رسالة غلاطيّة – الإصحاح ٣
المؤمن والناموس والحياة بالإيمان
أوَّلًا. مبدأ المثابرة في الإيمان
أ ) الآية (١): بولس يواجه رؤيتهم المشوَّشة ليسوع وعمله من أجلهم.
١أَيُّهَا ٱلْغَلَاطِيُّونَ ٱلْأَغْبِيَاءُ، مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لَا تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ؟ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا!
- أَيُّهَا ٱلْغَلَاطِيُّونَ ٱلْأَغْبِيَاءُ! كانوا يستحقّون هذه الكلمات الشديدة. حتّى أن فيليبس (Phillips) ترجمها هكذا: “يا أعزّائي الغلاطيّون الحمقى.” بدعوة أهل غلاطيّة بـالأغبياء أو الحمقى، لم يقصد بولس أنَّهم كانوا ناقصين أخلاقيًّا أو عقليًّا (كانت الكلمة اليونانية القديمة مورُس moros تحمل هذا المعنى وقد استخدمها يسوع في الأمثال كما في متى ٧:٢٦ و ١:٢٥-١٣). بدلًا من ذلك، استخدم بولس الكلمة اليونانيّة القديمة أنوئيتوس anoetos، والتي تحمل معنى القدرة على التفكير ولكن العجز عن التمييز.
- المبادئ التي أشار إليها بولس هي أمور كان أهل غلاطيّة يعرفونها، أمور تعلّموها. فالمعرفة والفهم كانا موجودين، لكنهم لم يستخدموهما.
- مَنْ رَقَاكُمْ: توحي كلمة رَقَاكُمْ بأن الغلاطيّين كانوا تحت تأثير عمل سحري. وبولس لم يقصد ذلك حرفيًّا، لكنَّ تفكيرهم كان مُشوَشًا للغاية – وغير كتابيّ – إلى درجة أنَّه كان يبدو وكأنَّ أحدًا سحرهم بتعويذة ما.
- يترجم باركلي (Barclay) كلمة رَقَاكُمْ: حَسَدَكم. اعتاد الإغريق القدماء على فكرة الحسد وكان يخافون من العين.
- كانوا يعتقدون أنَّ العين الشريرة تعمل بالطريقة التي ينوّم بها الثعبان فريسته مغناطيسيًّا بعينيه. فبمجرد نظر الضحية إلى العين الشريرة، يمكن إلقاء تعويذة عليه. لذلك فطريقة التغلّب على العين ببساطة هي عدم النظر إليها. باستخدام هذه الصياغة وتعبير الرقية المجازيّ، شجّع بولس الغلاطيّين على تثبيت عيونهم دائمًا وأبدًا على يسوع.
- جميل أن يكون قلبنا ضعيفًا وليّنًا أمام الله. ولكنَّ عقول بعض الناس أضعف من قلوبهم. حيث تكيَّفت عقولهم مع الأفكار الخاطئة وغير الكتابيّة، فلم يعودوا يتدبّرون الأمور لمعرفة ما إذا كانت صحيحة حقًّا أم أنَّها غير موافقة للكتاب المُقَدَّس. وهذه علامة على عدم نضجهم الروحيّ، مَثَلُهم مَثَل الطفل الذي يضع أي شيء في فمه.
- أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا: المعنى المقصود بـ قَدْ رُسِمَ هو عرض شيء ما علنًا على ’لوحة إعلانات.‘ كان بولس يتعجّب كيف غابت الرسالة عن أهل غلاطيّة مع أنَّه بالتأكيد شرحها لهم بما يكفي.
- عندما تركوا رسالة يسوع وإياه مصلوبًا، تركوا الرسالة التي بشّر بها بولس. كان تبشير بولس أشبه بتعليق ملصقات ليسوع في جميع أنحاء المدينة – فحيث تلقي بصرك فإنك سترى يسوع لا محالة.
- عندما نرى يسوع أمامنا بوضوح، لن نُخدَع. “إذا جاءكم أي شيء مخالف لهذا، فهو لن يتردد بالقول: «لكل شخص الحقّ في إبداء رأيه»؛ بل يقول: «نعم، قد يكون لهم الحقّ في إبداء رأيهم، وكذلك أنا أيضًا؛ ورأيي هو أنَّ أي رأي ينتقص من مجد ذبيحة المسيح الكفّاريّة هو رأي مكروه.» تشبّعوا بكفّارة المسيح الحقيقيّة في نفوسك بالكامل، فلا يفتنكم أحد بسِحره.” سبيرجن (Spurgeon)
- أَمَامَ عُيُونِكُمْ: لم يقصد بولس أنَّهم شاهدوا صلب المسيح حرفيًّا أو حتّى أنَّهم رأوا رؤيا روحيّة له. إنَّما قصد أنَّ حقّ المسيح المصلوب وعظمة عمله من أجلهم قد اتّضح بكلّ جلاء أمامهم حتّى أمكنهم رؤيته. في الواقع إنَّ رؤية موت يسوع على الصليب قد لا تعني شيئًا. فالمئات، بل الآلاف، رأوا يسوع يموت على الصليب ومعظمهم استهزأوا به.
ب) الآيات (٢-٣): بولس يواجه انحرافهم عن مبدأ الإيمان.
٢أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هَذَا فَقَطْ: أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أَخَذْتُمُ ٱلرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ ٱلْإِيمَانِ؟ ٣أَهَكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ! أَبَعْدَمَا ٱبْتَدَأْتُمْ بِٱلرُّوحِ تُكَمَّلُونَ ٱلْآنَ بِٱلْجَسَدِ؟ أَهَذَا ٱلْمِقْدَارَ ٱحْتَمَلْتُمْ عَبَثًا؟ إِنْ كَانَ عَبَثًا!
- أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هَذَا فَقَطْ: قال بولس: ’أخبروني بهذا فقط: أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أَخَذْتُمُ ٱلرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ ٱلْإِيمَانِ؟‘ من الواضح أنَّ أهل غلاطيّة نالوا الروح القُدُس بالإيمان البسيط. فالروح القُدُس ليس جائزة حصلوا عليها بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ.
- كان الأمر يجري على هذا النحو: قيل للأُمَميّ إنَّه يجب أن يخضع لناموس موسى وإلا فلن يباركه الله. وهذا يعني أنَّه يجب ختانه بحسب الناموس موسى. فعندما يختتن، وبمجرد الانتهاء من إزالة الغرلة، يُسكَب عليه الروح القُدُس. وهذا بالطبع مخالف للواقع. فنحن ننال الروح القُدُس بالإيمان لا بالخضوع لأعمال الناموس.
- أَبَعْدَمَا ٱبْتَدَأْتُمْ بِٱلرُّوحِ تُكَمَّلُونَ ٱلْآنَ بِٱلْجَسَدِ؟ لقد انخدع أهل غلاطيّة فصدّقوا أنَّه يمكن تحقيق النمو أو النضج الروحيّ من خلال أعمال الجسد، بدلًا من الإيمان البسيط والمتواصل والثبات في يسوع.
- يمكن التعبير عن رسالة بولس بطريقة أخرى: ’لقد نلتم أعظم عطيّة – روح الله القدوس – بالإيمان. فهل تواصلون المشوار بدون إيمان بل بالثقة في طاعتكم لفرائض شريعة موسى؟‘
- هذا يحدّد أحد الاختلافات الأساسيّة بين مبدأ الناموس ومبدأ النعمة. فبموجب الناموس، نحن نتبارك وننمو روحيًّا من خلال ما نكسبه ونستحقّه. أمَّا بموجب النعمة، فنحن نتبارك وننمو روحيًّا بالإيمان. إنَّ الله يتعامل معنا بموجب عهد النعمة؛ فلا ينبغي لنا أن نتجاوب بموجب مبدأ الناموس.
- أَهَكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ! هذه فعلاً حماقة. لقد بثّ الشيطان هذه الخدعة لإخراج حياتنا الروحية عن مسارها. فإنه إن لم يستطع منعنا من الخلاص بالإيمان، فسوف يحاول إعاقة بركتنا ونمونا ونضجنا بالإيمان.
ج ) الآية (٤): سؤال عن الماضي: هل كان كل شيء هباءً؟
٤أَهَذَا ٱلْمِقْدَارَ ٱحْتَمَلْتُمْ عَبَثًا؟ إِنْ كَانَ عَبَثًا!
- أَهَذَا ٱلْمِقْدَارَ ٱحْتَمَلْتُمْ عَبَثًا؟ على ما يبدو، فإنَّ أهل غلاطيّة تألّموا (ربَّما عندما كان بولس بينهم) من أجل مبدأ الإيمان (غالبًا على أيدي المؤمنين الناموسيّين). فهل يعني انحرافهم عن مبدأ الإيمان أن هذه التألُّم الماضي كَانَ عَبَثًا؟
- نحن نعلم أنَّ بولس عانى من الاضطهاد في هذه المنطقة. ويوضّح أعمال الرسل ١٤ أنَّ بولس ورفاقه تعرّضوا للاضطهاد الشديد (حتى أنَّ بولس رُجِم وتُرِك بين حي وميت) على أيدي اليهود عندما كانوا في مدن غلاطيّة. ومن المؤكَّد أن بعض هذا الاضطهاد امتد إلى الكنائس التي خلّفها بولس وراءه في غلاطيّة.
- أَهَذَا ٱلْمِقْدَارَ ٱحْتَمَلْتُمْ عَبَثًا؟ رُبَّما تكون الترجمة الأفضل لهذه العبارة هي: ’هل تمتّعتم بكل هذه الاختبارات الروحيّة الرائعة دون أية فائدة؟‘ فهذا قد يتناسب مع السياق بشكل أفضل. تعجّب بولس من ضياع جميع مواهب الروح التي نالوها هباءً لأنهم حاولوا السير وفقًا للناموس، لا بالإيمان.
