رسالة يعقوب – الإصحاح ٣
تحذيراتٌ وكلماتٌ للمعلّمين
أولًا. إظهارُ الإيمان الحيّ في ضبط اللسان
أ ) الآيات (١-٢): ملاحظات افتتاحية: المسؤولية الأعظم للمعلّمين وصعوبة عدم التعثّر
١لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ! ٢لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي الْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ، قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ الْجَسَدِ أَيْضًا.
- لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ: يقدّم يعقوب نصيحةً رصينةً للذين يودّون أن يكونوا معلمين في الكنيسة. إذ يتوجب عليهم أن يأخذوا المسؤولية مأخذ الجد، لأن مساءلتهم أعظم، وسينالون دَيْنُونَةً أَعْظَمَ.
- يسْهُل أن يأخذ المرء مركز المعلم باستخفافٍ في الكنيسة من دون أن يضع في اعتباره التكلفة في ما يتعلق بالمساءلة. قال يسوع محذرًا: “لكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ.” (لوقا ٤٨:١٢)
- تذكّرُنا كلمات يسوع ويعقوب بأن كون المرء معلمًا في كنيسة الله أكثر من مسألة امتلاك مواهب طبيعيةٍ أو حتى روحيةٍ، إذ هنالك أبعادٌ إضافيةٌ مثل الأخلاق والسلوك الصحيح. “وجد يعقوب أن هذا الجانب من عمل الكنيسة صار شعبيًّا للغاية، ومن هنا ينبّه إلى مسؤولياته الخطيرة. إذ سيحكم الله علينا في اليوم الأخير بدَيْنُونَةً أَعْظَمَ، أي بصرامةٍ خاصةٍ في ضوء تأثيرنا في الآخرين.” موفات (Moffatt)
- ولهذا، كان المعلمون يُمتحنون ويُحكم عليهم بصرامةٍ أكبر. “حالتُهم فظيعةٌ. وسينالون دينونةً أعظم من عامة الخطاة. فلم يخطئوا لأنه أقحموا أنفسهم في منصبٍ لم يدعهم الله إليه قط فحسب، لكنهم من خلال قصورهم أيضًا، ستهلك الخراف الذين تولّوا السيطرة عليهم بسبب عدم المعرفة. وسيطالب اللهُ بدمائهم من يد الرقيب.” كلارك (Clarke)
- “تشيرُ صفةُ التفضيل ’أَعْظَمَ‘ (أكثر صرامة) إلى درجات المعاملة عند كرسي دينونة المسيح.” هيبرت (Hiebert)
- لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا: إن مساءلة المعلمين الأكثر صرامةً ومدعاةً إلى الصحوة بشكلٍ خاصٍ في ضوء نقاط ضعفنا المشتركة. إذ نحن نَعْثُرُ جَمِيعُنَا في أشياء كثيرةٍ. ولا تشيرُ الكلمة اليونانية القديمة المترجمة إلى ’نَعْثُرُ‘ هنا إلى سقطةٍ مميتةٍ، بل إلى شيءٍ يعرقلُنا ويعوقُنا عن التقدم الروحيّ.
- نَعْثُرُ جَمِيعُنَا: شمل يعقوب نفسه بين الذين يعثرون. غير أنه لم يبرر تعثُّره أو تعثُّرنا. فنحن نعرفُ أننا نَعْثُرُ جَمِيعُنَا، لكن ينبغي لنا أن نواصل إلى مسيرةٍ أفضل مع الربّ متسمةٍ بتعثُّرٍ أقلّ.
- هذه عبارةٌ أخرى من عباراتٍ كثيرةٍ في الكتاب المقدس تخبرُنا أننا نحن البشر جميعا نخطئُ (بما في ذلك ملوك الأول ٤٦:٨، أيوب ٤:١٤، أمثال ٩:٢٠، جامعة ٢٠:٧، يوحنا الأولى ٨:١، ١٠).
- إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي الْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ: يقدم يعقوب طريقةً لقياس النضج الروحيّ لدى المعلمين ولكلّ المؤمنين بالمسيح. فقد بيّن يسوع في متى ٣٤:١٢-٣٧ أن كلام الإنسان يكشفُ طبيعته الأخلاقية الداخلية.
- لاَ يَعْثُرُ فِي الْكَلاَمِ: هذا هو النضج الروحي الحقيقي، وبشكلٍ خاصٍ في ما يتعلق بالمعلمين الذين تسنح لهم فرصٌ كثيرةٌ للخطية بلسانهم.
- نحن نعثرُ في الكلام عن أنفسنا، بالمباهاة والمبالغة واختيار الأخبار.
- نحن نعثرُ في الكلام بانتقادنا للآخرين والقيل والقال والنميمة والقسوة وإظهار وجهين والغضب أو بالتملق والكلمات غير الصادقة التي تهدفُ إلى كسب رضا الآخرين.
- لاَ يَعْثُرُ فِي الْكَلاَمِ: هذا هو النضج الروحي الحقيقي، وبشكلٍ خاصٍ في ما يتعلق بالمعلمين الذين تسنح لهم فرصٌ كثيرةٌ للخطية بلسانهم.
ب) الآيات (٣-٦): قوة اللسان
٣هُوَذَا الْخَيْلُ، نَضَعُ اللُّجُمَ فِي أَفْوَاهِهَا لِكَيْ تُطَاوِعَنَا، فَنُدِيرَ جِسْمَهَا كُلَّهُ. ٤هُوَذَا السُّفُنُ أَيْضًا، وَهِيَ عَظِيمَةٌ بِهذَا الْمِقْدَارِ، وَتَسُوقُهَا رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ، تُدِيرُهَا دَفَّةٌ صَغِيرَةٌ جِدًّا إِلَى حَيْثُمَا شَاءَ قَصْدُ الْمُدِيرِ. ٥هكَذَا اللِّسَانُ أَيْضًا، هُوَ عُضْوٌ صَغِيرٌ وَيَفْتَخِرُ مُتَعَظِّمًا. هُوَذَا نَارٌ قَلِيلَةٌ، أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ؟ ٦فَاللِّسَانُ نَارٌ! عَالَمُ الإِثْمِ. هكَذَا جُعِلَ فِي أَعْضَائِنَا اللِّسَانُ، الَّذِي يُدَنِّسُ الْجِسْمَ كُلَّهُ، وَيُضْرِمُ دَائِرَةَ الْكَوْنِ، وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ.
- هُوَذَا الْخَيْلُ، نَضَعُ اللُّجُمَ فِي أَفْوَاهِهَا لِكَيْ تُطَاوِعَنَا: يسيطرُ لجامٌ صغيرٌ على حصانٍ ضخمٍ قويٍّ، وتديرُ دفةٌ صغيرةٌ سفينةً كبيرةً. وبالطريقة نفسها، إذا كان لدينا سيطرةٌ على لساننا، فإن هذه إشارةٌ إلى أننا نسيطرُ على أنفسنا. فمن يقدرُ أن يسيطر على لسانه يقدر أن يلجم كلّ الجسد أيضًا (يعقوب ٢:٣).
- اللجامُ والدفةُ صغيران لكنهما مهمان للغاية. فإذا لم تتمّ السيطرة عليهما، فسيخرج الحصان عن السيطرة، وكذلك هو الحال بالنسبة للسفينة. فإنه أمرٌ ممكنٌ أن يكون لشيءٍ صغيرٍ بحجم اللسان قوةٌ هائلةً على إمّا الخير أو الشرّ.
- أنت لا تحلُّ مشكلة الحصان الجموحِ بإبقائه في الإسطبلِ أو مشكلة السفينة عسيرة التوجيه بربطها برصيف الميناء. وبالطريقة نفسها، النذر بالصمت ليس الحلّ الأمثل لسوء استخدام لساننا.
