْجَمِيعِ»، غلاطيّة ١٤:٢).
- كان هذا الأمر خطيرًا أيضًا لأنَّه ينطوي على مسألة تناول الطعام معًا. فقبل أنْ يأتي قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ، كَانَ بطرس يَأْكُلُ مَعَ ٱلْأُمَمِ. ولكن بمُجَرَّد مجيئهم، أخذ بطرس يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ (أي ينسحب ويعتزلهم). ويُحتَمل أنَّ الاعتزال جرى في عشاء الكنيسة الذي كانوا يطلقون عليه اسم ’مأدبة الأغابي‘ أو ’وليمة المحبّة.‘ حيث كانوا يتذكّرون أيضًا موت الربّ في هذا العشاء ويتناولون جسد الربّ ودمه معًا. لذلك، من الممكن أنَّ بطرس قد أبعد هؤلاء المؤمنين الأُمَم عن مائدة الشركة.
- “ربَّما كان الاحتفال بالمائدة المُقَدَّسة له صلة بهذا الأمر، لأنَّه يبدو أنَّه كثيرًا ما كان يتم الاحتفال به في الكنيسة الأولى عن طريق وجبة يشارك فيها جميع المؤمنين. فإذا كان هذا هو الحال في أنطاكية، لكان ذلك تقسيمًا للمؤمنين على مائدة الربّ.” موريس (Morris)
- “لم يسمع بولس بذلك من الآخرين، بل لكونه شاهد عيان، فلم يؤجّل التوبيخ خشية أن يستفحل الخطأ، ولم يوبّخه على انفراد، لأنَّ الجريمة كانت علنيّة، ومثل هذه الضمادة ما كانت لتلائم الدمّل.” بُوله (Poole)
- خَائِفًا مِنَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْخِتَانِ: هذا يفسّر سبب ما عمله بطرس، حتّى وهو يعلم أنَّ الله يرحّب بالأُمَم في الكنيسة دون فرض ناموس موسى عليهم. فبدافع الخوف، إذن، تصرّف بطرس على خلاف ما كان يعرفه أنَّه حقّ. “ربَّما شعر بطرس أنَّه إذا عاد أعضاء الوفد وأخبروا كنيسة أورشليم بأنَّه يأكل مع الأُمَم، فسوف يمسّ ذلك بمكانته في الكنيسة الأمّ.” موريس (Morris)
- من السهل انتقاد بطرس، لكننا جميعًا جرّبنا الإحساس بعمل شيء نعرف أنَّه خطأ. وجميعنا نعلم الإحساس عندما نفعل شيئًا يتعارض مع ما نعلم جيدًا أنَّه الصواب. جميعنا نعلم الإحساس عندما يدفعنا الضغط الاجتماعيّ نحو حل وسط بطريقة أو بأخرى.
- “إنَّ انسحابهم من شركة المائدة مع المؤمنين الأُمَم لم يكن مدفوعًا بأي مبدأ لاهوتيّ، ولكن بالخوف الشديد من مجموعة صغيرة… لقد ظلّ يؤمن بالإنجيل، لكنَّه لم يمارسه.” ستوت (Stott)
- كان هذا هو نوع السلوك الذي سيطر على حياة بطرس قبل أن يتغيّر بقوة الله. كان تصرفه هذا يشبه ما فعله عندما قال ليسوع ألاَّ يذهب إلى الصليب أو عندما رفع عينيه عن يسوع وغرق أثناء سيره على الماء أو عندما قطع أذن عبد رئيس الكهنة لَمَّا جاء الجنود لإلقاء القبض على يسوع. نحن نرى أنّ الجسد ظلّ على قيد الحياة في بطرس. فالخلاص وملء الروح القُدُس لم يجعلا بطرس كاملًا. بل كان بطرس العتيق موجودًا؛ كل ما في الأمر أنَّه لم يعد يظهر كثيرًا مثل الماضي.
- قد نندهش من مساومة بطرس، رغم أنَّه كان يعرف بسوء اختياره. لكنَّ اندهاشنا يزول عندما نقرأ ما يقوله الله عن ضعف جسدنا وفساده. كان بولس نفسه على دراية بهذا الصراع، كما وصفه في رومية ١٨:٧ «فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ. لِأَنَّ ٱلْإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ».
- “إنَّ مكانة أي إنسان لا تضمن له عدم السقوط. وإن سقط بطرس، فقد أسقط أنا. وإذا قام من جديد، فقد أقوم مرَّة أخرى. لنا نفس المواهب التي كانت لهم: نفس المسيح ونفس المعمودية والإنجيل وغفران الخطايا.” لوثر (Luther)
- خَائِفًا مِنَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْخِتَانِ: لا نعرف ماذا أخاف بطرس من هؤلاء الـقَوْم (الذين جاؤوا) مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ. رُبَّما كانوا رجالًا يتمتعون بشخصيّة قويّة. ورُبَّما كانوا رجالًا يتمتعون بمكانة عظيمة وتأثير كبير. ورُبَّما قدّموا تهديدات من نوع أو آخر. مهما كان الأمر، كانت الرغبة في مجاملة هؤلاء المؤمنين اليهود الناموسيّين قويّة للغاية حتى أنَّ بَرْنَابَا أَيْضًا ٱنْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ. فعندما جاء قَوْم مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ، حتّى برنابا تعامل مع المؤمنين غير اليهود كما لو كانوا غير مؤمنين على الإطلاق.
