رسالة فيلبّي – الإصحاح ٢
العيشة بتواضع كما عاش يسوع المتواضع
أوّلاً. كيف يريد بولس أن يعيش أهل فيلبّي بعضهم مع البعض
أ ) الآية (١): أساس الوصية التي قدمها بولس لأهل فيلبّي.
١فَإِنْ كَانَ وَعْظٌ مَا فِي الْمَسِيحِ. إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ. إِنْ كَانَتْ شَرِكَةٌ مَا فِي الرُّوحِ. إِنْ كَانَتْ أَحْشَاءٌ وَرَأْفَةٌ.
- فَإِنْ: فاء السببية تربط الكلام بما سبق وقاله بولس في فيلبّي ٢٧:١-٣٠، حيث أخبر أهل فيلبّي كيف يصمدون من أجل الربّ في مواجهة النزاعات الخارجيّة. أمَّا الآن فيخبرهم كيف يتصرّفون في مواجهة النزاعات الداخليّة في جسد المسيح.
- إِنْ كَانَ… إِنْ كَانَتْ: يقدم بولس أساس وصيته لأهل فيلبّي على الوحدانية والتواضع والمحبّة الأخوية. والفكرة هي أنّه إن كان مؤمنو فيلبّي نالوا هذه الأشياء، فمسؤولية القيام بما هو على وشك وصفه مُلقاة على عاتقهم.
- “من الصعب للغاية ترجمة قوّة هذه التعبيرات؛ إذ أنها تتّصف بفيض من البلاغة المؤثّرة جدًا. فالرسول يسكب قلبه بالكامل لشعب يحبّه من كل قلبه ويستحقوا محبّة شخص مثل الرسول بولس.” كلارك (Clarke)
- إِنْ كَانَ وَعْظٌ (تعزية) مَا فِي ٱلْمَسِيحِ: طرح بولس هذا كسؤال بلاغي، عالمًا بالطبع أنّه يوجد تعزية فِي ٱلْمَسِيحِ. ويجب على كل مؤمن أن يختبر التعزية التي فِي ٱلْمَسِيحِ.
- يخبرنا إنجيل لوقا ٢٥:٢ إنَّ أحد ألقاب يسوع باعتباره المسيّا هو ’تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيل.‘ وقد استطاع بولس في كورنثوس الثانية ٥:١ أن يقول: «لِأَنَّهُ كَمَا تَكْثُرُ آلَامُ ٱلْمَسِيحِ فِينَا، كَذَلِكَ بِٱلْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا». وفي تسالونيكي الثانية ١٦:٢، يقول بولس إنَّ الله قد «أَحَبَّنَا وَأَعْطَانَا عَزَاءً أَبَدِيًّا وَرَجَاءً صَالِحًا بِٱلنِّعْمَةِ». فبالطبع هناك تعزية في المسيح!
- “الروح القدس يعزّي، ولكن المسيح هو العزاء. إن جاز التعبير، فالروح القدس هو الطبيب، لكن المسيح هو الدواء.” سبيرجن (Spurgeon)
- إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ (الراحة والتشجيع) مَا لِلْمَحَبَّةِ: هذا هو سؤال بولس البلاغي الثاني في هذا المقطع، الذي يؤكّد على تقديم التشجيع والراحة في المحَبَّةِ. فيجب على كل مؤمن أن يختبر الراحة والتشجيع التي يمنحها يسوع.
- الرب يمنحنا الراحة والتشجيع مهما كانت الظروف. ولكنّ هذا التشجيع والراحة هو أكثر من مُجرَّد راحة عادي؛ إنَّه تشجيع يقدم بكل محبة.
- كلمة الراحة أو التعزية في هذا المقطع هي الكلمة اليونانية القديمة پاراكليسِس paraklesis، ومعناها في العهد الجديد يتخطّى حدود التعاطف المريح. فهي تشتمل على فكرة التقويّة والمساعدة والتعضيد. وتعني الكلمة في اللاتينية فورتيس Fortis أي ’الشجاعة.‘ فمحبّة الله في حياتنا تجعلنا أقوياء وتجعلنا شجعانًا. فبالطبع هناك تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ!
- إِنْ كَانَتْ شَرِكَةٌ مَا فِي ٱلرُّوحِ: هذا هو السؤال البلاغي الثالث لبولس في هذا السياق. فكان بولس يعرف ويثمّن الشَّرِكَة التي فِي ٱلرُّوحِ، وهكذا يجب على كل مؤمن أن يختبر ما معنى الشَرِكَة فِي ٱلرُّوحِ.
- الشركة هي الكلمة اليونانية القديمة كونونِيا kononia وتعني تقاسم الأشياء المشتركة. فنحن نتشارك الحياة مع روح الله بطريقة لم نعرفها من قبل. ويملأ الروح القدس حياتنا ويوجّهها ويتحرك فيها بطريقة قويّة وثمينة. فبالطبع هناك شَرِكَة فِي ٱلرُّوحِ!
- “يسقي الربّ عادةً وبسخاء الشركة المقدسة لشعبه بنَدَى العديد من المنعشات الحلوة والمجيدة؛ بحيث ينعمون بالسماء على الأرض.” تراب (Trapp)
- إِنْ كَانَتْ أَحْشَاءٌ وَرَأْفَةٌ: يفترض سؤال بولس البلاغي الأخير أنَّ كل مؤمن يعرف شيئًا عن أَحْشَاء (مشاعر) الله ورَأْفَة الله.
- ذكر بولس هذه الأمور بطريقة توحي لنا أنّها يجب أن تكون جميعًا جزءًا واضحًا من الاختبار المسيحي. ولتوضيح سؤاله البلاغي، كان يمكنه أن يقول بسهولة: “إذا كانت المياه مبللة، وإذا كانت النار ساخنة، وإذا كانت الصخور صلبة‘… الخ.
- نحصل على كل هذه العطايا – وَعْظٌ فِي ٱلْمَسِيحِ تَسْلِيَةٌ لِلْمَحَبَّةِ. شَرِكَةٌ فِي ٱلرُّوحِ. أَحْشَاءٌ وَرَأْفَةٌ – بطريقة مباشرة وروحية من خلال يسوع، ومن يسوع من خلال شعبه. ولكن ليس هناك شكّ في أن هذه العطايا حقيقيّة للمؤمنين كي يختبروها على أرض الواقع.
ب) الآيات (٢-٤): تفاصيل وصية بولس لأهل فيلبّي بخصوص المحبّة والتواضع بين المؤمنين.
٢فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا، ٣لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. ٤لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا.
- فَتَمِّمُوا فَرَحِي: هذا الجزء شخصيّ للغاية. فقد أراد بولس أن يعلم أهل فيلبّي أنَّ اهتمامهم بكلمته سيفرّح قلب الرسول المؤسِّس لكنيستهم.
- حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا: المقصود بكل هذه الأمور مجتمعة نفس الفكرة: وحدة داخليّة عميقة ودائمة بين أهل فيلبّي.
- الوحدة هي الهدف المنشود. ما يلي في فيلبّي ٣:٢-٤ هو وصف لطريقة تحقيق وممارسة الوحدة المذكورة هنا في فيلبّي ٢:٢.
- لَا شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ: هذه هي الخطوة الأولى تجاه هذا النوع من الوحدة. غالبًا ما يكون دافعنا في الجسد هو التَحَزُّب أَوْ العُجْبٍ (الطموح الأنانيّ والغرور). فالكثير ممّا نعمله ليس دافعه محبّة الآخرين، ولكن رغبتنا الخاصّة في ’تقدّمنا‘ أو ’رفعة شأننا‘ (الطموح الأنانيّ).
- وصف بولس الطموح هنا بأَنَّه أنانيّ. فليس كل طموح أنانيًّا، فهناك طموح جيّد لتمجيد الله وخدمته بكل ما نملك.
- لَا شَيْئًا … بِعُجْبٍ: هذه هي الخطوة الثانية تجاه هذا النوع من الوحدة. فكلمة ’العُجْب‘ تعني المبالغة في تقدير النفس والحرص المُبالغ فيه على المصلحة الشخصية والانشغال بالذات. ويمكن ترجمته حرفيًا بـ”الغرور الفارغ.”