- إن كان اللسان مثل اللجام في فم الحصان أو دفة السفينة، فإن هذا يتركُنا مع السؤال التالي: من الذي يمسكُ باللجام أو من الذي يوجه الدفة؟ ليس لبعض الأشخاص يدٌ ليضعوها على اللجام أو الدفة، ولهذا يقولون أيّ شيءٍ يخطر ببالهم. ويوجهُ آخرون لسانهم من مشاعرهم أو من جوانب من طبيعتهم الجسدية. ويؤشر يعقوب على مسألة امتلاك الروح القدس الذي يعمل من خلال الإنسان الجديد، حيث يضع يديه الموجهتين على لجامنا أو دفّتنا، أي لساننا.
- هُوَذَا نَارٌ قَلِيلَةٌ، أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ؟ فَاللِّسَانُ نَارٌ! عَالَمُ الإِثْمِ: استُخدمت نارُ اللسان لتحرق كثيرين. فيقال للأطفال أحيانًا إن العصيّ والحجارة يمكن أن تكسر عظامهم، لكن الكلمات لن تضرّ بهم أبدًا. ولكن هذا الكلام، وهو بيت شعرٍ، ليس صحيحًا حقًّا. إذْ يمكنُ لألم المرارة بسبب كلمةٍ قيلت ضدّنا أن تجرحنا مدى الحياة، بعد وقتٍ طويلٍ من التئام العظم المكسور.
- “في المثلين التوضيحيين السابقين، يمكن أن يتمّ التحكم بالحيوانات والسفن بأشياء صغيرةٍ. وفي هذا المثل التوضيحيّ الأخير، فإن غابةً ضخمةً تدمّرُ بسبب شرارةٍ صغيرةٍ. وبنفس الطريقة، يمكن للسان إما أن يسيطر أو أن يدمر.” بيرديك (Burdick)
- يمكن لما يقوله آخرون لنا وما نقوله لآخرين أن يدوم فترةً طويلةً إما للخير أو الشرّ. فالتعليق أو الانتقاد الساخر العابر يمكن أن يتسبب في جرحٍ دائمٍ في شخصٍ آخر، ويمكن للتشجيع المقدم في وقته أو المجاملة في اللحظة المناسبة أن تلهم شخصًا مدى الحياة.
- يتحدثُ سفر أعمال الرسل عن الشخص الذي لا يضعُ في اعتباره القوة الهدامة لكلماته. “مثْلُ الْمجْنُون الّذي يرْمي نارًا وسهامًا وموْتًا، هكذا الرّجُلُ الْخادعُ قريبهُ ويقُولُ: «ألمْ ألْعبْ أنا!»” (أمثال ١٨:٢٦-١٩).
- ومرةً أخرى، فإن يعقوب لا يطلب منا أن نصمت دائمًا أو أن ننذر الصمت. إذ سيكون هذا من نواحٍ كثيرةٍ أسهل من ممارسة الضبط الصحيح للسان. إذ يمكن للجام والدفة والنار كلّها أن تقدم فائدةً هائلةً إذا تمت السيطرة عليها بشكلٍ ملائمٍ.
- فَاللِّسَانُ نَارٌ! عَالَمُ الإِثْمِ: لا توجدُ خطايا كثيرةٌ لا تتضمنُ الكلام بطريقةٍ ما. “كما لو أن كلّ شرّ العالم ملفوفٌ أو متضمنٌ في تلك القطعة الصغيرة من اللحم.” بيرديك (Burdick)
- “جَعَلُوا أَفْوَاهَهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ تَتَمَشَّى فِي الأَرْضِ.” (مزمور ۷٣:٩). فيمكن أن يقطع اللسان الأرض كلّها ويعضّ الجميع كَمُوسَى مَسْنُونَةٍ، وبدلًا من أن يقصّ الشعر، فإنه يقطعُ الحنجرة (مزمور ٢:٢٥). له شكلُ السيف، وقد أحسّ به داودُ كسيفٍ في عظامه (مزمور ١٠:٤٢). إنه رفيع وعريضٌ وطويلٌ كأداة ملائمة تمامًا لإفراغ كلٍّ من قلب المتكلم والسامع معًا. لونُه لونُ ألسنة النار الميالة إلى أن تشعل النيران في الطبيعة كلّها (يعقوب ٦:٣).” تراب (Trapp)
