رسالة غلاطيّة – الإصحاح ٥
الثبات صامدين في حرّيّة يسوع
أوَّلا. مناشدة أخيرة للسلوك في حرّيّة يسوع
أ ) الآية (١): تلخيص: على ضوء كل ما قاله بولس من قبل، هو الآن يحفّز أهل غلاطيّة على السلوك في الحقّ الذي قد قدّمه.
١فَٱثْبُتُوا إِذًا فِي ٱلْحُرِّيَّةِ ٱلَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا ٱلْمَسِيحُ بِهَا، وَلَا تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ.
- فَٱثْبُتُوا إِذًا فِي ٱلْحُرِّيَّةِ ٱلَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا ٱلْمَسِيحُ بِهَا: الحقيقة هي أنَّ يسوع قد حرَّرنا. فإن كنا نعيش في عبوديّة لعلاقة ناموسيّة مع الله، فهذا ليس لأنَّ الله يشاء ذلك. فإنَّ الله يناشدنا أن نأخذ قوته ونسير في تلك الحرّيّة، وألاَّ نرتبك مرَّة أخرى بِنِيرِ العُبُودِيَّةٍ.
- من اللافت للنظر أنَّ ٱلْمَسِيحُ هو الذي قد حَرَّرَنَا، فنحن لا نحرِّر أنفسنا. فالحرّيّة هي هبة يسوع التي أعطاها لنا لنقبلها بالإيمان. وعندما نصارع من أجل تحرير أنفسنا، نرتبك مرَّة أخرى بِنِيرِ العُبُودِيَّةٍ أكثر فأكثر.
- قد حدّد بولس ٱلْحُرِّيَّةِ بإضافة «أل» التعريف. اليوم يعيش الناس في سعي حثيث وراء ’الحرّيّة‘ التي يعتقدون أنَّها عمل ما يريدون عمله، وعدم إنكار أي رغبة أبدًا. وهذا نوع من الحرّيّة – هو حرّيّة زائفة. لكنها ليست الحرّيّة. فالحرّيّة تحرّرنا من طغيان الاضطرار إلى شقّ طريقنا إلى الله بأنفسنا، التحرر من الخطيّة والشعور بالذنب والإدانة، التحرر من عقاب الخطيّة وسطوتها، وأخيرًا التحرر من وجودها.
- معنى فَٱثْبُتُوا أنَّ الأمر يتطلب جهدًا للبقاء في موضع الحرّيّة هذا. لا يزال بإمكان شخص حرّ شرعيًّا في يسوع أن يعيش في عبوديّة؛ حيث يمكن خداعه وإقناعه بالعودة مرَّة أخرى إلى العبوديّة.
- شرح الواعظ العظيم مودي (Moody) هذه النقطة إذ اقتبس كلام امرأة عجوز من الجنوب بعد الحرب الأهلية. ولكونها عبدة في السابق، فقد كانت في حيرة من أمرها، فسألت: «هل أنا حرّة الآن، أم أنني لست كذلك؟ عندما أذهب إلى سيدي القديم، يقول إنَّني لست حرّة، وعندما أذهب إلى أهلي يقولون إنني حرّة، فلا أعرف إن كنت حرّة أم لا. أخبَرني بعض الناس أن أبراهام لنكولن وقّع إعلانًا ما، لكنَّ سيّدي يقول إنَّه لم يفعل ذلك؛ فهو لم يكن لديه أي حق في ذلك». كثيرون من المؤمنين مرتبكون في نفس النقطة. لقد أعطاهم يسوع المسيح ’إعلانًا بالحريّة‘ لكن ’سيّدهم القديم‘ يخبرهم بأنهم لم يزالوا عبيدًا لعلاقة ناموسيّة مع الله. إنَّهم يعيشون في عبوديّة لأنَّ ’سيّدهم القديم‘ خدعهم.
- نِيرِ عُبُودِيَّةٍ: تذكِّرنا هذه العبارة بما قاله بطرس في أعمال ١٠:١٥ عمّن يتمنّون إخضاع الأُمَم للناموس: «فَٱلْآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱللهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلَامِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلَا نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟» لم يتمكن اليهود أنفسهم من تبرير أنفسهم أمام الله بالناموس، لذلك لا ينبغي لهم أن يضعوا هذا النِير الثقيل والمرهق على الأُمَم.
- تحدّث بعض المعلّمون اليهود في ذلك اليوم عن ناموس موسى باعتباره نيرًا، لكنهم استخدموا المصطلح بمعنى إيجابيّ. وقد نظر بولس إلى العلاقة الناموسية على أنَّها نير، ولكنه نِير عُبُودِيَّةٍ. إنه مرتبط بالعبوديّة لا بالحرّيّة. إنَّ نير العبوديّة هذا لا يفعل شيئًا سوى إرباكنا. إذ نحاول جاهدين أنْ نجرّ محراث الله، لكنّ نير العبوديّة يربكنا ويقيّدنا ويُحبطنا.
- إنها كانت بالتأكيد عُبُودِيَّة. إذ أحصى المعلّمون اليهود ٦١٣ وصية واجبة الحفظ في شريعة موسى. “إن مُجَرَّد تذكّرها جميعًا كان عبئًا، وكاد حفظهم أنْ يكون مستحيلاً. لا عجب، إذن، أنَّ بولس وصف خضوع الشخص لها جميعًا بأنه دخول في العبوديّة.” موريس (Morris)
ب) الآيات (٢-٤): خطر اعتناق الناموس كوسيلة للسير مع الله.
٢هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا! ٣لكِنْ أَشْهَدُ أَيْضًا لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ النَّامُوسِ. ٤قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ أَيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ.
- إِنَّهُ إِنِ ٱخْتَتَنْتُمْ لَا يَنْفَعُكُمُ ٱلْمَسِيحُ شَيْئًا: عندما نتبنّى الناموس كقاعدة للسير مع الله، يجب أن نترك يسوع. فهو لم يعد برّنا، إذ نحن نحاول كسب البرّ بأنفسنا. بالنسبة إلى أهل غلاطيّة في هذا السياق، فإنَّ الحصول على الختان – الطقس الذي يشهد بأن الأُمَم خاضعون للناموس – يعني أنَّهم لم يعودوا يثقون في يسوع أنَّه برّهم، بل يثقون في ذواتهم بدلًا من ذلك. لذلك قال بولس: ’لَا يَنْفَعُكُمُ ٱلْمَسِيحُ شَيْئًا.‘
- أراد الناموسيّون بين أهل غلاطيّة أن يجعلوهم يعتقدون بإمكانية إقامة علاقة مع الله على أساس يسوع والناموس في آن واحد. أمَّا بولس فيخبرهم بأنّ هذا ليس خيارًا متاحًا لهم – فنظام النعمة ونظام الناموس غير متوافقين. “من يريد أن يكون له نصف المسيح يخسره كلّه.” كالفين (Calvin)
- “الختان هو خاتم الناموس. كل من يخضع للختان عن طيب خاطر وبصورة متعمدة، يتعهّد بإقامة الناموس. ولذلك فهو ملزم بإقامته، ولا يمكنه المطالبة بنعمة المسيح؛ لأنَّه اعتمد على شكل آخر من التبرير.” لايتفوت (Lightfoot)
- يا للمأساة! مات يسوع على الصليب وسفك دمه وحياته ونفسه، فتألّم من أجلنا وأحبّنا – وبعد هذا كله لَا يَنْفَعُكُمُ ٱلْمَسِيحُ شَيْئًا! مات رجلان مع يسوع. أمَّا الذي وضع ثقته في يسوع، فنال الحياة الأبديّة. وأما الذي وثق في نفسه، فلم ينفعه شَيْئًا.
- كانت هذه النقطة غاية في الأهمّيّة لبولس إلى درجة أنَّه حشد كل الطاقة التي في مقدوره لمناشدتهم بطريقة شخصيّة. فبدأ بقوله: هَا أَنَا بُولُسُ. وعندما تابع كلامه، قائلاً: أَشْهَدُ أَيْضًا، تذكّر بولس دراسته السابقة كفقيه في الشريعة – فأصبح جادًّا كل الجدّية. “اللسان يعجز عن التعبير، والقلب لا يمكنه تصوّر فظاعة جعل المسيح عديم القيمة.” لوثر (Luther)
- كُلّ إِنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ … مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ ٱلنَّامُوسِ: عندما نتبنّى الناموس كقاعدة لنا في السير مع الله، يجب أن نتبنّى الناموس بأكمله. فنصبح ملتزمين بحفظ الناموس كله، وهذا التزام ثقيل.
- أراد الناموسيّون بين أهل غلاطيّة مرَّة أخرى أن يجعلوهم يعتقدون أنَّهم يستطيعون مراعاة بعض جوانب الناموس دون الخضوع للناموس كله. لكن عندما نختار السير وفقًا للناموس، يجب أن نسير بحسب كُلِّ ٱلنَّامُوسِ.
- إذا جئنا إلى الله على أساس حفظنا للناموس يجب علينا حفظ كُلِّ ٱلنَّامُوسِ ويجب أن يكون حفظنا للناموس كاملاً. وأي قدر من الطاعة لا يمكنه أنْ يعوّض عن عصيان واحد. فإنه إذا تم استيقافك بسبب تخطّي السرعة القصوى، لن يجدي احتجاجك بأنك زوج مخلص ودافع ضرائب أمين وأنك قد التزمت بالحد الأقصى للسرعة عدّة مرات. كل هذا لا صلة لها بالموضوع. فأنت قد تخطّيت السرعة القصوى وتُعتَبر مذنبًا بموجب القانون.
- إنَّ مُجرَّد اختتان شخص ما لا يعني ارتباطه بعلاقة ناموسية مع الله، وأن عليه أن يحفظ كُلّ ٱلنَّامُوسِ لينال الخلاص. تحدّث بولس إلى المؤمنين الأُمَميّين بين أهل غلاطيّة، الذين كانوا ينجذبون إلى الختان وهم بالغون، كدليل على أنهم خضعوا لناموس موسى باعتباره ’الخطوة الأولى‘ للخلاص. وسنرى لاحقًّا أنَّ بولس لم يهتم بالختان على الإطلاق (غلاطيّة ٦:٥). إنَّ ما كان يكره هو لاهوت الختان كما قدّمه الناموسيّون.