- كان هذا مدهشًا. فبرنابا كان صديقًا لبولس وشريكه الموثوق به. إنَّ برنابا هو الذي وقف بجوار بولس عندما قابل الرسل لأول مرَّة (أعمال الرسل ٢٧:٩). وبرنابا هو الذي بحث عن بولس وأحضره إلى أنطاكية ليساعد في الخدمة هناك (أعمال الرسل ٢٥:١١). ويخبرنا أعمال الرسل ٢٤:١١ عن برنابا أنَّه: «كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَمُمْتَلِئًا مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَٱلْإِيمَانِ». ومع ذلك، فشل برنابا أيضًا في هذا الاختبار الحاسم.
- “كان لانضمام برنابا إلى صفّ المُهوّدين فيما يتعلّق بحرّيّة الأُمَم طبيعة أخطر من تذبذب بطرس… فبرنابا، أوَّل منادٍ بحرّيّة الأُمَم بجانب بولس، قد انقلب على عقبيه.” ويست (Wuest)
- “يُحتَمل أنَّ هذه الحادثة، التي سبّبت شعورًا مؤقتًا بعدم الثقة، قد مهّدت الطريق للخلاف بين بولس وبرنابا، الذي أدّى بعد ذلك بوقت قصير إلى انفصالهما: أعمال الرسل ٣٩:١٥.” لايتفوت (Lightfoot)
- وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي ٱلْيَهُودِ أَيْضًا: هذا يدلّ على أنَّ الأمر كان أكبر من بطرس وبرنابا. فقد قدّم بطرس التنازل أوّلًا وعامل المؤمنين الأُمَم وكأنهم غير مؤمنين على الإطلاق، ثُمَّ تبعه برنابا. فإذا بــبَاقِي ٱلْيَهُودِ في الكنيسة في أنطاكية يحذون حذو بطرس وبرنابا.
- هذا يدلّ على جسامة المسؤولية الملقاة على عاتق القائد. فعندما نضلّ، فإنَّ الآخرين غالباً ما يحذون حذونا. وقد عرف الشيطان أنَّه إذا استطاع جعل بطرس يسلك الطريق الخطأ، فإنَّ كثيرين آخرين سيتبعونه.
- وَرَاءَى مَعَهُ … ٱنْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ: كلمة «مراءٍ» في اللغة الأصليّة للعهد الجديد تعني ’الشخص الذي يضع قناعًا‘ دلالةً على الممثّل الدراميّ. وفي هذه الحالة، كان بطرس وبرنابا وبقية المؤمنين اليهود في أنطاكية يعرفون أنَّ هؤلاء المؤمنين الأُمَم مؤمنون حقيقيون. ومع ذلك، بسبب الضغط من الـقَوْم (الذين جاؤوا) مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ، تصرّفوا كما لو كانوا غير مؤمنين على الإطلاق.
- ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك. لقد انسحب بطرس واعتزل المؤمنين الأُمَم، بينما كَانَ يَأْكُلُ مَعَ ٱلْأُمَمِ من قبل. في الواقع، قد كان يأكل معهم كثيرًا.
- يكتب ستوت (Stott) بخصوص عبارة «كَانَ يَأْكُلُ مَعَ ٱلْأُمَمِ»: “زمن المضارع غير التامّ يدلّ على أنَّ تلك كانت عادته. كانت… من عادته تناول الطعام مع الأُمَم.” جون برترام فيليبس (JBP).
- ولكنّ بطرس رفض الآن تناول الطعام مع المؤمنين الأُمَم. وعندما كان اليهوديّ يرفض تناول الطعام مع غير اليهودي، كان يفعل ذلك طاعةً للطقوس اليهوديّة. وقد تعلّم بطرس بالفعل أنَّ طاعة هذه الطقوس (مثل عدم أكل الأطعمة المُحرَّمة) لم تكن ضروريّة للخلاص، سواء لليهود أو الأُمَم (أعمال الرسل ١٠ و١١). وكان بطرس هو نفسه قد توقّف عن مراعاة هذه الطقوس اليهوديّة، فإذا به يتصرّف الآن كما لو كان يراعيها، مراضاةً لناموسيّة الـقَوْم (الذين جاؤوا) مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ. فبطرس نفسه لم يعد يراعي ناموس موسى بصرامة، ولكن بسبب أفعاله، كان يشير ضمنًا إلى أنَّ المؤمنين الأُمَم يجب عليهم مراعاة الناموس – حتّى وإن لم يكن هو نفسه يفعل ذلك.
ب) الآية (١٤أ): بولس يواجه بطرس علنًا.
١٤لَكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لَا يَسْلُكُونَ بِٱسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ ٱلْإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ ٱلْجَمِيعِ…
- لَكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لَا يَسْلُكُونَ بِٱسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ ٱلْإِنْجِيلِ: أساسًا، لم تكن المسألة تتعلّق بترتيب مقاعد الجلوس في وليمة الكنيسة. ولم يتعلّق الأمر بآداب المائدة أو حسن الضيافة. ولم يتعلّق الأمر بالحساسية تجاه ضمير الأخ الآخر. إنَّما رأى بولس القضية على حقيقتها: أنَّ الأمر يتعلّق بـحَقِّ ٱلْإِنْجِيلِ.
- عندما لم يأكل القَوْم (الذين جاؤوا) مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ وبطرس وبرنابا وباقي يهود الكنيسة في أنطاكية مع المؤمنين الأُمَم، كانوا يُعلِنون أنّ هؤلاء الأُمَم لم ينالوا الخلاص وأنهم غير مؤمنين. وكأنهم يقولون بصوت عالٍ وواضح: ’لا يمكنكم أن تكونوا في علاقة سليمة مع الله إلاَّ إذا خضعتم لمطالب شريعة موسى. فيجب أن تختتنوا. ويجب أن تأكلوا أطعمة مُحلَّلة. ويجب مراعاة الأعياد والطقوس. ويجب إلاَّ تفعلوا شيئًا من شأنه أن ينطوي على معاشرة لشخص غير خاضع لناموس موسى. فهذه هي الطريقة الوحيدة لنوال خلاص يسوع.‘ فجعلت هذه الرسالة بولسَ يقول: «رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لَا يَسْلُكُونَ بِٱسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ ٱلْإِنْجِيلِ».