د ) الآية (٥): بولس يطلب منهم فحص مصدر عمل الروح.
٥فَٱلَّذِي يَمْنَحُكُمُ ٱلرُّوحَ، وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ، أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ ٱلْإِيمَانِ؟
- فَٱلَّذِي يَمْنَحُكُمُ ٱلرُّوحَ: من منحكم الروح القُدُس؟ من الواضح أنّهم مُنحِوا الروح كعطيّة من الله.
- وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ، أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ ٱلْإِيمَانِ؟ منحهم الله الروح القُدُس استجابةً للإيمان. والمعجزات جرت بالإيمان. بَيْدَ أنَّ أهل غلاطيّة خُدِعوا فصدّقوا أنّ الغنى الروحيّ الحقيقيّ يكمن في السير وراء الله بواسطة علاقة مبنيّة على الأعمال.
- أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ ٱلْإِيمَانِ؟ كـرّر بولس الآية ٢ لأنَّه أراد التأكيد على ضرورة الاختيار. فماذا تختارون؟ هل تؤمنون بأنكم ستتباركون بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ ٱلْإِيمَانِ؟ هل ستعملون للحصول على بركة الله، أم ستحصلون عليها بالإيمان؟
- هذا يخاطب مَن يشعرون بنقص في البركة. لماذا؟ ليس بسبب نقص الإخلاص وليس لأنَّهم لم يكسبوا ما يكفي؛ ولكن لأنَّهم لا يضعون إيمانهم وتوقّعاتهم وثقتهم في يسوع المسيح، ابن الله.
- هذا يخاطب مَن يشعرون بالبركة. كيف ذلك؟ فبالنسبة لهم الكبرياء يعني العمى الروحي. فهم لم يكسبوا بركتهم، ومن ثَمَّ لا يجب أن يفتخروا بها. بل يجب – بالأحرى – أن ينظروا إلى يسوع وأن يضعوا رجاءهم فيه.
ثانيًا. إبراهيم: مثال على المُبرَّرين الذين يسلكون بالإيمان
أ ) الآية (٦): كيف تبرّر إبراهيم أمام الله.
كَمَا «آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا».
- كَمَا «آمَنَ إِبْرَاهِيمُ…»: جاء الدافع نحو العلاقة مع الله، المبنيّة على الأعمال، بين مؤمني غلاطيّة من بعض المؤمنين الآخرين، الذين وُلِدوا يهودًا وادّعوا أنَّ إبراهيم هو سلفهم الروحيّ. لذلك استخدم بولس إِبْرَاهِيم كمثال على نوال البرّ عند الله بالإيمان وحده، لا بالإيمان إضافةً إلى الأعمال.
- “من المهمّ للغاية للرسول بولس أنَّ يعلن أن الله يخلّص البشر بالنعمة وليس على أساس إنجازهم البشريّ، وهو قد وجد إبراهيم مثالًا ممتازًا على هذه الحقيقة.” موريس (Morris)
- آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا: يقتبس بولس هنا من تكوين ٦:١٥. فتدلّ الآية ببساطة على أنَّ البِرّ قد حُسِبَ لإبراهيم لأنَّه آمن بالله. ولم يحدث ذلك لأنَّه قام ببعض الأعمال، وبالتأكيد ليس بفضل ختانه، لأنَّ عهد الختان لم يكن قد أُعطِي بعد.
- يبيّن تكوين ١:١٥-٦ أنَّه عندما وضع إبراهيم ثقته في الله، وبالتحديد في وعد الله أنْ يرزقه بنينًا، الذي منهم سيخرج المسيّا، قيّد الله هذا الإيمان في حساب إبراهيم باعتباره برًا. “إنَّ إبراهيم لم يتبرّر لمجرد أنَّه آمن بأنَّ الله سوف يضاعف نسله، ولكن لأنَّه قبل نعمة الله ووثق في الوسيط الموعود به.” كالفين (Calvin)
- هناك نوعان من البرّ فقط: البرّ الذي نحقّقه من خلال جهودنا الخاصّة، والبرّ الذي يُحسَب لنا بعمل الله عندما نؤمن. نظرًا لأنَّنا لسنا صالحين بالقدر الكافي لتحقيق البرّ الكامل، يجب أن يُحسَب لنا برّ الله، وذلك بأن نعمل ما عمله أبرام: آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللهِ.
- آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا: هذا الاقتباس من تكوين ٦:١٥ هو من أوضح التعبيرات في الكتاب المُقدَّس عن حقيقة الخلاص بالنعمة بواسطة الإيمان وحده. إنَّه إنجيل العهد القديم، مقتبسًا أربع مرات في العهد الجديد (رومية ٣:٤، رومية ٩:٤-١٠، رومية ٢٢:٤ وهنا في غلاطيّة ٦:٣).
- تحتجّ رومية ٩:٤-١٠ كثيرًا بحقيقة أنَّ هذا البرّ قد حُسِب لإبراهيم قبل ختانه (تكوين ١٧). فلا يمكن لأحد أن يقول إنَّ إبراهيم أصبح بارًّا بسبب طاعته أو حفظه للشريعة أو الطقوس الدينيّة. لقد كان الإيمان، والإيمان وحده، الذي جعل الله يحسب إبراهيم بارًّا.
- يجب أن نحرص على القول بأنَّ إيمان إبراهيم لم يجعله بارًّا. إنَّما إله إبراهيم هو الذي جعل إبراهيم بارًّا، إذ حسب إيمانه له على أنَّه برّ. “إيمانه لم يكن برّه، ولكن هكذا كافأ الله ممارسته للإيمان، إذ حسب (أو نسب) له … البرّ الخاصّ [بالله] الذي آمن به.” بُووله (Poole)
- فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا: تُثبِت خبرة إبراهيم أنَّ الله يحسبنا أبرارًا بفضل ما فعله يسوع من أجلنا، عندما نقبل ما فعله من أجلنا بالإيمان.
- موريس (Morris) بخصوص «فَحُسِبَ»: “معناها: «حسب أو نسب»، ويمكن استخدامها بمعنى تقييد شيء في حساب شخص ما، وهنا بمعنى تقييد البرّ في حساب إبراهيم.”
- إذا كان الله قد حَسَب (أي اعتبر) إبراهيم من الأبرار، فهذه هي الطريقة التي يجب أن يعتبر بها إبراهيم نفسه. لقد كانت هذه حالته أمام الله، وحساب الله سليم. فالله لا يحسب لنا برًا مزيَّفًا، بل حقيقيًّا في يسوع المسيح.
- آمَنَ … بِٱللهِ: ليس المعنى أنَّ إبراهيم آمن بالله (كما نتحدث عادةً عن الإيمان بالله)، بل أنَّ إبراهيم صدّق الله. فأولئك الذين يؤمنون بالله فقط، بمعنى أنَّهم يعتقدون بوجوده، لا تزيد روحانيّتهم عن روحانيّة الشياطين (يعقوب ١٩:٢).
- ”آمن، بالطبع، معناها أكثر من أنَّه قَبِل ما قاله الله على أنَّه صحيح (رغم أنَّه فعل ذلك بالطبع)؛ إنَّما معناها أنَّه وثق بالله.” موريس (Morris)
- لم يُعجَب معلمو اليهود إجمالاً بإيمان إبراهيم. فقد كانوا يعتقدون أنَّ الله أحبّه لأنَّه حفظ الناموس قبل مئات السنين من استلامه. لهذه الأسباب وغيرها، لا بُدّ أنَّ ذِكر بولس لإبراهيم كان مفاجأة لخصومه، الذين كانوا يعتقدون أنَّ إبراهيم حُجّة لهم لا عليهم. “لا بُدّ أن تأكيد بولس على إيمان إبراهيم كان بمثابة مفاجأة تامّة للغلاطيّين.” موريس (Morris)
- بَيْدَ أنَّ بعض معلمو اليهود كانوا قد لاحظوا أهمّيّة إيمان إبراهيم. “من اللافت للنظر أنَّ اليهود أنفسهم أكّدوا على أنّ إبراهيم قد خُلِّص بالإيمان. إذ يصرح يلقوط شمعوني في كتابه (صفحة ١، فقرة ٦٩) بما يلي: ’من الواضح أنّ إبراهيم لم يستطع الحصول على ميراث، لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي، وإنما بالإيمان.‘” كلارك (Clark)
- “الإيمان بالله يمثّل أعلى مستوى من العبادة، أي الفريضة الأولى، الطاعة الأولى، والتضحية الأولى. فبدون إيمان يكون الله بلا مجد وحكمة وحقّ ورحمة. إنَّ الواجب الأوَّل للإنسان هو الإيمان بالله وإكرامه بإيمانه. الإيمان هو حقًّا ذروة الحكمة، النوع الصحيح من البر، والديانة الصحيحة الوحيدة… فالإيمان يقول لله: ’أنا أصدّق ما تقول.‘” لوثر (Luther)
ب) الآية (٧): أبناء إبراهيم الحقيقيّون.
٧ٱعْلَمُوا إِذًا أَنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْإِيمَانِ أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ.
- ٱعْلَمُوا إِذًا: التأكيد واضح. أشار بولس إلى نقطة مهمّة وأراد أن يفهمها جميع قُرّائه.
- “«اعلموا» هي صيغة أمر. فبولس يأمر أهل غلاطيّة أن يكتسبوا هذا العلم.” موريس (Morris)
- أَنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْإِيمَانِ أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ: بما أنَّ إبراهيم أصبح بارًّا بالإيمان وليس بالأعمال، لذلك فإبراهيم هو أبو كل من يؤمن بالله ويحسب بارًّا.
