سفر مراثي إرميا – الإصحاح ٥
من الخراب إلى الرجاء في الاسترداد
“مع أن هذا الإصحاح يتكون من ٢٢ آية بالضبط والتي هي عدد حروف الأبجدية العبرية، إلا أن التنظيم الأبجديّ لم يعد يُراعى في هذا الإصحاح. ربما لم يكن من المناسب التفكير في أي شيء فني كهذا في وقت المعاناة والضيق (في ظل شعورهم بغضب الله بسبب خطاياهم) فسجدوا أمام الله لطلب الرحمة.” آدم كلارك (Adam Clarke)
أولًا. مَا حَلَّ بأورشليم
أ ) الآيات (١-٨): بؤس صهيون العظيم.
١اُذْكُرْ يَا رَبُّ مَاذَا صَارَ لَنَا. أَشْرِفْ وَانْظُرْ إِلَى عَارِنَا. ٢قَدْ صَارَ مِيرَاثُنَا لِلْغُرَبَاءِ. بُيُوتُنَا لِلأَجَانِبِ. ٣صِرْنَا أَيْتَامًا بِلاَ أَبٍ. أُمَّهَاتُنَا كَأَرَامِلَ. ٤شَرِبْنَا مَاءَنَا بِالْفِضَّةِ. حَطَبُنَا بِالثَّمَنِ يَأْتِي. ٥عَلَى أَعْنَاقِنَا نُضْطَهَدُ. نَتْعَبُ وَلاَ رَاحَةَ لَنَا. ٦أَعْطَيْنَا الْيَدَ لِلْمِصْرِيِّينَ وَالأَشُّورِيِّينَ لِنَشْبَعَ خُبْزًا. ٧آبَاؤُنَا أَخْطَأُوا وَلَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ، وَنَحْنُ نَحْمِلُ آثَامَهُمْ. ٨عَبِيدٌ حَكَمُوا عَلَيْنَا. لَيْسَ مَنْ يُخَلِّصُ مِنْ أَيْدِيهِمْ.
١. اُذْكُرْ يَا رَبُّ مَاذَا صَارَ لَنَا: لقد فهم إرميا في ضوء فهمه للاهوت أن الله علم مَاذَا صَارَ بأورشليم. ومع ذلك، فمن المفهوم أنه شعر أن الله قد نسيهم. لقد صلى أن يُشْرِف عليهم وَينْظُرْ إلى الازدراء والحقد الموجه إليهم (عَارِنَا).
٢. قَدْ صَارَ مِيرَاثُنَا لِلْغُرَبَاءِ: إن الأرض والبيوت التي أعطاها الله لأسباط إسرائيل كمِيرَاث أصبحت الآن تحت سيطرة الأَجَانِبِ.
٣. صِرْنَا أَيْتَامًا بِلاَ أَبٍ: كان الشعب مدمرًا بسبب فقدان عائلاتهم، وبسبب الكارثة الاقتصادية (شَرِبْنَا مَاءَنَا بِالْفِضَّةِ)، وبسبب التْعَبُ المستمر وَلاَ رَاحَةَ.
• أَيْتَامًا بِلاَ أَبٍ: “يوضح ٢ ملوك ٢٤: ١٤؛ ٢٥: ١٢، وإرميا ٣٩: ١٠ أن غالبية من بقوا في يهوذا كانوا فقراء، وكانوا مُكَلّفين بالعناية بالحقول والكروم.” إليسون (Ellison)
• شَرِبْنَا مَاءَنَا بِالْفِضَّةِ: “أظن أن هذا يعني أن الكلدانيين فرضوا الضرائب على كل شيء، وتولوا مسؤولية الإدارة بأنفسهم، لدرجة أن الحطب والماء كانا يُباعان ولم يُسمح للشعب بأن يسند نفسه أو يتولى زمام أموره. لقد أصبحوا الآن في حالة وضيعة جدًا بسبب العبودية، وكان عليهم دفع مبالغ باهظة مقابل الأشياء التي كانت في السابق عادية وغير مكلفة.” كلارك (Clarke)
٤. أَعْطَيْنَا الْيَدَ لِلْمِصْرِيِّينَ: كان رؤساء يهوذا يأملون أن ينقذهم التحالف مع مصر أو الأَشُّورِيِّينَ. ولكنهما لم يقدما لهم أي مساعدة.