- سَقَطْتُمْ مِنَ ٱلنِّعْمَةِ: عندما نتبنّى الشريعة كقاعدة للسير مع الله، فإننا نبتعد عن يسوع ونعمته. وبعد ذلك نَتَبَطَّل (نتغرّب) عَنِ ٱلْمَسِيحِ، فننفصل عنه وعن نعمة خلاصه.
- خطر السقوط من النعمة حقيقيّ، لكن غالبًا ما يساء فهمه. فمعظم الناس يفكّرون في ’السقوط‘ على أنَّه السلوك غير الأخلاقي، مع أننا لا نخلص بفضل سلوكنا. بَيْدَ أنَّنا نخلص باستمرار اعتمادنا بالإيمان على نعمة الله. فقد يسقط شخص ما من النعمة ويهلك دون الوقوع في سلوك غير أخلاقي جسيم.
- بويس (Boice) بخصوص «سَقَطْتُمْ مِنَ ٱلنِّعْمَةِ»: “هذه العبارة لا تعني أنَّه إذا أخطأ المؤمن، فقد سقط من النعمة وبالتالي فقد خلاصه. يجوز لنا القول بأنّ الخطيّة هي الوقوع في النعمة، إن كان الإنسان تائبًا. لكنَّ السقوط من النعمة، كما يتّضح من هذا السياق، هو الوقوع في الناموس… أو بعبارة أخرى، اختيار الناموسيّة هو تنازل عن النعمة كمبدأ يرغب به الإنسان أن يرتبط بالله.”
- معنى’سقطتم من النعمة‘: وقعتم وانجرفتم بعيدًا عن حيّز النعمة إلى حيّز آخر.
ج) الآيات (٥-٦): جواب الإيمان على الناموس.
٥فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرّ. ٦لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ.
- فَإِنَّنَا بِٱلرُّوحِ مِنَ ٱلْإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرٍّ: من يسلكون بالروح يَتَوَقَّعون البرّ بـالإيمان؛ إنهم لا يحاولون كسبه عن طريق القيام بأعمال صالحة. فلا يمكن أنْ يكون أحد ناموسيًّا بالروح.
- ويست (Wuest) بخصوص «نَتَوَقَّعُ (بفارغ الصبر)»: “تصف الكلمة موقفًا من الشوق الشديد والانتظار بشغف لشيء ما. وهي تشير هنا إلى رغبة المؤمن الشديدة وتوقّعه الشغوف للبرّ العملي الذي يتم إنتاجه باستمرار في حياته بواسطة الروح القُدُس – شريطة أنْ يخضع للروح.”
- لِأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لَا ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلْإِيمَانُ ٱلْعَامِلُ بِٱلْمَحَبَّةِ: أولئك الذين يسلكون بالروح يعلمون أنَّ الختان أو عدم الختان لا يعني شيئًا. ما يهمّ هو ٱلْإِيمَانُ ٱلْعَامِلُ بِٱلْمَحَبَّةِ، وكلاهما كان غائبًا بشكل واضح في الناموسيّين.
- كل جانب من جوانب هذه الآية ثمين. فهي تضعنا في مكان: أي في المسيح يسوع. موريس (Morris) بخصوص «فِي ٱلْمَسِيحِ»: “بولس لا يحدّد أبدًا ما يعنيه المصطلح، لكنَّه يشير بوضوح إلى أقرب نوع من الوحدة.”
- في هذا المكان، لَا ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا ٱلْغُرْلَةُ – لا يهمّ هذا أو ذاك على الإطلاق. أنت لست أفضل إذا كنت مختونًا أو غير مختون. ولست أسوأ إذا كنت مختونًا أو غير مختون. إنَّما الضرر الوحيد هو الثقة في شيء لا فائدة تُجنَى منه.
- تخبرنا هذه الآية أيضًا بما يهم في هذا المكان: أي ٱلْإِيمَانُ ٱلْعَامِلُ بِٱلْمَحَبَّةِ. هل لديك إيمان؟ رائع؛ ولكن يجب أن يكون الإيمان عاملاً من خلال المحبّة. فإن كان إيمانك لا يعمل، فهو ليس إيمانًا حقيقيًّا. وإذا لم يكن يعمل من خلال المحبّة، فهو ليس إيمانًا حقيقيًّا. ولكنّ محبّتك وحدها لا تكفي؛ إذ يجب أن يكون لمحبّتك إيمان أيضًا: أي ثقة دائمة في يسوع وما فعله من أجلنا.
- الإيمان يجب أن يعمل من خلال ٱلْمَحَبَّةِ. كان هيرودس يؤمن بأنّ يوحنا المعمدان نبيّ حقيقيّ، ولكن لم يكن يملك إيمانًا عاملاً بالمحبّة، فقام بقتل يوحنا المعمدان. الإيمان الحقيقيّ، الإيمان المخلِّص، يعمل بِٱلْمَحَبَّةِ.
د ) الآيات (٧-١٢): مواجهة أخيرة.
٧كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَنًا. فَمَنْ صَدَّكُمْ حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ؟ ٨هذِهِ الْمُطَاوَعَةُ لَيْسَتْ مِنَ الَّذِي دَعَاكُمْ. ٩«خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ». ١٠وَلكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ فِي الرَّبِّ أَنَّكُمْ لاَ تَفْتَكِرُونَ شَيْئًا آخَرَ. وَلكِنَّ الَّذِي يُزْعِجُكُمْ سَيَحْمِلُ الدَّيْنُونَةَ أَيَّ مَنْ كَانَ. ١١وَأَمَّا أَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِالْخِتَانِ، فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ؟ إِذًا عَثْرَةُ الصَّلِيبِ قَدْ بَطَلَتْ. ١٢يَالَيْتَ الَّذِينَ يُقْلِقُونَكُمْ يَقْطَعُونَ أَيْضًا!
- كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ (تركضون) حَسَنًا: لقد تذكّر بولس بدايتهم الجيّدة في الإيمان، لكنه يعلم أيضًا أنَّ البداية الحسنة لا تكفي. فقد كانوا لا يزالون يتعرّضون لخطر السقوط من النعمة.
- فَمَنْ صَدَّكُمْ حَتَّى لَا تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ؟ كان بولس يعلم أنَّ التعليم المُضِلّ مصدره شخص صَدَّكُمْ (أي أعاقكم)، وليس مصدره يسوع (هَذِهِ ٱلْمُطَاوَعَةُ (هذا الإقناع) لَيْسَتْ مِنَ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ).
- في صميم الأمر كله، كان الغلاطيّون يتركون يسوع سعيًا وراء تعاليم البشر الخاطئة والفارغة التي كانت في هذه الحالة الناموسيّة.
- لايتفوت (Lightfoot) بخصوص «صَدَّكُمْ»: “هذه استعارة مستمدة من العمليات العسكريّة. تشير الكلمة إلى ’قطع الطريق‘ حتّى يصبح غير سالك، وبالتالي هي عكس ’إخلاء الطريق.‘ فكان أهل غلاطيّة على ما يرام حتّى قطع أحدهم الطريق الذي كانوا يركضون فيه.
- «خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ ٱلْعَجِينَ كُلَّهُ»: التحذير موجَّه إلى قلب الهدف: التأثير الفاسد للناموسيّة والمذاهب الأخرى التي تقلل من شأن يسوع، تشبه الخميرة في العجين؛ القليل منها سرعان ما يفسد ٱلْعَجِينَ كُلَّهُ.
- في طريقة التفكير اليهوديّة، كانت الخَمِيرَةٌ دائمًا رمزًا للتأثير الشرّير. فيقول بولس إنّ الالتزام بالناموس الذي لديهم الآن قد يكون صغيرًا، لكنَّه أمر خطير إلى درجة أنَّه قادر أنْ يفسد كل شيء.
- أَثِقُ بِكُمْ: بدافع الرغبة في إغلاق المواجهة بشكل إيجابي، عبّر بولس عن ثقته في أهل غلاطيّة (والتي كانت حقًّا ثقة في الربّ القادر أنْ يحفظهم). ومع ذلك، كان بولس واثقًا بنفس القدر من أنَّ الدينونة تنتظر أولئك الذين يُضلّونهم بعيدًا عن يسوع (ٱلَّذِي يُزْعِجُكُمْ سَيَحْمِلُ ٱلدَّيْنُونَةَ أَيَّ مَنْ كَانَ).
- تذكّروا تحذير يسوع الصارم مِمَّن يضلّون أحد هؤلاء الأصاغر (متى ٦:١٨-٧). الدينونة حتميّة عليه، أَيَّ مَنْ كَانَ. “لا يهم من هو؛ فقد يكون رفيع الشأن في الوسط الذي يُعلّم فيه، ولكن إذا كان يفسد الإنجيل فهو مذنب ولن تحميه رتبته ولا سمعته.” موريس (Morris)
- إِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِٱلْخِتَانِ: يوضّح بولس أنَّه لم يعد يكرز بضرورة ٱلْخِتَانِ. وتعرّضه للاضطهاد على أيدي الناموسيّين دليل كاف على ذلك. بل إنَّ بولس يتحمّل بفخر عَثْرَة ٱلصَّلِيبِ.
- لعَلَّ أحدهم يتّهم بولس بالكرازة بالختان لأنَّه طلب من تيموثاوس أنْ يختتن (أعمال الرسل ١:١٦-٣). ولكنَّ بولس لم يسمح لتيموثاوس بالاختتان كي ينال الخلاص أو ’المزيد من الخلاص،‘ لكنه لقد فعل ذلك كي يستطيع تيموثاوس الكرازة بحرّيّة أكبر بين غير المُخلِّصين من اليهود.