- “يمكننا دائمًا ألاَّ نترجم هويؤوي أبرآم huioi Abraam بـ «أطفال (أو أبناء) إبراهيم»، بل بـ «أمثال إبراهيم الحقيقيّين.” كول (Cole)
- بَنُو إِبْرَاهِيمَ: لقد كان هذا توبيخًا شديدًا للمؤمنين اليهود الذين حاولوا إخضاع المؤمنين الأُمَم للناموس. فكانوا يؤمنون بتفوّقهم لأنَّهم من نسل إبراهيم ولأنهم يحفظون الناموس. فقال بولس إنَّ أهم صلة بإبراهيم ليست صلة الوراثة ولا صلة الأعمال، بل صلة الإيمان.
- لا بُدّ أنَّ التغيير الفكريّ كان مفاجئًا لهؤلاء الأفراد الذين عارضوا بولس. فهم كانوا يعتقدون اعتقادًا راسخًا بأنّهم يملكون مكانة عند الله بفضل انتسابهم الوراثيّ لإبراهيم. في ذلك الوقت، كان بعض معلي اليهود يعلّمون بأنَّ إبراهيم يقف عند أبواب الجحيم لمجرد التأكّد من أنَّ أحدًا من أحفاده لم يتسلّل إلى الداخل بالغلط. وقد تناول يوحنا المعمدان هذا التفكير نفسه عندما قال: «وَلَا تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَبًا. لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ٱللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذِهِ ٱلْحِجَارَةِ أَوْلَادًا لِإِبْراهِيمَ» (متى ٩:٣). فإذا ببولس يهدم اتّكالهم الأعمى على العلاقة الوراثيّة بإبراهيم ويُظهِر أنَّ المهمّ فعلاً هو الإيمان بيسوع.
- والأمر نفسه يسري اليوم عندما يظنّ الناس أنَّ الله يقبلهم لأنَّهم ينتمون إلى عائلة مسيحيّة. الإيمان لا يُورَّث؛ أي يجب أن يكون لكلّ واحد إيمانه الخاصّ بالله.
- هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ: لقد كان هذا ارتياحًا كبيرًا للمؤمنين غير اليهود الذين كان الآخرون يعتبرونهم ’مؤمنين من الدرجة الثانية.‘ فقد تأكّد لهم الآن أنَّ لهم صلة حقيقيّة مهمّة بإبراهيم ويمكنهم اعتبار أنفسهم بني إِبْرَاهِيمَ.
- للأسف، أخذ المؤمنون هذه الحقيقة المجيّدة وأساءوا تطبيقها على مرّ القرون. فلقد استخدم الكثيرون هذه الآية لدعم لاهوت الاستبدال – أي أنَّ الله قد انتهى من شعب إسرائيل كأمة أو جماعة عرقية متميّزة، وأنّ الكنيسة ترث جميع الوعود الموعودة لإسرائيل روحيًّا.
- لقد سبّب لاهوت الاستبدال أضرارًا هائلة في الكنيسة، حيث وفّر الوقود اللاهوتيّ لحرائق الاضطهاد الرهيب لليهود. وإن كانت رسالة غلاطيّة ٧:٣ هي الآية الوحيدة في الإنجيل التي تتحدّث عن هذه القضية، فقد يكون هناك مجال للقول بأنَّ الكنيسة حلّت محلّ إسرائيل بالكامل. لكننا نفهم الكتاب المُقَدَّس وفقًا لرسالته ككل، ونسمح لأحد المقاطع بإلقاء الضوء على المقاطع الأخرى.
- على سبيل المثال، تنصّ رومية ٢٥:١١ «ٱلْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيًّا لِإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ ٱلْأُمَمِ» بوضوح على أنَّ الله لم ينته من إسرائيل كأمة أو جماعة عرقية مميزة. وعلى الرغم من أنَّ الله قد حوّل تركيز مراحمه المُخلِّصة بعيدًا عن إسرائيل إلى الأمم، إلَّا أنَّه سيعيد مراحمه إليها مرَّة أخرى. فهذا المقطع البسيط يدحض قول المصرّين على أنَّ الله قد انتهى إلى الأبد من إسرائيل باعتبارها إسرائيل، وأنّ الكنيسة هي إسرائيل الجديدة، التي ترث كل وعد قُطِع لشعب إسرائيل والعِرق اليهوديّ في العهد القديم.
- يذكّرنا الوحي بالطابع المستديم للوعود التي قُطِعَت لشعب إسرائيل والعِرق اليهوديّ (مثل تكوين ١٥:١١ و تكوين ٧:١٧-٨). فالله ’لم ينته‘ من إسرائيل، وإسرائيل لا تُفسَّر ’روحيًّا‘ على أنَّها الكنيسة. في الوقت نفسه، نحن نرى ونفرح باستمرار عمل الله في جميع أتباعه عبر العصور، ولكننا ما زلنا نرى تمييزًا بين إسرائيل والكنيسة – وهو تمييز يفهمه بولس جيدًا.
- جميع الذين وضعوا إيمانهم بيسوع المسيح هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ؛ لكنَّ إبراهيم له أبناؤه الروحيّون وأبناؤه الجسديّون، والله عنده خطة ومكان لكل منهما. بَيْدَ أنَّ أحدًا لا ينكر أنَّه من الأهم بكثير أن تكون ابنًا روحيًّا لإبراهيم عن أنْ تكون ابنًا له بالوراثة.
ج) الآيات (٨-٩): بركة البرّ التي بالإيمان هي لجميع الأُمَم.
٨وَٱلْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ ٱللهَ بِٱلْإِيمَانِ يُبَرِّرُ ٱلْأُمَمَ، سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ «فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ ٱلْأُمَمِ». ٩إِذًا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُؤْمِنِ.
- وَٱلْكِتَابُ: يتحدّث بولس نقلاً عن الكتاب المُقَدَّس. ولقد سبق وتحدّث بالفعل من واقع خبرته الشخصيّة ومن خبرة المؤمنين الغلاطيّين أنفسهم. لكنَّ هذا المقطع أكثر أهمّيّة، لأنَّه يوضّح أنَّ تعاليم بولس صحيحة وفقًا للكتاب المُقَدَّس نفسه.
- لا بأس لو كان معارضو بولس قد قالوا: ’الاختبارات لا بأس بها يا بولس، لكن اثبت لنا من الكتاب المُقَدَّس.‘ وكان بولس على أهبة الاستعداد للتصدّي لهذا التحدي.
- وَٱلْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى … سَبَقَ فَبَشَّرَ … أَنْ: من اللافت للنظر أنَّ بولس أشار إلى ٱلْكِتَاب المُقَدَّس وكأنه شخص يتنبأ ويتكلّم ويبشّر. يُظهِر ذلك كم كان بولس يعتبر الكتاب المُقَدَّس كلمة الله. فبولس كان يؤمن أنَّه عندما يتكلم الكتاب المُقَدَّس، فالله ذاته يتكلّم.
- “بولس يشخّص الكتاب المُقَدَّس” موريس (Morris). “لقد أحسنَ من دعا الكتاب المُقَدَّس: قلب الله وروحه.” تراب (Trapp)
- سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ ٱللهَ بِٱلْإِيمَانِ يُبَرِّرُ ٱلْأُمَمَ: ذكر بولس أنَّه حتّى في أيام إبراهيم، كان من الواضح أنَّ هذه البركة بالإيمان كانت مقصودة لكل الشعوب، أي للأُمَم واليهود، لأنَّ الله قال: فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ ٱلْأُمَمِ (تكوين ٣:١٢).
- كان القصد هو القضاء على فكرة أنَّ الأُمَم يجب أن يتهوّدوا أوّلًا كي يصبحوا مسيحيّين. فإذا كان ذلك ضروريًّا، لَمَا قال الله أبدًا إنَّ هذه البركة تشمل كل أمة، لأنَّ الأُمَم كان سيتعيّن عليهم أن يصبحوا جزءًا من الأمة الإسرائيليّة لينالوا الخلاص.
- الفكرة هي أنّ الإنجيل يخرج إلى ٱلْأُمَم، لا أنَّ الأُمَم تأتي وتندمج في إسرائيل.
- إِذًا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُؤْمِنِ: إنَّ البركة التي ننالها مَعَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُؤْمِنِ ليست بركة الثروة والسلطة الهائلتين، رغم أنَّ إبراهيم كان صاحب ثروة وسلطة هائلتين. إنَّما البركة شيء أثمن بكثير: إنَّها بركة العلاقة السليمة مع الله من خلال الإيمان.
- “كان إيمان الآباء موجَّهًا إلى المسيح الذي كان سيأتي، بينما يستقرّ إيماننا نحن في المسيح الذي أتى.” لوثر (Luther)
- “«ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْإِيمَانِ» أي الذين يتميّزون بإيمانهم؛ لا الذين يملكون إيماناً متقلباً يعتمد على المشاعر، بل الإيمان هو موقفهم القلبيّ الثابت؛ الإيمان شيمتهم.” موريس (Morris)
ثالثًا. الناموس في ضوء العهد القديم والعهد الجديد
أ ) الآية (١٠): يخبرنا العهد القديم أنَّ ناموس موسى يجلب لعنة.
١٠لِأَنَّ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لَا يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ ٱلنَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ».
- لِأَنَّ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ: خاطب بولس هنا من يعتقدون أنَّ تطبيقهم للناموس يستطيع أن يوفّر لهم العلاقة السليمة مع الله.