- “لم يقل بطرس ذلك صراحةً، لكنَّ تصرفاته قالت بكل وضوح إنَّ مراعاة الناموس يجب أن تُضاف إلى الإيمان بالمسيح إن أراد الإنسان أن يخلص. ولم يسع الأُمَم إلَّا أن يستنتجوا من تصرفات بطرس أنَّ الناموس ضروريّ للخلاص.” لوثر (Luther)
- قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ ٱلْجَمِيعِ: يا له من مشهد! ها هم في وليمة كنيسة أنطاكية. وقد طُلِب من المؤمنين الأُمَم المغادرة للتوّ أو طُلِب منهم الجلوس في قسم خاصّ بهم بعيدًا عن المؤمنين الحقيقيّين. كما لم يُسمَح لهم بالمشاركة في نفس الطعام الذي يتناوله المؤمنون الحقيقيّون. وقد وافق بطرس – وهو ضيف الشرف – على كل هذا. وكذلك برنابا – الرجل الذي هدى العديدين من الأُمَم إلى يسوع – وافق على كل ذلك. وقد انقاد بقية اليهود في الكنيسة في أنطاكية وراءهما. لكنَّ بولس لن يقف مكتوف الأيدي. فنظرًا لأنَّ هذه إهانة علنيّة للمؤمنين الأُمَم ولأنَّ هذا إنكار علنيّ لـحَقِّ ٱلْإِنْجِيلِ، قام بولس بمواجهة بطرس علنًا.
- لا بُدّ أنَّ الموقف كان صعبًا نظرًا لشخصيّة بطرس. فبطرس كان أبرز تلاميذ يسوع والمتحدث باسم الرسل، وربما كان أبرز المؤمنين في العالم كله آنذاك.
- لا بُدّ أنَّ الموقف كان صعبًا نظرًا لشخصيّة بولس. فقد وقع ذلك قبل أي رحلة من رحلات بولس التبشيرية؛ قبل أن يكون رسولاً ذا أهمّيّة كبيرة. في تلك المرحلة، كان بولس مشهورًا بسبب ما كان عليه قبل أن يكون مسيحيًّا – أي مضطهد الكنيسة المرعب – أكثر مِمَّا كان عليه بعد إيمانه بالمسيح.
- لا بُدّ أنَّ الموقف كان صعبًا نظرًا لمن كان متفقًا مع بطرس. أوّلًا، كان بولس في صدام مع الشخصيّات القويّة المتسلّطة للقَوْم (الذين جاؤوا) مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ. ثُمَّ كان هناك برنابا، الذي رُبَّما كان أفضل صديق لبولس. وأخيرًا، كان بولس في مواجهة مع بقية اليهود. كان بولس يمثّل الأقلية في هذه القضيّة – لقد كان هو وجميع المؤمنين غير اليهود ضد جميع المؤمنين اليهود.
- وبقدر صعوبة الموقف، فعل بولس ذلك لأنَّه كان يعلم ما كان على المحكّ. لم تكن هذه مسألة سلوك شخصيّ أو مُجرَّد خطيّة شخصيّة من جانب بطرس. ولو كان الأمر كذلك، لَمَا استخدم بولس هذا الأسلوب العلنيّ من الأصل. إنَّما كان الأمر يتعلّق بـحَقِّ ٱلْإِنْجِيلِ؛ مفادها: ’هذه هي الطريقة التي يتبرّر بها الإنسان عند الله.‘
ثالثًا. ما قاله بولس عندما وبّخ بطرس علنًا بشأن مسألة قبول المؤمنين الأُمَم
أ ) الآية (١٤ب): بولس يكشف نفاق بطرس في تظاهره بأنه يعيش خاضعًا للناموس.
١٤إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيًّا لَا يَهُودِيًّا، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ ٱلْأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟
- إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيًّا لَا يَهُودِيًّا: قد ذكّر بولسُ بطرسَ أوّلًا بأنَّه هو نفسه لم يكن يعيش في طاعة صارمة لناموس موسى. ’يا بطرس، أنت تأكل لحم الخنزير والجمبري. فأنت لا تلتزم بالأطعمة المُحلَّلة. ولكنك الآن، أمام هؤلاء الزوّار، هؤلاء الـقَوْم (الذين جاؤوا) مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ، تتصرّف كما لو كنت تلتزم بهذه القوانين طوال الوقت.‘
- ليس من الصعب تخيُّل المشهد. كانوا جميعًا يستمتعون بوقتهم حتّى أفسد بولس الحفلة! هو – على الأرجح – لم يصرخ، لكن من المؤكَّد تكلّم بنبرة حازمة. وحينما أخبر الجميع بأنَّ بطرس لم يكن يعيش وفقًا لناموس موسى، فإنَّ القَوْم (الذين جاؤوا) مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ اعترتهم الدهشة. وظهرت على وجوههم المفاجأة. ’ماذا؟ بطرس – الأبرز بين الرسل –لا يعيش وفقًا لناموس موسى؟ بطرس يأكل لحم الخنزير والجمبري؟ بطرس يأكل مع الأُمَم؟‘ أمَّا بطرس، فقد احمرّ وجهه وتسارعت دقّات قلبه وشعر بالغثيان في معدته. أصيب الجميع بالإحراج وتمنّوا لو اختفت المشكلة برُمّتها.