- يرددُ يعقوب صدى شهادة سفر الأمثال حول اللسان:
- كثْرةُ الكلام لا تخْلُو منْ معْصيةٍ، أمّا الضّابطُ شفتيْه فعاقلٌ. لسانُ الصّدّيق فضّةٌ مُخْتارةٌ. قلْبُ الأشْرار كشيْءٍ زهيدٍ.شفتا الصّدّيق تهْديان كثيرين، أمّا الأغْبياءُ فيمُوتُون منْ نقْص الْفهْم. (أمثال ١٩:١٠-٢١)
- الْغمُّ في قلْب الرّجُل يُحْنيه، والْكلمةُ الطّيّبةُ تُفرّحُهُ. (أمثال ٢٥:١٢)
- الْكلامُ الْحسنُ شهْدُ عسل، حُلْوٌ للنّفْس وشفاءٌ للْعظام. (أمثال ٢٤:١٦)
- الْموْتُ والْحياةُ في يد اللّسان، وأحبّاؤُهُ يأْكُلُون ثمرهُ. (أمثال ٢١:١٨)
ج) الآيات (٧-٨): صعوبةُ ترويض اللسان
٧لأَنَّ كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَالزَّحَّافَاتِ وَالْبَحْرِيَّاتِ يُذَلَّلُ، وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ. ٨وَأَمَّا اللِّسَانُ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَهُ. هُوَ شَرٌّ لاَ يُضْبَطُ، مَمْلُوٌّ سُمًّا مُمِيتًا.
- لأَنَّ كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ… وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ: يمكن ترويض حيوانٍ مفترسٍ بسهولةٍ أكبر من ترويض اللسان. بل إن يعقوب يخبرُنا: “وَأَمَّا اللِّسَانُ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَهُ.”
- تمتلك الروح الإنسانية قدرةً مذهلةً للتضحية والسيطرة على الذات. ونسمعُ أحيانًا عن قصة نجاةٍ مستميتةٍ لرجُلٍ قطع رجليه لكي يتحرر من شجرةٍ وقعت عليه، ثم نجح في الوصول إلى المستشفى للعلاج الطبيّ. غير أن هذا الرجل نفسه لا يستطيعُ أن يذلل اللسان بشكلٍ كاملٍ.
- وَأَمَّا اللِّسَانُ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَهُ: غير أنه يمكن أن يوضع اللِّسَانُ تحت قوة الروح القدس وسيطرته. ويمكنُنا أن نقول إن الله وحده أقوى من اللسان البشريّ!
- هُوَ شَرٌّ لاَ يُضْبَطُ، مَمْلُوٌّ سُمًّا مُمِيتًا: يصبحُ اللسان غير القابل للترويض أكثر خطرًا عندما نضع في اعتبارنا السمّ المميت الذي يمكن أن يوصله.
- “ليس سمُّ اللسان أقلّ فتكًا من السمّ العاديّ. فهو يقتلُ سمعة الأشخاص بالنميمة والقذف بما يتلفظُه، ويقتل نفوسهم بالشهوات والرغبات المحمومة التي يثيرُها فيهم، ويقتلُ أجسادهم أحيانًا بالخصومات والشجارات التي يثيرُها ضدهم.” بوله (Poole)
- جاءت امرأةٌ ذات يومٍ إلى جون ويسلي، وقالت إنها تعرف ما هي موهبتُها: “اعتقد أن موهبتي من الله هي أن أعبر عن رأيي بصراحةٍ.” فأجاب ويسلي: “لا اعتقدُ أنه ليس لدى الله مانعٌ في أن تدفني موهبتك.” إن التلفظ بأيّ شيءٍ يخطرُ ببالك أمرٌ غيرُ حكيمٍ، كلامٌ مسمومٌ.