- الانتقال من إبراهيم المؤمن (غلاطيّة ٣:٩) إلى ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ له مغزى. “إنْ كان أبو الآباء العظيم قد قُبِل عند الله بسبب إيمانه فقط، فهذا يعني أنَّ البشر الأقل شأنًا لن ينجحوا في القيام بالأعمال الصالحة التي تسمح لهم بالقبول عند الله.” موريس (Morris)
- “مُطبّقو الناموس المنافقون هم الذين يسعون إلى نوال البرّ من خلال الأعمال الصالحة بينما قلوبهم بعيدة كل البعد عن الله. مَثَلُهم مَثَل النجار الجاهل الذي يبدأ بالسقف عندما يبني دارًا.” لوثر (Luther)
- لِأَنَّ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ: المؤمنون الذين من خلفيّة يهوديّة، الذين اعتقدوا أنَّه لا يزال يتعيّن على الأُمَم أن يعيشوا وفقًا لناموس موسى، كانوا يظنّون أنَّ هذا هو السبيل إلى البركة. فأعلن بولس بجرأة أنَّه بدلًا من البركة، فإنَّ الخضوع لأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ يضعهم تَحْتَ لَعْنَةٍ.
- ليس من الصعب أن نرى كيف اعتقد هؤلاء المؤمنون أنَّ العيش في ظلّ الناموس يجلب البركة. فلعلّهم قرأوا العديد من المقاطع التي تدعم هذا الفكر في العهد القديم. فنقرأ في المزمور ١:١١٩ «طُوبَى لِلْكَامِلِينَ طَرِيقًا، ٱلسَّالِكِينَ فِي شَرِيعَةِ ٱلرَّبِّ!»، و مزمور ١:١-٢ يقول: «طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ ٱلْأَشْرَارِ، وَفِي طَرِيقِ ٱلْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ، وَفِي مَجْلِسِ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ. لَكِنْ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ مَسَرَّتُهُ، وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَارًا وَلَيْلًا».
- يجب أن نفهم كيف يمكن للناموس أن يجلب البركة. أوّلًا، يجب أنْ نعلم أنَّ كلمة الشريعة تُستَخدم بمعنيين في الكتاب المُقَدَّس. فقد تعني أحيانًا ’ناموس موسى، بكل فرائضه، التي يجب على الإنسان طاعتها ليرضى عليه الله،‘ وتعني أحيانًا ’كلمة الله‘ بمعنى عامّ جدًا. وأحيانًا كثيرة عندما يتحدّث العهد القديم عن الناموس، فإنه يتحدّث عنه بالمعنى العام لكلمة الله. فعندما يقول مزمور ٩٧:٩١١ «كَمْ أَحْبَبْتُ شَرِيعَتَكَ! ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ هِيَ لَهَجِي»، يقصد المزمور ما هو أكثر من مُجرَّد ناموس موسى؛ إنَّه يقصد كلمة الله كلها. فإذا استوعبنا هذا، نعلم كيف يزخر الكتاب المُقَدَّس بمدح الناموس. ثانيًا، نحن نتبارك عندما نحفظ الناموس لأننا نعيش وفق ’كتاب الإرشادات‘ المتعلّق بالحياة. فهناك بركة متأصّلة وكامنة في العيش بالطريقة التي يأمرنا الله أنْ نعيش بها، أي عندما نتّبع ’تعليمات المصنع.‘
- عندما قال بولس إنَّ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، فإنه لم يقصد أنَّ الناموس شرّ أو أنَّ كلمة الله خطيّة. إنَّما قصد ببساطة أنّ الله لم يقصد قط أن يكون الناموس هو طريقة الحصول على رضاه. فهو يعلم أنَّنا لا نستطيع أبدًا حفظ الناموس، ولهذا وضع نظام الكفّارة عن الذنوب بجانب الناموس. وكان نظام الذبائح كله يتطلّع قُدُمًا إلى ما سيتمّمه يسوع على الصليب من أجلنا.
- مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لَا يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ ٱلنَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ: لإثبات وجهة نظره، استشهد بولس من سفر التثنية ٢٦:٢٧. ويبيّن لنا العهد القديم نفسه أننا إن لم نحفظ جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ في الناموس، فنحن تحت لعنة.
- الكلمتان المهمّتان هما: جَمِيع ويَعْمَل. فلكي يرضى الله عنك على أساس الناموس، عليك أوّلًا أنْ تَعْمَلَ بِهِ. لا أنْ تعرفه فقط، ولا أنْ تحبه فقط، ولا أنْ تعلّم به فقط، ولا أنْ تريده فقط، بل يجب عليك العمل به. ثانيًا، عليك أن تعمل بـجَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيه، وليس ببعضه. ليس فقط عندما تتخطّى سنّك ١٨ عامًا أو ٤٠ عامًا. يقول تثنية ٢٦:٢٧ على وجه التحديد إنَّه لكي تتبرَّر بالناموس، يجب عليك العمل به، والعمل بـ جَمِيعِ حذافيره.
- جَمِيع معناها كل شيء. أي أنَّه في حين أنَّ بعض الذنوب أشرّ من غيرها، فلا توجد خطايا صغيرة أمام مثل هذا الإله العظيم. “يتغاضى حَفَظَة الناموس اليهود عن الصغائر. أمَّا بولس فلا يفعل ذلك.” موريس (Morris)
- “تجدر الإشارة إلى أنَّه لا توجد نسخة مطبوعة من الكتاب المُقَدَّس العبري ترد فيها كلمة «كل» المذكورة في تثنية ٢٦:٢٧، التي تقابل كلمة «جميع» التي أوردها الرسول بولس هنا. يقول القِدّيس جيروم إنَّ اليهود تكتّموا عليها، خشية أن يبدو أنهم مُلزَمون بتطبيق كل ما هو مكتوب في سِفر الشريعة. فلا يوجد سبب للشكّ في صحّة هذا القراءة؛ فهي موجود في ستة مخطوطات حرّرها كينيكوت ودي روسي، وفي النسخة السامريّة، في عدة نسخ من الترجوم، وفي الترجمة السبعينيّة، وفي الاقتباس الذي أورده الرسول هنا، والذي لا يوجد فيه أي تعارض مع المخطوطات أو الترجمات القديمة.” كلارك (Clark)
- مَلْعُونٌ كُلُّ: تعبير بولس ثقيل؛ فهو يثقلنا بلعنة. فإن كنت تعمل بموجب الناموس، فالطريقة الوحيدة التي يمكنك بها أن تتبرّر وتتبارك عند الله بموجب الناموس هي أن تعمل به وتعمل به كله. وإن لم تفعل، فأنت مَلْعُونٌ.
- مَلْعُونٌ كلمة لها وقع غريب على آذاننا. بَيْدَ أنَّ فكرة أنْ تكون مَلْعُونًا في الكتاب المُقَدَّس مهمّة ومخيفة – لأنَّها تعني أنَّ الله قد لعنك. فأنت لست مَلْعُونًا بخياراتك السيئة فقط، ولست مَلْعُونًا بهذا العالم الشرير فقط، ولست مَلْعُونًا بالشيطان فقط – بل أنّك مَلْعُونٌ من الله بشكل خاصّ. وهو الشخص الوحيد الذي يُستَحسن ألاَّ تكون مَلْعُونًا منه.
ب) الآية (١١): العهد القديم يخبرنا أنَّ العلاقة السليمة مع الله تأتي بالإيمان لا بالشريعة.
١١وَلَكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِٱلنَّامُوسِ عِنْدَ ٱللهِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ «ٱلْبَارَّ بِٱلْإِيمَانِ يَحْيَا».
- وَلَكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِٱلنَّامُوسِ عِنْدَ ٱللهِ فَظَاهِرٌ: قد سبق وأثبت بولس هذه النقطة من الكتاب المُقَدَّس بفحصه حياة إبراهيم (غلاطيّة ٥:٣-٩). وهو الآن يأتي بمقطع آخر من العهد القديم، حبقوق ٤:٢، الذي يذكّرنا بأن البارّ يحيا بِٱلْإِيمَانِ فقط، لا بمقتضى الناموس.
- كان اليهود أنفسهم يشعرون بأنّه بسبب عجز الجميع عن حفظ الناموس بالكامل، فإنَّ الخلاص لن يتحقّق من خلال حفظ الناموس. وهذا هو السبب الذي جعلهم يركّزون على انتسابهم إلى إبراهيم، لاسِيَّما الاتّكال على استحقاقات إبراهيم التي من شأنها أنْ تخلّصهم لأنَّهم شعروا بأن استحقاقاتهم الخاصّة عاجزة عن ذلك.
- ٱلْبَارَّ بِٱلْإِيمَانِ يَحْيَا: هذا التصريح الموجز من النبي حبقوق هو أحد أهم أقوال العهد القديم المقتبسة في العهد الجديد. ولقد استخدمه بولس هنا لإظهار أنّ ٱلْبَارَّ يَحْيَا بِٱلْإِيمَانِ فقط، وليس بالناموس. فالوجود في ظل الناموس ليس هو السبيل إلى نوال البرّ عند الله؛ إنَّما الحياة بالإيمان هي التي تحقّق ذلك.
- إذا وجدت أنك قد حُسِبت بارًّا –أي مقبولاً – في نظر الله، فإنك قد فعلت ذلك من خلال حياة الإيمان. أمَّا إذا كانت حياتك تدور حول العيش بموجب الناموس، فلن يجدك الله مقبولاً.
- ٱلْبَارَّ بِٱلْإِيمَانِ يَحْيَا: كل كلمة في حبقوق ٤:٢ مهمّة، والله يقتبسها ثلاث مرات في العهد الجديد لإبراز معناها الكامل.