- نتساءل أيضًا عمَّا إذا كان بولس مضطربًا أم جريئًا؛ رُبَّما كان يرتعش من تدفّق الأدرينالين أثناء المواجهة المشحونة للغاية. فنحن نعلم أنَّ بولس لم يكن صاحب حضور بدنيّ مسيطر. فقد قال الآخرون عن بولس – وربما صحّ ذلك جزئيًا على الأقل – إنَّ حضوره الشخصيّ ضعيف وأسلوبه الخطابيّ متواضع (كورنثوس الثانية ١٠:١٠). ومع ذلك أمسك بولس بزمام الأمر، وقال كلامًا لا يُنسَى، لأنَّه أعاده علينا هنا كلمة كلمة.
- لايتفوت (Lightfoot) بخصوص «وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ»: “التعبير هنا توكيدي للغاية: إذا كنت أنت، يا من وُلِدتَ وترعرعتَ يهوديًّا، تتجاهل العادات اليهوديّة، فما أسخف أنْ تفرضها على الأُمَم.”
- فَلِمَاذَا تُلْزِمُ ٱلْأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟ رُبَّما قال بطرس والآخرون: ’نحن لا نفرض عليهم أنْ يعيشوا كاليهود.‘ لكنهم كانوا بالطبع يفعلون ذلك؛ لأنَّ رسالتهم كانت تقول: ’ما لم تَتَهَوَّدُوا (أي تعيشوا كاليهود)، فلن تخلصوا.‘ وقد ألْزَم (أي أجبر) هذا ٱلْأُمَمَ في الواقع أَنْ يَتَهَوَّدُوا.
ب) الآيات (١٥-١٦): بولسُ يذكّر بطرسَ بأنهم تبرّروا عند الله بعمل يسوع لا بحفظهم للشريعة.
نَحْنُ [الذين] بِٱلطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ ٱلْأُمَمِ خُطَاةً، إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ ٱلْإِنْسَانَ لَا يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لَا بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ. لِأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لَا يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا.
- نَحْنُ [الذين] بِٱلطَّبِيعَةِ يَهُودٌ … إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ ٱلْإِنْسَانَ لَا يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: ’يا بطرس، نحن جميعًا قد نشأنا كيهود ملتزمين. ومع ذلك، فنحن نعرف جيدًا أننا لم نُعتَبر صالحين أمام الله، أي لم نتبرَّر، من خلال ما قمنا به من أَعْمَالِ (بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ). إننا نعلم، على الرغم من نشأتنا كيهود متدينيّن، أننا نُعتَبر صالحين عند الله بِالإيمَانِ بـيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.‘
- لَا يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ: هذه أوَّل مرَّة يستخدم فيها بولس الكلمة اليونانيّة القديمة العظيمة dikaioo (يتبرّر، يُعلَن أنَّه صالح) في رسالته إلى أهل غلاطيّة. “هذا مصطلح قانونيّ. فالشخص ’المُبرَّر‘ هو الشخص الذي يحصل على حكم في محكمة قانونيّة. وعند استخدامه بالمعنى الدينيّ يعني الحصول على حكم بالبراءة أمام الله يوم القيامة.” موريس (Morris)
- آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: قد كان بولس يعلم أنَّه، وهو اليهوديّ المتدين تمامًا مثله، لا يمكن أبدًا اعتباره صالحًا أمام الله بما فعله بموجب شريعة موسى. بل إنَّه هو وبطرس وكل مؤمن آخر آمنوا … بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.
- “’الإيمان بيسوع المسيح‘ إذن، ليس اقتناعًا فكريًّا فحسب، بل هو التزام شخصيّ. التعبير الوارد في منتصف الآية ١٦ هو (حرفيًّا) «لقد آمنّا بـ/في (eis) يسوع المسيح.» فهو عمل ينطوي على التزام وليس مُجَرَّد الإقرار بصحة أنَّ يسوع عاش ومات، بل اللجوء إليه وطلب رحمته.” ستوت (Stott)
- “ما أصعب العثور على تصريح أقوى من هذا عن عقيدة التبرير. وهو الأمر الذي أصرّ عليه اثنان من كبار الرسل («نَعْلَمُ»)، وأكّدته خبرتهم الشخصيّة («آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا»)، وهذا ما أيّدته كتب العهد القديم المُقَدَّسة («ٱلْإِنْسَان لَا يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ»). مع هذا الضمان الثلاثيّ، يجب علينا أنْ نقبل عقيدة التبرير الكتابيّة وألَّا نسمح لبرّنا الذاتيّ بمنعنا من الإيمان بالمسيح.” ستوت (Stott)
- لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لَا بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ: كان هذا توكيدًا واضحًا. ’يا بطرس، نحن لم نتبرّر بخضوعنا لناموس موسى ولكن بالإيمان بيسوع.‘ برفض الشركة مع المؤمنين الأمميّين، قال بطرس بتصرّفاته إننا نُعتَبر صالحين – جزئيًا – أمام الله بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ. أمَّا بولس فلم يستطع أن يؤيّد ذلك، لأنَّه كان مخالفًا للحقّ.
- لِأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لَا يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا: أكّد بولس هذه النقطة هنا بأقوى طريقة ممكنة. ما من جَسَدٍ – لا الأمميّ ولا اليهوديّ – يُعتَبر صالحًا عند الله بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ.
- لايتفوت (Lightfoot) بخصوص «لِأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لَا يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا»: “لذلك يجب اعتبار هذه الكلمات اقتباسًا حرًّا لمزمور ٢:١٤٣.” (فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ).