د ) الآيات (٩-١٢): طبيعةُ اللسان المتناقضةُ
٩بِهِ نُبَارِكُ اللهَ الآبَ، وَبِهِ نَلْعَنُ النَّاسَ الَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ اللهِ. ١٠مِنَ الْفَمِ الْوَاحِدِ تَخْرُجُ بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ! لاَ يَصْلُحُ يَا إِخْوَتِي أَنْ تَكُونَ هذِهِ الأُمُورُ هكَذَا! ١١أَلَعَلَّ يَنْبُوعًا يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ الْعَذْبَ وَالْمُرَّ؟ ١٢هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُونًا، أَوْ كَرْمَةٌ تِينًا؟ وَلاَ كَذلِكَ يَنْبُوعٌ يَصْنَعُ مَاءً مَالِحًا وَعَذْبًا!
- بِهِ نُبَارِكُ اللهَ الآبَ، وَبِهِ نَلْعَنُ النَّاسَ: يمكن أن نستخدم اللسان من أجل أسمى دعوةٍ (بِهِ نُبَارِكُ اللهَ)، ويمكن أن نستخدم اللسان من أجل أوضع الشرور (بِهِ نَلْعَنُ النَّاسَ). ولا ينبغي أن يقال عن المولودين ثانية: مِنَ الْفَمِ الْوَاحِدِ تَخْرُجُ بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ!
- اعترف لسانُ بطرس بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحيّ وأنكره بلعناتٍ. قال يوحنا: “يا أولادي، أحبّوا بعضُكم بعضًا،” وهو الذي أراد أن يقول كلمةً لتنزل نارٌ من السماء لتلتهم قريةً سامريةً.
- لاَ يَصْلُحُ يَا إِخْوَتِي أَنْ تَكُونَ هذِهِ الأُمُورُ هكَذَا: ينبغي أن يمجد كلامُنا الله باستمرار. ولا ينبغي أن نستخدم مفردةً أو نغمة كلامٍ في الكنيسة تختلف عن البيت أو العمل. ولا ينبغي أن يُرسِلَ لسانُنا كينبوعِ ماءٍ، العذبَ والمرَّ من عينٍ واحدةٍ.
- “يوضحُ هذا الاندفاع في الكلام أن يعقوب سبق أن عانى من مخاصمة الألسن في العالم المتدين… يدلُّ النصُّ على خبرةٍ مُرةٍ.” موفات (Moffatt)
- وَلاَ كَذلِكَ يَنْبُوعٌ يَصْنَعُ مَاءً مَالِحًا وَعَذْبًا: يشير يعقوب إلى الاستحالة المطلقة لمثل هذا التناقض. فإن بقي ثمرٌ سيئٌ وماءٌ مُرٌّ يتدفقان، فإن هذا يعني أنه لا يوجدُ تناقضٌ. فالشجرةُ سيئةٌ والينبوعُ سيئٌ.
- علّم يسوع في متى ٣٤:١٢-٣٧ أن كلام الإنسان كشفٌ موثوقٌ عن طبيعته الداخلية الأخلاقية. فما نقولُه يمكنُ أن يشير إلى حقيقتنا.
- هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُونًا؟ “سيكونُ مسخًا، أمرًا بشعًا، أمرًا نتعجبُ منه ونحدّقُ فيه كأمرٍ غير طبيعيٍّ وعبثيٍّ إن بدأت تينةٌ بإخراج ثمر زيتونٍ. وهو أمرٌ غيرُ طبيعيٍّ بالمقدار نفسه أن يعيش المؤمنُ بالمسيح في الخطية. فهل يستطيع أن يحيا هكذا فيثمر ثمار إثمٍ بدلًا من ثمار برٍّ؟ حاشا!” سبيرجن (Spurgeon)
- “ما لم تتجدد، ما لم تولد من فوقُ ميلادًا سماويًّا جديدًا، فإنك تظلُّ غير مؤمنٍ بالمسيح بغضّ النظر عما يمكنُ أن يطلقوا عليك من صفاتٍ. ولا تستطيعُ أن تنتج الثمر المقبول لدى الله تمامًا كما أنّ التينة لا تستطيعُ أن تنتج زيتونًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- يمكنُك أن تعلق على تينةٍ ورقةً تقولُ إنها “زيتونةٌ” لكن هذا لن يجعلها زيتونةً.