- في رسالة رومية ١٧:١، عندما اقتبس بولس هذا المقطع نفسه من حبقوق ٤:٢، كان التركيز على الإيمان: ’أَمَّا ٱلْبَارُّ فَبِٱلْإِيمَانِ يَحْيَا.‘
- في عبرانيين ٣٨:١٠، عندما اقتبس كاتب العبرانيين هذا المقطع نفسه من حبقوق ٤:٢، كان التركيز على يحيا: ’أَمَّا ٱلْبَارُّ فَبِٱلْإِيمَانِ يَحْيَا.‘
- وهنا في رسالة غلاطيّة ١١:٣، عندما اقتبس بولس هذا المقطع من حبقوق ٤:٢، كان التركيز على البارّ: ’أَمَّا ٱلْبَارُّ فَبِٱلْإِيمَانِ يَحْيَا.‘
ج) الآية (١٢): يخبرنا العهد القديم أنَّ رضا الله عن طريق الناموس ينبغي اكتسابه بالحياة فعلًا في طاعة الناموس، لا بمحاولة طاعته فقط.
١٢وَلَكِنَّ ٱلنَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ ٱلْإِيمَانِ، بَلِ «ٱلْإِنْسَانُ ٱلَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا».
- وَلَكِنَّ ٱلنَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ ٱلْإِيمَانِ: قد يردّ البعض على بولس ويقولون: ’انظر، سأبذل قصارى جهدي بموجب الناموس وأَدُع الإيمان يغطّي الباقي. والله سوف ينظر إلى أدائي ومجهودي ونواياي الحسنة ويحسبه لي برًّا. فالمهم هو أنني فعلًا أحاول.‘ لقد أثبت بولس من العهد القديم نفسه أنَّ هذا غير كافٍ. كلاّ، فإنَّ مسارَي القبول على أساس الناموس ورضا الله على أساس الإيمان لا يتوازيان، لأنَّ ٱلنَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ ٱلْإِيمَانِ.
- ٱلْإِنْسَانُ ٱلَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا: هذا الاقتباس من لاويين ٥:١٨ واضح. إذا أردت أن تحيا بموجب الناموس، يجب عليك العمل بفرائضه. ولا يكفي أنْ تحاول العمل بها، ولا أنْ تنوي ذلك، ولا أنْ تريد عمل ذلك. لا، إنَّما ٱلْإِنْسَانُ ٱلَّذِي يَفْعَلُهَا فقط سَيَحْيَا بِهَا.
- من السهل جدًّا تعزية أنفسنا بنوايانا الحسنة. كلنا نوايانا طيّبة، ولكن إذا أردنا إيجاد مكانتنا أمام الله من خلال أعمالنا في ظلّ الناموس، فالنوايا الحسنة لن تكفي. والجهد الجيد لا يكفي. الأداء الفعلي فقط هو الذي يفي بالغرض.
- هذا المقطع من لاويين ٥:١٨ هو مبدأ آخر مُقتَبس من العهد القديم. قد اقتبسه نحميا (نحميا ٢٩:٩) في صلاته العظيمة من أجل إسرائيل. واقتبسه الربّ نفسه من النبي حزقيال (١١:٢٠، ١٣، ٢١). وبولس يقتبسه أيضًا في رومية ٥:١٠.
- إنَّ لاستخدام بولس لآيات الكتاب المُقَدَّس في غلاطيّة ١٠:٣-١٢ تأثير هائل. فقد أدركنا من كلامه أننا لا نعمل بالناموس فعلاً، وأننا لا نعمل به كله، وهذا يضعنا بالتالي تحت لعنة. ثُمَّ بعدما أورد الرسول بولس الخبر السيء في غلاطيّة ١٠:٣-١٢، يبدأ الآن في شرح البشرى السارة.
د ) الآيات (١٣-١٤): يسوع يفدينا من لعنة الناموس.
١٣اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لِأَجْلِنَا، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ». ١٤لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلْأُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِٱلْإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ.
- اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ: لأننا لم نعمل به حقًّا، ولم نعمل به كله، وضعنا الناموس تحت لعنة. لكنَّ يسوع الآن قد ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ. يحمل ٱفْتَدَانَا معنى ’الشراء من جديد‘ أو ’الشراء بقصد الإخراج من …‘ إنه ليس مُجرَّد إنقاذ؛ إنه دفع الثمن للإنقاذ. وعليه فقد أخرجنا يسوع من تحت لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ.
- وببساطة، نحن في يسوع لم نعد ملعونين. غلاطيّة ١٠:٣-١٢ تركتنا جميعًا تحت لعنة، لكننا لسنا ملعونين بعد لأنَّ يسوع أخرجنا من تحت اللعنة.
- الفداء مفهوم مهمّ. “يدلّ الفداء على دفع الثمن لتحرير الخطاة مجانًا” موريس (Morris). يعود مفهوم الفداء إلى الممارسات الحربيّة القديمة. فبعد المعركة، غالبًا ما كان المنتصرون يأسرون بعض المهزومين. والفقراء منهم عادة ما كانوا يباعوا كعبيد، لكنَّ الناس الأثرياء والمهمين، الذين كان لهم ثقل في بلادهم، كانوا يُحتَجزون للحصول على فدية. وعندما تجمع عائلتهم الثمن المطلوب ويدفعونه للمنتصرين، يتم إطلاق سراح الأسرى. وكانت العمليّة تُسمَّى فداءً، وكان الثمن يُسمَّى فدية.
- ثُمَّ ترسّخت هذه الصورة في مجالات أخرى. فعندما كان يتم شراء حريّة عبد – رُبَّما بواسطة أحد الأقارب، ورُبَّما من خلال عمله الدؤوب وادّخاره – كان يطلق على ذلك ’الفداء أو الفِكاك.‘ وفي بعض الأحيان، كانت العملية تتمّ في المعبد، حيث كان يُحفَر سِجِلّ بذلك في الحائط حتّى يعلم الجميع إلى الأبد أنَّ هذا العبد السابق أصبح الآن رجلًا حرًا مفديًا. أو كان يُطلَق سراح رجل محكوم عليه بالإعدام بدفع دية، وكانت هذه الدية تُعتَبر ’فداءً.‘ والأهم من ذلك، أنَّ يسوع اشترانا من الهزيمة، من العبوديّة، ومن عقوبة الإعدام لنملك كملوك وكهنة معه إلى الأبد.
- إِذْ صَارَ لَعْنَةً لِأَجْلِنَا: هذا يشرح الطريقة التي استخدمها يسوع ليدفع ثمن إنقاذنا. إذ أصبح يسوع ملعونًا نيابة عنا. لقد وقف في مكاننا وتحمَّل اللعنة التي كنا نستحقّها.
- من المدهش أنّ الثمن الذي دفعه لشرائنا من تحت لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ كان ثمن نفسه. ففداؤنا لم يكلف يسوع شيئًا زهيدًا، لا ولا شيئًا باهظًا – بل كلّفه نفسه. نحن نعلم أنَّ الناس لعنوا يسوع وهو معلَّق على الصليب؛ لكنَّ هذا لا يُقارَن بالطريقة التي لعنه بها الله الآب. فهو قد جعل نفسه هدفًا لِلَّعنة وأبعد المؤمنين به خارج نطاق الهدف.
- “بولس لا يقول إنَّ المسيح قد صار لعنة من أجل نفسه، لكنه يشدد على عبارة: ’لأجلنا.‘ المسيح بريء بطبيعته ولم يكن يستحقّ أن يُصلَب بسبب أي جريمة اقترفها. لكن لأنَّ المسيح حلّ محلّ آخرين كانوا مذنبين، فقد صُلِب مثل أي مجرم آخر.” لوثر (Luther)
- “مهما كانت الخطايا التي ارتكبتها أنت أو ارتكبناها جميعًا، فإنها خطايا المسيح كما لو كان قد ارتكبها هو نفسه. فلابدّ أن تصير خطايانا خطايا المسيح، وإلا هلكنا إلى الأبد.” لوثر (Luther)
- لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ». متى دفع يسوع هذا الثمن؟ يُظهِر المبدأ الوارد في تثنية ٢٣:٢١ أنَّ يسوع أخذ هذه اللعنة على عاتقه وهو معلَّق على الصليب، مُتمّمًا وعد تثنية ٢٣:٢١ بلعنة كل من يتمّ إعدامهم وتعرُّض أجسادهم للعار العلنيّ.
- “لا يشير هذا المقطع إلى الصلب (الذي لم يمارسه اليهود)، بل لتعليق جثة المجرم على شجرة أو عودٍ من الخشب لإعدامه. ولكن في العهد الجديد، كان يُطلَق غالبًا على الصليب «خشبة»، ولا شكّ في أنَّ هذا ما قصده بولس هنا.” موريس (Morris)
- عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ: في مُعتَقد إسرائيل القديمة، كان هناك شيء أسوأ من الإعدام، ألاَ وهو أن تُعدَم وتُترَك جثتك في العراء، فتتعرّض للعار والإذلال والافتراس من الحيوانات والطيور. فعندما يقول الوحي عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ، ليست الفكرة تنفيذ حكم الإعدام شنقًا، بل تعليق ’الجثة‘ على شجرة أو مكان بارز آخر، لتعريض المُنفَّذ فيه حُكم الإعدام لعوامل الطبيعة وأشدّ ألوان الخزي.
- ومع ذلك، فإنه إذا تمّ إعدام أي شخص واعتُبر مستحقًّا لمثل هذا العار، فلا يجب الإفراط في إهانة ذكراه وأسرته. فتثنية ٢٣:٢١ يقول أيضًا: ’لَا تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ.‘ كانت هذه وسيلة لتلطيف هذا الحكم الصارم بشيء من الرحمة. من اللافت للنظر أنَّ يسوع تمّم هذا أيضًا، حيث تم إنزاله من على الصليب قبل حلول الليل (يوحنا ٣١:١٩-٣٣).
- لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ: تحمّل يسوع هذه اللعنة، التي كنا نستحقّها نحن لا هو، حتّى نتمكن من الحصول على بركة إبراهيم، التي كان يستحقّها هو لا نحن. كان يكفي لو أنَّ يسوع أزال اللعنة التي نستحقّها ببساطة. لكنَّه فعل أكثر من ذلك بكثير؛ إذ أغدق علينا بَرَكَة لم نكن نستحقّها.
- بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ هي ما وصفه بولس في غلاطيّة ٨:٣-٩. إنها نعمة التبرير عند الله بالإيمان عوضًا عن الأعمال.
- لِلْأُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ: يخبرنا هذا بمن تحلّ عليهم بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ. لا يقصد بولس أنّ الأمر لا يتعلّق إلَّا بالأمم، كما لو كان اليهود مستبعدين، بل أنّ الأمر يتعلّق أيضًا بهؤلاء الـ أُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ.
- عبارة فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ مهمّة. فالبركة لا تحلّ عليهم لأنهم أُمَم، كما أنَّ بركة التبرير عند الله لا تحلّ على اليهود لأنهم يهود. إنَّها تحلّ على الجميع، اليهودي والأُمَم على حد سواء، الذين اتّحدوا بـٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ولا يتّكلون على محاولاتهم الخاصّة لتبرير أنفسهم.
- لِنَنَالَ بِٱلْإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ: هذا يعني أنّ هذه البركة هي لنا في يسوع على أساس الإيمان لا على أساس الناموس. ونحن ننال الوعد، ولا نكتسبه عن استحقاق.
هـ ) الآيات (١٥-١٨): عهد الله الثابت مع إبراهيم.
١٥أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ أَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْدًا قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ. ١٦وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ. لاَ يَقُولُ: «وَفِي الأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ: «وَفِي نَسْلِكَ» الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ. ١٧وَإِنَّمَا أَقُولُ هذَا: إِنَّ النَّامُوسَ الَّذِي صَارَ بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، لاَ يَنْسَخُ عَهْدًا قَدْ سَبَقَ فَتَمَكَّنَ مِنَ اللهِ نَحْوَ الْمَسِيحِ حَتَّى يُبَطِّلَ الْمَوْعِدَ. ١٨لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوِرَاثَةُ مِنَ النَّامُوسِ، فَلَمْ تَكُنْ أَيْضًا مِنْ مَوْعِدٍ. وَلكِنَّ اللهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ.
- أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ، بِحَسَبِ ٱلْإِنْسَانِ أَقُولُ: بولس يرسّخ أوّلًا مبدأ ثبات العهد بمجرد قطعه حتّى وإن كان بين البشر – لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْدًا … أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ. بَيْدَ أنَّ قصد بولس لا يتعلّق بالعهود بين البشر حقًّا، بل مراده: ’فكم بالأحرى العهد الذي يقطعه الله.‘
- لكن لا ينبغي أن تفوتنا الكلمة الأولى (في اليونانية) في غلاطيّة ١٥:٣ [أَيُّهَا] ٱلْإِخْوَةُ. رغم صعوبة وخطورة خصوم بولس في غلاطيّة، إلاَّ أنَّه كانوا أيضًا إخوته. فهو يواجههم ويقنعهم كإخوة.
- وَأَمَّا ٱلْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي إِبْرَاهِيمَ: في تكوين ١٨:٢٢، وعدَ الله إبراهيم بأن: يَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلْأَرْضِ. ويشير بولس إلى أنَّ الوحي استخدم صيغة المفرد «نَسْل» لا الجمع. والنقطة واضحة: ’«وَفِي نَسْلِكَ» ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ‘ أي أنَّ الله يشير إلى نسل واحد من بني إبراهيم، وليس كل ذريته بشكل عامّ.
- لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ ٱلْوِرَاثَةُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ، فَلَمْ تَكُنْ أَيْضًا مِنْ مَوْعِدٍ. وَلَكِنَّ ٱللهَ وَهَبَهَا لِإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ: إن كان الميراث المقدَّم لإبراهيم على أساس الناموس، فقد لا يكون مستديمًا – لأنَّه سيعتمد، جزئيًا على الأقل، على حفظ إبراهيم للناموس. لكن بما أنَّ الميراث قُدِّم على أساس الوعد، أي وعد الله، فهو ثابت ومضمون.
- ٱللهَ وَهَبَهَا لِإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ: كلمة وَهَبَهَا هنا هي الكلمة اليونانيّة القديمة كِخاريستاي kecharistai، والتي تُشتَقّ من الكلمة اليونانيّة خاريس charis، أي نعمة. فهبة الله لإبراهيم كانت بمثابة نعمة مجانيّة. والفعل يرد أيضًا في المضارع التامّ، مِمَّا يدلّ على أنَّ العطيّة مستديمة.
- “قد يستشهد المُهوّدون بموسى، فيستشهد بولس بإبراهيم. دَعهم يستشهدون بالناموس؛ أمَّا هو فسيستشهد بالوعد. وإن لجأوا إلى قرون التقليد وتاريخ ناموس موسى العريق، فسوف يلجأ إلى ’العهد الإبراهيمي‘ الأسمى، الذي يسبقه بقرون.” كول (Cole)
رابعًا. الغرض من الناموس يساعدنا في فهم حريتنا من الناموس
أ ) الآيات (١٩-٢١): الناموس أُعطِي بسبب تعدِّي الإنسان.
١٩فَلِمَاذَا النَّامُوسُ؟ قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ، مُرَتَّبًا بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ. ٢٠وَأَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلكِنَّ اللهَ وَاحِدٌ. ٢١فَهَلِ النَّامُوسُ ضِدُّ مَوَاعِيدِ اللهِ؟ حَاشَا! لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ، لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ.
- فَلِمَاذَا ٱلنَّامُوسُ؟ قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ: جزء من سبب فرض الناموس هو كبح تعدّي البشر عن طريق الكشف بوضوح عن معيار الله المُقَدَّس. فقد اضطر الله إلى إعطائنا معياره حتّى لا ندمّر أنفسنا قبل مجيء المسيّا. ولكنَّ الناموس قد زِيدَ أيضًا بِسَبَبِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ بطريقة أخرى؛ حيث أنَّ الناموس يثير أيضًا التمرّد الفطريّ للإنسان من خلال الكشف عن معيار معيّن، وإظهار حاجتنا إلى الخلاص في يسوع بوضوح ( رومية ٥:٧-٨).
- إِلَى أَنْ يَأْتِيَ ٱلنَّسْلُ ٱلَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ: لذا فكما كان المقصود من الناموس إعدادنا لعمل المسيّا، هكذا أُعطِي إِلَى أَنْ يَأْتِيَ ٱلنَّسْلُ (يسوع). فلم يتم إبطال شريعة موسى عندما أتى يسوع (قال يسوع إنه جاء لإتمام الشريعة لا لنقضها في متى ١٧:٥). بدلًا من ذلك، لم تعد شريعة موسى الأساس الذي نقترب عليه إلى الله.
- مُرَتَّبًا بِمَلَائِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ: وفقًا للتقاليد القديمة – التقاليد الحقيقيّة، وفقًا لبولس – تم تسليم الناموس إلى موسى على جبل سيناء على أيدي ملائكة. فكانت الملائكة ’وسيطًا‘ لموسى عندما حصل على الناموس من الله.
- وَأَمَّا ٱلْوَسِيطُ فَلَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلَكِنَّ ٱللهَ وَاحِدٌ: احتاج موسى إلى وسيط بينه وبين الله، لكننا لسنا بحاجة إلى وسيط بيننا وبين يسوع – فهو وسيطنا. كان الناموس بمثابة اتفاق بين طرفين بوساطة وسطاء. أمَّا الخلاص في يسوع بالإيمان فنناله بواسطة وعد.
- دعا جايمز مونتغومري بويس (James Montgomery Boice) غلاطيّة ٢٠:٣ “أكثر الآيات غموضًا في غلاطيّة على الأرجح، إنْ لم يكن في العهد الجديد بأكمله.” وقال شارح آخر إنَّه قرأ أكثر من ٢٥٠ تفسيرًا مختلفًا لها؛ بينما يرفع مفسّر آخر الرقم إلى ٣٠٠.
- “يبدو أنَّ الفكرة العامّة هي أنَّه يجب اعتبار الوعد أفضل من الناموس لأنَّ الناموس من طرفين. فقد أُعطِي الناموس بواسطة وسطاء، وهذا يعني أنّ الإنسان كان طرفًا فيه. أمَّا الوعد فمن طرف واحد؛ والإنسان ليس طرفًا فيه.” بويس (Boice)
- فَهَلِ ٱلنَّامُوسُ ضِدُّ مَوَاعِيدِ ٱللهِ؟ حَاشَا! الناموس ليس شيئًا شريرًا يتعارض مع وعد الله. إنَّما مشكلة الناموس تكمن في عجزه على منح القوّة للراغبين في حفظه. لو كان الناموس قَادِرًا أَنْ يُحْيِيَ، لاستطاع أنْ يجلب البرّ. ولكنَّ شريعة موسى لا تُحيِي. إنَّها تصرّح بالوصيّة ببساطة، وتأمرنا بحفظها، وتخبرنا بعواقب مخالفتنا لها.
- “الناس الحمقى، الذين هم حكماء في تصوراتهم الخاصّة، يقفزون إلى الاستنتاج: طالما أنَّ الناموس لا يبرّر، فلا نفع له. ما رأيكم في ذلك؟ أفلأنَّ المال لا يبرّر، تقول إنَّ المال لا يُجدِي نفعًا؟ أفلأنَّ العيون لا تبرّر، تقوم بقلعها؟ وإن كان الناموس لا يبّرر، فلا يعني ذلك أنَّ الناموس بلا قيمة.” لوثر (Luther)
ب) الآية (٢٢): صورة سجننا تحت الخطيّة.
٢٢لَكِنَّ ٱلْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى ٱلْكُلِّ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى ٱلْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ.