- يعرّف القاموس العُجْب بأَنَّه “ثقة مبالغ فيها للغاية في قدرة الفرد وأهميته وذكائه” … الخ. فعندما يملأنا شعور بأننا مهمّون للغاية أو أننا نملك كل القدرة أو أفضل المواهب، نكون خارج مشيئة الله. ونكون مخالفين للوحدة التي ناشد بولس أهل فيلبّي وجميع المؤمنين أنْ يتمتّعوا بها.
- بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: هذه الخطوة الثالثة تجاه نوع الوحدة الموصوفة في فيلبّي ٢: ٢ تتناقض تمامًا مع موقف العالم، لأن التواضع هو أقل شيء جاذبيةً في تفكير هذا العالم.
- كان اليونانيون القدماء يعتبرون التواضع عيبًا لا فضيلة. “تقوم الفكرة الوثنية والعلمانية للرجولة على التأكيد على الذات وفرض إرادة الفرد على الآخرين. فعندما كان أي شخص ينحني للآخرين لم يكن يفعل ذلك إِلَّا مُجبَرًا ويعتبر تصرفه هذا مشيناً. فلم يستطِع الفكر العلماني أنْ يصل إلى الفكرة الأخلاقية المسيحية عن التواضع؛ فقد كان يفتقر إلى التربة الروحيّة.” لينسكي (Lenski)
- “كان للكلمة معنى سيء لدى الكتّاب الوثنيين عمومًا، فمعناها يعني ’الانحطاط والذلّ.‘ ولكنها اكتسبت في العهد الجديد معنى نبيلاً.” ويست (Wuest)
- “كان الرسول يعرف أنّه من أجل خلق الانسجام، عليك أوّلًا أن تُوجِد التواضع. فالناس لا يتشاجرون عندما يوضع حدّ لطموحاتهم.” سبيرجن (Spurgeon)
- حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: تنطوي هذه الوصية على توبيخ لمفهوم تقدير الذات في الثقافة اليونانية. قالإنجيل لا يُعلم شيئًا عن ضرورة الشعور بالاستعلاء والثقة في كل المواقف ولا أن ذلك أساس الشخصيّة البشرية الصحية.
- بينما ندرك القيمة الجوهرية لحياة كل إنسان، لا يمكننا أن ننكر أن قلة احترام الذات عند البعض له ما يبرّره، وأنه يستند إلى الواقع. فعندما نكون في تمرُّد على الله، من المناسب لنا أن يكون لدينا قلة احترام للذات.
- وحين نفضّل غيرنا على أنفسنا، سيكون لدينا – بطبيعة الحال – اهتمام باحتياجاتهم ومصالحهم. وهذه العقلية تؤدي إلى الوحدة بين شعب الله.
- إذا اعتبرتك أفضل مني واعتبرتني أنت أفضل منك، سيحدث شيء رائع: نحصل على مجتمع يحصل فيه الجميع على الاحترام ولا يُحتَقَر فيه أحد.
- لَا تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِآخَرِينَ أَيْضًا: بهذا تكتمل الفكرة. فحينما نتخلّى عن طموحاتنا الأنانيّة وغرورنا وميلنا إلى الكبرياء والانحصار في الذات، يكون لدينا اهتمام أكبر بمصالح الآخرين واحتياجاتهم.
- لا يخبرنا بولس أنّه من الخطأ الاهتمام بمصالحنا الشخصيّة، ولكن يجب علينا أَلاَّ نهتم بمصالحنا الشخصيّة فقط.
ثانيًا. يسوع، أعلى مثال على التواضع
يعتبر الكثيرون فيلبّي ٥:٢-١١ ترنيمة للكنيسة الأولى دمجها بولس في رسالته. وقد ذهب بعض الشارحين إلى حدّ تقسيمها إلى مقاطع وأبيات شعرية. وهذا طبعًا ممكن، لكنّه مُجرَّد تخمين؛ ولكن كان بولس قادراً على كتابة شعر مُلهم بنفسه (مثال على ذلك: كورنثوس الأولى ١٣). ولأسباب سوف نبحثها لاحقًّا، كثيرًا ما تُعرَف هذه الفقرة بمقطع ’الإخلاء (kenosis)‘ (أي عقيدة إخلاء المسيح لذاته في التجسد).
أ ) الآية (٥): يطبّق بولس الدرس قبل أن يذكره.
٥فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا.
- فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا ٱلْفِكْرُ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: سوف يصف بولس لنا، وبتفاصيل رائعة، فِكْر يسوع في الآيات التالية. ولكن قبل أن يصف فِكْر يسوع هنا، يخبرنا بما يجب علينا عمله بالمعلومة.
- “لا يقدّم بولس كل ما في فكر المسيح في هذه الآيات، إنّما اختار صفات سيّدنا التي تتناسب مع احتياجات أهل فيلبّي في تلك اللحظة… إنَّ عدم الوحدة بين قديسي فيلبّي ربما كان هو السبب في كتابة أعظم مقطع يناقش لاهوت طبيعة المسيح (Christological) في العهد الجديد ويسبر أغوار التجسُّد.” ويست (Wuest)
- فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا ٱلْفِكْرُ: من السهل جدًا قراءة الوصف التالي ليسوع فنُعجَب به من بعيد. والله يريد منا أن نشعر الهيبة تجاه ذلك، ولكن أيضًا أنْ نعتبره حالة يجب علينا أنْ ندخل فيها ونحاكيها. فقوله فَلْيَكُنْ … هَذَا ٱلْفِكْرُ يشير إلى أنَّه شيء يمكننا أن نختاره.
- تذكّر أيضًا أنَّ هَذَا ٱلْفِكْر هو شيء ممنوح لنا من الله. فتقول الآية في كورنثوس الأولى ١٦:٢ إنَّ لنا فِكر المسيح. ولكن ترينا عبارة لْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا ٱلْفِكْرُ أنّه شيء يجب علينا أيضًا أنْ نختاره. إذ يجب أن نسمح له أنْ يكون فينا.
ب) الآية (٦أ): كان يسوع فِي صُورَةِ ٱللهِ.
٦الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ.
- فِي صُورَةِ ٱللهِ: هذا وصف لوجود يسوع السابق للتجسُّد. إذ يجب أن نذكّر أنفسنا بأن يسوع لم يبدأ وجوده في المذود في بيت لحم، بل هو الله الأبديّ.
- إِذْ كَانَ: هذا مأخوذ من الفعل اليوناني القديم ’هوبارخو (huparchein)‘ الذي: “يصف ما يوجد على الشخص في جوهره ولا يمكن تغييره. إنَّه يصف الجزء الذي يبقى على حاله من الشخص في أي ظرف من الظروف.” باركلي (Barclay)
- “يبلّغ بولس قراءه اليونانيين باستخدامه الكلمة اليونانية المترجمة «كان»، بأن تمتّع الرب يسوع باللاهوت لم يتوقّف عندما جاء إلى الأرض ليتّخذ شكلًا بشريًا… فهذه الكلمة وحدها كافية لدحض الادعاء الحديث بأن الرب يسوع أفرغ نفسه من لاهوته عندما تأنّس.” ويست (Wuest)
- صُورَةِ: هذه ترجمة لكلمة ’مورفي (morphe)‘ اليونانية القديمة. “تدلّ الكلمة دائمًا على شكل يعبّر تعبيرًا حقيقيًّا وكاملاً عن الكيان الذي يكمن وراءه… وتعني الكلمة: «كونه مساويًا لله.»” كنيدي (Kennedy)
- “كلمة مورفي morpheهي الهيئة الأساسيّة التي لا تتغيّر أبدًا؛ أمَّا ’سخيما (schema)‘ فهو الشكل الخارجيّ الذي يتغيّر من وقت لآخر ومن ظرف إلى ظرف.” باركلي (Barclay)
- ’الله له صورة، ويسوع المسيح موجود في هذه الصورة الإلهية.” لينسكي (Lenski)
- يوضّح ويست (Wuest) أنَّ الكلمة اليونانية القديمة المُترجمة بـ«صورة» من الصعب جدًّا ترجمتها. فعندما نستخدم كلمة صورة، نحن نفكّر في شكل شيء ما، بينما الكلمة اليونانية القديمة لم تحمل شيئًا من هذا المعنى. بل هي تدلّ بالأحرى على وضع أو جوهر. إنها الطبيعة الأساسيّة لله، دون الإشارة إلى أي شكل أو صورة ماديّة. “وهكذا فإنّ الكلمة اليونانية «صورة» تشير إلى التعبير الخارجيّ عن الطبيعة الداخليّة للشخص.”