- “يشرح علماء الدين (الكاثوليك) طريقة الخلاص بهذه الطريقة: كلَّما قام الشخص بعمل صالح، فإنَّ الله يقبله ويكافئه على العمل الصالح بسكب الصدقة في قلب هذا الشخص. ويسمّونها ’الصدقة المغروسة.‘ ومن المفترض أن تظلّ هذه الصدقة في القلب. ويُجنّ جنونهم عندما يُقال لهم إنَّ هذه الصفة القلبيّة لا يمكن أن تبرّر الإنسان.” لوثر (Luther)
- نظرًا لصحّة ذلك، فمن السهل أنْ نرى غباء وخطأ انفصال بطرس عن هؤلاء المؤمنين الأُمَم لأنَّهم لم يكونوا خاضعين لناموس موسى. إن كان بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لَا يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا، فما الفرق إذن إن كان الأُمَمي مختونًا وفقًا لناموس موسى أم لا؟ ما الفرق إذا التزم الأُمَمي بالطعام المُحلَّل أم لا؟ كل ما يهمّ هو إيمانهم بالمسيح، لأنَّ هذه هي الطريقة التي نكون بها صالحين أمام الله.
ج) الآيات (١٧-١٨): بولس يجيب عن الاعتراض الرئيسيّ على تبرّرنا أمام الله بالإيمان بيسوع لا بأعمال الشريعة.
١٧فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي ٱلْمَسِيحِ، نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا خُطَاةً، أَفَٱلْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ حَاشَا! ١٨فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضًا هَذَا ٱلَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ، فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّيًا.
- فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي ٱلْمَسِيحِ، نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا خُطَاةً، أَفَٱلْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ تصدّى بولس الآن للاعتراض الذي كان سيقدّمه الـ«قَوْم (الذين جاؤوا) مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ». ومن المهمّ أن نتذكّر أنَّ بولس نطق بهذا التصريح علنًا وفي حضور الأطراف المعنية. فعلى جانب واحد من الغرفة كان هناك القَوْم (الذين جاؤوا) مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ، الذين كانوا يعتقدون أنَّ الله لن يقبل الأُمَم إلَّا إذا خضعوا لشريعة موسى. وكان بطرس يجلس مع هؤلاء الناس وكذلك برنابا، الذي كان أفضل صديق لبولس. في الواقع، كان جميع المؤمنين الذين من خلفيّة يهوديّة يجلسون مع هؤلاء المؤمنين القادمين من أورشليم، الذين لم يؤمنوا بأن الأُمَم في كنيسة أنطاكية نالوا الخلاص على الإطلاق. في موقف واقعي كهذا، لم يكن بمقدور بولس أن يعبّر عن رأيه دون الرد على الاعتراضات – المنطوقة وغير منطوقة – المُقدَّمة مِمَّن كانوا يخالفونه الرأي.
- بالنسبة إلى القوم القادمين من أورشليم، لم تكن فكرة أننا نتبرّر عند الله بالإيمان بيسوع وحده ’حقيقيّة‘ بما فيه الكفاية. ففي النهاية، سيبقى الصراع مع الخطية قائم. فكيف سيفهمون فكرة ’قبولهم عند الله‘ إذا كانوا لا يزالون يجاهدون ضد الخطيّة؟ ففي تفكيرهم، هذا الوضع جعل ٱلْمَسِيح خَادِمًا لِلْخَطِيَّةِ، لأنَّ ما عمله يسوع ليصالحهم مع الله يبدو أنَّه لم يكن كافياً.
- “إذا كان الله يبّرر الأشرار، فما الفائدة من كوننا صالحين؟ ألَا يمكننا أن نفعل ما نريد ونعيش كما يحلو لنا؟” ستوت (Stott)
- حَاشَا! كانت إجابة بولس عبقريّة. أوّلًا، نعم، نحن نسعى إلى أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي ٱلْمَسِيحِ، لكن ليس بالمسيح بالإضافة إلى أعمالنا. ثانيًا، نعم، نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا خُطَاةً، أي أننا نعترف بأننا ما زلنا نخطئ رغم أننا تبرّرنا فِي ٱلْمَسِيحِ. ولكن لا، حَاشَا أنْ يجعل هذا يسوع مصدرًا للخطيّة أو موافقًا عليها في حياتنا. إنَّه ليس خَادِمًا لِلْخَطِيَّةِ.
- “دعوني أقدّم تعريفًا قصيرًا للمؤمن: المؤمن ليس شخصًا بلا خطيّة، بل هو شخص لم يعد الله يحسب له خطيّة، وذلك بفضل إيمانه بالمسيح. هذه العقيدة تريح الضمائر المُعرَّضة لأزمة خطيرة.” لوثر (Luther)
- فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضًا هَذَا ٱلَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ، فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّيًا: كانت إجابة بولس غير مباشرة ولكنها عبقريّة. إنَّه إن بنى مرَّة أخرى طريقًا لله على أساس حفظ شريعة موسى، فسوف يجعل نفسه متعدّيًا (أي مخالفًا). قال بولس ما معناه: ’إنَّ خطيّة محاولة نوال القبول عند الله من خلال حفظ الناموس لهي أكبر من الخطيّة التي قد تحدث في حياة المؤمن اليومية.‘
- ظنّ هؤلاء القَوْم (الذين جاؤوا) مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ أنَّه يتعين عليهم التمسُّك بالناموس كي لا يكون هناك الكثير من الخطايا – لا في حياتهم ولا في حياة الأُمَم. بَيْدَ أنَّ بولس وضّح أنَّه بإخضاع أنفسهم للناموس مرَّة أخرى، كانوا يخطئون على نحو أسوأ من ذي قبل.
