رسالة يعقوب – الإصحاح ٤
الاعتمادُ المتواضعُ للإيمان الحقيقيّ
أولًا. الطبيعة المتواضعة للإيمان الحيّ
أ ) الآيات (١-٣): أسباب النزاع بين المؤمنين
١مِنْ أَيْنَ الْحُرُوبُ وَالْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟ أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا: مِنْ لَذَّاتِكُمُ الْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ؟ ٢تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ. تَقْتُلُونَ وَتَحْسِدُونَ وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا. تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ، لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ.
- مِنْ أَيْنَ الْحُرُوبُ وَالْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟: يصف يعقوب النزاع بين المؤمنين بالمسيح بدقةٍ بالتعبيرين، الْحُرُوبُ وَالْخُصُومَاتُ (الشجارات أو القتال). فغالبية المعارك التي تحدث بين المؤمنين بالمسيح مرةً وقاسيةً.
- “لا يعني يعقوب بهذا أن هنالك حربًا تدور داخل إنسانٍ – رغم أن هذا صحيحٌ – لكنه يتكلم عن الذين يحاربون بعضهم بعضًا.” باركلي (Barclay)
- أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا: مِنْ لَذَّاتِكُمُ الْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ؟ إن مصدر الْحُرُوب وَالْخُصُومَات بين المؤمنين هو دائمًا نفسه. فهناك جذرٌ ما من الجسدانية وحربٌ داخليةٌ تدور داخل المؤمن في ما يتعلق بشهوات الجسد. فلا يمكن لمؤمنين يسلكان معًا في روح الله أحدهما تجاه الآخر أن يعيشا في حروبٍ وخصوماتٍ بينهما.
- “يبدو أن يعقوب كان منزعجًا من روح الأنانية ومرارة الشجارات أكثر من مسألة الصواب والخطأ في وجهات النظر المختلفة.” مو (Moo)
- يزعم معظم الذين يمتلكون نظرةً انتقاديةً ميالةً إلى إحداث انشقاقاتٍ أنهم مدفوعون ومدعومون من روح الله. ويوضح يعقوب أن هذا الأسلوب الميال إلى إحداث الشقاقات ينبع من رغباتهم. “إنه أمرٌ بدهيٌّ أن روح الله لا يخلق رغبةً تثير الحسد.” مورجان (Morgan)
- لَذَّاتِكُمُ الْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ: يصف هنا أنواع الرغبات التي تؤدي إلى صراعٍ. إذ يؤدي الحسد إلى صراعٍ (تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ)، ويؤدي الغضب والعداوة إلى صراع (تَقْتُلُونَ).
- ومرةً أخرى، يرجع يعقوب بذاكرته إلى العظة على الجبل عندما استخدم يسوع كلمة القتل لتعبّر عما هو أكثر من القتل الفعليّ، حيث أشار أيضًا إلى حالة القلب الداخلية التي تنعكس خارجيًّا على الغضب (متى ٢١:٥-٢٢).
- “كلمة ’تَقْتُلُونَ‘ كلمةٌ مجفلةٌ، وقد قصد لها يعقوب أن تبعث على الجفول. فقد سعى يعقوب إلى جعل قرائه يحسّون بقوتها ليدركوا عمق الشرّ في كرههم المرير بعضهم لبعضٍ.” هيبرت (Hiebert)
- وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ: يشير هذا إلى عقم هذه الحياة التي تعاش لأجل الملذات. فهي ليست حياة صراعٍ فحسب، لكنها أيضًا بشكلٍ أساسيٍّ حياةٌ غير مشبعةٍ.
- “يبيّن تاريخ البشر كلّه فشل الشهوات في الوصول إلى غايتها.” سبيرجن (Spurgeon)
- هذه هي المفارقة المأساوية التي تُعاش في السعي إلى الرغبات الدنيوية والجسدية. فهي لا تصل أبدًا إلى هدفها الذي تبذل كلّ شيءٍ للوصول إليه. فعدم الإشباع لا يعود بشكلٍ أساسيٍّ إلى الافتقار إلى الجهد المبذول. “إذا فشلت الشهوة، فليس لأنها لم تشرع في العمل لتحقيق غاياتها. فقد استخدمت كل الوسائل العملية التي في متناولها، واستخدمتها بشغفٍ أيضًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- يساعدنا هذا في أن نفهم بشكلٍ عقلانيٍّ حماقة العيش الساعية إلى شهوات العالم. فأنت تجرّب بتحقيق رغبةٍ آثمةٍ تعتقد (أو تأمل) أنها يمكن أن تُشبع، لكنها لن تُشبع أبدًا. فلماذا لا تقبل حقيقة أنها لن تُشبعك الآن، بدلًا من أن تقبلها بعد خطايا مؤلمةٍ ومؤذيةٍ جدًّا؟
- وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ، لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ: إن السبب وراء وجود هذه الرغبات الهدامة بين المؤمنين بالمسيح هو أنهم لا يطلبون الله من أجل احتياجاتهم (لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ). لهذا، يذكّرنا يعقوب هنا بقوة الصلاة العظيمة، والسبب وراء حقيقة أن بعض المؤمنين يعيشون كفقراء روحيًا من دون داعٍ، لمجرد أنهم لا يصلّون، أو أنهم لا يطلبون عندما يصلّون.