- يمكنُك أن تشذب تينةً لتبدو كزيتونةٍ، لكن هذا لن يجعلها زيتونةً.
- يمكنُك أن تعامل تينةً كأنها زيتونةٌ، لكن هذا لن يجعلها زيتونةً.
- يمكنُك أن تحيط تينةً بأشجار زيتونٍ كثيرةٍ، لكن هذا لن يجعلها زيتونةً.
- يمكنُك أن تزرع تينةً على جبل الزيتون، لكن هذا لن يجعلها زيتونةً.
ثانيًا. إظهارُ الإيمان الحي في حضور الحكمة
أ ) الآية (١٣): تبيّنُ لنا الحكمةُ كيف نقومُ بأعمالٍ صالحةٍ.
١٣مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ، فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ فِي وَدَاعَةِ الْحِكْمَةِ.
- مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ: خاطب يعقوب في بداية الأصحاح الثالث المعلمين أو أشخاصًا أرادوا أن يكونوا معلمين بين المؤمنين بالمسيح. وأخبرهم كيف ينبغي لهم أن يتكلموا. وهو الآن يتحدثُ كيف ينبغي أن يحيوا.
- “يخاطب يعقوب الشخص الحكيم والفهيم. كانت كلمة (Sophos) (أي حكيم) اصطلاحًا بين اليهود يشيرُ إلى المعلم والكاتب. ويُظهرُ هذا أن يعقوب ما زال يخاطب أولئك الذين يمكن أن يكونوا معلمين (انظر ١:٣). وهو غيرُ معنيٍّ الآن بما يقولونه، بل كيف يعيشون.” بيرديك (Burdick)
- مَنْ هُوَ حَكِيمٌ… فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ: ليست الحكمةُ مجرد معرفةٍ ذهنيةٍ. إذ لا بد أن تنعكس الحكمة الحقيقية والفهم الحقيقي على حياتنا، بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ.
- الحكمةُ والفهم بهذا المعنى مثلُ الإيمان من حيث إنهما صفتان داخليتان غيرُ مرئيتين. إن كان شخص يعُدُّ نفسه حكيمًا أو فهيمًا، فإن من المنصف أن نتوقع أن تظهر هذه الصفات الداخليةُ نفسُها في تصرفاته. وهنا يطلب يعقوب منا أن نحكم إن كان الشخص حقًا حكيمًا وفهيمًا.
- فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ فِي وَدَاعَةِ الْحِكْمَةِ: إن الْحِكْمَةِ الحقيقيةُ واضحةٌ أيضًا بأسلوبها الوديع. ومن يعملون أعمالًا صالحةً تهدفُ إلى جلب الانتباه إلى أنفسهم يُظهرون افتقارهم إلى الحكمة الحقيقية.
- فِي وَدَاعَةِ: تترجم كلمة (Prautes) إلى اللطف، لكنها ليست لطفًا سلبيًّا نابعًا من الضعف أو الرضوخ. إنها نظرةٌ نشطةٌ من القبول المتعمّد.” بيرديك (Burdick)
ب) الآيات (١٤-١٦): طبيعةُ الحكمة الأرضية
١٤وَلكِنْ إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَزُّبٌ فِي قُلُوبِكُمْ، فَلاَ تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى الْحَقِّ. ١٥لَيْسَتْ هذِهِ الْحِكْمَةُ نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ، بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ. ١٦لأَنَّهُ حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَزُّبُ، هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ.
- غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَزُّبٌ (السعيُ إلى مصلحة الذات): هاتان نقيضٌ لوداعة الحكمة المذكورة في ١٣:٣. وتشيرُ هذه الكلمات في واقع الأمر إلى شخصٍ ميالٍ إلى الانتقاد والمخاصمة واستفزاز الآخرين للدخول في شجارٍ.