- لا تستطيع الناموسيّة التعامل مع عَثْرَة ٱلصَّلِيبِ. فقد كان الهدف من موت يسوع على الصليب يتلخّص في: ’أنكم عاجزون عن تخليص أنفسكم. يجب أن أموت في مكانكم أو ليس لديكم أي رجاء على الإطلاق.‘ فعندما نثق في الناموسيّة، فإننا نعتقد أنَّه نستطيع، ولو جزئيًا على الأقل، أن نخلّص أنفسنا. وهذا يزيل عَثْرَة ٱلصَّلِيبِ، التي يجب أن تندّد دائمًا بطبيعة الإنسان الساقط. وبهذا المعنى، فإنَّ عَثْرَة ٱلصَّلِيبِ هي في الحقيقة مجد الصليب، والناموسيّة تزيل هذا المجد.
- يَالَيْتَ ٱلَّذِينَ يُقْلِقُونَكُمْ يَقْطَعُونَ أَيْضًا! أخيرًا، تمنّى بولس أن يُكمِل أولئك المطالبون بالختان بين الأُمَم ما بدأوه هم أنفسهم، فيبترون أعضاءهم التناسلية تمامًا ولا يكتفون بمُجَرَّد الختان.
- كان الإخصاء المُقَدَّس معروفًا عند مواطني العالم القديم؛ فكثيرًا ما كان يمارَس من قِبَل الكهنة الوثنيّين في منطقة غلاطيّة. تتمثّل فكرة بولس هنا فيما يلي: ’إذا كان القطع سيجعلكم أبرارًا، فلماذا لا تحاكوا الكهنة الوثنيين وتُخصون أنفسكم؟‘ أصاب موريس (Morris) إذ قال: “هذه أمنية فظيعة التي يتمنّاها، ولكنّ التعليم الذي أرادوا فرضه على المؤمنين الجدد كان أفظع!”
- “كانت هذه الكلمة تُستخدَم عادةً لوصف البتر الذي كان سائدًا في عبادة الإلهة «جبيلة» الفريجية. فلابد أنَّ أهل غلاطيّة كانوا على دراية بها، ولا يمكن أن يكون لكلامه أي معنى آخر.” ريندَل (Rendall)
- تمنّى بولس أيضًا بهذا الكلام أن يُقطَع هؤلاء الناموسيّون من جماعة الربّ كما هو منصوص عليه في تثنية ١:٢٣ «لَا يَدْخُلْ مَخْصِيٌّ بِٱلرَّضِّ أَوْ مَجْبُوبٌ فِي جَمَاعَةِ ٱلرَّبِّ».
- بهذا الختام المثير لهذه النقطة، أوضح بولس شيئًا واحدًا: الناموسيّة ليست أمرًا هيّنًا. إنَّها تسلبنا حريتنا وتضعنا تحت ربقة العبوديّة. إنَّها تجعل يسوع وعمله بلا فائدة لنا. وتضعنا تحت الالتزام بالناموس بأكمله. إنَّها تخالف عمل روح الله وتجعلنا نركّز على أشياء لا صلة لها بالموضوع. إنَّها تمنعنا من الركض في السباق الذي أعدّه يسوع لنا. فهي ليست من يسوع. والقليل منها يُعدِي الكنيسة بأكملها. كذلك فإنَّ المروّجين لها سيواجهون دينونة أكيدة بغض النظر عمَّن هم. يحاول الناموس أن يسلب مجد الصليب. نظرًا لخطورة كل هذا، فلا عجب أن يقول بولس إنه يتمنّى لو أنهم يَقْطَعُونَ أَيْضًا!
ثانياً. كيف تعيش في حرّيّة يسوع
أ ) الآيات (١٣-١٥): استخدام الحرّيّة في محبّة بعضنا البعض
١٣فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ، بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. ١٤لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ: «تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». ١٥فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَانْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
- فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ: لقد أوضح بولس مرارًا وتكرارًا أنَّ الحياة المسيحيّة هي حياة ٱلْحُرِّيَّة. فقد جاء يسوع ليحرّر الأسرى، لا لإبقائهم في العبوديّة أو إرجاعهم إلى العبوديّة من جديد. ويجدر بنا السؤال عما إذا كان الناس يروننا كأشخاص يتمتعون بالحرّيّة والعِتق. فغالبًا ما يُنظَر إلى المؤمنين على أنهم أشخاص مقيّدون ومتزمّتون أكثر من غيرهم.
- “إنَّه لا يقول إنَّ قدرًا معينًا من الحرّيّة قد مُنِح للمؤمنين على مضض، بل يقول إنَّ الحرّيّة هي جوهر كونك مسيحيًّا؛ إنَّها الأساس الجوهري للحياة المسيحيّة كلها.” موريس (Morris)
- غَيْرَ أَنَّهُ لَا تُصَيِّرُوا ٱلْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ: إنَّ الخوف الكبير لدى الناموسيّ هو استخدام الحرّيّة كفرصة للجسد. فالفكرة هي أنّ الناس سوف ينفلت عيارهم ويخطئون كما يحلو لهم، ثُمَّ يقولون لإله ضعيف: ’أنا آسف، أرجوك سامحني‘، ثُمَّ يواصلون عمل كل ما يشاؤون مرَّة أخرى. أدرك بولس خطورة هذا الموقف، لذا حذّر هنا منه.
- أوّلًا، يكتب بولس إلى ٱلْإِخْوَة. هؤلاء هم جميع أبناء الله بواسطة الإيمان بالمسيح يسوع (غلاطيّة ٢٦:٣). فهؤلاء هم الذين «ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ [و] قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ» (غلاطيّة ٢٧:٣).
- لقد دُعِيَ هؤلاء الأشخاص لِلْحُرِّيَّةِ. كما ذكر بولس في موضع سابق من الأصحاح، لقد حرّرهم يسوع المسيح، والآن هم مدعوون للثبات في الحرّيّة التي حرّرنا بها المسيح (غلاطيّة ١:٥). لقد تم إطلاق سراحهم؛ والسؤال الآن هو: ’كيف سيستخدمون حريتهم؟‘
- لَا تُصَيِّرُوا ٱلْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ: واضح أنَّه يمكننا اختيار أنْ نستخدم ٱلْحُرِّيَّةَ كـفُرْصَة لِلْجَسَدِ. وهذا الاختيار – هذا الخَطَر – متاح لنا. فيمكننا أن نأخذ الحرّيّة المجيّدة التي وهبها لنا يسوع ونقلبها ونستخدمها كوسيلة لإشباع ذواتنا على حساب الآخرين. ونظرًا لأنَّ السياق يركّز على الطريقة التي نتعامل بها بعضنا مع البعض، فإنَّ بولس يقصد استخدام حريتنا بطريقة تسيء إلى الآخرين.
- ريندل Rendall)) بخصوص «فُرْصَة»: “كان هذا المصطلح يُستَعمل في اللغة العسكرية للدلالة على قاعدة العمليات، وبشكل عامّ على أي نقطة انطلاق للعمل.” نحن نُغوَى لاستخدام حريتنا في يسوع ك’قاعدة عمليات‘ للخطيّة الأنانيّة.
- من السهل اعتقاد أنَّ الحرّيّة هي ’الحق في ارتكاب الخطيّة‘ أو ’امتياز عمل كل الشر الذي يريده قلبي.‘ وبدلًا من ذلك، فإنَّ هذه الحرّيّة هي الرغبة والقدرة الموهوبة من الروح لعمل ما يجب علينا عمله أمام الله.
- بَلْ بِٱلْمَحَبَّةِ ٱخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا: هذا هو الترياق ضدّ استخدام الحرّيّة كفرصة للجسد. فـالجسد يتوقّع أن يسير الآخرون على هوانا، ولا يهتم كثيرًا بالآخرين. لكن عندما نخدم بعضنا بعضًا بالمحبّة، فإننا نقهر الجسد. ذلك أننا لا نقهر الجسد بالإكثار من التأمل في الذات، بل بالخروج وخدمة الآخرين.
- هذا هو بالضبط النمط الذي وضعه يسوع. فقد كان لديه حرّيّة أكثر من أي شخص على وجه الأرض. بَيْدَ أنَّه طبّق مبدأ بِٱلْمَحَبَّةِ ٱخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
- لِأَنَّ كُلَّ ٱلنَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ: هذا الموقف الخادم تجاه الآخرين هو الذي يتمّم الوصية العظيمة (تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ)، وهذا يمنعنا من تدمير أنفسنا بواسطة المنازعات (فَٱنْظُرُوا لِئَلَّا تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا). ويبدو الأمر كما لو كان بولس يخاطب الناموسيّين مرَّة أخرى، فيقول: “هل ترغبون في حفظ الناموس؟ ها هو الناموس: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ فتكون قد أَكملتَ الناموس فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.”
- “إذا كنت تريد أن تعرف كيف تحب قريبك، فاسأل نفسك كم تحب نفسك. فإذا وقعت في مشكلة أو تعرّضت لخطر، فسوف تقدّر قيمة المحبة والمساعدة من جميع الناس. وإنك لست بحاجة إلى كتاب تعليمات ليرشدك كيف تحب قريبك. وكل ما عليك عمله هو النظر إلى قلبك، وسيخبرك كيف ينبغي أنْ تحب قريبك كنفسك.” لوثر (Luther)
- تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا: يستدعي هذا إلى الذهن مجموعة من الحيوانات البرية. وهكذا يمكن أن تتصرّف الكنيسة عندما تستخدم ’حريتها‘ كمنصّة لدعم الأنانيّة. إذا أردت أن ترى معركة، فضع شخصيّن أنانيّين معًا. في نهاية المطاف ستجد الأنانيّين يُفْنُون بَعْضُهم بَعْضًا.
- “الحياة الخالية من المحبة هي حياة تُعاش على مستوى الحيوانات، ينحصر الاهتمام فيها بالنفس فقط، بغض النظر عن التكلفة التي يتحمّلها الآخرون.” موريس (Morris)
ب) الآيات (١٦-١٨): استخدام الحرّيّة في السلوك في حياة مُقَدَّسة.
١٦وَإِنَّمَا أَقُولُ: اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. ١٧لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ. ١٨وَلكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ.