- ما الخطيّة في أن أَبْنِي مرَّة أخرى طريقًا لله من خلال الناموس؟ من وجوه كثيرة، ولكن رُبَّما أكبر خطيّة هي أنَّ الإنسان ينظر إلى يسوع، وهو معلَّق على الصليب، متلقّيًا العقاب الذي نستحقّه، حاملاً غضب الله عنا، ويقول له: ’هذا كله جميل جدًّا، لكنَّه لا يكفي. إنَّ عملك على الصليب لن يكفي أمام الله حتّى أختتن وآكل طعامًا مُحلّلاً.‘ هذه إهانة كبيرة لابن الله.
- بالطبع، هذه هي مأساة الناموسية الكبرى. ففي محاولة لكي يكونوا أكثر صلاحًا عند الله، ينتهي الأمر بالناموسيّين إلى أن يكونوا أقل صلاحًا عند الله. كان هذا بالضبط وضع الفريسيّين الذين كثيرًا ما قاوموا يسوع خلال سنوات خدمته الأرضيّة. وكان بولس يعلم هذا الفكر جيدًا، لكونه هو نفسه فريسيًّا ( أعمال الرسل ٦:٢٣).
د ) الآيتان (١٩-٢٠): بولس يصف علاقته بالناموس التي تغيّرت بشكل دائم.
١٩لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا للهِ. ٢٠مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي.
- لِأَنِّي مُتُّ بِٱلنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ: أدلى بولس بتصريح جريء، قائلًا إنه قد مات لِلنَّامُوسِ. إن كان قد مات للناموس، فمن المستحيل أن يكون الناموس هو الطريقة التي يُقبَل بها من الله.
- لاحظ أنَّ النَّامُوس ليس هو ما قد مات. إنَّ الناموس يعكس، في سياقه، قلب الله وطبعه القدوس. فالعيب ليس في الناموس. والناموس ليس هو ما قد مات، بل بولس هو الذي مات لِلنَّامُوسِ.
- فكيف مات بولس للناموس؟ إَنِّي مُتُّ بِٱلنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ. الناموس نفسه قد ’قتل‘ بولس. لقد أظهر له أنَّه لا يستطيع مراعاة الناموس والوفاء بمعاييره المُقَدَّسة. فقبل فترة طويلة من تعرّفه على يسوع، كان بولس يظنّ أنّ الله يقبله بسبب حفظه للناموس. لكنَّه وصل إلى منعطف فهم عنده الناموس على حقيقته – فهمه بالطريقة التي شرحها به يسوع في عظته على الجبل (متى ٥-٧) – ثم أدرك بولس أنَّ الناموس جعله مذنبًا أمام الله، وليس مُبرَّرًا أمام الله. وهذا الشعور بالذنب أمام الله قد ’قتل‘ بولس، وجعله يرى أنّ حفظ الناموس ليس هو الحل.
- “الموت للناموس هو أن نتخلّى عنه وأن نتحرّر من سيادته، فلا نثق به ولا نقع أسرى تحت نير عبوديته.” كالفين (Calvin)
- كانت المشكلة مع «القَوْم (الذين جاؤوا) مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ» أنهم لم يفكّروا ويعيشوا كما لو كانوا قد ماتوا للناموس. فبالنسبة إليهم، هم كانوا لا يزالون يعيشون بموجب الناموس ويعتقدون أن حفظ الناموس سيجعلهم مقبولين عند الله. ولم يكونوا يعيشون وفقًا للناموس فقط، بل أرادوا أن يعيش الأُمَم أيضًا وفقًا الناموس.
- مُتُّ بِٱلنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لِأَحْيَا لِلهِ: عندما مات بولس لِلنَّامُوسِ، أمكنه أن يَحْيَا لِلهِ. وطالما ظلّ يحاول تبرير نفسه أمام الله بحفظ الناموس، كان ميّتًا. لكن عندما مات لِلنَّامُوسِ استطاع أنْ يَحْيَا لِلهِ.
- “طوبى للشخص الذي يعرف كيفية استخدام هذا الحقّ في أوقات الضيق. فهو قادر على رفع صوته ليقول: «يا سيد ناموس، تفضّل واتّهمني بقدر ما تريد. فأنا عالم بأنني ارتكبت الكثير من الخطايا، وأواصل ارتكاب الخطيّة يوميًا. لكنّ هذا لا يزعجني. فإنَّ عليك أن تصرخ بصوت أعلى يا سيد ناموس. أنا أصمّ، كما تعلم. تحدّث بقدر ما تريد، فأنا قد متّ لك. إذا كنت تريد التحدث معي عن خطاياي، فاذهب وتحدث إلى جسدي. استفض معه في الحديث، لكن لا تتحدث إلى ضميري. فإنَّ ضميري سيّد وملك، وليس له أي علاقة بأمثالك، لأنَّ ضميري يعيش للمسيح وفقًا لناموس آخر، ناموس جديد وأفضل، ناموس النعمة.” لوثر (Luther)
- مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ: مرَّة أخرى، توقّع بولس سؤالًا من أولئك الذين يخالفونه الرأي. ’يا بولس، متى متَّ للناموس؟ أنت تبدو حيًا بالنسبة إلينا!‘ فبادر بولس بالردّ: ’مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ. قد مت للناموس عندما مات يسوع على الصليب. فيسوع مات عوضًا عني على الصليب، فكأنني أنا الذي متّ على الصليب. فأنا مت للناموس عندما مات يسوع على الصليب.‘
- فَأَحْيَا لَا أَنَا، بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ: بما أننا متنا مع المسيح على الصليب، فعندنا حياة مختلفة. حياتنا القديمة التي عشناها خاضعين للناموس ماتت. أمَّا الآن فنحن نحيا ليسوع المسيح، ويسوع حيّ فينا (بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ).