• “إن الإشارة إلى آشور في الآية ٦ تمثّل تحديًا، لأن آشور لم تَعُد إمبراطورية منذ زمن طويل. رغم أن مصر كانت وجهة للاجئين (إرميا ٤٣). قد تكون هذه الآية إشارة مختصرة إلى التحالفات السابقة مع آشور ومصر، والتي أدانها الأنبياء سابقًا (الملوك الثاني ١٦: ٧-٩؛ إشعياء ١: ٧-٩؛ ٣٠: ١-٧)، على سبيل المثال: اعتمد آباؤنا سابقًا على هذه الدول للحصول على مساعدات عسكرية كبيرة، والآن يجب أن نكون شاكرين إذا أعطونا فرص عمل كافية لتلبية احتياجاتنا الأساسية.” رايت (Wright)
٥. آبَاؤُنَا أَخْطَأُوا وَلَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ، وَنَحْنُ نَحْمِلُ آثَامَهُمْ: اقتبس إرميا مثلًا شائعًا وشكوى من ذلك العصر (نراه أيضًا في حزقيال ١٨: ٢ وإرميا ٣١: ٢٩-٣٠). لقد لخّص هذا المثل فكرة سائد بل وعززها. كانت الفكرة تتعلق بأن الله غير عادل، وهو غير عادل لعدم معاقبته للآبَاء بما يستحقون، وهو غير عادل لمعاقبة الجيل الحالي.
• سفر حزقيال ١٨ يقدم رفضًا قاطعًا لهذا المثل. يعالج الفكرة الخاطئة بشأن الخلاص أو الدينونة الجماعية أو العائلية، ويبين بوضوح الحقيقة العظيمة للمسؤولية الشخصية للفرد تجاه الله.
• “إن أمم مثل أمة إسرائيل لا يمكن عقابها في العالمِ الآخرِ؛ ولذلك فالإدانات القومية إنما هي لهذه الحياة فقط. إن العقاب الذي كانت الأمة اليهودية تستحقه على مدى حقبات من السنوات قد حلّ بها الآن، لأنهم فعلوا تمامًا كما فعل آبائهم من خطايا بل وزادوا عليها، وامتلأ كأس إثمهم.” كلارك (Clarke)
٦. عَبِيدٌ حَكَمُوا عَلَيْنَا: كانت كارثة سقوط أورشليم تعني اضطراب نظام المجتمع برمته. والآن عَبِيدٌ حَكَمُوا عليهم ولَيْسَ مَنْ يُخَلِّصُ مِنْ أَيْدِيهِمْ.
ب) الآيات (٩-١٦أ): المزيد من بؤس صهيون.
٩بِأَنْفُسِنَا نَأْتِي بِخُبْزِنَا مِنْ جَرَى سَيْفِ الْبَرِّيَّةِ. ١٠جُلُودُنَا اسْوَدَّتْ كَتَنُّورٍ مِنْ جَرَى نِيرَانِ الْجُوعِ. ١١أَذَلُّوا النِّسَاءَ فِي صِهْيَوْنَ، الْعَذَارَى فِي مُدُنِ يَهُوذَا. ١٢الرُّؤَسَاءُ بِأَيْدِيهِمْ يُعَلَّقُونَ، وَلَمْ تُعْتَبَرْ وُجُوهُ الشُّيُوخِ. ١٣أَخَذُوا الشُّبَّانَ لِلطَّحْنِ، وَالصِّبْيَانَ عَثَرُوا تَحْتَ الْحَطَبِ. ١٤كَفَّتِ الشُّيُوخُ عَنِ الْبَابِ، وَالشُّبَّانُ عَنْ غِنَائِهِمْ. ١٥مَضَى فَرَحُ قَلْبِنَا. صَارَ رَقْصُنَا نَوْحًا. ١٦سَقَطَ إِكْلِيلُ رَأْسِنَا.
١. بِأَنْفُسِنَا نَأْتِي بِخُبْزِنَا: في ظل الاحتلال البابلي، كان كل جانب من جوانب الحياة يخضع لرقابة مُشددة وتقنين. فحتى الحصول على ما يكفي من الخبز كان مسعى محفوفًا بالمخاطر، مِنْ جَرَى سَيْفِ الْبَرِّيَّةِ.
• “لم يتمكنوا من الذهاب إلى البرية لرعاية مواشيهم أو للحصول على ضروريات الحياة دون أن يتعرضوا للمضايقات والنهب من قِبل العصابات التي تهجم عليهم، وغالبًا ما كانت حياتهم تتعرض للخطر بسبب تلك العصابات، وقد كان هذا تحقيقًا لنبوة تنبأ بها موسى في سفر التثنية ٢٨: ٣١.” كلارك (Clarke)
٢. جُلُودُنَا اسْوَدَّتْ كَتَنُّورٍ: لقد عانى الناس من المرض ومن ضربة الشمس.