- ٱسْلُكُوا بِٱلرُّوحِ فَلَا تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ: ببساطة، إذا سلكنا بِٱلرُّوحِ (بدلًا من محاولة العيش بالناموس)، فإننا بطبيعة الحال لن نُكمِل شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ. مرَّة أخرى، فإنَّ خوف الناموسيّ – من أن السلوك بالروح يُبيح التمادي في الخطيّة، وأن الناموسيّة فقط هي التي يمكن أن تحفظنا مقدَّسين – هو خطأ بيِّن.
- السلوك بِٱلرُّوحِ يعني أوّلًا أنَّ الروح القُدُس يسكن بداخلك. ثانيًا، يعني أن تكون منفتحًا وحساسًا لتأثير الروح القُدُس. وثالثًا، يعني تشكيل حياتك بحسب تأثير الروح القُدُس.
- يمكننا معرفة إذا كان الشخص يسلك بِٱلرُّوحِ لأنَّه سيشبه يسوع كثيرًا. لقد أخبرنا يسوع بأن مهمّة الروح القُدُس هي إعلاء شأنه والتحدّث عنه (يوحنا ١٦:١٤-١٧، ٢٦:١٤، ٢٦:١٥، ١٣:١٦-١٥). فعندما يسلك شخص ما بِٱلرُّوحِ، فإنه يستمع إلى ما يقوله الروح القُدُس حين يرشدنا في طريق يسوع وطبيعته.
- “الحياة بالروح ليست ناموسيّة ولا إباحيّة – ولا هي طريق وسط بينهما. إنَّها حياة إيمان ومحبة تسمو فوق كل هذه الطرق الخاطئة.” بويس (Boice)
- فَلَا تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ: لا سبيل إلى إكمال شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ إن كان الإنسان يسلك بالروح. فالاثنان ببساطة لا يجتمعان. الروح القُدُس لا يتحرّك فينا لإرضاء رغباتنا وأهوائنا الساقطة، بل ليعلّمنا عن يسوع ويرشدنا في طريق يسوع. وهذا هو مفتاح حياة البرّ – السلوك بالروح، وليس العيش تحت سيطرة الناموس.
- لوثر (Luther) عن شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ: “لا أنكر أنَّ شهوة الجسد تشمل الشهوة الجنسيّة، لكنها تشتمل على أكثر من ذلك. إنَّها تشتمل على كل الرغبات الفاسدة التي يتعرّض لها المؤمنون، مثل الكبرياء والكراهية والطمع وعدم الصبر.”
- لِأَنَّ ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ وَٱلرُّوحُ ضِدَّ ٱلْجَسَدِ: السلوك بالروح هو المفتاح، لكنه لا يتحقّق دائمًا بسهولة. فالأمر كثيرًا ما كان معركة. فهناك معركة تدور داخل المؤمن، معركة بين ٱلْجَسَد وَٱلرُّوح. وكما يكتب بولس: هَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا ٱلْآخَرَ – وهما لا يتفقان على الإطلاق. وعندما يفوز الجسد بالمعركة الداخليّة، تَفْعَلُونَ مَا لَا تُرِيدُونَ. فلا تحيا بالطريقة التي تريدها؛ إنَّما تحيا تحت ٱلْجَسَدِ بدلًا من الحياة تحت ٱلرُّوحِ.
- عندما يستخدم بولس مصطلح ٱلْجَسَدِ، فهو لا يعني أجسامنا التي من لحم ودم. فجسدنا ليس هو الطبيعة الساقطة: ’الإنسان العتيق‘ الذي ورثناه عن آدم، لأنَّ الإنسان العتيق قد صُلِب مع يسوع، وهو الآن مات وبطل (رومية ٦:٦). وبدلًا من ذلك، حسب استخدام بولس هنا، فإنَّ ٱلْجَسَدَ هو الإنسان الداخليّ القائم بمعزل عن ’الإنسان العتيق‘ أو ’الإنسان الجديد‘، والذي تدرّب على التمرّد بواسطة الطبيعة القديمة والعالم والشيطان.
- على الرغم من أنَّ الإنسان العتيق قد صُلِب مع المسيح، ومات وبطل (رومية ٦:٦)، فإنَّ تأثيره مستمرّ بواسطة الجسد، وسيحارب ضدنا حتّى نختبر الترياق النهائيّ لله ضد الجسد: أي جسد القيامة.
- بويس (Boice) عن ٱلْجَسَدِ وعن كلمة ساركس (sarx)، أي الكلمة اليونانيّة المترجمة بالجسد: “عندما يتحدّث بولس عن الجسد (ساركس)، فهو يقصد كل ما يقدر الإنسان عليه كإنسان خاطئ بمعزل عن التدخل غير المستحقّ لروح الله في حياته… ولقد صار يعني الإنسان ككائن ساقط، الذي رغباته – حتّى في أحسن الأحوال – نابعة من الخطيّة وملوَّثة بها. وهكذا فإنَّ الجسد (ساركس) يعني كل الشر الكامن في الإنسان والذي يقدر الإنسان على ارتكابه بمعزل عن تدخل نعمة الله في حياته.”
- “عندما يبدأ الجسد في إساءة التصرّف، فإنَّ العلاج الوحيد هو أخذ سيف الروح، أي كلمة الخلاص، ومحاربة الجسد. أمَّا إذا واريت الكلمة، عجزت أمام الجسد. وإني أعرف ذلك عن خبرة. فلقد تعرّضتُ لهجوم العديد من المشاعر العنيفة، ولكن بمجرد أن أمسك ببعض مقاطع الكتاب المُقَدَّس، كانت إغراءاتي تفارقني. وبدون الكلمة ما كنت لأتمكّن من الانتصار على الجسد.” لوثر (Luther)
- وَلَكِنْ إِذَا ٱنْقَدْتُمْ بِٱلرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ: الترياق ضدّ الجسد لا يوجد في الناموس، إنَّما في الروح – لَكِنْ إِذَا ٱنْقَدْتُمْ بِٱلرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ. لا تحتاجون أن تكونوا كذلك، لأنكم تنفّذون مشيئة الله بواسطة التأثير الداخليّ للروح القُدُس، لا بـالتأثير الخارجيّ لناموس الله.
- هذا ’يكتب‘ شريعة الله فعلاً على قلوبنا، بداخلنا. فهذا هو العمل العظيم للعهد الجديد الموعود به في العهد القديم: «أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا» (ارميا ٣٣:٣١).
- التأثير الداخليّ أكثر فعالية بكثير من التأثير الخارجيّ. “الخطأ الذي كثيرًا ما يُرتكَب هو استبدال ضبط الروح القُدُس بناموس موسى، مِمَّا يسبّب نتائج كارثية… فإنَّ رجل الشرطة الذي على ناصية الشارع يملك قوة ردع أكثر فعالية بكثير من أي عدد من اللوائح القانونية المُعلَّقة في الساحة العامة.” ويست (Wuest)
ج) الآيات (١٩-٢١أ): أمثلة لأعمال الجسد التي يساعدنا السلوك بالروح على التغلّب عليها.
١٩وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ، الَّتِي هِيَ: زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ ٢٠عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ ٢١حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هذِهِ…
- وَأَعْمَالُ ٱلْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ: قد كتب بولس للتو عن المعركة بين الجسد والروح الدائرة في كل مؤمن. وعلى الرغم من أنها معركة داخليّة غير مرئيّة، إلَّا أن النتائج ظَاهِرَةٌ للعيان. ويبدو الأمر كما لو كان بولس يعتذر عن اضطراره إلى ذكر هذه القائمة، لأنَّ أَعْمَال ٱلْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ. بَيْدَ أنَّه يعلم – بوحي الروح القُدُس – أهميّة أن يكون محدَّدًا، لأننا يجب أن نعرف على وجه التحديد كيف نسلك بالجسد. فنحن عاجزون عن رؤية ٱلْجَسَدِ، غير أننا نستطيع أن نرى ماذا يفعل.
- كانت قوائم السلوك الجيد والرديء مألوفة لدى العديد من قُرّاء بولس. “في العديد من الكتابات القديمة، توجد قوائم بالفضائل أو الرذائل أو بكليهما، وترد هذه القوائم في العهد القديم وفي مواضع أخرى من العهد الجديد.” موريس (Morris)
- سعى البعض إلى تنظيم هذه القائمة حسب أربع فئات: الخطايا الجنسيّة، الخطايا الدينيّة، الخطايا الشخصيّة، والخطايا الاجتماعيّة. يجب ألَّا نعتبر هذه القائمة شاملة، إلاَّ أنَّها تقدّم فكرة كافية عما يفعله الشخص الذي يسلك بالجسد.
- “إذا قرأتُ الأصحاح ستلاحظ أنَّ الرسول قد استخدم ما لا يقل عن سبعة عشر كلمة، بل رُبَّما ثمانية عشر، لوصف أعمال الجسد. تزخر لغة البشر دائمًا بالكلمات الرديئة، لأنَّ قلب الإنسان مليء بالشرور المتعددة التي تدلّ عليها هذه الكلمات.” سبيرجن (Spurgeon)
- زِنًى، عَهَارَةٌ، نَجَاسَةٌ… بَطَرٌ: هذه كلها خطايا حِسّيّة تتعلّق بالجنس. كثيرًا ما نفزع من الفجور الجنسيّ في عصرنا، لكن يجب أن نتذكّر أنَّ الأزمنة التي كتب فيها بولس كانت سيئة، وإن لم تكن أسوأ. “هناك أدلّة كثيرة تثبت أنّ الحياة الجنسيّة للعالم اليونانيّ-الرومانيّ في زمن العهد الجديد كانت فوضى عارمة. وهذه الأدلّة ليس مصدرها كتّاب مسيحيّين بل وثنيّين شعروا بالاشمئزاز من الفجور الجنسيّ الذي لا يوصف.” فونغ (Fung)
- الزنا هو انتهاك لعهد الزواج عن طريق الفجور الجنسيّ. لا ترد هذه الكلمة في قائمة العديد من المخطوطات القديمة، لذا لا تتضمنها العديد من الترجمات (مثل NIV). لكنَّ هذا لا يعني أن الله يبيح الزِنَى، لأنَّه حتّى لو لم يكتب بولس الكلمة في هذه القائمة، فهي مدرجة تحت الكلمة التالية: ’عَهَارَةٌ.‘ الزنا خطيّة، ومرتكبوه يجب أن يعترفوا بخطاياهم وأن يتوبوا عنها بدلًا من تبريرها. الروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى الـزِنَى أبدًا.