- يمكننا أن نصوغ هذا كقاعدة روحية افتراضية: لا يعطينا الله ما لم نسأل. فإذا كنا نملك إلا القليل من الله وملكوته، فمن المؤكد تقريبًا أننا طلبنا قليلًا. “تذكّر هذا النصّ: قال يهوه لابنه: ’اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وأقاصي الأرض ملكًا لك.‘ فإن كان ابن الله غير معفى من قاعدة الطلب لكي يمتلك، فلا نستطيع أنا وأنت أن نعلّق هذه القاعدة لمصلحتنا. ولماذا يمكن أن يحصل هذا؟” سبيرجن (Spurgeon)
- إذا كان بإمكانك أن تحصل على كلّ شيءٍ بالطلب ولا شيءٍ من دون الطلب، فإني أتوسل إليك أن تدرك مدى حيوية الصلاة، وأضرع إليك أن تكثر منها… هل تعرفون، أيها الإخوة ما هي الأشياء العظيمة التي ستتحقق بمجرد الطلب؟ هل فكرت في هذا يومًا؟ ألا يحفزك هذا على أن تصلي بحرارةٍ؟ كلّ السماء ممتدةٌ في متناول الشخص الذي يطلب. كلّ وعود الله غنيةٌ ولا تستقصى، وتحقيقها أمرٌ منوطٌ بالصلاة.” سبيرجن (Spurgeon)
- لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيًّا لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ: بعد أن تعامل يعقوب مع مشكلة غياب الصلاة، يعالج الآن مشكلة الصلاة الأنانية. فعندما كان هؤلاء الأشخاص يطلبون، فإنهم كانوا يطلبون من الله بدوافع أنانيةٍ محضةٍ.
- يتوجب أن نتذكر أن الغرض من الصلاة ليس أن نُقنع إلهًا متراخيًا بأن يستجيب لطلباتنا، بل الغرض منها هو أن نضبط إرادتنا مع إرادته وأن نطلب منه، في شراكةٍ معه، أن يحقق مشيئته على الأرض (متى ١٠:٦).
- “عندما يصلي شخصٌ هكذا، فكأنه يريد أن يجعل الله خادمه وأن يشبع رغباته! بل وأسوأ من ذلك، فإنه يطلب من الله أن ينضمّ إليه في خدمة شهواته. فهو يريد أن يشبع شهواته، وسيأتي الله ليساعده في فعل ذلك! صلاةٌ كهذه تجديفٌ، لكن عددًا كبيرًا من هذا النوع من الصلوات يُرفع، ولا بدّ أن تكون هذه الصلوات واحدةً من تلك الأشياء الأكثر استفزازًا لله التي تشهدها السماء.” سبيرجن (Spurgeon)
- تُنْفِقُوا: استخدم هذا الفعل في وصف طريقة إنفاق الابن الضال المتسمة بالتبديد في لوقا ١٤:١٥. فرغباتنا الهدامة تظلّ تثابر، حتى إذا صلّينا، لأن صلواتنا يمكن أن تكون متركزةً حول الذات ومنغمسةً في الذات.
ب) الآيات (٤-٥): توبيخٌ على المساومة والحسد بين المؤمنين بالمسيح
٤أَيُّهَا الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي، أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ للهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ، فَقَدْ صَارَ عَدُوًّا للهِ. ٥أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ بَاطِلاً: الرُّوحُ الَّذِي حَلَّ فِينَا يَشْتَاقُ إِلَى الْحَسَدِ؟
- أَيُّهَا الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي: هذا توبيخٌ مقدّمٌ في مفرداتٍ من العهد القديم. فهكذا تكلّم الله في العهد القديم عندما كان شعبه متعلّقًا بشكلٍ ما بعبادة الأوثان (إرميا ٨:٣-٩، حزقيال ٩:٦، ٣٢:١٦، ٣٧:٢٣، هوشع ١:٣). فقد رأى يعقوب أن حسدهم كان عبادةً أوثانٍ (كولوسي ٥:٣) وكان تعبيرًا عن محبتهم للعالم (مَحَبَّةَ الْعَالَمِ).
- تستخدم بعض المخطوطات اليونانية القديمة كلمة ’الزواني‘ فقط من دون ’الزناة.‘ “يستخدم يعقوب صيغة المؤنث عمدًا. إذْ كان شكلًا من أشكال الازدراء والاحتقار في العالم القديم أن تدعو مجتمعًا أو مجموعةً بشيءٍ معادلٍ أنثوي.” موفات (Moffatt)
- يرجح أن إضافة تعبير ’الزُّنَاةُ‘ كان من أحد الكتبة الأوائل الذي اعتقد أن يعقوب أشار إلى الزنا الجنسيّ، ولم يرد أن يستثني الرجال من التوبيخ. ولكن يعقوب استخدم تعبير ’أَيُّهَا الزَّوَانِي‘ ليقدّم صورةً روحيةً معينةً. وحسب هذه الصورة، فإن الله هو “الزوج” ونحن “زوجته” (كما في مقاطع من العهد القديم مثل إشعياء ٥:٤٥، إرميا ٢٠:٣، خروج ١٥:٣٤-١٦).