ج) الآية (٦ب): يسوع لم يتمسّك بامتيازات اللاهوت.
٦… لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ.
- لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً: هذه العبارة في اليونانية القديمة تحمل معنى شيء يتمّ القبض عليه أو التشبُّث به. فيسوع لم يتشبّث بصلاحيات أو امتيازات اللاهوت.
- يُعرّف ويست (Wuest) الكلمة اليونانية القديمة المترجمة بكلمة خُلسة كالتالي: “كنز يُمسَك به ويُحتفَظ به مهما كانت المخاطر.”
- أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا لِلهِ: لم يحاول يسوع تحقيق المساواة مع الآب، فهو مساوٍ له بالفعل، وإنما اختار عدم التشبّث بهذه المساواة. فلاهوت يسوع لم يكن شيئًا حاول يسوع البحث عنه أو اكتسابه، بل كان له بالطبيعة.
- كتب لايتفوت (Lightfoot): “لم يكن جائزة حرص على أن لا تفلت من قبضته أو كنزًا يقبض عليه ويحاول الاحتفاظ به مهما كانت المخاطر.” فقد كان يسوع مستعداً للتخلِّي عن بعض صلاحيات اللاهوت في سبيل تجسّده.
د ) الآية (٧): يسوع أَخْلَى نفسه.
٧لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ.
- لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ: يقول الأصل اليوناني هنا إنَّه أفرغ نفسه. فالكلمة اليونانية القديمة ’كينوسِس (kenosis)‘ تحمل فكرة أنَّ تجسّد يسوع هو في الأساس إفراغ للذات.
- لكنْ يجب أن نُمعِن النظر فيما أفرغ يسوع نفسه منه. ولاحقاً سيقوم بولس بوضوح هذا في الآيات التالية، لكن يجب أن نحترس من الاعتقاد بأن يسوع أفرغ نفسه من لاهوته بأي شكل من الأشكال.
- بالغ البعض في نظريّة إفراغ يسوع لذاته عند التجسد إلى درجة إصرارهم على أنَّ يسوع قد جرّد نفسه من العديد من صفات اللاهوت – مثل عِلمه الكلي، وقدرته الكلية، ووجوده الكلي، بل وأنّه حرم نفسه من وعيه الذاتي بلاهوته. ولكنَّ لاهوت يسوع لم يقلّ (ولم يمكن أنْ يقلّ) بسبب التجسُّد. فإنّ لاهوته لم يتعرّض للنقصان البتّة (حتّى وإن كان قد تخلّى عن بعض حقوقه اللاهوتيّة)؛ وإنما أضيف الناسوت إلى طبيعته اللاهوتيّة.
- “أثناء تواضعه، كإله ومساوٍ للآب، لم يحدث أي إخلال بحقّه اللاهوتيّ؛ لأنه كما كان يتمتّع بالمساواة في الطبيعة، كان يتمتّع أيضًا بالمساواة في الحقوق.” كلارك (Clark)
- “كان تنازله طوعيًّا وغير مقيد بموافقة أبيه… فابن الله العليّ يقدر – حسبما يشاء – أن يُظهِر بهاءه المجيد أو يُخفيه أو أن يخفيه أو يبيّنه كاملاً أو أنْ يتعالى أو يتنازل عند تعامله معنا.” بوول (Poole)
- “مَثَله مَثَل الملك الذي يتنازل عن رموز المُلك الخاصّة به ويلبس لبس التاجر، ولكنه لا يتوقّف طوال ذلك الوقت عن أن يكون ملكًا أو عن التمتّع بأسمى مكانة في مملكته.” بوول (Poole)
- آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ: يصف ذلك كيف أفرغ يسوع نفسه. وعلى الرغم من اتّخاذه صُورَةَ عَبْدٍ، إِلَّا أن يسوع لم يفرغ نفسه من لاهوته أو من صفاته أو مساواته بالله. وإنما أفرغ نفسه في صورة عَبْدٍ، لا صورة إنسان فقط.
- آخِذًا (الكلمة اليونانية القديمة هي ’لابون labon‘) ولا تعني التبادل بل الإضافة.
- صَائِرًا فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ: هذا وصف إضافيّ لكيفيّة إفراغ يسوع لنفسه. فيمكننا أن نتصوّر شخصًا خادمًا ولكنه ليس فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. فالملائكة خُدّام، ولكنهم ليسوا على هيئة البشر. وفي القصص الخرافيّة، كان مارد مصباح علاء الدين خادمًا، لكنّه لم يكن فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ.
- الكلمة المُترجَمة بـ شِبْهِ هنا قد تشير إلى مُجرَّد الشكل الخارجيّ لشيء ما. في حين أنَّ يسوع كان يملك الشكل الخارجيّ للبشريّة، إِلَّا أنَّ الشكل الخارجيّ كان يعكس بشريّته الحقيقيّة التي أضيفت إلى لاهوته.
- “كان له شِبه، ولكنه شبه حقيقيّ لا مجرد بشريّة وهمية كما كان يعتقد الغنوسيون القائلون بأَنَّه شُبِّه لهم.” روبرتسون (Robertson)
هـ) الآية (٨): مدى إفراغ يسوع لذاته.
٨وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ.
- وَضَعَ نَفْسَهُ، وَأَطَاعَ: تواضع يسوع عندما أَطَاعَ. وهذا شيء لم يستطِع يسوع اختباره إِلَّا عن طريق النزول من عرش السماء والتأنُّس. فعندما يجلس الله في المجد السماويّ، لا يطيع أحدًا. وإنما كان على يسوع أن يترك مجده السماويّ ويُوجَد فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ (يظهر بمظهر البشر) كي يطيع.
- من المفاتيح اللازمة لفهم طاعة يسوع على الأرض كان تحمّله التألُّم. وهذا شيء آخر لم يستطِع تعلمه إلا عن طريق الخبرة بعد التجسُّد. كما هو مكتوب: «مَعَ كَوْنِهِ ٱبْنًا تَعَلَّمَ ٱلطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ» (عبرانيين ٨:٥).
- قد وَضَعَ نَفْسَهُ حقًّا.
- كان متواضعًا في أنّه اتخّذ هيئة البشر لا مخلوقًا أكثر مجدًا مثل الملاك.
- كان متواضعًا في أنّه وُلِد في مكان مليء بالظلم.
- كان متواضعًا في أنّه وُلِد في فقر بين شعب محتقَر.
- كان متواضعًا في أنّه وُلِد كطفل بدلًا من الظهور كرجل.
- كان متواضعًا في خضوعه كطفل عادي في أسرة عادية.
- كان متواضعًا في تعلّم وممارسة حرفة – حرفة النجارة المتواضعة.
- كان متواضعًا في الانتظار الطويل حتّى بدء خدمته العامة.
- كان متواضعًا في الرفاق والتلاميذ الذين اختارهم.
- كان متواضعًا في الجمهور الذي خاطبه وطريقة تعليمه.
- كان متواضعًا في التجارب التي سمح بها وتحمّلها.
- كان متواضعًا في الضعف والجوع والعطش والإرهاق الذي تحمّله.
- كان متواضعًا في طاعته الكاملة لأبيه السماويّ.
- كان متواضعًا في خضوعه للروح القدس.
- كان متواضعًا في اختيار موت الصليب وخضوعه له.
- كان متواضعًا في عذاب موته.
- كان متواضعًا في الخزي والسخرية والإذلال العام المصاحب لموته.
- كان متواضعًا في تحمل التألُّم الروحيّ لتضحيته على الصليب.
- يمكننا أن نتخيّل أنَّه كان ممكنًا لابن الله أن يصبح إنسانًا ويدفع ثمن خطايا العالم دون هذا الإذلال العظيم. إذ كان بوسعه أنْ يضيف بشرية إنسان يبلغ من العمر ٣٣ عامًا إلى لاهوته. وكان بوسعه أنْ يظهر أمام البشر في مجده المتجسّد فقط، ويعلّم البشر ما يحتاجون إلى سماعه منه. وكان بوسعه أنْ يتألّم عن خطايا البشر في مكان خفي من الأرض بعيدًا عن أعين الإنسان، أو – إن شاء – في الجانب المظلم من القمر. ولكنه لم يفعل؛ بل وَضَعَ نَفْسَهُ، وفعل ذلك من أجل خلاصنا العظيم.