- “إنه منسجمٌ مع الميل إلى الغيرة المُرّة والتنافس (أي روح التحزب والطموح الأنانيّ والانشقاق). فَلاَ تَفْتَخِرُوا بتلك الحماسة الشديدة القاسية التي تؤدي إلى مثل هذا التحزب عديم الضمير، والتي يمكن أن تبرّر أحيانًا بصفتها ولاءً للحقّ.” موفات (Moffatt)
- “ربما يكون الأشخاص المتدينون مستفزين جدًّا، وهم يُفشلون أهدافهم بأساليبهم المتعجرفة. وربما تفقدُ الآراء السليمة والمشورات السديدة أثرها إذا عبّر عنها أنصارٌ يسعون إلى مصلحتهم، أو أشخاصٌ عديمو الضمير ميالون إلى النزاع.” موفات (Moffatt)
- فَلاَ تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى الْحَقِّ: لا ينبغي لأيّ شخصٍ يُظهرُ غيرةً مُرّةً وتحزبًا أن يخدع أحدًا، وبشكلٍ خاصٍ نفسه، حول مدى حكمته. فهو يظهرُ حكمةً أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ. وهذه الحكمةُ سمةٌ للعالم والجسد وإبليس لا الله.
- هذِهِ الْحِكْمَةُ ليست الحكمةُ التي أشار يعقوبُ إليها حكمةً على الإطلاق. “إنها الحكمةُ التي يزعمُ أنه يمتلكُها المعلمون المحتملون المذكورون في يعقوب ١٤:٣ والذين تتناقضُ مزاعمُهم مع حياتهم. فهذا النوع من الحكمة تقيّمُ كلّ شيءٍ بمقاييس دنيويةٍ وتجعلُ الريح الشخصيّ أسمى أهداف الحياة.” بيرديك (Burdick)
- أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ: عرّف آدم كلارك (Adam Clarke) كلّ تعبيرٍ منها:
- أَرْضِيَّةٌ: “لا تضعُ في اعتبارها إلا هذه الحياة.”
- نَفْسَانِيَّةٌ: “حيوانية – حيث هدفُها هو إشباعُ الرغبات الحيوانية وميولها.”
- شَيْطَانِيَّةٌ: “مستوحاةٌ من الشياطين، ويتمُّ حفظُها في النفس بتأثيرهم الساكن.”
- هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ: هذا هو ثمر الحكمة البشرية الأرضية. فربما تكون حكمة العالم والجسد وإبليس قادرةً على إنجاز أشياء، لكن يأتي معها دائمًا ثمر التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ.
ج) الآيات (١٧-١٨): طبيعة الحكمة السماوية
١٧وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ. ١٨وَثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَمَ.
- وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ: لحكمة الله ثمرٌ أيضًا. عرّف يعقوب هنا على نحو دقيقٍ ما تعنيه “وداعةُ الحكمة” في يعقوب ١٣:٣.
- أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ: إن طبيعة هذه الحكمة رائعةٌ. إنها ممتلئةٌ بالمحبة والقلب المعطاء، وهي منسجمةٌ مع قداسة الله.
- هذه الحكمةُ… أَوَّلاً طَاهِرَة: “ليست هذه إشارةً إلى الطهارة الجنسية، بل إلى غياب أية نظرةٍ آثمةٍ أو دافعٍ شريرٍ.” بيرديك (Burdick)
- هذه الحكمةُ… مُسَالِمَةٌ: هذه واحدةٌ من أعظم الكلمات التي تصفُ الطبيعة الأدبية في العهد الجديد. وهي تُستخدم في الترجمة السبعينية في معظم الأحيان لوصف ميل الله كملكٍ. فهو لطيفٌ ووديعٌ مع أن لديه في واقع الأمر كلّ سببٍ ليكون صارمًا وعقابيًّا تجاه الناس في خطاياهم.” بيرديك (Burdick)