- “يقدّم اليهود، بسبب عهدهم مع الله، بصفتهم مقترنين به. ومن هنا فإن زناهم وإثمهم بشكلٍ عامٍ يقدّمان تحت فكرة الزنا.” كلارك (Clarke)
- “لديكم قلوبٌ ممتلئةٌ بالعهر… هذه العاهرة تعرض ثدييها، ثديي الربح واللذة، وتقتنص كثيرين في فخّها. وبسبب عملها هذا، يتوجب أن تحرق بنار اليوم الأخير.” تراب (Trapp)
- أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ للهِ؟ يدرك يعقوب أننا لا نستطيع أن نكون أصدقاء للنظام العالميّ في تمردٍ على الله وأصدقاء لله في الوقت نفسه (متى ٢٤:٦). حتى مجرد الرغبة في أن يكون المرء محبًّا للعالم تجعله عدوًّا لله.
- “تعني هذه المحبة للعالم أن المرء مصممٌّ على عداوته لله، لأن هذا يمثّل تحديًا لإرادته واحتقارًا لقصده. وربما يخفي المرءُ هذه الحقيقة، إلا أنه تحدٍّ ضمنيٌّ لله.” موفات (Moffatt)
- ذكّرتنا عبارات يعقوب القوية هنا بأنّ الأمور في الكنيسة الأولى لم تكن كلّها رائعةً. فقد كان لديهم الكثير من الجسدانية والدنيوية لكي يتعاملوا معها. ومع أن كنيسة العهد الجديد نمطٌ واحدٌ لنا، لا ينبغي لنا أن نفرط في تعلقنا الرومانسيّ بالطبيعة الروحية للمؤمنين الأوائل.
- الرُّوحُ الَّذِي حَلَّ فِينَا يَشْتَاقُ إِلَى الْحَسَدِ: لدى الرُّوحُ القدس الساكن فينا توقٌ غيورٌ لتعزيز صداقتنا مع الله، ولتحقيق هذا، سيبكّت المؤمن الذي يعيش حياة المساواة.
- تصعب تفسير هذه العبارة بشكلٍ دقيقٍ. فهل الله يتوق إلى تكريس روحنا التي وضعها داخلنا، أم أن الروح القدس داخلنا هو الذي يتوق إلى تكريس قلبنا بشكلٍ كاملٍ؟ بكلتا الحالتين فإن المعنى هو نفسه تقريبًا.
- “ذهب إلى مدى التكلم عنهم كزناةٍ وزوانٍ، ثم تبنّى نغمةً أكثر رقةً مناشدًا إياهم قائلًا: ’أنتم تحزنون الروح القدس الذي جاء ليسكن فيكم، والذي يتوق إلى امتلاك طبيعتكم كلّها لنفسه.‘” ماير (Meyer)
- يتفق يعقوب مع نصوصٍ كثيرةٍ في العهد القديم تخبرنا بأن الله إلهٌ غيورٌ (١٦:٣٢، ٢١:٣٢، خروج ٥:٢٠، ١٤:٣٤، زكريا ٢:٨). “إن الفكرة هنا هي أن الله يحبّ البشر بشغفٍ حتى إنه لا يطيق أن تكون محبةٌ أخرى في قلوبهم.” باركلي (Barclay)
- فكّر في الألم الداخليّ والعذاب الذي يعيشه الشخص حينما يتعرض لخيانة شريك حياته غير الوفيّ، إذ يتوجب عليه أن يتأمل هذه الحقيقة: أنا وفيٌّ لها (له) بينما هي (هو) غير وفيةٍ (وفيٍّ) لي. هذا هو ما يشعر به روح الله تجاه قلوبنا المُحبة للعالم.
- الْكِتَابَ يَقُولُ: لا نستطيع أن نحدد من أي سفر من العهد القديم أخذت هذه الآية ’الرُّوحُ الَّذِي حَلَّ فِينَا يَشْتَاقُ إِلَى الْحَسَدِ.‘ ويبدو أن يعقوب يقدم فكرةً تلمّح إليها عدة نصوصٍ من دون اقتباس أيّ نصٍّ معينٍ.
ج ) الآيات (٦-١٠): حلٌّ للصراع: صحّح علاقتك بالله بتواضعٍ
٦وَلكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ. لِذلِكَ يَقُولُ: «يُقَاوِمُ اللهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً». ٧فَاخْضَعُوا للهِ. قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ. ٨اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ. ٩اكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَابْكُوا. لِيَتَحَوَّلْ ضَحِكُكُمْ إِلَى نَوْحٍ، وَفَرَحُكُمْ إِلَى غَمٍّ. ١٠اتَّضِعُوا قُدَّامَ الرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ.
- وَلكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ: إن الروح القدس الذي يبكتنا على مساومتنا مستعدٌّ أيضًا أن يعطينا نِعْمَةً لنخدم الله كما ينبغي. تأتي هذه العبارة الرائعة – وَلكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ – في مقابلةٍ قويةٍ مع الكلمات السابقة.
- “لاحظ هذه المقابلة. لاحظها دائمًا. لاحظ مدى ضعفنا ومدى قوته، مدى تكبّرنا ومدى استعداده للتنازل، مدى ضلالنا ومدى عصمته، مدى تقلّبنا ومدى ثباته، مدى ميلنا إلى الاستفزاز ومدى غفرانه. لاحظ أنه لا يوجد فينا إلا مساوئ وأنه ليس فيه إلا كلّ صلاحٍ. غير أن مساوئنا تجتذب صلاحه، وما زال يباركنا. فيا لهذه المقابلة الغنية!” سبيرجن (Spurgeon)
- “تسعى الخطية إلى الدخول، وتغلق النعمة الباب. تحاول الخطية أن تتسيد، لكن النعمة – والتي هي أقوى من الخطية – تقاوم ولن تسمح للخطية بذلك! تطرحنا الخطية أحيانًا وتضع قدمها على عنقنا. وتأتي النعمة لكي تنجدنا…. ترتفع الخطية مثل طوفان نوحٍ، لكن النعمة تركب قمم الجبال مثل الفلك.” سبيرجن (Spurgeon)
- “هل تعاني من فقرٍ روحيٍّ. إنه خطؤك، لأنه يعطي نعمةً أعظم. فإذا لم تحصل عليها، فذلك ليس لأنه لا يقصد لها أن تنال، لكن لأنك لم تسع إليها.” سبيرجن (Spurgeon)
- يُقَاوِمُ اللهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ: وفي الوقت نفسه يذكّرنا يعقوب بأن النعمة لا تأتي إلاّ إلى المتواضعين. فالنعمة والكبرياء عدوتان أبديتان. فالكبرياء تطالب الله بأن يباركني في ضوء استحقاقي، سواء أكانت حقيقيةً أم متخيلةً. ولكن النعمة لا تتعامل معي على أساس أيّ شيءٍ فيّ – سواءٌ أكان صالحًا أم سيئًا – بل على أساس هوية الله وطبيعته.
- استخدم يعقوب كلمةً قويةً في العبارة: يُقَاوِمُ اللهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ. “وكأن الله يصطفّ في المعركة ضدّهم.” كلارك (Clarke). “يقاوم الله المتكبرين، وهو يصطفّ في المعركة ضدّ كلّ أنواع هؤلاء الخطاة، الغزاة لحدوده الساعين إلى نهب أهم الكنوز.” تراب (Trapp)
- وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً: لا يعني هذا أن تواضعنا هو الذي يكتسب نعمة الله، لكن التواضع يضعنا في موقعٍ لننال فيه العطية التي يقدمها لنا مجانًا.
- فَاخْضَعُوا للهِ: ففي ضوء النعمة المقدمة للمتواضعين، لا يوجد إلا شيءٌ واحدٌ يمكن لنا أن نفعله، ألا وهو أن نخضع لله. ويعني هذا أن ننضمّ إلى معسكر الله وننضوي تحت جناحه، وأن نستسلم له كملكٍ غازٍ، ونبدأ بقبول مزايا حُكمه.
- إنه لأمرٌ عجيبٌ أن العالم لا يخضع لله. “لقد سمعت الكثير عن حقوق الإنسان، لكن يحسن بنا أيضًا أن نضع في اعتبارنا حقوق الله، وهي الأولى والأسمى، والأكثر يقينيّةً وقداسةً في الكون، لكننا نضعها في أسفل القائمة، تحت كلّ الحقوق الأخرى. يا للأسف! أيها الآب العظيم، أنت غريبٌ حتى في العالم الذي خلقته بنفسك! إن مخلوقاتك التي ما كان لها أن ترى لولا أنك أعطيتها عيونًا، تنظر إلى كلّ مكانٍ باستثنائك أنت، مخلوقاتك التي ما كان لها أن تفكر لولا أنك أعطيتها عقولًا تفكر في كلّ شيءٍ باستثنائك أنت، وكائناتٍ ما كان لها أن تحيا لو لم تحافظ أنت على كينونتها، تنساك بشكلٍ كليٍّ، أو إذا تذكرت وجودك ورأت قوتك، فإنها حمقى بما يكفي لتصبح أعداءك.” سبيرجن (Spurgeon)
- “لو كان الله طاغيةً، لكان من الشجاعة أن نقاومه، لكن بما أنه أبٌ، فإن من الجحود أن نتمرد عليه.” سبيرجن (Spurgeon). وبدلًا من ذلك، اقترح سبيرجن في عظةٍ أخرى أسبابًا تدعونا إلى الخضوع لله:
- ينبغي أن نخضع لله لأنه خلقنا.