- لَكِنَّ ٱلْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى ٱلْكُلِّ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ: يرسم بولس صورة لسجن. قضبان الزنزانة هي الخطيّة التي تحفظنا مُحتَجزين. لقد ألقى ٱلْكِتَاب المُقَدَّس بنا في السجن، لأنَّه أشار إلى حالتنا الخاطئة. لذلك نحن قابعون في السجن بسبب الخطيّة، والناموس يعجز عن مساعدتنا، لأنَّ الناموس هو الذي ألقى بنا في السجن.
- “يتم تشخيص الخطيّة كسجّان، يحتفظ بالخطاة تحت سيطرته حتّى لا يستطيعوا الإفلات.” موريس (Morris)
- يحتجّ البعض ويقولون: ’أنا لست حبيس الخطيّة.‘ هناك طريقة بسيطة لإثبات ذلك: توقف عن الخطيّة. ولكن إن عجزت عن التوقف عن الخطيّة أو كان لديك تاريخ حافل بالخطيّة، فأنت إذاً مسجون بشريعة الله.
- “عندما يقودك الناموس إلى حافة اليأس، دعه يدفعك أبعد من ذلك قليلًا، دعه يقودك مباشرةً إلى أحضان يسوع، الذي يقول: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلْأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ».” لوثر (Luther)
- لِيُعْطَى … لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ: الإيمان وحده هو القادر على إخراجنا من حبسنا في الخطيّة. يمكن لناموس موسى أن يرينا مشكلتنا ومعيار الله بوضوح، لكنَّه يعجز عن منحنا الحرّيّة التي لا يقدر أن يمنحها إلاَّ يسوع وحده. الحرّيّة تُعْطَى … لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ.
- قضبان خطايانا قويّة. ولا يمكننا نشرها بأنفسنا. فلا توجد فرصة للهروب من السجن. بدلًا من ذلك، قدّم السجّان نفسه عرضًا بفتح الباب كي نخرج من السجن – لكن عليك أن تعترف بأنك مسجون، وأنك تستحقّ أن تكون في الزنزانة، وأن تطلب منه تحريرك. وعندما يتّهم المدعي العامُّ السجّان بعدم الإنصاف، يشير السجان ببساطة إلى أن عقوبة السجين المفرج عنه قد نُفِّذت بالكامل – أي نُفِّذَت فيه هو!
- “بدلًا من أن يكون مَخرجًا إلى حرّيّة مجيّدة، فقد تحوّل إلى سجّان يحتبس البشر. والنتيجة هي أنّ السبيل الوحيد للهرب هو الإيمان.” موريس (Morris)
ج ) الآيات (٢٣-٢٥): ناموس موسى هو مؤدّبنا، أي مُربّينا الذي يقودنا إلى يسوع.
٢٣وَلكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، مُغْلَقًا عَلَيْنَا إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ. ٢٤إِذًا قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ. ٢٥وَلكِنْ بَعْدَ مَا جَاءَ الإِيمَانُ، لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ.
- قَبْلَمَا جَاءَ ٱلْإِيمَانُ: قبل أن نخلص بالإيمان. فقبل أن نحيا حياتنا بالإيمان، كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ. يستخدم بولس هنا كلمة مختلفة وفكرة مختلفة عمَّا قاله عندما كتب: «لَكِنَّ ٱلْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى ٱلْكُلِّ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ» في الآية السابقة. المقصود بالفعل «أغلق» هو السجن. أمَّا الفكرة وراء «مَحْرُوسِينَ» فهي الحبس الوقائيّ (أي حبس بغرض الحماية). قد كنا مسجونين بسبب خطايانا في ظلّ الناموس؛ لكنَّ الناموس كان يحرسنا أيضًا في الحبس الوقائيّ.
- فكيف يحمينا الناموس؟ إنه يحمينا إذ يظهر ما في قلب الله لنا. ويحمينا إذ يُظهر لنا أفضل طريقة للحياة. ويحمينا إذ يظهر لنا ما ينبغي قبوله وما ينبغي رفضه بين الناس. ويحمينا إذ يوفر قاعدة للقانون المدنيّ. وبهذه الطرق وبأكثر منها، كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ.
- مُغْلَقًا عَلَيْنَا إِلَى ٱلْإِيمَانِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ: أعدّتنا شريعة موسى للإيمان بيسوع عن طريق كشفها لنا عن شخصيّة الله وفضحها لخطايانا. إِذًا قَدْ كَانَ ٱلنَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِٱلْإِيمَانِ. يتحقّق هدف ناموس موسى عندما نتوقف عن محاولة تبرير أنفسنا ونُقبِل إلى الإيمان بيسوع.
- إنَّ كلَّ الغرض من ٱلنَّامُوس هو أن نُقبل إلى يسوع ونؤمن به. لذلك فإذا لم يعرض الإنسان الناموس بطريقة تجعل الناس يؤمنون بيسوع، فإنّه لا يعرضه بشكل صحيح. وقد كانت الطريقة التي عرض بها يسوع الناموس تبيّن للناس أنَّهم عاجزون عن تتميمه، وأنهم يحتاجون إلى النظر خارج إطار حفظ الناموس لإيجاد برّ أعظم من برّ الكتبة والفريسيّين (متى ١٧:٥-٤٨).
- “الشيطان يريدنا أنْ نثبت أننا مقدَّسون بموجب الناموس الذي أعطاه الله ليثبت لنا أننا الخطاة.” (أندرو جوكس Andrew Jukes، بحسب اقتباس ستوت Stott)
- وَلَكِنْ بَعْدَ مَا جَاءَ ٱلْإِيمَانُ، لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ [تَحْتَ وِصَايَةِ الشَّرِيعَةِ]: بمُجَرَّد وصولنا إلى علاقة مؤسَّسة على الإيمان، لم يعد علينا أن نعيش تحت وِصَايَةِ الشريعة، لكننا نتذكّر السلوك الذي علّمنا إياه. لذلك نحن نحترم مؤدّبنا، أي الناموس؛ لكننا لا نعيش خاضعين له، بل نعيش خاضعين ليسوع بالإيمان.
- مُؤَدِّبٍ ترجمة دقيقة لكلمة پَيْدَغوغُس paidagogos اليونانيّة القديمة. فلم يكن الپَيْدَغوغُس (الوصي) بتعليم الطفل فقط، إنَّما كان وَصِيًّا عليه، يلاحظه ويراقب سلوكه. فكانت وظيفته أشبه بالمُربِّي أكثر منها بالمعلّم، ولكن بما أنّ المعلّم يمكنه تأديب الطفل، فقد كان الوصي (المُؤدِّب) مسؤولاً أيضًا عن الانضباط.
- يترجم موريس (Morris) الـمُؤَدِّب بالناظر أو الوصي. “لم يكن الوصي معلّمًا، بل كان عبدًا مهمته الخاصّة رعاية الطفل. وكانت وظيفته الإشراف على أنشطة الصبي، وعليه إحضاره إلى المعلّم الذي يلقّنه التعليم الملائم لمكانته الاجتماعيّة.” موريس (Morris)
- عندما ينمو الطفل، لا يتخلص من الانضباط والدروس التي اكتسبها من المؤدِّب (الوصي)؛ لكنه لم يعد يحيا تحت إشراف المؤدِّب بعدُ. هذه هي علاقتنا بشريعة الله. فنحن نتعلم منها، ونتذكّر دروسنا التي استفدناها منها، لكننا لا نعيش بموجبها. “تشبيه الناموس بناظر المدرسة مذهل. فلا غنى عن نُظّار المدارس، ولكن أرني تلميذًا يحب ناظر المدرسة!” لوثر (Luther)
د ) الآيات (٢٦-٢٧): بالإيمان نجد هويّتنا الحقيقية مع يسوع المسيح.
٢٦لأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ. ٢٧لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ.
- لِأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ ٱللهِ بِٱلْإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ: مقارنةً بما كان يُعلَّم في غلاطيّة، كان هذا تصريحًا ثوريًّا. ففي الفكر اليهوديّ التقليدي (الذي حمله المؤمنون اليهود إلى المسيحيّة)، كان يُقاس وضعك أمام الله بحسب طاعتك للناموس. ولتكون فعلاً قريبًا من الله – أي لاعتبارك من أَبْنَاء ٱللهِ – كان عليك الالتزام بالناموس بصرامة، مثلما كان يفعل الكتبة والفريسيّون (متى ٢٣). فإذ ببولس يقول هنا إنَّه يمكن اعتبارك من أَبْنَاء ٱللهِ بطريقة مختلفة تمامًا: بِٱلْإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ.
- الوضع مثير للإعجاب. فإنَّ كوننا من أَبْنَاء ٱللهِ يعني تمتّعنا بعلاقة خاصّة بالله كأب محب يعتني بنا. إنَّها علاقة قرب، علاقة مودّة، علاقة مُفعَمة بالعناية والاهتمام الخاصَّين.
- مكانتنا الجديدة مثيرة للإعجاب. فإنَّ صيرورتنا من أبناء لله بِٱلْإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ تعني أكثر بكثير من الاعتقاد بأنه موجود أو يفعل أشياء معينة. إنَّما هي أن نضع ثقتنا فيه، سواء الآن أو في الأبديّة.
- لِأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ: يشرح بولس هنا، باستخدام صورة المعمودية، معنى الْإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ. إنَّه لا يقول إنَّنا تعمدنا في الماء، لكننا تعمدنا بالمسيح. كما يتم غمر الشخص في الماء في المعمودية، هكذا نحن عندما نضع إِيمَاننا في الْمَسِيحِ يَسُوعَ، علينا أن نكون مغمورين بالكامل في يسوع.