- من المفاتيح اللازمة لفهم طاعة يسوع على الأرض كان تحمّله التألُّم. وهذا شيء آخر لم يستطِع تعلمه إلا عن طريق الخبرة بعد التجسُّد. كما هو مكتوب: «مَعَ كَوْنِهِ ٱبْنًا تَعَلَّمَ ٱلطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ» (عبرانيين ٨:٥).
- حَتَّى ٱلْمَوْتَ، مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ: يوضّح هذا مدى تواضع يسوع وطاعته.
- كان الصلب ميتة مخزية لدرجة لم يسمح به للمواطن الرومانيّ (من أمثال شعب فيلبّي). وكان اليهود يعتبرون المصلوب ملعونًا من الله بصورة خاصّة (تثنية ٢٣:٢١ وغلاطية ١٣:٣).
- دعا روبرتسون (Robertson) مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ بأنه: “أدنى درجة في السلّم بعيدًا عن عرش الله. فقد نزل يسوع أسفل السلّم ليختبر أحقر موت في نظر الجميع، موت المجرم المدان على الصليب الملعون.”
- يثبت مَوْت ٱلصَّلِيبِ أنَّه لا يوجد حدّ لما يفعله الله لإظهار محبته وقدرته على خلاص الإنسان. وكان هذا – وسيكون إلى الأبد – أقصى ما يمكن عمله. “يا لبشاعة الخطيئة في عيني الله حتّى أنّه طالب بهذا الإذلال من يسوع المسيح للتكفير عنها وإبطال مفعولها والقضاء على خبثها!” كلارك (Clark)
- “بقدر تنازله لإنقاذنا، علينا تمجيده ورفع شأنه في قلوبنا. مبارك اسمه، فهو قد تنازل وتنازل وتنازل، وعندما وصل إلى مستوانا وأصبح بشرًا مثلنا، تنازل وتنازل وتنازل لأدنى درجة.” سبيرجن (Spurgeon)
- حَتَّى ٱلْمَوْتَ، مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ: كان هذا كلّه عرضًا رائعًا لقدرة يسوع. فبسبب خبرة بولس السابقة مع أهل فيلبّي، كانوا يميلون إلى التفكير في أن قدرة الله تظهر في التمجيد والخلاص فقط لا من خلال الخدمة والاحتمال بتواضع.
- في هذا، ذكّر بولس أهل فيلبّي أن وضعه الحاليّ وظروفه المتواضعة (سجنه في روما) بإمكانه أنْ يُظهِر مجد الله وقدرته، كما فعل يسوع في تواضعه.
ثالثًا. يسوع، المثل الأعلى في الرفعة بعد التواضع.
أ ) الآية (٩): رفعة يسوع المسيح.
٩لِذَلِكَ رَفَّعَهُ ٱللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ ٱسْمًا فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ.
- لِذَلِكَ رَفَّعَهُ ٱللهُ أَيْضًا: هذا هو العنوان العام للمادة الواردة في الآيات الثلاث التالية. فهذه الكلمات تصف كيف قد رفّع الله يسوع. وفي الواقع، يمكن أيضًا ترجمة كلمة «رَفَّعَهُ» بـ ’أعلى تمجيد.‘
- “يدلّ المصطلح اليوناني الدقيق على إعلاء القدر أو رفع الشأن إلى أعلى مكانة.” بوول (Poole)
- “والآن، توقّف وتأمّل هذه الفكرة: أنَّ المسيح لم يتوّج نفسه بل أنَّ أباه توّجه؛ أنَّه لم يرفع نفسه إلى عرش الجلال لكنَّ أباه رفّعه إلى هناك وأجلسه على عرشه.‘ سبيرجن (Spurgeon)
- وَأَعْطَاهُ ٱسْمًا فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ: هذا يتجاوز إعطاء يسوع الاسم الإلهي يهوه. فعندما نتأمّل مفهوم الاسم العبري، ندرك أنَّ الله يعلن أنَّ يسوع له شخصية وطبيعة فوق الجميع.
- هذه الآية، بتصريحها الواضح عن ألوهية يسوع، هي ذخيرة من العيار الثقيل ضد مُنكرِي ألوهية يسوع المسيح. فلا يوجد اسم أعلى من يهوه، ويسوع يملك هذا الاسم.
ب) الآيات (١٠-١١): إخضاع الخليقة كلها ليسوع.
١٠لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، ١١وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ.
- لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ: إنَّ الآب لم يرفع قدر يسوع عاليًا فحسب لكنه أخضع العالم كله للابن أيضاً.
- “بولس لا يقصد بهذا خلاصًا شاملاً، ولكنه يقصد أنَّ كل كائن عاقل سوف يعترف في النهاية بسيادة المسيح، إمّا بإيمان وفرح أو باستياء ويأس.” كينت (Kent)
- مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَمَنْ عَلَى ٱلْأَرْضِ، وَمَنْ تَحْتَ ٱلْأَرْضِ: يدلّ هذا على اعتراف الخليقة بجملتها بسيادة يسوع المسيح.
- يعتمد بولس في هذا على فكرة إشعياء ٢٣:٤٥ «بِذَاتِي أَقْسَمْتُ، خَرَجَ مِنْ فَمِي ٱلصِّدْقُ كَلِمَةٌ لَا تَرْجِعُ: إِنَّهُ لِي تَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ، يَحْلِفُ كُلُّ لِسَانٍ». لاحظ أن إشعياء يقول أن كل ركبة ستجثو وكل لسان سيعترف بيهوه، أمَّا في فيلبّي، فسيحدث هذا في يسوع، مِمّا يبيّن أنَّ يسوع هو يهوه.
- وَمَنْ تَحْتَ ٱلْأَرْضِ: “إمّا هم الموتى المختبئون في الأرض الذين يُقامون بقوّة المسيح أو هم الشياطين والأرواح الشريرة.” بوول (Poole)
- تَجْثُوَ … كُلُّ رُكْبَةٍ … وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ: يدلّ المزج بين يَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ وتَجْثُوَ كُلُّ رُكْبَةٍ على أنَّ الفكرة هي الخضوع الكامل ليسوع بالكلام والعمل، وأنّ الخضوع مطلوب من الجميع.
- قد تسبّب هذا الاعتراف العمومي بألوهية يسوع وتمجيده في تخيّل الكثيرين حدوث ذلك بطريقة رسمية بعد الدينونة الأخيرة، عندما يُطلَب من كل مخلوق في السماء والنار إحناء ركبتيه والاعتراف بأنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ.
- أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ: من هنا يمكننا القول بأنّ يسوع عاد إلى السماء بأكثر مِمّا كان عنده عندما تركها. فهو لم يعد بناسوته فقط الذي أضيف إلى لاهوته (وهو ناسوت مُقام)، بل عاد أيضًا باعتراف البشر به وباستحقاقه للعبادة – وهو شيء لم يكن معروفًا حتّى التجسُّد والإعلان الكامل عن شخصه وعمله.
- “لقد كان يسوع دائمًا (في نظر بولس) مشاركًا في اللاهوت. ولكن نتيجةً لتجسّده وكفارته وقيامته وتمجيده، عرف الناس أنه مساوٍ لله، وأنه يستحق العبادة بالطريقة التي كانوا يعبدون بها يهوه.” كنيدي (Kennedy)
- “كان بمقدوره أنْ يستخدم القوى المعجزيّة الملازمة لطبيعته الإلهية بطريقة تجبر الناس، دون إضاعةً للوقت، على عبادته باعتباره الله. لكنه بدلًا من ذلك، كان على استعداد لتحقيق هذا عن طريق الاتّضاع والتألُّم والموت.” كنيدي (Kennedy)
- يجب رؤية كل هذا في ضوء الاتّضاع الموصوف في فيلبّي ٦:٢-٨. فنحن نميل ونتوق بطبيعتنا إلى تعظيم الذات، ونبتعد عن التواضع والمذلّة.
- يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ: يذكّرنا الاعتراف بيسوع المسيح ربًّا أن نفكّر في الأهمّيّة الكبيرة لكلمة ’كيريوس (kurios)‘ لاسيَّما بالطريقة التي كانت الكنيسة الأولى تفهمها بها، والتي كانت تستخدم الترجمة السبعينية ككتاب مُقدَّس لها، وكانت ’كيريوس‘ تُستَخدم باستمرار لترجمة لفظ الجلالة، أي يهوه.
- لا ينبغي أن يفوتنا أيضًا أنَّه في وقت لاحق في الإمبراطوريّة الرومانيّة، كان يُطلَب من جميع سكان الإمبراطوريّة أن يُقسِموا يمين الولاء للإمبراطور معلنين أنَّ قيصر هو ربّ ويحرقون البخور أمام صورته. ورغم أنَّ الدولة الرومانيّة كانت تعتبر ذلك إعلانًا عن الولاء السياسي فقط، فقد فسّر المؤمنون ذلك بحقّ بأنه عبادة أوثان ورفضوا المشاركة به، وغالبًا ما دفعوا أرواحهم ثمنًا لرفضهم.
- عرف بولس جيداً من هو الربّ حقًّا – فهو ليس قيصر الذي سيُحاكَم أمامه. فقد يكون اسم قيصر عاليًا، لكنّه ليس الاسم الذي فوق كل الأسماء، فهذا الاسم يخصّ يسوع المسيح وحده!
- يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ، لِمَجْدِ ٱللهِ ٱلْآبِ: تذكّر أنَّ بولس لم يقدّم هذا الوصف ليسوع في فيلبّي ٥:٢-١١ لمجرّد تثقيف أهل فيلبّي لاهوتيًّا، بل قدّمه:
- لتجهيزهم لتحمّل المصاعب التي كانوا يخوضونها.
- لمساعدتهم على فهم المصاعب التي يتعرّض لها بولس.
- لمساعدتهم على ممارسة الوحدة المسيحية الحقيقيّة وسط الأزمنة العصيبة.
- قد ساعدتهم هذه الصورة عن يسوع في فهم كيف يقيّمون خدمة بولس التي بدت ضعيفة في الوقت الحاضر.
- قد ساعدتهم هذه الصورة في فهم سياق إعلان الله عن القدرة والسلطان، وكيف يتلذّذ الله بإظهار قدرته من خلال أعمال متواضعة.
- قد جهّزتهم هذه الصورة كي يتصرّفوا بعضهم مع البعض بطريقة من شأنها أنْ تدعم الوحدة في جسد المسيح.
- قد بيّت لهم هذه الصورة كيف يقتدون بيسوع في طاعته الصبورة والمتواضعة، وهو ما سيدعوهم بولس إلى المواظبة عليه في الآيات التالية.
رابعًا. التحدي الذي وضعه بولس أمام أهل فيلبّي
أ ) الآية (١٢): تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ.
١٢إِذًا يَا أَحِبَّائِي، كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ، لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ، بَلِ الآنَ بِالأَوْلَى جِدًّا فِي غِيَابِي، تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ،
- إِذًا … كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ: لا ينبغي أن تفوتنا العلاقة بين الطاعة التي مارسها يسوع (فيلبّي ٨:٢) والطاعة التي توقّعها بولس من المؤمنين باعتبارهم أتباعًا ليسوع (فيلبّي ١٢:٢).
- تَمِّمُوا خَلَاصَكُمْ: نحن نعلم أن بولس لا يقصد أنْ يقول: ’اعملوا حتّى تنالوا خلاصكم.‘ فمثل هذا القول لَيتناقض مع إنجيل بولس بكامله. إنّما ما قصده بولس هو دعوة أهل فيلبّي إلى بذل مجهود حقيقيّ في حياتهم المسيحيّة. وتتميم خلاصهم هذا ليس بمعنى تحقيقه، بل إبرازه وتفعيل ذلك الخلاص الذي وهبهم الله إياه مجّانًا في كل مجال من مجالات حياتهم.
- إذًا: “هذه الكلمات، كما تظهر في العهد الجديد، ليست موجهة لكل البشر بل هي موجَّهة إلى شعب الله. فليس المقصود منها تحفيز غير المؤمنين؛ إنّما هي بدون شكّ، كما نجدها في رسالة بولس الرسول، مُوجَّهة إلى أشخاص نالوا الخلاص بالفعل بواسطة إيمان حيّ بالربّ يسوع المسيح.” سبيرجن (Spurgeon)
- تَمِّمُوا خَلَاصَكُمْ: صحيح أنَّ خلاصنا كامل، بمعنى أنَّ يسوع قام بعمل كامل من أجلنا، ولكنَّ خلاصنا غير مكتمل بعد حيث إنَّه لم يكتمل فينا بعد.
- “على المؤمن أن يُكمل وينهي وأن يطبّق ما قدّمه الله له من حيث المبدأ… وعليه أن يتمّم ما أنشأه الله فيه بنعمته.” مولر (Muller)
- “يبدو أن بعض الأساتذة قد تشرّبوا فكرة أنَّ نعمة الله هي نوع من المخدر يمكن أن يتعاطاه الناس للوقوع في سُبات، كلَّما تعاطوه، يتزايد شغفهم إلى جرعات قويّة من عقيدة النعاس. فيقولون: ’إنَّ الله يعمل فينا، لذلك فلا يوجد شيء علينا أن نعمله.‘ ولكن هذا سوء تفكير واستنتاج خاطئ. فالله يعمل، كما يقول النصّ، لذلك يجب علينا تتميم عمله لأنَّه قد بدأه فينا.” سبيرجن (Spurgeon)
- “إنَّه يحثهم كما لو كان أرمينيًّا يخاطب البشر، ويصلّي لهم كما لو كان كلفينيًا يخاطب الله، ومع ذلك لا يشعر بأي تضارب بين الموقفين. فبولس لا يبذل أي جهد للتوفيق بين سيادة الله وحرية البشر، لكنه يعلن الاثنين بكل جرأة.” روبرتسون (Robertson)
- خَلَاصَكُمْ: هذا تأكيد لنا على ضرورة الاهتمام بخلاصنا. فنحن نهتمّ اهتمامًا كبيرًا أحيانًا بعمل الله في الآخرين، ولا نهتمّ بما فيه الكفاية بعمله فينا. فعلينا طبعاً الاهتمام بنفوس الآخرين، ولكن على هذا الاهتمام أن يبدأ بنفوسنا أولاً.
- بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ: ليست فكرة بولس أننا يجب أن نعيش حياتنا المسيحيّة بإحساس دائم من الخوف والرعب، بل أن نحيا في خوف من عدم تَتمِيم خَلَاصِنا.
- نحن نتمّم خلاصنا بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، لكن لا يجب أن يكون المقصود هو الخوف من الجحيم أو الهلاك. بل لعلَّ المقصود به تبجيل الله بالخشوع الذي يجب أن يتمتّع به كل مؤمن. فليس من الضروري أن تكون الـرِعْدَة هي رجفة الخاطئ الأثيم. بل لعلها رِعْدَة البهجة عند مواجهة مجد الله.
- بَلِ ٱلْآنَ بِٱلْأَوْلَى جِدًّا فِي غِيَابِي: طلب بولس في هذا السياق أن يضاعف أهل فيلبي جهودهم للوصول بخلاصهم إلى غايته بالأولى بسبب غيابه.
ب) الآية (١٣): عمل الله فيكم.
١٣لِأَنَّ ٱللهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ.
- لِأَنَّ ٱللهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ: لقد قدّم بولس هنا للمؤمنين سبب أهمّيّة تتميم خلاصهم بخوف ورعدة: لِأَنَّ ٱللهَ هُوَ ٱلْعَامِل فيهم.
- وهذا ما يعزّينا: ٱللهَ هُوَ ٱلْعَامِل فِينا. “النعمة الوافية تسكن فيك أيها المؤمن. فهناك نبع حيّ بداخلك، فاستخدم الدلو واستمرّ في النهل منه لأنَّه لن ينضب أبدًا. فهناك ينبوع حيّ في الداخل.” سبيرجن (Spurgeon)
- ٱللهَ … ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ: بما أنَّ الله قد قام بعمله في المؤمن، فعلى المؤمن مسؤولية أكبر كي يعمل بجد وبخوف ورعدة فيما يتعلّق بخلاصه ومسيرته مع الرب. فإن عمل الله فينا يزيد من مسؤوليتنا ولا يقلّلها بأي شكل من الأشكال.