- ينبغي أن نخضع لله لأن حُكمه صالحٌ لنا.
- ينبغي أن نخضع لله لأن كلّ مقاومةٍ له عقيمةٌ.
- ينبغي أن نخضع لله لأن مثل هذا الخضوع ضروريٌّ للخلاص.
- ينبغي أن نخضع لله لأن هذه هي الطريقة للتمتع بالسلام مع الله.
- “أرغب في أن أهمس بحقيقةٍ صغيرة في أذنك، وأصلي أن تجفلك: ’أنت تخضع الآن.‘ فتقول: ’ليس أنا، فأنا سيّد نفسي.‘ أنا أعرف أنك تعتقد ذلك، لكنك طوال الوقت تخضع لإبليس. إذ تلمّح الآية التي أمامنا إلى هذا: ’فَاخْضَعُوا للهِ. قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ.‘ فإذا لم تخضع لله، لن تقاوم إبليس، وستكون دائمًا تحت سلطانه المستبد. أيٌّ منهما سيكون سيدك: الله أم إبليس؟ لأنه لا مفرّ من أن يكون أحدهما سيدك. فلا يوجد إنسانٌ بلا سيدٍ.” سبيرجن (Spurgeon)
- قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ: لكي نحلّ مشكلة الجسدانية والنزاع الذي تتسبب فيها، يتوجب علينا أن نقاوم إبليس. ويعني هذا أن نصمد أمام خداع إبليس وجهوده في ترهيبنا. وعندما نقاوم إبليس، فإنّ لنا وعدًا بأنه سيهرب منّا.
- إنه أمرٌ ذو دلالةٍ أن يعقوب لا يوصينا بأن نطرد الشياطين مستخدمين مؤمنين كطرفٍ ثالثٍ. وبدلًا من ذلك، يشجع يعقوب الأفراد المؤمنين بالمسيح على التعامل مع خصمٍ مهزومٍ يمكن ويتوجب أن يقاوم شخصيًّا. “من يقاوم باسم يسوع القويّ، حتى لو كان إبليس نفسه، فمن المؤكد أنه سيحصل على نصرٍ سريعٍ ومجيدٍ. فهو يهرب من ذلك الاسم ومن دمه القاهر.” كلارك (Clarke)
- كلمة ’قَاوِمُوا‘ مستمدةٌ من كلمتين يونانيتين تعنيان ’يقف‘ و ’ضد.‘ لذا يطلب منا يعقوب أن نصطفّ ضدّ إبليس. ويمكن لأصغر مؤمنٍ يأتي بسلطان ما فعله يسوع على الصليب أن يجعل إبليس يهرب بسرعةٍ.
- “قَاوِمُوا بالإيمان وببقية الأسلحة الروحية (أفسس ١٣:٦-١٤… إلخ). أو قاوموا، أي لا تمتثلوا لحركاته وإغراءاته.” بوله (Poole)
- ’فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ‘ في ما يتعلق بالهجوم المعيّن الذي تقاومه. ومع أنه يعود ثانيةً، ويجربك ثانيةً، فإنك تظلّ تقاوم، وسيظلّ مهزومًا. لن تُهزم أبدًا ما دمت لا توافقه.” بوله (Poole)
- “كتب كاتبٌ مسيحيٌّ مشهورٌ قديمٌ اسمه هرماس (Hermas): “يستطيع إبليس أن يصارع المؤمن بالمسيح، لكنه لا يستطيع أن يثبّته.” اقتبسه باركلي (Barclay).
- اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ: إن الدعوة إلى الاقتراب إلى الله دعوةٌ ووعدٌ معًا. فليس من المفيد أن نخضع لسلطان الله ونقاوم هجوم إبليس وبعد ذلك لا نقترب إلى الله. لدينا وعدٌ: سيقترب الله إلينا عندما نقترب إليه.
- “عندما تشرع نفسٌ في طلب الله، ينطلق الله بالمقابل لتلاقي هذه النفس. وبينما نقترب إليه، فإنه يقترب إلينا.” كلارك (Clarke)
- ماذا يعني أن نقترب إلى الله؟ طرح سبيرجن (Spurgeon) عدة اقتراحاتٍ:
- يعني أن نقترب إليه في العبادة والتسبيح والصلاة.
- يعني أن نقترب إليه بطلب مشورته.
- يعني أن نقترب إليه بالتمتع مع الشركة معه.
- يعني أن نقترب إليه في مسار حياتنا ومجراها.
- يوضح هذا النصّ بطريقةٍ ما الفرق بين العهد القديم والعهد الجديد. ففي العهد القديم، طلب الله من موسى ألا يقترب إلى العليقة المشتعلة وأن يخلع نعليه. وأما تحت العهد الجديد، فإن الله يطلب من الخاطئ: ’اقتربْ إليّ فأقترب إليك.‘ إذْ تمّ رشّ الأرض بين الله والخاطئ بدم يسوع، ونستطيع أن نقترب إلى الله على أساس هذا الدم.