- أمَّا العَهَارَةٌ فترجمة للكلمة اليونانيّة القديمة پورنِيا porneia، التي تدلّ على الفجور الجنسيّ بمعناه الواسع. بدأت كلمة پورنيا بمعنى ’استئجار عاهرة‘ ولكن بحلول زمن بولس كانت “تُستخدَم للدلالة على مجموعة واسعة من الخطايا الجنسيّة.” موريس (Morris). ولذلك تغطي العَهَارَة “العلاقة غير المشروعة بين الأشخاص غير المتزوجين أو المتزوجين؛ إلاَّ أنَّها تدلّ على الزنا أيضًا.” كلارك (Clarke). ويعرّف قاموس وبستر (Webster) العَهَارَة بأنها “الاتّصال الجنسيّ الطوعي بين شخصين غير متزوجين أو شخصين متزوجين ولكن ليس أحدهما بالآخر.” كان الجنس قبل الزواج وخارجه – وهو ما يسميه بولس هنا بالعَهَارَة – ’على ما يبدو واسع الانتشار حتّى أنَّه كان مقبولًا كجزء طبيعيّ من الحياة … إلاَّ أنَّ بولس لا يقبل مثل هذه النظرة لهذه الممارسة؛ إنه يرى أنَّها خاطئة تمامًا.‘ موريس (Morris) الروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى العَهَارَة أبدًا.
- النَجَاسَة هي كلمة أخرى واسعة النطاق، تشير إلى المخالفات الجنسيّة بشكل عام. وهي في الأصل عكس الطهارة. ما هو ليس بطاهر أمام الله، فهو نَجَاسَةٌ. هذا وتغطي الكلمة العديد من الخطايا الجنسيّة التي ليست اتصالاً جنسيًّا أو حتّى تفاعلًا حقيقيًّا مع شخص آخر (مثل الصور الإباحيّة). تغطي النَجَاسَة أيضًا الكلام النجس، أو الكلام المليء بالإيحاءات الجنسيّة أو بالمعاني المزدوجة. الروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى النَجَاسَة أبدًا.
- تحمل الدَعَارَة (التي تُرجم أحيانًا بالفجور أو الخلاعة) فكرة ’الاستعداد للخطيّة في أي وقت.‘ إنَّها تصف شخصًا يتباهى بفجوره، تخلّص من كل الضوابط، وفقد الشعور بالخجل أو العار أو الإحراج. يعرّف موريس (Morris) الدعارة بأنها “تجاهل القواعد المقبولة… السلوك الذي لا يعرف أي ضابط.” يمكن اعتبار الدَعَارَة نجاسة عامة وشائعة. “قد يكون الإنسان نجسًا ولكنه يخفي خطيته، ولا يكون داعرًا إلاَّ إذا أتى بفعل جارح وصادم للّياقة العامة.” لايتفوت (Lightfoot). فنحن نعيش في ثقافة داعرة بشكل لا يصدق ولكنّ الروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى الدَعَارَة أبدًا.
- عِبَادَةُ ٱلْأَوْثَانِ، سِحْرٌ: هذه خطايا دينيّة. إنهم خطايا متعلّقة بالعبادة، وتذكّرنا بأنَّه ليس من المُحزن أنْ نعبد الإله الخاطئ فقط أو نسعى إلى القوّة الروحيّة الخاطئة – بل هي خطيّة أيضًا.
- عِبَادَةُ ٱلْأَوْثَانِ هي عبادة أي إله إلاَّ الربّ الإله المُعلَن لنا في الكتاب المُقَدَّس وفي شخص يسوع المسيح. فعندما يعبد الناس إلهًا خاصًّا بهم ومن صنعهم، يرفضون الإله الحقّ والحي – وهذه خطيّة. قد يقول قائل: ’إنني أستطيع أن أصدّق ما أريد!‘ طبعًا يمكنه ذلك، لكنَّه سيتحمّل أيضًا عواقب إيمانه الخاطئ. الروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى عِبَادَة ٱلْأَوْثَانِ أبدًا.
- الـسِحْر هو تقديم الخدمة والعبادة للغيب والقوى الروحيّة بمعزل عن الله الحقيقيّ. كما أنَّ له بعدًا آخر، تكشفه كلمة «سحر» في اللغة الأصليّة التي يستخدمها بولس: فارماكيا pharmakeia، والتي نحصل منها عليها على كلمة ’صيدليّة.‘ يعرّف موريس (Morris) السحر بأنه “استخدام أي نوع من المخدرات أو العقاقير أو التعاويذ.” ففي العالم القديم، كان تعاطي المخدرات (وخاصة المسبّبة للهلوسة) مرتبطًا دائمًا بالغيب، ويشير ربط الكتاب المُقَدَّس بين تناول العقاقير والشعوذة إلى أنَّ العقاقير تفتح أبوابًا أمام الغيبيّات، يُستحسَن تركها مغلقة. كتب ويليام باركلي (William Barclay): “هذا يعني حرفيًّا استخدام المخدّرات … ولقد أصبحت الكلمة مرتبطة بشكل خاصّ باستخدام المخدرات في السحر، الذي كان العالم القديم غارقًا فيه.” فالروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى الـسِحْر أبدًا، ولا إلى الحصول على النشوة بتعاطي المخدرات.
- عَدَاوَةٌ، خِصَامٌ، غَيْرَةٌ، سَخَطٌ، تَحَزُّبٌ، شِقَاقٌ، بِدْعَةٌ، حَسَدٌ، قَتْلٌ: هذه كلها خطايا متعلّقة بـ ’الناس.‘ إنَّها خطايا تعبّر عن نفسها أساسًا في طريقة تعاملنا مع الآخرين. فالله يهتم بطهارتنا الجنسيّة والأخلاقيّة، ويهتم بطهارة ديانتنا وعبادتنا. لكنَّه يهتمّ بشدة أيضًا بكيفية تعاملنا بعضنا مع البعض. يدلّ استخدام بولس لعدد أكبر من الكلمات لوصف هذه الخطايا الشخصيّة على مدى أهمّيّة تعاملنا بعضنا مع البعض بالنسبة إلى الله.
- الـعَدَاوَة (إخثراي ekthrai) هي موقف قلبيّ، وتعبّر عن نفسها بطريقة أو بأخرى في أعمال مثل الـخِصَام أو نوبات الــسَخَط أو العديد من الأعمال الأخرى المتعلّقة بالجسد. لكنَّ الـعَدَاوَة هي الدافع الداخليّ لسوء معاملة الآخرين. وكما أنَّ المحبّة هي الدافع الداخليّ لحسن معاملة الآخرين واللطف معهم، فإنَّ الـعَدَاوَة دافع داخليّ أيضًا. وإنه يمكن إصدار قوانين لمعاقبة الشر الذي يفعله الناس بعضهم ضد البعض، لكن لا يوجد قانون يقدر على معالجة مشكلة الـعَدَاوَة، التي تحفّز هذه الأفعال. لكنَّ الروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى الـعَدَاوَة أبدًا.
- الـخِصَام هو ترجمة للكلمة اليونانيّة القديمة (إيرِس eris). “في الأصل، كانت هذه الكلمة ترتبط أساسًا بالتنافس على الجوائز… فهي تعني التنافس المؤدِّي إلى النزاعات والمشاجرات.” باركلي (Barclay). وتُتَرجم في الغالب بالخصام أو الخصومات (كما في رومية ١٣:١٣ و كورنثوس الأولى ٣:٣)، وتدلّ بكل بساطة على روح التقاتل والجدال. الروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى الـخِصَام أبدًا.
- الـغَيْرَة ترجمة للكلمة اليونانيّة القديمة (زيلوس zelos) التي تستخدم في بعض الأحيان بمعنى إيجابي – كأن تغار على شيء جيد. ولكنّها تدلّ هنا بوضوح على شيء غير سليم. وهي تعني في هذا السياق “الرغبة في الحصول على ما يمتلكه شخص آخر، والرغبة الخاطئة فيما لا يخصّنا.” باركلي (Barclay). الروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى الـغَيْرَة أبدًا.
- أمَّا الـسَخَط (فورة الغضب) فترجمة للكلمة اليونانيّة القديمة (ثيمُس thumos) التي تتحدّث عن ثورة الغضب المفاجئة، وليس حالة الغضب المستقرة. ومعناه فقدان أعصابك، والعجز عن التحكّم في غضبك. والروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى السَخَط أبدًا.
- التَحَزُّب (أي المطامع الأنانيّة) ترجمة للكلمة اليونانيّة القديمة إريثيا eritheia، وهي كلمة لها تاريخ مثير للاهتمام. حيث بدأت بمعنى محترم جدًّا هو ’العمل نظير أجر.‘ ومع مرور الوقت، بدأت تعني نوع العمل الذي يتمّ نظير المال وليس لأي سبب آخر. ثُمَّ استُخدِمت لوصف السياسيين الذين يترشّحون للانتخابات، لا من أجل الخدمة الذي يمكنهم تقديمها للحكومة والشعب، ولكن لمجدهم ومصلحتهم الخاصّة فقط. ’ثُمَّ تحوّل معناها إلى «الطموح الأنانيّ»، الطموح غير الهادف إلى الخدمة، بل هدفه الوحيد الربح والسلطة.‘ إنه الموقف القلبي للشخص الذي يكون سؤاله الأول دائمًا: ’ماذا سيعود عليّ بالنفع في هذا؟‘ بكلّ تأكيد، الروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى الطموحات الأنانيّة أبدًا.