- أولئك الذين يتّخذون من سيادة الله وعمله ذريعة للتقاعس عن العمل والخمول، يشبهون العبد الشرير والكسول المذكور في متّى ٢٤:٢٥-٣٠.
- أمَّا أولئك الذين هم عبيد الله بحقّ فيستخدمون فهمهم لسيادته وقدرته الكلية كحافز للخدمة ولتكريس أنفسهم له أكثر وأكثر.
- أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا: إنَّ عمل الله فينا يغير إرادتنا وبالتالي يغير أعمالنا. فعملية مضاعفة الجهود للوصول بخلاصنا إلى غايته، كما نادى بولس، لا يعتبر عملية سلبية.
- مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ: هذا هو الدافع وراء عمل الله في حياتنا. فهو يعمل ذلك لأنَّ ذلك يَسُرّه ويرضيه.
ج) الآيات (١٤-١٦): طرق عمليّة لإطاعة بولس.
١٤اِفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ بِلاَ دَمْدَمَةٍ وَلاَ مُجَادَلَةٍ، ١٥لِكَيْ تَكُونُوا بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاَدًا للهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيل مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ. ١٦مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ الْحَيَاةِ لافْتِخَارِي فِي يَوْمِ الْمَسِيحِ، بِأَنِّي لَمْ أَسْعَ بَاطِلاً وَلاَ تَعِبْتُ بَاطِلاً.
- اِفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ بِلَا دَمْدَمَةٍ وَلَا مُجَادَلَةٍ: هناك خلاف كبير بين المفسّرين حول ما إذا كانت هذه الـدَمْدَمَة والـمُجَادَلَة تدلّ على وجود مشاكل بين أهل فيلبّي (مثل المذكورة في فيلبّي ١:٢-٤) أم أنّها تدلّ على موقفهم من الله، أو رُبَّما استاءوا من الله بسبب صراعهم الحاليّ (فيلبّي ٢٧:١-٣٠).
- نظرًا لأن بولس استخدم مصطلحات وردت في وصف شكوى إسرائيل من الله أثناء خروجهم من مصر، فمن الأفضل أن نرى الـدَمْدَمَة والـمُجَادَلَة على أنّها تتضمّن موقفهم من الله. فيقدّم لنا سبيرجن ثلاثة أمثلة على الأشياء التي يجب ألا نتذمّر عليها:
- العناية الإلهية.
- بعضنا البعض.
- العالم الفاجر.
- ينصب التركيز في هذه الوصيّة على عبارة ’كُلَّ شَيْءٍ‘ التي هي في الواقع أوّل كلمة في الآية في النصّ اليوناني.
- “لا تجادل الله؛ بل دعه يفعل ما يحسن في عينيه. ولا تجادل إخوانك المؤمنين، ولا توجّه أي اتهامات ضدهم. فعندما قيل لكالفن (Calvin) إنَّ لوثر (Luther) قد ذكره بالسوء، ردّ: ’حتّى وإن قال لوثر عني إني الشيطان، فأنا لن أقول عنه أبدًا إِلَّا أنّه خادم عزيز وجبار بأس للربّ.‘ فلا تثيروا نقاطًا معقدة بهدف الجدل فحسب.‘ سبيرجن (Spurgeon)
- نظرًا لأن بولس استخدم مصطلحات وردت في وصف شكوى إسرائيل من الله أثناء خروجهم من مصر، فمن الأفضل أن نرى الـدَمْدَمَة والـمُجَادَلَة على أنّها تتضمّن موقفهم من الله. فيقدّم لنا سبيرجن ثلاثة أمثلة على الأشياء التي يجب ألا نتذمّر عليها:
- لِكَيْ تَكُونُوا بِلَا لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلَادًا لِلهِ بِلَا عَيْبٍ: عند التحلّي بروح عدم الشكوى نثبت أننا أتباع حقيقيّون لله.
- يمكن أن يكون معنى بُسَطَاءَ ’أنقِيَاء‘ أو ’أبرِيَاء‘ – وهي نفس الكلمة المستخدمة في إنجيل متى ١٦:١٦.
- “يقول الرسول: ’كُونُوا بِلَا لَوْمٍ وَبُسَطَاءَ.‘ ويمكن ترجمة الكلمة اليونانية هنا بعبارة ’بلا قرون‘؛ كما لو كنتم مخلوقات غير مؤذية بل وغير قادرة عن الإيذاء؛ مثل الخراف التي لا تفترس ولا يمكنها أن تفترس لأنَّ ذلك يتعارض مع طبيعتها. فهي لا تملك أسنانًا تعضّ بها ولا أنيابًا تلدغ بها ولا سمًّا تفتك به.” سبيرجن (Spurgeon)
- فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ: يبدو أن هذه إشارة إلى تثنية ٥:٣٢ «أَفْسَدَ لَهُ ٱلَّذِينَ لَيْسُوا أَوْلَادَهُ عَيْبُهُمْ، جِيلٌ أَعْوَجُ مُلْتوٍ». ويقصد بولس هنا أنّه لا ينبغي على المؤمنين المعاصرين أن يكونوا مثل إسرائيل المتمردة التي كانت تدمدم (تتذمّر) وتجادل باستمرار مع الله أثناء ترحالها في البرية.
- تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي ٱلْعَالَمِ: هذا ليس تشجيعًا على عمل شيء؛ إنه تعبير بسيط عن حقيقة واقعة. فالمؤمنون هم كَأَنْوَارٍ فِي ٱلْعَالَمِ. ويبقى السؤال: ’إلى أي مدى يسطع ضوؤهم؟‘
- “ليس مُجرَّد أنوار بل أجرام سماويّة نورانيّة. ولكن الترجمة لا توفي الأصل اليونانيّ حقّه.” ألفورد (Alford)
- علينا أن نتمّم مكانتنا كَأَنْوَارٍ فِي ٱلْعَالَمِ:
- تُستخدَم الأنوار لجعل الأمور واضحة.
- تُستخدَم الأنوار للإرشاد.
- تُستخدَم الأنوار للتحذير.
- تُستخدَم الأنوار لإدخال البهجة.
- تُستخدَم الأنوار لجعل الأشياء آمنة.
- كان بولس يعلم أنَّ الأنوار موضوعة في مكان سيئ. وبدلًا من التماس العذر للأنوار على عدم إضاءتها، كان بولس يعلم أنَّ مكان وجودهم يجعل إضاءتهم أكثر أهمّيّة. فالوجود في مكان مظلم هو حافز أكبر على الإنارة.
- مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ: يمكن أيضًا ترجمة كلمة ’مُتَمَسِّكِينَ‘ بكلمة ’مُقَدّمين‘. كلا المعنيين صحيح ولعل بولس كان يقصد ذلك المعنى المزدوج. فنحن نتمسّك بِكَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ، بمعنى التمسّك بقوّة وبمعنى تقديم كَلِمَة ٱلْحَيَاةِ أيضًا.
- لِٱفْتِخَارِي فِي يَوْمِ ٱلْمَسِيحِ، بِأَنِّي لَمْ أَسْعَ بَاطِلًا وَلَا تَعِبْتُ بَاطِلًا: كانت فكرة أيلولة عمل بولس إلى الباطل فكرة مزعجة له. فقد كان يعلم أنَّ عمله كان بالفعل مقرونًا بالناس، لذلك فإن لم يثابر هؤلاء الأشخاص بقوّة مع الرب، فإنَّه قد يشعر بأنّ سعيه وتعبه كان بَاطِلًا.
- فِي يَوْمِ ٱلْمَسِيحِ: كان بولس يتطلّع إلى يَوْمِ ٱلْمَسِيحِ، وكان يريد أنْ يرى ويعرف في ذلك اليوم أنَّ عمله مثمر. ولا يمكن أن يتأكّد من ذلك إِلَّا إذا استمرّ أهل فيلبّي في مسيرتهم مع الربّ.
- هذا هو قلب الراعي الحقيقيّ: أن يقل اهتمامك بالذات، لكن يكثر بالآخرين؛ أَلاَّ تقنع بعلاقتك بالله فقط، بل وتشتاق أيضًا إلى رؤية الآخرين يسيرون مع الربّ.