- يبيّن هذا أيضًا ما يريد الله أن يفعله من أجل الخاطئ. لا يقول النصّ: “اقتربْ إلى الله وسيخلصك” أو “اقتربْ إلى الله وسيغفر لك” رغم أن هذين الأمرين صحيحان. ولكن ما يريده حقًا هو أن يقترب إلى الانسان وأن تكون له علاقةٌ وثيقةٌ وشركةٌ عميقةٌ معه.
- نستطيع أن نرى من بقية الإصحاح نتائج الاقتراب إلى الله:
- الاقتراب إلى الله يساعدنا في مقاومة إبليس.
- الاقتراب إلى الله يساعدنا في أن نصبح أنقياء.
- الاقتراب إلى الله يساعدنا في أن نندم على الخطية.
- الاقتراب إلى الله يساعدنا في أن نتكلم حسنًا عن الآخرين.
- الاقتراب إلى الله يساعدنا في أن نفكر في الأمور الأبدية.
- نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ. اكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَابْكُوا: عندما نقترب إلى الله، سيبكّتنا على خطايانا. ولهذا نكتئب وننوح ونبكي تحت تبكيت الخطية، ونحن مجبورون على أن نجد تطهيرًا لها عند الصليب.
- الكلمة اليونانية المترجمة ’الْخُطَاةُ‘ هي (Hamartolos) وتعني الخاطئ المُقسّى، الشخص الذي خطاياه واضحةٌ ومعروفة للجميع.” باركلي (Barclay)
- عندما يستخدم يعقوب تعابير مثل ’اكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَابْكُوا‘: “فإنه يتحدث بلغة أنبياء العهد القديم حول حسرة التوبة.” موفات (Moffatt)
- اتَّضِعُوا قُدَّامَ الرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ: عندما نأتي كخطاةٍ قدام الله القدوس (لا كمتدينين في برٍّ ذاتيٍّ كما شرح يسوع في لوقا ١٠:١٨-١٤)، فإننا نتضع أمامه بشكلٍ ملائمٍ. وعندئذ سيرفعنا، لأنه «يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً». فالنعمة التي هي فضل الله غير المستحقّ ترفعنا دائمًا.
- وصف يعقوب في هذا النصّ كلًّا من واجب التوبة وبركتها وصفًا قويًا.
د ) الآيات (١١-١٢): حلّ النزاع: صحّح علاقتك بالآخرين.
١١لاَ يَذُمَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ. الَّذِي يَذُمُّ أَخَاهُ وَيَدِينُ أَخَاهُ يَذُمُّ النَّامُوسَ وَيَدِينُ النَّامُوسَ. وَإِنْ كُنْتَ تَدِينُ النَّامُوسَ، فَلَسْتَ عَامِلاً بِالنَّامُوسِ، بَلْ دَيَّانًا لَهُ. ١٢وَاحِدٌ هُوَ وَاضِعُ النَّامُوسِ، الْقَادِرُ أَنْ يُخَلِّصَ وَيُهْلِكَ. فَمَنْ أَنْتَ يَا مَنْ تَدِينُ غَيْرَكَ؟
- لاَ يَذُمَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا: لا بد أن يؤدي تواضعنا وتصحيح علاقتنا بالله إلى تصحيح علاقتنا بالآخرين. فعندما نكون في علاقةٍ سليمةٍ بالآخرين، فسينعكس هذا على الطريقة التي نتحدث بها عنهم. فلا يجب أن يذمّ بعضنا بعضًا أو أن ندين أخانا.
- الكلمة اليونانية القديمة المترجمة إلى ’يَذُمَّ‘ (Katalalia): “هي خطية الذين يلتقون في الزوايا ويجتمعون في شللٍ صغيرةٍ وينقلون معلوماتٍ سريةً تدمر سمعة أشخاصٍ غير موجودين هناك للدفاع عن أنفسهم.” باركلي (Barclay)
- هذه الخطية خاطئةٌ لسببين: أولًا، لأنها تكسر الأمر الملكي الذي ينصّ على أن يحبّ بعضنا بعضًا. ثانيًا، لأنها تنزع من الله حقّ الدينونة الذي له وحده الحقّ في ذلك.
- الَّذِي يَذُمُّ أَخَاهُ وَيَدِينُ أَخَاهُ يَذُمُّ النَّامُوسَ وَيَدِينُ النَّامُوسَ: عندما نُدين أخانا، فإننا نضع أنفسنا محلّ الناموس، ويعني هذا عمليًّا أننا ندين الناموس. وهذا أمرٌ لا نملك السلطة لفعله، لأنه ’وَاحِدٌ هُوَ وَاضِعُ النَّامُوسِ‘ – إذًا، فَمَنْ أَنْتَ يَا مَنْ تَدِينُ غَيْرَكَ؟
- “رغم سموّ نظرتنا إلى ناموس الله واستقامتها، إلا أن عدم العمل به يقول للعالم أننا لا نثمنه كثيرًا.” مو (Moo)
- فَمَنْ أَنْتَ يَا مَنْ تَدِينُ غَيْرَكَ؟ هذا امتدادٌ لنفس التواضع الذي يكتب يعقوب عنه في هذا الأصحاح. فتواضعنا الملائم أمام الله، لا يجعلنا نحكم على أخينا بغطرسةٍ.