- الـشِقَاق (الخلافات) ترجمة للكلمة اليونانيّة القديمة ديخوستاسيا dichostasia، وتعني حرفيًّا ’الوقوف بعيدًا.‘ تُترجَم هذه الكلمة في رومية ١٧:١٦ بالجمع: «شقاقات» وفي كورنثوس الأولى ٣:٣ بكلمة: انشقاق. الـشِقَاقٌ “يصف مجتمعًا… يتفكّك أعضاؤه بدلًا من أنْ يتجمّعوا.” باركلي (Barclay). الروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى الـشِقَاق أبدًا.
- كلمة بِدْعَة هي ترجمة للكلمة اليونانيّة القديمة (هَيريسِس hairesis) والتي تعني ببساطة في الأصل ’اختيار.‘ وبمرور الوقت، أصبحت تعني تعبير الشخص عن ’خياراته‘ أو آرائه بشكل مثير للانقسام. ونحن نفكّر اليوم في البدع من حيث كونها أفكار وتعاليم خاطئة؛ ولكنَّ الكلمة تركِّز في الواقع على الانقسام غير الصحيح حول الآراء. يمكن اعتبار البدع شقاقات (خلافات) قد تصلّبت. “شتّان بين الاعتقاد بأننا على حقّ والاعتقاد بأن الجميع مخطئون. القناعة الراسخة هي فضيلة مسيحيّة. أمَّا التعصّب الذي لا يتزعزع فهو خطيّة.” باركلي (Barclay) نقله موريس (Morris). الروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى الـبِدَع أبدًا.
- الـحَسَد هو الكلمة اليونانيّة القديمة فثونُس phthonos. وهو ليس طلب ما يملكه شخص آخر (كما هو الحال في الغيرة)، لكنَّه الشعور بالمرارة لمجرد أن شخصًا آخر يملك شيئا ليس عندنا. أطلق الرواقيّون القدماء على ذلك ’الحزن بسبب خير شخص آخر‘، وقال الفيلسوف القديم يوريبيدس إنَّه ’أكبر الأمراض بين الناس.‘ والروح القُدُس لا يقود أحدًا إلى الـحَسَد أبدًا.
- الـقَتْل هي ترجمة للكلمة اليونانيّة القديمة فونُس phonos، وأفضل ترجمة لها هي جرائم القتل. هذه كلمة أخرى (مثل كلمة الزنا سابقًا) غير موجودة في جميع النصوص اليونانيّة القديمة، ولا تشتمل عليها ترجمات مثل كتاب الحياة. ولكن لا يوجد خلاف على أنَّ القتل من أعمال الجسد، وأن الروح القدس لا يقود أحدًا إلى الـقَتْل أبدًا.
- سُكْرٌ، بَطَرٌ (أي العربدة والمرح الزائد عن الحدّ): يمكن اعتبار هذه خطايا اجتماعيّة – خطايا كثيرًا ما تُرتَكب بصحبة أشخاص آخرين. أمَّا إدراج بولس هاتين الخطيتين في قائمته فيدلّ على أنهما من أعمال الجسد التي كان على مؤمني غلاطيّة الحذر منها. هذا وتسرد رومية ١٢:١٣-١٣ الـسُكْر والـبَطَر كجزء من الماضي المظلم للمؤمنين، الذي يجب أنْ نتخلص منه الآن طالما أننا نسلك في النور.
- “يرينا هذا أنَّ الكنيسة الأولى لم تتألّف من أشخاص كانت حياتهم قبل المسيحيّة على أعلى مستوى … فبولس يعترف بالواقع ويذكّر قُرّاءه بأنه مهما كان نوع الخطيّة التي دأبوا عليها قبل انضمامهم إلى المسيحيّة، فإنه ينبغي التخلِّي عنها بحزم.” موريس (Morris)
- يوصف الـسُكْر بوضوح كأحد أعمال الجسد. في حين أن المؤمنين قد يختلفون فيما إذا كان يحلّ للمؤمن شرب الخمر، إلَّا أن الكتاب المُقَدَّس يحرّم السُّكْر بالتحديد. ويجب ألَّا نعتقد أنَّ ’السقوط في حالة سكر‘ فقط هو الخطيّة، بل إعاقة الإدراك بأي شكل من الأشكال بسبب الشراب خطيّة، وكذلك الشرب بقصد إعاقة الإدراك. تصف أفسس ١٨:٥ الخمر أيضًا على أنَّه تبديد، مِمَّا يعني ’إسراف.‘ فالسكر، إذن، تبديد. قال تراب (Trapp) عن الشرب: “هذه الثلاثة تنطوي على الإسراف: شرب الخمور، صرف المال، والسخرية.” بالتأكيد، الروح القدس لا يقود أحدًا إلى الـسُكْر أبدًا.
- الـبَطَر ترجمة للكلمة اليونانيّة القديمة كومُس komos، و لا تعني مُجرَّد إقامة حفلة أو قضاء وقت ممتع. بل تعني الحفلات الإباحيّة. قيقول باركلي (Barclay): “تصف الكلمة العربدة التي تُحطّ من قدر الإنسان وتسبّب الإزعاج للآخرين.”
- وَأَمْثَالُ هَذِهِ: هذا يوضّح أنَّ بولس يعلم أن قائمته ليست شاملة. فهذه ليست أعمال الجسد الوحيدة. فلو وجد الإنسان عملاً من أعمال الجسد غير مذكور في هذه القائمة، لا يعني ذلك أنَّه من حقّه القيام به.
د ) الآية (٢١ب): الخطر المُحدِق بأولئك الذين يعيشون في أعمال الجسد والمصير الذي سيؤولون إليه.
٢١… ٱلَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضًا: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ لَا يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللهِ.
- ٱلَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضًا: هذا يدلّ على أنَّ بولس كثيرًا ما علّم المؤمنين كيف يعيشون، أي أنَّ تركيزه على ذلك هذه المَرَّة لم يكن عرضيًّا. فبولس كان يعلم أننا نخلص بنعمة الله وعمل يسوع وحده، وليس بما فعلناه أو نفعله أو وعدنا بفعله. ولكنَّه كان يعلم أيضًا أنَّ أولئك الذين يخلصون بنعمة الله عليهم الالتزام بمستوى أخلاقي عالٍ – ليس لكسب الخلاص، ولكن كتعبير عن الامتنان للخلاص وتماشيًا مع حالتنا الجديدة في يسوع.
- إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ لَا يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللهِ: إنَّ السلوك في هذه الأعمال الجسديّة هو تمرُّد واضح على الله، والمتمرّدون على الله لَا يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللهِ.
- ما هو على المحكّ هنا؟ مَلَكُوت ٱللهِ، أي الموضع الذي يملك فيه الله، وتتحقّق فيه فوائد ملكه. لأنَّ بولس يتحدّث عن وراثة ملكوت الله، فإننا نفهم أنَّه يعني ’السماء.‘ يقول بولس بوضوح: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ (أي يمارسون) مِثْلَ هَذِهِ لَا يذهبون إلى السماء. ولن يعرفوا عظمة ومجد مَلَكُوت ٱللهِ على الأرض.
- من هم أولئك الناس الذين في خطر؟ ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ الأشياء. وهذا يعني أكثر من مُجَرَّد ارتكاب الشخص للزنا أو العهارة أو السحر أو السكر أو أيّ من هذه. المقصود هنا أولئك الذين يستمرون في ممارسة هذه الخطايا، متجاهلين صوت الروح القُدُس الذي يناديهم: ’توقُّفوا.‘
- “يشير زمن الفعل (المضارع) إلى الاعتياد على ارتكاب الخطايا الجسديّة باستمرار، لا على الهفوات الفردية، والمقصود هو أنَّ أولئك الذين يمارسون مثل هذه الخطايا باستمرار يقدّمون دليلًا على أنهم لم يقبلوا روح الله من الأساس.” بويس (Boice)
- يَفْعَلُونَ “هو في الأصل اسم فاعل، أي القائمون بمثل هذه الأشياء، وهو يشير ضمنيًّا إلى أنَّهم يواظبون على ممارستها.” موريس (Morris)
- “يدلّ اسم الفاعل پراسونتيس (prassontes) [يَفْعَلُونَ] على المواظبة المستمرة لا على هفوة منفردة.” ستوت (Stott)
- لَا يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللهِ: إنَّ شدة بولس وثقته في هذه الآية لافتتان للنظر. فقد يبدو بولس متحجّرًا أو قاسيًا هنا، لكنه يتفق مع المفهوم الكتابي عن التحوّل. فعندما نأتي إلى يسوع ليغفر خطايانا ويخلّص أنفسنا، فإنه يغيّر حياتنا أيضًا. وهذا لا يحدث دفعة واحدة، ولن يكتمل العمل هنا على الأرض، ولكن سيحدث هنا تغيير حقيقيّ على الأقل (يوحنا الأولى ٥:٣-٩). وعلى حدّ تعبير تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon): “النعمة التي لا تغيّر حياتي لا تخلّص نفسي.” وليس المقصود أن المؤمن لا يستطيع أبدًا أن يرتكب هذه الخطايا، بل أنَّه لا يستطيع البقاء فيها.
- “المؤمنون يسقطون أيضًا ويرتكبون شهوات الجسد. فداود سقط في الزنا سقطة شنيعة. وبطرس أيضًا سقط في الحزن عندما أنكر المسيح. فمهما كانت هذه الخطايا، فإنها لن تُرتَكب بقصد إغاظة الله، ولكن عن ضعف. وعندما لُفِت نظرهم إلى خطاياهم، لم يستمر هؤلاء الناس فيها، بل تابوا عنها. أولئك الذين يخطئون عن ضعف لا يُحرَمون من الغفران طالما أنهم يقومون مرَّة أخرى ويتوقفون عن الخطيّة. فإنه ما من شيء أسوأ من الاستمرار في الخطيّة. وإذا لم يتوبوا، بل استمروا في إكمال شهوات الجسد، فهذا مؤشّر أكيد على أنهم ليسوا صادقين.” لوثر (Luther)
هـ ) الآيات (٢٢-٢٣): أمثلة على ثمر الروح الذي ينتجه السلوك بالروح في حياتنا.
٢٢وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ ٢٣وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ.