- يبدو أنَّ الكثيرين من المؤمنين يكتفون بمُجرَّد ’الانغماس قليلاً‘ في يسوع. بينما يريدنا الله أن نكون مغمورين تمامًا في يسوع. فلا يكفي مُجَرَّد الرشّ أو الغمر الجزئيّ. فعندما يغطس شخص ما في الماء، لا يظهر منه أي جزء – إنك لا ترى سوى الماء. وعندما أحيا كأني اعتمدت في المسيح، لا يظهر مني أي جزء بعد؛ الذي يظهر هو يسوع.
- يجب التأكيد على أنَّ هذه هي المعمودية التي تخلِّصنا بالفعل: الغمر الكليّ في يسوع. فإذا لم يكن الشخص قد اعتمد في المسيح، فلن تنفعه ألف معمودية في الماء. أمَّا إذا اعتمد الشخص في المسيح، فيجب عليه المتابعة بأن ينفِّذ ما أمره به يسوع، أي قبول المعمودية كدليل على التزامه به (متى ١٩:٢٨-٢٠).
- قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ: هناك طريقة أخرى للتعبير عن غمرنا في يسوع، أي أننا قَدْ لَبِسْنا ٱلْمَسِيحَ. ففي اللغة الأصليّة، تحمل العبارة فكرة ارتداء بدلة. لذلك فنحن ’نرتدي‘ يسوع باعتباره هويّتنا.
- لطريقة لبسنا تأثير حقيقيّ على طريقة تفكيرنا وتصرّفاتنا. وكذلك فإنَّ لطريقة لبسنا تأثيرًا حقيقيًّا على مظهرنا أمام الغير. كذلك يلزمنا معرفة كيف نلبس الملابس الملائمة لكل مناسبة. يقول لنا بولس: ’إنَّ ملابسكم المناسبة لكل يوم هي أنْ تلبسوا ٱلْمَسِيحَ. فيجب أن يرى الناس أنكم تنتمون إليه بمُجَرَّد النظر إلى حياتكم. فينبغي لكم أن تعيشوا واعين بأنكم متزيّنون بيسوع.‘
- قد يتساءل بعض الناس عما إذا كان هذا مُجرَّد تمثيل، وكأنّ الأمر كله مُجرَّد وهم، حال أطفال يلعبون لعبة ’الملابس التنكّريّة.‘ والإجابة بسيطة: إنه مُجرَّد وهم إذا لم تكمن وراءه حقيقة روحيّة. ففي هذه الآية، يتحدّث بولس عن واقع روحيّ – أولئك الذين اعتمدوا في ٱلْمَسِيح قد لبسوا ٱلْمَسِيحَ فعليًّا. وهم الآن مدعوّون للعيش كل يوم بما يتفق مع واقعهم الروحيّ.
هـ) الآيات (٢٨-٢٩): تَساوِي مكانتنا مع الآخرين الذين يأتون إلى الله بواسطة الإيمان.
٢٨لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. ٢٩فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ، فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ.
- لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلَا يُونَانِيٌّ: هذه كانت ثورة هائلة. فالمشكلة برمّتها بين مؤمني غلاطيّة هي أنّ البعض أرادوا المحافظة على الخط الفاصل بين اليهوديّ واليونانيّ. فكتب بولس قائلًا: ’في يسوع المسيح، تم التخلّص من هذا الخط. وعندما نكون في يسوع، لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلَا يُونَانِيٌّ.‘
- لَيْسَ عَبْدٌ وَلَا حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لِأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ: الخط الفاصل بين اليهوديّ واليونانيّ ليس هو الخط الفاصل الوحيد الذي تمّ محوه. ففيما يتعلّق بموقفنا أمام الله في يسوع، قد تمّ محو كل الخطوط الفاصلة. الآن وقد أصبح يسوع هويّتنا، فهو أهمّ من أي هويّة سابقة كانت لدينا. كلنا وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ.
- كان معلمو اليهود آنذاك يتلون صلاة الصباح التي كانت شائعة بين العديدين من اليهود في أيامهم. وفقًا لوليام باركلي (William Barclay)، كان الرجل اليهوديّ يشكر الله في تلك الصلاة على أنَّه لم يولد أمميًّا أو عبدًا أو امرأة. فإذا ببولس يأخذ كل فئة من هذه الفئات ويبيّن أنَّهم سواسية في يسوع.
- مع الأسف، لا يزال بعض المسيحيّين يضعون خطوطًا فاصلة اليوم. فالبعض يضع خطوطًا بين الطوائف، والبعض يضع خطوطًا بين الأعراق، والبعض يضع خطوطًا بين الشعوب، والبعض يضع خطوطًا بين الأحزاب السياسية، والبعض الآخر يضع خطوطًا بين الطبقات الاجتماعيّة. فعلى سبيل المثال، إذا كنت تشعر بوجود أواصر تربطك بغير مؤمن يشاركك في عرقك أو حزبك السياسي أكثر من مؤمن حقيقيّ من عرق أو حزب سياسي آخر، فإنك وضعت خطًّا فاصلاً قد مات يسوع على الصليب ليمحوه.
- هذا لا يعني عدم وجود فروق. فبولس كان يعلم أنَّه لم يزل هناك فرق بين اليهوديّ واليونانيّ، وقد يختلف أسلوبه التبشيريّ مع كل جماعة (كورنثوس الأولى ١٩:٩-٢١). ولم يزل العبد مُلزَمًا يوميًّا بطاعة سيده، على الرغم من أنَّه قد يكون مساويًا له في يسوع (أفسس ٥:٦-٨). ولا تزال هناك أدوار مختلفة للذكر والأنثى في المنزل وفي الكنيسة (تيموثاوس الأولى ١:٢-١٥، أفسس ٢٢:٥-٣٣)، على الرغم من أنَّهما متساويان في المكانة أمام الله. هناك اختلافات في الدور وفي الوظيفة، ولكن لا يوجد فرق في المكانة أمام الله بواسطة الإيمان بيسوع. “عندما نقول إنَّ المسيح قد ألغى هذه الفروق، فإننا لا نعني أنها غير موجودة، لكنَّها لم تَعُد تشكّل أي حواجز أمام الشركة .” ستوت (Stott)
- “إنه لا يكتب عن الوحدة التي تحصل نتيجةً للإنجاز البشريّ. إنَّما يقول إنَّ الناس عندما يخلصون بواسطة يسوع المسيح، فإنهم يدخلون في وحدة رائعة، وحدة بين المخلَّصين والمخلِّص ووحدة تربط كل المخلَّصين معًا.” موريس (Morris)
- لِأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ: هذا أمر مذهل. قد يودّ البعض لو استبعد بولس بعض المؤمنين الذين من خلفيّة غير يهوديّة لأنهم لم يخضعوا لناموس موسى. أمَّا بولس فيشملهم بقوله: ’ أنتم جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ.‘ قد يودّ البعض الآخر لو استبعد بولس بعض المؤمنين الذين من خلفيّة يهوديّة، لأنَّ لاهوتهم خاطئ في هذه النقطة وينبغي لبولس تصحيحهم. أمَّا بولس فيشملهم بقوله: ’أنتم جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ.‘
- “يفتقر العديدون من أبناء الله إلى فهم عميق للحياة الروحية، لكنَّ هذا لا يعني أنهم ليسوا مؤمنين حقيقيّين. فالمؤمن هو الشخص الذي آمن بيسوع، وليست امتلاك حلّ عقلانيّ لجميع المشاكل التي نواجهها ونحن نعيش الحياة الروحية.” موريس (Morris)
- فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ، فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ: حيث أنَّ جميع المؤمنين ينتمون إلى يسوع المسيح، فإنَّ جميع المؤمنين هم من نسل إبراهيم الروحيّ ووَرَثَة الله. إنَّ الفضل في هذه المكانة المميَّزة يأتي حَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ (أي الوعد) وليس وفقًا للناموس أو الأعمال. نحن مرتبطون بطابور طويل من شعب الله المجتمعين على مرّ العصور.
- قال بعض المؤمنين اليهود لأهل غلاطيّة إنَّهم إذا خضعوا للناموس واختتنوا، أمكنهم التمتُّع بمكانة نَسْل إِبْرَاهِيمَ. فإذا ببولس يوضّح أنَّ هذه المكانة هي لهم بالفعل بواسطة الإيمان بيسوع.
- وقد عزّز بولس هذا المبدأ طوال هذا القسم بتكراره لقب المسيح عن يسوع (إذ استخدمه ١١ مرَّة في الـ ١٧ آية الأخيرة). وعندما أشار بولس إلى يسوع بأنَّه المسيح، كان يشدّد على دور يسوع باعتباره المسيّا الموعود لليهود – والعالم أجمع، كما أكّد بولس.
- فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ: هذه هي المسألة. فالمسألة ليست: ’هل أنتم خاضعون للناموس؟‘ وليست: ’هل أنتم يهود أم غير يهود؟‘ وليست: ’هل أنتم عبيد أم أحرار؟‘ وليست: ’هل أنت رجل أم امرأة؟‘ إنَّما المسألة الوحيدة هي إِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ.
- إن كنا لِلْمَسِيحِ…
- لنا مكان في الأبديّة، لأننا أبناء الله وبناته.
- لنا مكان في المجتمع، لأننا إخوة وأخوات في عائلة الله.
- لنا مكان في التاريخ، لأننا جزء من خطة الله للدهور، ومرتبطون روحيًّا بإبراهيم بإيماننا بيسوع.
- “إنها تمكنني من الإجابة على أبسط الأسئلة البشريّة: «من أنا؟» فأقول: «في المسيح أنا ابن الله. في المسيح أنا متّحد مع جميع أهل بيت الله الأمناء في الماضي والحاضر والمستقبل. في المسيح أكتشف هويّتي. في المسيح أجد الطمأنينة. في المسيح أعود إلى وطني.” ستوت (Stott)
- إن كنا لِلْمَسِيحِ…