- “لا يعني هذا استبعاد المحاكم المدنية والقضاة. بل هذا استئصالٌ لهذه الروح المنتقدة الفظة القاسية التي تجد عيوبًا في الآخرين.” بيرديك (Burdick)
- “فمن أنت؟ أنت مجرد مخلوقٍ بائسٍ، رجلٍ، دودةٍ، ترفع نفسك إلى مكان الله وتجعل نفسك قاضيًا أو ديّانًا لشخصٍ ليس خاضعًا لك!” بوله (Poole)
ثانيًا. اعتمادٌ متواضعٌ على الله
أ ) الآيات (١٣-١٦): تحذيرٌ من نظرة الاستقلال عن الله
١٣هَلُمَّ الآنَ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ: «نَذْهَبُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا إِلَى هذِهِ الْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ، وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ». ١٤أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ! لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ. ١٥عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا: «إِنْ شَاءَ الرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هذَا أَوْ ذَاكَ». ١٦وَأَمَّا الآنَ فَإِنَّكُمْ تَفْتَخِرُونَ فِي تَعَظُّمِكُمْ. كُلُّ افْتِخَارٍ مِثْلُ هذَا رَدِيءٌ.
- أَيُّهَا الْقَائِلُونَ: «نَذْهَبُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا إِلَى هذِهِ الْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ، وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ»: يوبخ يعقوب القلب الذي يحيا ويضع خططًا بعيدًا عن الله، ومن دون تقديرٍ كافٍ لمحدودياته (أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ).
- “كانت تلك عادة التجار في الأزمنة القديمة. كانوا يتاجرون من مدينةٍ إلى مدينةٍ حاملين بضائعهم على ظهور الجمال. وكان اليهود يتاجرون مع صورٍ وصيدا وقيصرية وكريت وأفسس وفيلبي وتسالونيكي وكورنثوس وروما… إلخ. ويلمّح يعقوب إلى هذا النوع من الحياة التجارية المتجولة.” كلارك (Clarke)
- لا يتحدى يعقوب هنا التخطيط للمستقبل، لكنه يتكلم عن شيء آخر يتجاوز هذا بكثير. “هم لا يقولون: ’دعنا نذهب،‘ بل يقولون: ’سوف نذهب،‘ مقررين حقيقة ما سيحدث، مشيرين إلى أن مقاصدهم أمرٌ مفروغٌ منه فارضين افتراضاتٍ على أزمنةٍ وأمورٍ مستقبليةٍ ليست في سلطانهم.” بوله (Poole)
- “لاحظ أن هدف هؤلاء الأشخاص، الذين افترضوا أن كلّ شيءٍ هو تحت تصرفهم، هو الكسب المادي فقط. ماذا قالوا؟ هل قرروا فيما بينهم: ’نفعل هذا أو ذاك لمجد الله، ومن أجل امتداد ملكوته؟‘ كلا. لم يتفوهوا بكلمةٍ واحدةٍ عن الله من البداية إلى النهاية.” سبيرجن (Spurgeon)
- “هنالك أمران يقينيّان عظيمان حول الأمور التي ستحدث – الأول هو أن الله يعرف، والثاني هو أننا لا نعرف.” سبيرجن (Spurgeon)
- مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ: طلب منا يعقوب أن نضع في اعتبارنا هشاشة الحياة البشرية، وحقيقة أننا لا نحيا ونتحرك إلا بسماحٍ من الله. فلا يحاول يعقوب أن يثنينا عن التخطيط والعمل، لكنه يشجعنا ألا نخطط بعيدًا عن الاعتماد على الله.
- إن فكرة كون حياتنا بخارًا أو ظلًّا تشبيهٌ بليغٌ مستخدمٌ كثيرًا في العهد القديم (مزمور ١١:١٠٢، أيوب ٩:٨، أخبار الأيام الأولى ١٥:٢٩).