- وَأَمَّا ثَمَرُ ٱلرُّوحِ: أعمال الجسد تبدو طاغية – فينا وحولنا على السواء. أمَّا الله فصالح وعظيم جدًّا إلى درجة أنَّه يغيّر كل شيء بواسطة ثَمَر ٱلرُّوحِ. يمكن لثمر الروح أن يقهر أعمال الجسد دائمًا.
- من اللافت للنظر أنَّ الوحي يقابل بين ثَمَر ٱلرُّوحِ وأعمال الجسد. فالأعمال لها طبيعتها والثمر له طبيعته. أمَّا الثمر فله العديد من الخصائص المهمّة.
- الثمر لا يتحقّق بواسطة العمل، بل يتمّ إنتاجه بالثبات.
- الثمر هشّ.
- الثمر يتكاثر.
- الثمر جذّاب.
- الثمر مُغَذٍّ.
- ثَمَرُ ٱلرُّوحِ: استخدم بولس الجمع في وصف الحياة بحسب الجسد (أعمال الجسد)، لكنَّه يستخدم المفرد (ثَمَرُ ٱلرُّوحِ، لا ثمار الروح). في الصورة الكليّة، للروح عمل واحد يجب أن يفعله فينا جميعًا. وهو ليس مواهب الروح، التي يتم توزيعها على أساس فرديّ بحسب مشيئة الروح. بل هو شيء متاح لكلّ مؤمن.
- “من اللافت للنظر أنَّ كلمة الثمر بالمفرد؛ فبولس لا يتحدّث عن سلسلة من الثمار التي يمكن تقاسمها، بحيث يكون للمؤمن ثمرة ولغيره أخرى. بل إنَّه يشير إلى عنقود، تتجلّى فيها كل الصفات في كلّ مؤمن.” موريس (Morris)
- ثَمَرُ ٱلرُّوحِ … هُوَ … مَحَبَّةٌ: من المناسب أن تكون الـمَحَبَّة أول صفة تُذكَر، لأنَّها تشمل كل ما يليها. بل وقد يُقال إنَّ المصطلحات الثمانية التالية تصف الطريقة العملية التي تظهر بها الـمَحَبَّة العاملة. “كان يكفي مُجَرَّد ذكر ثمر المحبّة وحده، لأنَّ المحبّة تحوي كل ثمار الروح.” لوثر (Luther)
- الـمَحَبَّة ترجمة للكلمة لليونانيّة القديمة أغاپي agape. في تلك اللغة، كانت هناك أربع كلمات مميّزة تدلّ على ’المحبّة.‘ حيث كانت كلمة إيروس تدلّ على المحبّة الرومانسية أو العاطفية. وكانت فيليا تدلّ على المحبّة التي نشعر بها تجاه القريبين منا والأعزاء علينا، سواء كانوا من العائلة أو الأصدقاء. أمَّا كلمة ستورغِه فتعني المحبّة التي تتّضح في المودّة والعناية، خاصةً المودة العائلية. لكنَّ أغاپي تصف نوعًا مختلفًا من المحبّة. إنها محبّة نابعة من قرار، لا محبّة عفويّة؛ إنها تنتمي إلى العقل أكثر منها إلى القلب، لأنها تختار أن تحب غير المستحقّ. “للأغابي علاقة بالعقل؛ إنَّها ليست مُجرَّد عاطفة جيّاشة بلا قيود في قلوبنا، بل هي مبدأ نعيش به عن عمد.” باركلي (Barclay)
- يمكننا أن نقول إنَّها محبّة الروح، لأنَّها ثَمَرُ ٱلرُّوحِ. فهي أبعد وأعمق من المودة الطبيعيّة، أو الولاء لآصرة الدم أو الأسرة. إنها محبة الناس الذين لا يسهل محبّتهم؛ إنها محبّة الناس الذين لا يعجبونك.
- “عندما يزداد استياؤك لأنك قد عوملت معاملة سيئة وتنوي ردّ الصاع صاعين، تذكّر هذا النص: «ثمر الروح هو محبّة.» فتثوب إلى رشدك وتقول: «يا للعار!» بالطبع هو عار، فلا تتشبّه بذلك: «غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ، بَلْ بِٱلْعَكْسِ مُبَارِكِينَ»، لأنَّ «ثمر الروح هو محبّة.»” سبيرجن (Spurgeon)
- من المفيد أيضًا فهم أعمال الجسد على ضوء محبّة الروح هذه. فكل عمل من أعمال الجسد هو انتهاك أو تحريف لهذه المحبّة العظيمة.
- الزنا والعهارة والنجاسة والدعارة هي نسخ مزيَّفة من المحبّة بين الناس.
- عبادة الأصنام والسحر هما نسخ مزيَّفة من المحبّة لله.
- العَدَاوَة، الخِصَام، الغَيْرَة، السَخَط (الهياج)، التَحَزُّب (الطموحات الأنانيّة)، الشِقَاق، البِدْعَة، الحَسَد، القَتْل كلها على نقيض المحبّة.
- أمَّا السكر والبطر (العربدة) فهما محاولات حزينة لملء الفراغ الذي لا يمكن أن تملأه إلاَّ المحبّة.
- ثَمَرُ ٱلرُّوحِ هُوَ… فَرَحٌ: واحدة من أعظم استراتيجيات التسويق التي تم تطبيقها على الإطلاق تصوير مملكة إبليس كمكان للمتعة وملكوت الله كمكان للكآبة والبؤس. ولكنَّ ثمر الروح هو فَرَحٌ.
- يمكننا أن نقول إنَّه فرح الروح، لأنَّه فرح أكبر من مُجرَّد متعة الخبرة المثيرة أو مجموعة رائعة من الظروف. إنَّه فرح يقدر أن يثبت ويبقى، حتّى عندما تبدو الظروف فظيعة. كان بولس يعرف هذا الفرح شخصيًّا. فقد أمكنه أن يرنّم وهو مقيَّد بين جدران زنزانة السجن المظلم (أعمال ٢٥:١٦).
- باركلي (Barclay) عن خارا (chara) الكلمة اليونانيّة القديمة المستخدمة هنا بمعنى الفرح: “إنَّه ليس الفرح النابع من الأمور الأرضية، ولا من الانتصار على شخص آخر في منافسة. إنه فرح أساسه الله.”
- “المؤمنون لا يعتمدون على الظروف. ففرحهم لا يأتي ممّا يملكون، ولكن ممّن هم؛ لا من أين هم، ولكن مِمَّن ينتمون إليه؛ ليس مِمَّا يستمتعون به، بل ممّا عاناه ربهم من أجلهم.” سبيرجن (Spurgeon)
- ثَمَرُ ٱلرُّوحِ هُوَ … سَلَامٌ: هذا السلام هو سلام مع الله، وسلام مع الناس؛ إنَّه سلام إيجابي، مليء بالبركة والخير – وليس مُجرَّد غياب الحرب.
- يمكننا أن نقول إنَّ هذا السلام هو سلام الروح، لأنَّه سلام أعلى مِمَّا نحصل عليه عندما يكون كل شيء هادئًا ومستقرًا. إنَّه «سَلَامُ ٱللهِ ٱلَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ» (فيلبّي ٧:٤).
- الكلمة اليونانيّة القديمة المستخدمة هنا بمعنى السلام هي إيريني eirene، وهي “لا تعني التحرّر من المتاعب فحسب، بل كل ما هو مطلوب لتحقيق خير الإنسان. وهي تعني هنا هدوء القلب الذي ينبع من وعينا المطمئن بأن أزماننا في يدي الله.” باركلي (Barclay)
- كان المسيحيّون الأوائل يعرفون ويحبون فرح وسلام الروح. فاثنان من الأسماء الشائعة للغاية في الكنيسة الأولى هما خارا (أو كارا) وإيريني.
- ثَمَرُ ٱلرُّوحِ هُوَ … طُولُ أَنَاةٍ: معنى طُولُ أَنَاةٍ أنَّه يمكن للإنسان أن يتمتّع بـالمحبّة والفرح والسلام حتّى وإن كان الناس والأحداث يسبّبون له الإزعاج. وكما أنَّ الله لا يتضايق منا بسرعة (رومية ٤:٢، ٢٢:٩)، لذلك لا ينبغي أن نتضايق من الآخرين بسرعة.
- طُولُ الأَنَاة في حد ذاته هو عمل من أعمال الروح. “طول الأناة هو تلك الخاصّيّة التي تمكّن الشخص من تحمّل الشدائد والمضارّ والتوبيخ، وتجعله يتحلّى بالصبر وينتظر تحسّن أحوال أولئك الذين أخطأوا في حقّه. عندما يجد الشيطان أنَّه لا يستطيع التغلّب على أشخاص معينين بالقوّة، فإنه يحاول التغلّب عليهم على المدى الطويل … فإنه لمقاومة اعتداءاته المستمرة، يجب علينا أن نتحلّى بطول الأناة وننتظر بصبر أنْ يتعب الشيطان من لعبته.” لوثر (Luther)
- ثَمَرُ ٱلرُّوحِ هُوَ … لُطْفٌ، صَلَاحٌ: هاتان الكلمتان مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا. لعَلَّ الاختلاف الوحيد هو أنَّ الـصَلَاح يقترن أيضًا بالكرم.
- ثَمَرُ ٱلرُّوحِ هُوَ … إِيمَانٌ: المقصود هو أنَّ روح الله يغرس الإيمان (أو الأمانة) فينا، تجاه كلٍّ من الله والناس. “إنه سمة الرجل الجدير بالثقة.” باركلي (Barclay)
- “القدرة على خدمة الله بأمانة طوال السنين ورغم مغريات الحياة ليست شيئًا نحقّقه بالفضيلة والشجاعة. إنَّما هي تأتي من الروح.” موريس (Morris)
- ثَمَرُ ٱلرُّوحِ هُوَ … لُطْفٌ: تشتمل الكلمة على فكرة القابلية للتعليم، وغياب الموقف المتعالي، وعدم مطالبة الإنسان بحقوقه. وهو يختلف عن الخجل أو السلبية. “إنه خاصية الإنسان الذي يغضب في الوقت المناسب دائمًا وليس في الوقت الخطأ.” باركلي (Barclay)
- موريس (Morris) بخصوص «اللطف»: “من المهمّ للمؤمن أنْ يرى أنَّ التأكيد على الذات، الذي يشكّل جزءًا كبيرًا من حياة الناس في القرن العشرين، لا ينبغي تعليق أهمّيّة كبيرة عليه. فمن الأفضل كثيرًا أن يحدّ كل واحد منا من الرغبة في احتلال مكان الصدارة ويمارس قدرًا مناسبًا من اللطف.”