- أدرك بولس أنَّه على الصليب حدث تبادل عظيم. فقد سلّم يسوعَ حياته القديمة، التي حاول فيها أنْ يتبرّر عند الله بالناموس، وصلبها على الصليب. ثم أعطى يسوع بولسَ حياته – إذ جاء المسيح ليحيا فيه. فحياة بولس، إذن، لم تعد ملكًا له، بل هي ملك ليسوع المسيح! إنَّ بولس لا يملك حياته (فتلك الحياة قد ماتت)؛ إنَّما هو مُجَرَّد مسؤول عن إدارة الحياة الجديدة التي وهبها له يسوع.
- فَمَا أَحْيَاهُ ٱلْآنَ فِي ٱلْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلْإِيمَانِ: ليس بمقدور بولس إلاَّ إدارة الحياة الجديدة التي منحها إياه يسوع بالإيمان. كما ليس بمقدورك أن تحيا الحياة الجديدة التي يمنحها لك يسوع على أساس حفظ الناموس. لا يمكنك أنْ تحياها إلَّا بالإيمان.
- عندما قال بولس فَمَا أَحْيَاهُ ٱلْآنَ فِي ٱلْجَسَدِ، لم يكن يعني أنَّه كان يعيش حياة منغمسة في الخطيّة والشرّ. “بولس لا يقصد بمصطلح «الجسد» الرذائل الواضحة. فهو يدعو مثل هذه الخطايا عادةً بأسمائها الصحيحة، مثل الزنا والعهر… الخ. ما يقصده بولس بمصطلح «الجسد» هو ما قصده يسوع في الأصحاح 3 من يوحنا: ’اَلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ.‘ (يوحنا ٦:٣) المقصود بـ ’الجسد‘ هنا الطبيعة الكاملة للإنسان، بما في ذلك العقل والغرائز. يقول بولس: ’هذا الجسد لا يتبرّر بأعمال الناموس.” لوثر (Luther)
- إن تركيز هذه الآية لا ينصبّ على ٱلْجَسَدِ، بل على ٱلْإِيمَانِ. “الإيمان ليس مُجرَّد موضوع وعظ به بولس من وقت لآخر. ولا هو فضيلة مارسها من حين لآخر. إنه جوهر كل ما يفعله.” موريس (Morris)
- “الإيمان يربطك بالمسيح بشكل وثيق، بحيث تصبح أنت وهو شخصًا واحدًا. وعلى هذا النحو، يمكنك القول بجرأة: «أنا الآن واحد مع المسيح. لذلك فإنَّ برّ المسيح وغلبته وحياته هي لي.» من ناحية أخرى، قد يقول المسيح: «أنا ذلك الخاطئ الكبير. فخطاياه وموته هما لي لأنَّه متّحِد بي، وأنا به».” لوثر (Luther)
- إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِي: الإيمان الذي عاش به بولس لم يكن إيمانًا بنفسه أو إيمانًا بالناموس أو إيمانًا بما يمكن أن يكسبه أو يستحقّه أمام الله. إنَّما كان إيمانًا بٱبْنِ ٱللهِ، يسوع المسيح – ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِي.
- في السابق، كانت علاقة بولس بالله مبنيّة على ما يستطيع أن يفعله من أجل الله – فإيمانه كان بنفسه. أمَّا الآن فالأساس هو ما فعله يسوع المسيح من أجله – أي صار إيمانه موجّهًا إلى يسوع. قد وجد بولس شخصًا رائعًا ليضع إيمانه فيه! إنَّه شخص أَحَبَّه. إنَّه شخص أظهر هذه المحبّة عندما أَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِ بولس.
- ٱلَّذِي أَحَبَّنِي: يستطيع بولس أن يسلّم حياته بثقة ليسوع بسبب المحبّة التي أظهرها يسوع نحوه في الماضي. “صحيح أنَّه يحبنا الآن، لكن بولس كان مُحقًّا أيضًا عندما كتب: «الذي أحبني.» فالفعل في زمن الماضي. لقد أحبّني يسوع على الصليب وأحبّني في بيت لحم وأحبّني قبل نشأة الأرض. فلم يكن هناك وقت لم يحبّ فيه يسوع شعبه.” سبيرجن (Spurgeon)
- أَحَبَّ … وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ: زمن الماضي مهمّ. يتحدث وليام نيويل (William Newell) في شرحه لرسالة رومية، عن أهمّيّة الزمن الماضي في كلمة أَحَبَّ. “هذا الإنجيل المختصّ بزمن الماضي هو ما يكرهه الشيطان… لهذا دَع الواعظ يقول باستمرار: «إنَّ الله يحبّك، المسيح يحبّك»، ومع مرور الوقت يغيب عن أبصاره هو وشعب كنيسته أنَّهم خطاة وأن يسوع كفّر عن خطاياهم على الصليب، حيث ظهرت محبة الله والمسيح الفائقة مرَّة واحدة وإلى الأبد.”
- “هل أحبّني الناموس قط؟ هل ضحّى الناموس بنفسه من أجلي؟ هل مات الناموس من أجلي؟ على العكس من ذلك، إنَّه يتّهمني، إنَّه يُرهِبني، إنَّه يدفعني إلى الجنون. لكنَّ شخصًا آخر أنقذني من الناموس ومن الخطيّة ومن الموت إلى الحياة الأبديّة. وهذا الشخص هو ابن الله، له الحمد والتمجيد إلى الأبد.” لوثر (Luther)
- أَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِي: “عبارة «لأجلي» تأكيديّة للغاية. لا يكفي أنْ أعتبر المسيح أنَّه قد مات من أجل خلاص العالم؛ بل يجب على كل إنسان أن ينتفع بتأثير وملكية هذه النعمة لنفسه شخصيًّا.” كالفين (Calvin)
- “خذ هذه الكلمات المباركة من الرسول وضعها في فمك، ثُمَّ اتركها هناك كفطيرة من العسل حتّى تذوب في نفسك: «ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِي.»” سبيرجن (Spurgeon)
هـ ) الآية (٢١): بولس يبيّن سبب أهمّيّة مسألة برّ الناموس.
لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ ٱللهِ. لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِٱلنَّامُوسِ بِرٌّ، فَٱلْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلَا سَبَبٍ!
- لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ ٱللهِ: ختم بولس مواجهته العلنيّة مع بطرس ختامًا قوّيًّا. إنَّ مطالبة هؤلاء اليهود المؤمنين القادمين من أورشليم أو أي شخص آخر بالخضوع لشريعة موسى كي يتبرّروا مع الله، تعني أنهم كانوا يُبْطِلُون نِعْمَةَ ٱللهِ – وهو الشيء عينه الذي لا يفعله بولس.
- “إن إبطال النعمة هو أنْ يضع المرء ثقته، لا في الخلاص باعتباره عطيّة مجانية من الله، ولكن في جهوده الشخصيّة. وعمل ذلك هو رفض تامّ للنعمة، والاعتماد على جهد الشخص الضئيل يعني إلغاء المرء تلك النعمة.” موريس (Morris)
- إِنْ كَانَ بِٱلنَّامُوسِ بِرٌّ: إذا كان هذا الافتراض صحيحًا، فقد مَاتَ يسوع بِلَا سَبَبٍ – لأنك تقدر أن تكون بارًا أمام الله من خلال حفظ الناموس، ولا تحتاج إلى عمل يسوع لتبريرك.
- في صلاة يسوع في البستان ( متى ٣٩:٢٦-٤٢)، طلب أنْ ينجو من الصليب إن كانت هناك أي طريقة أخرى لإنجاز ما هو مُقدِم عليه في الصليب، لكنَّ يسوع لم ينجُ من الصليب، لأنَّه لم يوجد سبيل آخر لإنجاز ما قام به.
- هذه هي أيضًا المشكلة الكبرى في نظرتنا إلى نِعْمَة ٱللهِ وكأنها شيء يساعدنا في الوصول إلى السماء، وكأننا نقدّم أفضل ما في وسعنا، ثم توفّر النعمة الباقي. النعمة لا تساعد، إنَّها تفعل كل شيء. إنَّ برّنا كله يأتي من عمل يسوع الذي عمله من أجلنا.
- “إذا كان خلاصي صعبًا إلى درجة أنَّ المسيح اضطر إلى الموت، فإنَّ كل أعمالي، وكل برّ الناموس، لا نفع فيها. فكيف يمكنني أنْ أشتري بفلس واحد ما قد تكلّف مليون دينار؟” لوثر (Luther)
- لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ ٱللهِ: إننا لا نعرف التأثير الفوريّ لهذا الموقف الجريء في سبيل الحقّ. بَيْدَ أنَّنا نعلم أنَّ بطرس – بمرور الوقت – ثاب إلى رشده وأخذ كلام بولس بعين الاعتبار. ونحن نعلم ذلك من أعمال الرسل ٦:١٥-١١، حيث صرّح بطرس في أورشليم، أمام يعقوب وبولس وبرنابا وغيرهم من الرسل، أنَّه لا يلزم الأُمَم أن يخضعوا لناموس موسى لينالوا الخلاص.
- نحن نعلم أنَّ بطرس كان متّفقًا بالفعل على الطريقة التي عبّر بها بولس عن القضية في غلاطيّة ١٥:٢-١٧ «نَحْنُ … آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا … لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ … فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي ٱلْمَسِيحِ.» يلفت بولس انتباه بطرس إلى شيء يؤمن به بطرس ولكنه لم يتصرّف وفقًا له. فقد يؤمن الإنسان بأنّ يسوع يخلِّص وأننا لا نخلِّص أنفسنا؛ ولكن يجب على الإنسان أيضًا أنْ يرفض التصرّف والتفكير كما لو كان يستطيع أن يخلص نفسه.
- إننا نثق في أنَّ الله استخدم هذه المواجهة المحرجة في أنطاكية من أجل المصلحة العامّة.
- فقد كانت مفيدة لبولس، لأنَّه ظلّ أمينًا وأعلن الإنجيل.
- وكانت مفيدة لبطرس، لأنَّه خضع للتقويم، ونتيجةً لذلك اقتنع بالحقّ أكثر من ذي قبل.
- وكانت مفيدة لبرنابا، لأنَّه وصل إلى الإيمان الصحيح في هذا الأمر.
- وكانت مفيدة للقَوْم (الذين جاؤوا) مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ وأشاعوا الفوضى، لأنَّها أسهمت في توضيح معالم الإنجيل الصحيح، وألزمتهم بأخذ قرار.
- وكانت مفيدة للمؤمنين اليهود في أنطاكية، لأنَّهم حصلوا عن شرح واضح للحقّ أمام أعينهم.
- وكانت مفيدة للمؤمنين الأُمَميين في أنطاكية، لأنَّ إيمانهم وحريتهم في يسوع ازدادا قوّة.
- وكانت مفيدة لنا لأنَّها أبقت الحقّ حيًّا إلى اليوم.
- لقد تحقّق كل هذه الفائدة، ولكن فقط لأنَّ بولس كان على استعداد لعمل شيء صحيح تمامًا، ولكنه غير مريح بالمرّة. وكان بطرس على استعداد لعمل ذلك أيضًا، عندما اعترف بخطئه. وقد كان بطرس وبولس على استعداد للتضحية بمنطقة الراحة الخاصّة بهما في سبيل الحقّ.