د ) الآيات (١٧-١٨): بولس كمثال حيّ على ما يعظ به.
١٧لكِنَّنِي وَإِنْ كُنْتُ أَنْسَكِبُ أَيْضًا عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ وَخِدْمَتِهِ، أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ. ١٨وَبِهذَا عَيْنِهِ كُونُوا أَنْتُمْ مَسْرُورِينَ أَيْضًا وَافْرَحُوا مَعِي.
- أَنْسَكِبُ (أنسَكِبُ كَتَقْدِمَةٍ): يشير بولس هنا إلى ممارسة شائعة بين اليهود والوثنيين عند تقديم ذبائحهم. فكثيرًا ما كانوا يصبّون الخمر (أو أحيانًا العطور) إمّا بجانب الحيوان الذي يُضحَّى به لله (كما هو الحال في اليهودية) أو على الحيوان الذي يُضحَّى به للآلهة الوثنية (كما هو الحال في الوثنية).
- هذا هو السكيب الذي كان يرافق ذبيحة أخرى، كما ورد في سفر العدد ٤:١٥-٥ و٧:٢٨.
- ورد الفعل أَنْسَكِبُ في زمن المضارع. وبولس ينوّه بذلك إلى أنَّ احتمال توقفه بات قريبًا.
- عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ وَخِدْمَتِهِ: تعني الكلمة اليونانيّة القديمة ليتورغيا (leitourgia) المُترجَمة ’خدمة‘: “خدمة لله أو لقضيته… أي عمل كهنوتي أو طقس مُقدَّس” مولر (Muller). لذلك فنحن في هذه الآية لدينا ذبيحة وكاهن وسكيب مرافق يجعل الذبيحة أكثر قيمة.
- بما أنَّ الذبيحة والخدمة مرتبطتان بإيمان أهل فيلبّي، فمن الأفضل أن نفسّر الصورة الذي يرسمها بولس على أنّها تصفهم بأنهم ’كهنة‘ وأن إيمانهم هو ’الذبيحة.‘ وقد أضاف إليها بولس (وأثراها) استشهاده وموته باعتباره تقدمته الشخصية.
- أُسَرُّ وَأَفْرَحُ … كُونُوا أَنْتُمْ مَسْرُورِينَ أَيْضًا وَٱفْرَحُوا مَعِي: كان بولس يتطلّع إلى استشهاده الذي رُبَّما بات وشيكًا، وتوقّع أن يُسرّ أهل فيلبّي ويفرحوا معه. فبولس لم يكن مهووسًا بالموت، بحيث أنّه طالب أهل فيلبّي بالفرح بشيء محزن مثل وفاته، ولكنه طلب من أهل فيلبّي أن يروا في موته شيئًا يعود بالمجد على الله. وهذا تكرار لموضوع ورد في فيلبّي ٢٠:١.
- كانت حياة بولس ذبيحة ليسوع المسيح، سواء في حياته أو في موته. وكان هذا مصدرًا للسعادة والفرح لبولس، وهو يريد أن يتبنّى أهل فيلبّي نفس الموقف القلبيّ.
- ومرَّة أخرى نعود إلى الموضوع الرئيسي في رسالة فيلبّي: الفرح. ولكنّ هذا الفرح لا يعتمد على الظروف (وإنما العكس تمامًا)، لكن على حياة مُكرَّسة تمامًا ليسوع المسيح.
خامسًا. بُولُس وتِيمُوثَاوُسَ وأَبَفْرُودِتُس
أ ) الآيات (١٩-٢٢): بولس يكتب عن تيموثاوس وعن زيارته المتوقَّعة قريبًا.
١٩عَلَى أَنِّي أَرْجُو فِي الرَّبِّ يَسُوعَ أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ سَرِيعًا تِيمُوثَاوُسَ لِكَيْ تَطِيبَ نَفْسِي إِذَا عَرَفْتُ أَحْوَالَكُمْ. ٢٠لأَنْ لَيْسَ لِي أَحَدٌ آخَرُ نَظِيرُ نَفْسِي يَهْتَمُّ بِأَحْوَالِكُمْ بِإِخْلاَصٍ، ٢١إِذِ الْجَمِيعُ يَطْلُبُونَ مَا هُوَ لأَنْفُسِهِمْ لاَ مَا هُوَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. ٢٢وَأَمَّا اخْتِبَارُهُ فَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنَّهُ كَوَلَدٍ مَعَ أَبٍ خَدَمَ مَعِي لأَجْلِ الإِنْجِيلِ.
- عَلَى أَنِّي أَرْجُو (أي أثق) فِي ٱلرَّبِّ: أظهر هذا قلب بولس واتّكاله الحقيقيّ على الربّ. فأراد أن يرى تيموثاوس بين أهل فيلبّي، لكنّه كان يدرك أنَّ ذلك سيحدث بطريقة الله وحسب توقيته.
- لِكَيْ تَطِيبَ نَفْسِي إِذَا عَرَفْتُ أَحْوَالَكُمْ: لم يكن بولس يتوقّع مشاكل من جانب أهل فيلبّي، كما هو الحال مع بعض الكنائس الأخرى. ولكنه توقّع أنْ تَطِيبَ نَفْسه (يتشجّع) إِذَا عَرَف أَحْوَالَهم.
- قارن هذا مع الموقف الذي نقله بولس إلى كنيسة كورنثوس في كورنثوس الثانية ٢:١٣-٣. فقد كانت كنيسة كورنثوس تعاني من مشاكل أسوأ بكثير مما عانته كنيسة فيلبّي.
- يَهْتَمُّ بِأَحْوَالِكُمْ بِإِخْلَاصٍ: عندما أرسل بولس تيموثاوس، أرسل أفضل مَا عنده: رجلاً يتمتّع بقلب الراعي ويهتمّ بالرعيّة أكثر من اهتمامه بنفسه.
- لقد أدرك بولس ندرة هذا النوع من الأشخاص عندما قال: إِذِ ٱلْجَمِيعُ يَطْلُبُونَ مَا هُوَ لِأَنْفُسِهِمْ لَا مَا هُوَ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.
ب) الآيات (٢٣-٢٤): بولس يكرر رغبته في المجيء إلى أهل فيلبّي شخصيًّا، وليس إرسال تيموثاوس إليهم فقط.
٢٣هذَا أَرْجُو أَنْ أُرْسِلَهُ أَوَّلَ مَا أَرَى أَحْوَالِي حَالاً. ٢٤وَأَثِقُ بِالرَّبِّ أَنِّي أَنَا أَيْضًا سَآتِي إِلَيْكُمْ سَرِيعًا.
- وَأَثِقُ بِٱلرَّبِّ أَنِّي أَنَا أَيْضًا سَآتِي إِلَيْكُمْ سَرِيعًا: ربما كان بولس حريصًا على تجنب الاتهام القائل: ’بولس يريد إرسال تيموثاوس لأنَّه في الحقيقة لا يريد أن يأتي هنا بنفسه.‘ فأخبر أهل فيلبّي بوضوح أنَّه يريد أن يأتي أيضًا.
ج) الآيات (٢٥-٢٦): بولس يكتب عن أَبَفْرُودِتُس ومجيئه إلى أهل فيلبّي.
٢٥وَلكِنِّي حَسِبْتُ مِنَ الّلاَزِمِ أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ أَبَفْرُودِتُسَ أَخِي، وَالْعَامِلَ مَعِي، وَالْمُتَجَنِّدَ مَعِي، وَرَسُولَكُمْ، وَالْخَادِمَ لِحَاجَتِي. ٢٦إِذْ كَانَ مُشْتَاقًا إِلَى جَمِيعِكُمْ وَمَغْمُومًا، لأَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ كَانَ مَرِيضًا.
- وَلَكِنِّي حَسِبْتُ مِنَ ٱللَّازِمِ أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ: يدلّ هذا بلا شكّ على أنَّ أَبَفْرُودِتُس هو الذي حمل هذه الرسالة إلى أهل فيلبّي. ويبدو أن أَبَفْرُودِتُس جاء إلى بولس من عند أهل فيلبّي كرسول ثُمَّ مرض أثناء وجوده مع بولس.