• جُلُودُنَا اسْوَدَّتْ كَتَنُّورٍ: يشير هذا المصطلح حرفيًا إلى الجلد ’المحروق‘ أو ’المُسود،‘ مما يدل على المجاعة العامة.” إليسون (Ellison)
٣. أَذَلُّوا النِّسَاءَ فِي صِهْيَوْنَ: تعرضت نساء أورشليم ومُدُنِ يَهُوذَا للاغتصاب والمعاملة الوحشية على يد الجنود البابليين.
• “الشر المذكور هنا تنبأ به موسى في تثنية ٢٨: ٣٠، ٣٢، وأيضًا إرميا في سفر إرميا ٦: ١٢.” كلارك (Clarke)
٤. الرُّؤَسَاءُ بِأَيْدِيهِمْ يُعَلَّقُونَ: لقد عانى كل الشعب. أَذَلُّوا النِّسَاءَ، علّقوا الرُّؤَسَاء بالسلاسل، واستعبدوا الشُّبَّانَ وَالصِّبْيَانَ. لقد تحولت أفراح الحياة مثل اجتماع الشُّيُوخ عند البوابة، وَالشُّبَّانُ الذين يستمتعون بغِنَائِهِمْ وبالرَقْص إلى نوح.
• الرُّؤَسَاءُ بِأَيْدِيهِمْ يُعَلَّقُونَ: “من المرجح أن هذا كان شكلًا من أشكال العقاب، حيث كانوا يعلقون الأشخاص بخطافات في الجدار من أيديهم حتى يموتوا من التعذيب والإنهاك.” كلارك (Clarke)
• أَخَذُوا الشُّبَّانَ لِلطَّحْنِ: “في الأيام السعيدة الماضية، كان من الممكن للشبان أن يكونوا جنودًا؛ لكنهم الآن يقومون بمهام تخص عمل النساء.” إليسون (Ellison)
ج) الآيات (١٦ب-١٨): سبب خراب صهيون.
١٦… وَيْلٌ لَنَا لأَنَّنَا قَدْ أَخْطَأْنَا. ١٧مِنْ أَجْلِ هذَا حَزِنَ قَلْبُنَا. مِنْ أَجْلِ هذِهِ أَظْلَمَتْ عُيُونُنَا. ١٨مِنْ أَجْلِ جَبَلِ صِهْيَوْنَ الْخَرِبِ. الثَّعَالِبُ مَاشِيَةٌ فِيهِ.
١. وَيْلٌ لَنَا لأَنَّنَا قَدْ أَخْطَأْنَا: هنا يُكرر إرميا الموضوع المألوف. لقد فهم أن كل الكارثة التي حلّت بهم كانت نتيجة لخطيتهم.
٢. مِنْ أَجْلِ هذَا حَزِنَ قَلْبُنَا: لقد جلبت خطيتهم الدينونة وخوار للقلب وعمى للعيون وخراب لجَبَلِ صِهْيَوْنَ.
ثانيًا. صلاة للاسترداد
أ ) الآيات (١٩-٢٠): الصلاة لأجل أن يذكر الله الأبدي شعبه.
١٩أَنْتَ يَا رَبُّ إِلَى الأَبَدِ تَجْلِسُ. كُرْسِيُّكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ٢٠لِمَاذَا تَنْسَانَا إِلَى الأَبَدِ وَتَتْرُكُنَا طُولَ الأَيَّامِ؟
١. أَنْتَ يَا رَبُّ إِلَى الأَبَدِ: في ختام سفر المراثي، ركز إرميا على طبيعة الله الأبدية الثابتة. فمُلكه أبدي، وكُرسيه يدوم جيلًا بعد جيل أي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ.
• وكما ستقول رسالة العبرانيين ١٣: ٨ لاحقًا، يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ.
• “لَيْسَ عِنْدَك تَغْيِيرٌ. لقد أحببتنا ذات مرة، فليتجدد حبك لنا مرة ثانية!” كلارك (Clarke)
٢. لِمَاذَا تَنْسَانَا إِلَى الأَبَدِ: يبقى الله أبديًا؛ ولكن بالنسبة لإرميا وللناجين من أورشليم فقد بدا الأمر كما لو أنه تركهم إِلَى الأَبَدِ. إن الحقيقة اللاهوتية حول أبدية الله وطبيعته غير المتغيرة كانوا سيختبرونها لاحقًا فيما يخص وضعهم الحاضر.
ب) الآيات (٢١-٢٢): صلاة من أجل الاسترداد.