- ونتذكر أيضًا القصة التي رواها يسوع عن الرجل الذي وضع لنفسه خططًا عظيمةً للمستقبل، وفقد كلّ شيءٍ بحماقةٍ عندما طُلبت نفسه منه (لوقا ١٦:١٢-٢١). “قد يلاحظون بسهولةٍ أن أشياء كثيرةً تتساقط بين الكأس والشفة، وبين الذقن والكوب.” تراب (Trapp)
- “هنالك ألف بوابةٍ للموت. ورغم أن بعضها يبدو ضيقًا، إلا أن نفوسًا كثيرةً تمرّ عبرها. فقد اختنق أشخاصٌ ببذرة عنبٍ، وقتل آخرون من بلاطةٍ سقطت من فوق سطح أحد المنازل، وسمّموا بنقطةٍ، وحملوا من طائرٍ سريعٍ، ولا أدري عن أيّ شيءٍ مهما كان صغيرًا لا يستطيع أن يقتل أعظم ملكٍ. إنه أمرٌ مذهلٌ أن الانسان يحيا أصلًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- في ضوء معرفتنا بأن الحياة قصيرةٌ، يتوجب علينا أن نجتهد ونعمل واجباتنا اليومية بنشاط دون كلل. “إنه لأمرٌ آثمٌ أن نهمل واجباتنا اليومية الآن تحت ذريعة أننا سنفعل شيئًا أكثر في المستقبل. فأنت أيها الشابّ، الذي لا تطيع أبويك، أحقًا تريد أن تصبح خادمًا؟ يا للهول! فإن كنت الآن وأنت تحت التدريب، بطيءٌ في العمل ومهملٌ، فمن المؤكد أن سيدك سيسعد بأن يرى عرض كتفيك، وسيرغب في أن يحرق شهاداتك ووثائقك. ومع كل هذا، ترغب بأن تكون مرسلًا. أليس كذلك؟ يا للمصيبة!” سبيرجن (Spurgeon)
- عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا: «إِنْ شَاءَ الرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هذَا أَوْ ذَاكَ»: الافْتِخَار (الغطرسة أو الكبرياء) هو الذي يجعلنا نفكر في أننا نستطيع أن نحيا ونتحرك مفترضين أن كينونتنا مستقلةٌ عن الله. فهذا الافْتِخَار هو أساس الخطية: الاستقلال المتكبر كما كان حال لوسيفر (إشعياء ١٢:١٤-١٥) وآدم (تكوين ٥:٣-٧).
- عرف بولس هذا المبدأ وعاشه. “وَلكِنْ سَأَرْجِعُ إِلَيْكُمْ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللهُ” (أعمال الرسل ٢١:١٨). “وَلكِنِّي سَآتِي إِلَيْكُمْ سَرِيعًا إِنْ شَاءَ الرَّبُّ” (كورنثوس الأولى ١٩:٤). “لأَنِّي أَرْجُو أَنْ أَمْكُثَ عِنْدَكُمْ زَمَانًا إِنْ أَذِنَ الرَّبُّ” (كورنثوس الأولى ٧:١٦).
- “كُلُّ افْتِخَارٍ مِثْلُ هذَا، عندما تكون الحياة محفوفةً بالمخاطر، رَدِيءٌ، خطيةٌ أكيدةٌ، عيّنةٌ من الغطرسة الآثمة (يعقوب ٦:٤). وهذا أمرٌ ينبغي للبشر أن يتوبوا عنه.” موفات (Moffatt)
- فَإِنَّكُمْ تَفْتَخِرُونَ فِي تَعَظُّمِكُمْ: “الكلمة اليونانية القديمة المستخدمة هنا هي (alazoneia) وقد كانت في الأصل صفة الدجّال المتجول. إذ كان يقدم علاجاتٍ لم تكن علاجاتٍ حقًّا، وكان يتباهى بأشياء لم يكن قادرًا على فعلها.” موفات (Moffatt)
ب) الآية (١٧): يتحدّاهم أن يحيوا حسب ما يعرفونه في الربّ
١٧فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ.
- فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ: يعرف يعقوب أنه أسهل للمرء أن يفكر ويتحدث عن التواضع والاتكال على الله من أن يعيش ذلك. غير أنه يوضح فكر الله: عندما نعرف هذه الأشياء، فإننا مسؤولون عن العمل بها.
- يعود يعقوب هنا إلى موضوعه الثابت عبر رسالته، وهو فكرة أن الإيمان الأصيل أمرٌ يبرهنه العمل. “رغم سموّ نظرتنا إلى ناموس الله واستقامتها، إلا أن عدم العمل به يقول للعالم أننا لا نثمنه كثيرًا.” مو (Moo)
- غير أننا نرى أيضًا أنه لا يجب أن يدفعنا عدم يقينية الحياة التي أشار إليها يعقوب في النصّ السابق إلى الخوف الذي يجعل المرء سلبيًّا أو خاملًا. بل ينبغي أن يجعلنا مستعدّين لإدراك ما هو حسنٌ ثم نعمل به. “ليس عدم يقينية الحياة سببًا في الخوف أو الخمول، بل يعطينا دائمًا سببًا في إدراك ضرورة اعتمادنا التامّ على الله.” موفات (Moffatt)
- فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ: روى يسوع قصةً لها نفس المضمون والهدف في (لوقا ٤١:١٢- ٤٨). إنها قصة الخدم الذين أطاعوا سيّدهم في غيابه. وختم يسوع قصته بهذا التطبيق: “وَلكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ.” (لوقا ٤٨:١٢). فالنور الأكبر يعطينا مسؤوليةً أكبر.