- هذه الحكمةُ مُتَرَفِّقَةٌ: “إن الرجل الرحيم (epieikes) هو الرجل الذي يعرف متى يكون خطأً أن يطبق حرفية الناموس الصارمة. فهو يعرفُ كيف يغفرُ بينما تعطيه العدالة الصارمة الحقّ في أن يدين… من المستحيل أن نجد كلمةً إنجليزيةً لترجمة هذه الصفة. وقد دعاها ماثيو أرنولد (Matthew Arnold) ’العقلانية الحلوة‘ وهي القدرةُ على تقديم الأعذار للآخرين الذي نرغب نحن في الحصول عليه.” باركلي (Barclay)
- هذه الحكمةُ مُذْعِنَةٌ (مستعدةٌ للتنازل): “ليست عنيدةً ومتمسكةً بمطالبها. بل لديها ميلٌ إلى التنازل في كلّ الأمور، وهي مطيعةٌ جدًّا وسهلةُ الانقياد.” كلارك (Clarke). “إنها تصالحيةٌ (لا تستخدمُ هذه الكلمةُ في العهد الجديد إلا هنا فقط)، وهذا نقيضُ صلابة الرقبة وعدم التزحزح في المواقف.” موفات (Moffatt). “يمكن أن تترجم كلمةُ (eupeithes) إلى سهل الإقناع، لا بمعنى أنه ضعيفٌ وليّنُ العريكة، لكن بمعنى أنه غيرُ عنيدٍ ومستعدٌّ للاستماع لكي يفكر بمنطقٍ ويناشد… ليست الحكمةُ الحقيقيةُ جامدةً، بل هي مستعدةٌ للاستماع وهي ماهرةٌ في أن تعرف متى تتنازلُ بحكمةٍ.” باركلي (Barclay)
- هذه الحكمةُ مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً: إنها لا تحكمُ على الآخرين بصرامةٍ بناءً على الناموس، لكنها تمدُّ يدًا مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً. فهذه الحكمة تعرف أنّ مكيال الرحمة التي نقدمُه للآخرين هو نفسه الذي سيستخدمُه اللهُ معنا (متى ٢:٧).
- هذه الحكمةُ مَمْلُوَّةٌ… وَأَثْمَارًا صَالِحَةً: يمكنُ أن تُرى هذه الحكمة من خلال الثمر الذي تنتجُه. إنها ليست مجرد قوةٍ داخليةٍ للتفكير والتحدث عن أمورٍ بطريقةٍ صحيحةٍ. إنها مَمْلُوَّةٌ… وَأَثْمَارًا صَالِحَةً.
- هذه الحكمةُ عَدِيمَةُ الرَّيْبِ (المحاباة): هي عديمةُ المحاباة أو من دون حُكمٍ، “أي أنها لا تبحثُ بفضولٍ عن أخطاء الاخرين لتجد مادةً للتوبيخ.” بوله (Poole)
- هذه الحكمةُ عَدِيمَةُ الرِّيَاءِ: “فهي لا تتظاهرُ بما ليس فيها، بل تتصرفُ دائمًا حسب طبيعتها الأخلاقية الخاصة، ولا تعملُ أبدًا من وراء قناعٍ. ولا تسعى إلا إلى مجد الله، ولا تستخدمُ وسائل أخرى لتحقيق ذلك غير تلك الوسائل التي تصفُها.” كلارك (Clarke)
- “تستبعدُ هاتان الصفتان الأخيرتان (عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وعَدِيمَةُ الرِّيَاءِ) استخدام الكلام لكي تكشف نصف كشفٍ وتخفي نصف إخفاءٍ فكر المتكلم الذي يضمرُ شيئًا في مؤخرة عقله (كما نقول) طوال الوقت.” موفات (Moffatt)
- وَثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ: يشبهُ هذا الثمر بذرةً ستثمرُ ثمرًا بينما يزرعها الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَمَ.
- “ثمرُ البر: إما أن يكون الثمرُ الذي ننتجُه، الذي هو البرُّ نفسُه (لوقا ٨:٣-٩، رومية ٢٢:٦، فيلبي ١١:١) أو الثمرُ الذي نحصدُه، الذي هو مكافأةُ البرّ، أي الحياةُ الأبديةُ.” بوله (Poole)
- “ليس مفهومُ الحكمة لدى يعقوب نظريًّا أو تكهنيًّا. بل هو عمليٌّ بشكلٍ وافٍ. إنها الفهمُ والنظرةُ اللذان يؤديان إلى التقوى الحقيقية.” بيرديك (Burdick)