٢١اُرْدُدْنَا يَا رَبُّ إِلَيْكَ فَنَرْتَدَّ. جَدِّدْ أَيَّامَنَا كَالْقَدِيمِ. ٢٢هَلْ كُلَّ الرَّفْضِ رَفَضْتَنَا؟ هَلْ غَضِبْتَ عَلَيْنَا جِدًّا؟
١. اُرْدُدْنَا يَا رَبُّ إِلَيْكَ: على الرغم من شعور إرميا بأن الله قد تخلّى عنه، إلا أنه مثّل الشعب أمام الله بطريقة سليمة. لقد فهم أن أملهم الوحيد كان في الصراخ إلى الله طلبًا لنعمة التوبة. كما فهم أنهم يفتقرون إلى القدرة على التوبة الصادقة الصحيحة من تلقاء أنفسهم. لقد كانوا بحاجة إلى يهوه الرب ليردهم إليه. وإن فعل الرب ذلك، فسوف يُستردوا حقًا.
• إذا لم يكن الله هو مصدر توبتنا، فلن نتمكن أبدًا من أن نتوب توبة صحيحة. أحيانًا تكون أفضل صلاة يمكن أن يصليها المرء هي “أني أتوب” وعلى الرغم من أن هذه صلاة جيدة، إلا أن الصلاة الأفضل هي الاعتراف بحاجتنا إلى تدخل الله: “لتردني إليك يا رب. أحتاجك أن تمنحني عطية التوبة الصادقة.”
• “في كلمة أخيرة موجزة ولكنها قوية، توسل إرميا إلى يهوه أن يرد الشعب إليه. لقد قدم هذا من خلال إعلان عن ثقته في العرش الأبدي ليهوه. كانت هذه صرخة فيها اعتراف بعجز البشرية الأخير والمطلق، أي عدم قدرته حتى على التوبة.” مورجان (Morgan)
• “ليس هناك أفضل من ترديد نداء النبي، والتضرع إلى الله أن يرد نفوسنا ويجدد اختباراتنا المباركة والمقدسة. فإن ردنا الرب إليه، فلن يكون هناك شك في أننا سنُسترد.” مورجان (Morgan)
٢. جَدِّدْ أَيَّامَنَا كَالْقَدِيمِ: ومن خلال تدخل الله، الذي يقودنا إلى نفسه، يمكننا أن نثق في التجديد، واستعادة أيامنا الأفضل السابقة. وإذا كنا قد تراجعنا للوراء أو تعثرنا، يمكننا أن نطلب بجدية من الله أن يمنحنا التوبة الحقيقية، وأن يجدد أَيَّامَنَا كَالْقَدِيمِ.
٣. هَلْ كُلَّ الرَّفْضِ رَفَضْتَنَا؟ هَلْ غَضِبْتَ عَلَيْنَا جِدًّا: يبدو أن إرميا لن يتمكن من إنهاء السفر بنهاية متفائلة للمستقبل، حتى لو كان المسار العام يميل نحو الإيجابية. ومع ذلك، يختتم إرميا كلامه بخوف لئلا يكون من المحتمل أن الله قد رفض إسرائيل كُلَّ الرَّفْضِ، وأن غَضِبْه قد يدوم إلى الأبد. تؤكد اللغة الدقيقة للكتاب المقدس وتاريخ إسرائيل اللاحق دون أدنى شك أن الله لم يرفض شعبه كُلَّ الرَّفْضِ في النهاية، ولم يدم غَضِبْه إلى الأبد. إن فترة الرثاء التي تم تصويرها في المراثي لن تكون بمثابة الفصل الختامي في تاريخ إسرائيل.
• “تنتهي العديد من نبوات العهد القديم بنبرة سلبية أو مشؤومة (انظر سفر الجامعة ١٢: ١٤؛ إشعياء ٦٦: ٢٤؛ ملاخي ٤: ٦)، وكذلك مراثي إرميا. ونتيجة لذلك، أصبح من المعتاد في قراءات المجامع اليهودية اختتام مثل هذه المؤلفات بتكرار الآية السابقة، بحيث تُقرأ الآية رقم ٢١ مرةً أخرى بعد الآية ٢٢.” هاريسون (Harrison)
• “يُختتم السفر بالطريقة التي قصدها الله له أن ينتهي بها، بنوع من الألم العالق (غير المحلول) الذي تعودنا أن نتوقعه من النبي الباكي. ومع ذلك، لم يُقصد أبدًا أن تكون مراثي إرميا لها الكلمة الأخيرة في حياة شعبه.” رايكن (Ryken)