- أَخِي، وَٱلْعَامِلَ مَعِي، وَٱلْمُتَجَنِّدَ مَعِي: لقّب بولس أَبَفْرُودِتُس بهذه الألقاب المهمّة. فقد كان رجلًا يُقدّره بولس كثيراً كشريك في عمل الخدمة.
- هناك ثلاث علاقات خاصّة مذكورة هنا:
- أخ: دلالةً على علاقة يمكن التمتّع بها.
- عامل: دلالةً على وظيفة يجب القيام بها.
- جندي: دلالةً على معركة يجب خوضها.
- هناك ثلاث علاقات خاصّة مذكورة هنا:
- وَرَسُولَكُمْ، وَٱلْخَادِمَ لِحَاجَتِي: هذا يعني أن أَبَفْرُودِتُس أحضر عطيّة ماليّة من أهل فيلبّي لدعم بولس (فيلبّي ١٨:٤).
- تحمل كلمة ٱلْخَادِم فكرة الخدمة الكهنوتية. فعندما أحضر أَبَفْرُودِتُس الدعم المادّيّ من أهل فيلبّي إلى بولس في روما، كأنه أحضر ذبيحة.
- لِأَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ كَانَ مَرِيضًا: عال أَبَفْرُودِتُس الهمّ لأن أهل فيلبّي علموا بمرضه وقلقوا عليه. لهذا كانت عودة أَبَفْرُودِتُس من شأنها أنْ تطمئنهم بأنَّ أخاهم العزيز في حالة جيّدة.
- كما أنَّ ذلك سيساعد أَبَفْرُودِتُس لأنَّه كَانَ مُشْتَاقًا إِلَى جَمِيعِكُمْ وَمَغْمُومًا. كان مشتاقًا جدًّا إلى رؤية مؤمني فيلبّي.
د ) الآية (٢٧): مرض أَبَفْرُودِتُس وشفاؤه.
٢٧فَإِنَّهُ مَرِضَ قَرِيبًا مِنَ ٱلْمَوْتِ، لَكِنَّ ٱللهَ رَحِمَهُ. وَلَيْسَ إِيَّاهُ وَحْدَهُ بَلْ إِيَّايَ أَيْضًا لِئَلَّا يَكُونَ لِي حُزْنٌ عَلَى حُزْنٍ.
- فَإِنَّهُ مَرِضَ قَرِيبًا مِنَ ٱلْمَوْتِ: لم يكن مرض أَبَفْرُودِتُس أمرًا هيّنًا؛ بل كان قَرِيبًا مِنَ ٱلْمَوْتِ. إِلَّا أنَّ ٱللهَ رَحِمَهُ فتعافى.
- لا يوجد في النص ما يدلّ على أنَّ هذا الشفاء كان معجزيًّا، لكنَّ بولس يرى يد الله الرحيمة في تماثُل أَبَفْرُودِتُس للشفاء.
- لِئَلَّا يَكُونَ لِي حُزْنٌ عَلَى حُزْنٍ: رحمة الله على أَبَفْرُودِتُس كانت أيضًا رحمة على بولس. فلو مات أَبَفْرُودِتُس، لحزن بولس حزنًا عَلَى حُزْنٍ؛ لأنَّ أخًا وعاملًا وجنديًا مهمًا للمسيح قد فارق الحياة. وسيكون حزنًا أيضًا عَلَى حُزْنٍ لأنَّ أَبَفْرُودِتُس مرض عندما جاء نيابةً عن أهل فيلبّي ليسدّد احتياجات بولس المادية والروحيّة أثناء سجن بولس في روما.
هـ) الآيات (٢٨-٣٠): تعليمات بولس لأهل فيلبّي حول كيفية استقبال أَبَفْرُودِتُس وهو عائد إليهم.
٢٨فَأَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ بِأَوْفَرِ سُرْعَةٍ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمُوهُ تَفْرَحُونَ أَيْضًا وَأَكُونُ أَنَا أَقَلَّ حُزْنًا. ٢٩فَاقْبَلُوهُ فِي الرَّبِّ بِكُلِّ فَرَحٍ، وَلْيَكُنْ مِثْلُهُ مُكَرَّمًا عِنْدَكُمْ. ٣٠لأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ عَمَلِ الْمَسِيحِ قَارَبَ الْمَوْتَ، مُخَاطِرًا بِنَفْسِهِ، لِكَيْ يَجْبُرَ نُقْصَانَ خِدْمَتِكُمْ لِي.
- فَأَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ بِأَوْفَرِ سُرْعَةٍ: كان بولس حريصًا على لمّ شمل أهل فيلبّي على أخيهم الحبيب أَبَفْرُودِتُس، كما ذكّر أهل فيلبّي بتقديم التقدير اللائق له عندما يعود (وَلْيَكُنْ مِثْلُهُ مُكَرَّمًا عِنْدَكُمْ).
- أغلب الظنّ أنَّ أهل فيلبّي أرسلوا أَبَفْرُودِتُس ليس كرسول فقط، ولكن أيضًا ليكون خادمًا شخصيًّا لبولس نيابةً عن أهل فيلبّي. فعندما منع المرض أَبَفْرُودِتُس من عمل ذلك، رُبَّما كان يبدو مثل الفاشل (أو ورُبَّما حتّى المتمارِض) في عيون أهل فيلبّي. فأكّد لهم بولس أنّ هذا ليس هو الحال. بل في الواقع، الأمر عكس ذلك تمامًا – فخدمة أَبَفْرُودِتُس تجاوزت ما يقتضيه الواجب.
- لِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ عَمَلِ ٱلْمَسِيحِ قَارَبَ ٱلْمَوْتَ: إنَّه مِنْ أَجْلِ عَمَلِ ٱلْمَسِيحِ قَارَبَ أَبَفْرُودِتُس ٱلْمَوْتَ. وعلى الرغم من أنّه قام بـعَمَلِ الرسول في الغالب، لا بعمل روحيّ بشكل خاصّ، إلا أنَّه كان يعمل عَمَل ٱلْمَسِيحِ.
- مُخَاطِرًا بِنَفْسِهِ: إنّ الاستعداد لوضع عَمَل ٱلْمَسِيحِ أوّلًا وسلامته ومصالحه الشخصيّة ثانيًا أظهر نُبل أخلاق أَبَفْرُودِتُس.
- تحتوي العبارة اليونانيّة القديمة مُخَاطِرًا بِنَفْسِهِ على كلمة تصف المقامر الذي يخاطر بكل شيء في رمية النرد (الزهر). فكتب بولس أنَّ أَبَفْرُودِتُس كان على استعداد للمقامرة بكل شيء من أجل يسوع المسيح.
- في أيام الكنيسة الأولى، كان هناك رابطة من الرجال والنساء الذين أطلقوا على أنفسهم اسم المقامرين، المُشتقّ من هذه الكلمة اليونانيّة القديمة نفسها الواردة في مُخَاطِرًا بِنَفْسِهِ. وكان هدفهم زيارة السجناء والمرضى، وخاصّة المصابين بأمراض خطيرة ومعدية. وغالبًا، عندما كان الطاعون يحل بمدينة، كان الوثنيون يلقون بجثث الموتى في الشوارع ويهربون في هلع. ولكنَّ المقامرين كانوا يدفنون الموتى ويساعدون المرضى بأفضل ما يمكنهم، ويخاطرون بحياتهم لإظهار محبّة يسوع.
- “يبدو واضحًا من هذا التعبير أنَّ مرض أَبَفْرُودِتُس لم يكن نتيجة الاضطهاد بل الإفراط في بذل الجهد.” لايتفوت (Lightfoot)
- لِكَيْ يَجْبُرَ (أي يوفّر) نُقْصَانَ خِدْمَتِكُمْ لِي: قام أَبَفْرُودِتُس بذلك عن طريق إحضار الدعم الذي قدّمه أهل فيلبّي فعليًّا. فقد كان هناك نقص في كرم أهل فيلبّي ونواياهم الطيّبة حتّى وصلت العطيّة أخيرًا إلى بولس فسدّدت حاجته.
- يجب أن يكون لدينا الاستعداد بالاعتراف بأن هناك شيئًا ناقصًا في خدمتنا حتّى تكتمل المهمّة. ولا ينبغي أن نرضى بالنوايا الحسنة أو العمل نصف المكتمل.