- ثَمَرُ ٱلرُّوحِ هُوَ … تَعَفُّفٌ: يعرف العالم قيمة التعفّف (ضبط النفس)، ولكنه يكون دائمًا لسبب أنانيّ. إنَّه يعرف أهمّيّة ضبط وإنكار الذات الذي يخوضه شخص ما من أجل نفسه، لكنّ ضبط النفس الذي من الروح يعمل أيضًا في حالة تعاملنا مع الآخرين.
- ضِدَّ أَمْثَالِ هَذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ: كتب بولس بنوع من السخرية والتقليل من قيمة الأمر. فبالتأكيد لا يوجد قانون ضد المحبّة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والإيمان واللطف والتعفُّف (ضبط النفس). ولكن الأكثر من ذلك هو أنَّ الشخص إذا تمتّع بثمر الروح هذا، فهو لا يحتاج إلى الناموس من أساسه. فإذ أنَّه يتمّمه بالفعل.
- كتب موريس (Morris) عن الآية «ضِدَّ أَمْثَالِ هَذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ» ما يلي: “هذا تقليل بارع من قيمة الأمر. فهو يلفت انتباهنا إلى أنَّ نوعية السلوك الذي سبق بولس فوصفه هو ما يريد المشرّعون في كل مكان تحقيقه.”
و ) الآيات (٢٤-٢٦): مجاراة الروح.
٢٤وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ. ٢٥إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ، فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ. ٢٦لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضًا.
- وَلَكِنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ مَعَ ٱلْأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَاتِ: عند الله مكان لجسدنا، بكل أهوائه وشهواته. إنه يريدنا أن نعلّقه على صليبه، حتّى يكون تحت السيطرة وتحت حكم الإعدام.
- صَلَبُوا هي كلمة مهمّة. كان بإمكان بولس ببساطة اختيار كلمة ’أماتوا‘، لكنَّه استخدم كلمة صَلَبُوا لأنَّها تشتمل على أمور كثيرة:
- إنَّها تذكّرنا بما فعله يسوع من أجلنا على الصليب.
- إنَّها تذكّرنا بأننا مدعوون إلى حمل صليبنا والسير وراءه (إنجيل متى ٢٤:١٦).
- إنَّها تذكّرنا بأن موت الجسد غالبًا ما يكون مؤلمًا.
- إنَّها تذكّرنا بأنَّه يجب التعامل مع جسدنا بحزم.
- صَلَبُوا هي كلمة مهمّة. كان بإمكان بولس ببساطة اختيار كلمة ’أماتوا‘، لكنَّه استخدم كلمة صَلَبُوا لأنَّها تشتمل على أمور كثيرة:
- ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ: هذه إشارة إلى شيء يفعله المؤمن، بتوجيه روح الله وتمكينه. فإنَّ هذا العمل لم ولن يكون عملاً سياديًّا من طرف الله فقط.
- الإنسان العتيق، أي الذات التي ورثناها عن آدم، تُصلَب مع يسوع كعمل سيادي من الله عندما نولد من جديد. حيث تقول رومية ٦:٦ «عَالِمِينَ هَذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ». نحن نؤمَر ببساطة أن نحسب الإنسان العتيق ميتًّا (رومية ١١:٦)، ولا يُطلَب منا إماتته. أمَّا الجسد فمسألة أخرى. فنحن مدعوّون إلى اختيار العمل مع الله لنعمل بالجسد ما عمله الله نفسه مع الإنسان العتيق بالضبط: أي صلب الجسد.
- “من فضلك لاحظ أن «صلب» الجسد الموصوف هنا هو شيء لا يحدث لنا، بل بواسطتنا… فغلاطيّة ٢٤:٥ لا تعلمّنا نفس الحقيقة الواردة في غلاطيّة ٢٠:٢ أو رومية ٦:٦. ففي تلك الآيات، يقال لنا إنَّه بواسطة الإيمان/الاتّحاد بالمسيح ’قد صُلِبنا معه.‘ ولكننا نحن هنا الذين قمنا بالعمل.” ستوت (Stott)
- بويس (Boice) بخصوص «قَدْ صَلَبُوا»: “الفعل في صيغة المبني للمعلوم ويشير إلى ما فعله المؤمن بنفسه ويجب أن يواصل اعتبار أنَّه قد تمّ.”
- لن تُحسَم مشكلة جسدنا نهائيًّا حتّى القيامة. فحتّى ذلك الحين، علينا أن ’نعلّقه باستمرار على الصليب‘ فيظلّ معلَّقًا على الصليب، حيًّا ولكن بدون سلطة علينا. “إنَّ مقاومة الجسد… هي تعليقه على الصليب. فرغم أنَّ الجسد لا يزال حيًّا، إلَّا أنَّه لا يقدر أنْ يتصرّف بناءً على رغباته لأنَّه مقيَّد ومسمَّر في الصليب.” لوثر (Luther)
- مَعَ ٱلْأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَاتِ: في يسوع المسيح، تقدر أنْ تعيش فوق أَهْوَاءِ وَشَهَوَاتِ جسدك. فالموارد متاحة في يسوع. انظر إليه. انظر حياتك فيه. إذا كنت واحدًا من ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ، فأنت تنتمي إليه – لا لهذا العالم، ولا لنفسك، ولا لأَهْوَائك وَشَهَوَاتِك.
- إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِٱلرُّوحِ، فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ ٱلرُّوحِ: يمكننا أن نفهم ما كتبه بولس هنا بشكل أفضل إذا عرفنا أن الكلمة اليونانيّة القديمة التي تعني “نسلك” في غلاطيّة ١٦:٥ تختلف عن التي في ٢٥:٥. فالأولى (پيريپاتيو peripateo) هي الكلمة المعتادة، وتستخدم هناك لتصوير ’مسيرة الحياة.‘ أمَّا الثانية (ستيخيو stoicheo) فتعني ’أنْ نسلك بما يتوافق مع…‘ أو ’أن نجاري، ننقاد بـ.‘ فبولس يقول هنا: ’تصرّفوا بما يتلاءم مع الروح.‘
- المقصود هو: ’لقد وهبكم الروح الحياة. والآن دعوه يوجّه خطواتك.‘ أو، بحسب الترجمة الإنجليزيّة المنقحة: ’إذا كان الروح هو مصدر حياتنا، فلندع الروح يوجّه مسارها أيضًا.‘
- “الفعل ستيخيو يعني: أن تكون متّفقًا مع شخص أو شيء ما، أنْ تواكبه أو توافقه أو تتبعه.‘ أمَّا صيغة الأمر المضارع فتشير إلى أنَّ هذه يجب أنْ تكون الممارسة المعتادة.” موريس (Morris)
- لَا نَكُنْ مُعْجِبِينَ: اختتم بولس هذا الجزء المتعلّق بالسلوك بالروح بهذا التحذير، عالمًا بأن البعض سوف يصبحون مُعْجِبِينَ (مغرورين) بـسلوكهم بالروح. يمكن أن تكون هذه ضربة بارعة من الشيطان. دعونا نتخيّل ابنًا لله يبدأ السير بالروح أخيرًا – ثُمَّ يجرّبه الشيطان ليغتر بقدرته على السير. وسرعان ما يتأكّد من أنَّه دائمًا على صواب وأنّ الجميع مخطئون. غالبًا ما يحدث ذلك تدريجيًا، كما حذّر بولس: ’لَا نَكُنْ (نُصبِح) مُعْجِبِينَ.‘
- موريس (Morris) بخصوص «مُعْجِبِينَ»: “الإصابة بالإعجاب (الغرور)، أي التأكّد من أننا دائمًا على صواب (حتى لو كان ذلك يعني أن الآخرين دائمًا مخطئون!)، هو إغراء دائم للمؤمنين … من السهل أن نفترض أنَّه طالما كنا للمسيح فسنقول ونفعل الصواب دائما. لكنَّ بولس يحذّر قُرّاءه من أنَّ المؤمنين قد يثقون أكثر من اللزوم أنهم على صواب فيما يعتقدون.”
- نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضًا: عندما نكون مغرورين – على يقين دائمًا من أننا على صواب، واثقين دائمًا في آرائنا وتصوراتنا – فإنَّ ذلك بالتأكيد يستفزّ الآخرين. فيغتاظون ويكون ذلك سببًا للكثير من الصراعات.
- وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضًا: عندما نكون مُعْجِبِينَ (مغرورين)، نفتح أنفسنا أيضًا على خطيّة الحسد. فإذا علمنا أنَّ شخصًا ما أكثر صوابًا أو أكثر نجاحًا منا، فإننا نشعر بالاستياء منه ونحسده.
- هذا الأصحاح كله يفسح المجال لفحص أنفسنا فحصًا دقيقًا. فكثيرًا ما نعتقد أنَّ مشاكلنا وصعوباتنا كلها من خارج أنفسنا. ونظنّ أنَّ الأمر سيكون على ما يُرام إذا تعامل الجميع معنا بصورة صحيحة وإذا تحسّنت الظروف. ولكنَّ هذا يتجاهل مضمون هذا الأصحاح: المشاكل فينا، ويجب معالجتها بروح الله. اعتاد القديس أوغسطينوس أن يصلّي: ’يا رب، نجّني من هذا الرجل الشرير، من نفسي.‘ إن امتلاكنا لهذا الإدراك لواقعنا يمكّننا من أن نرى عالمًا جديدًا، وحياة جديدة – فلا ينبغي لشخص آخر أو ظرف آخر أن يتغيّر . كل ما يجب علينا عمله هو الخضوع لروح الله، والبدء في السلوك بالروح حقًّا.