رسالة كورنثوس الأولى – الإصحاح ٩
حقوق الرسول
أولاً. بولس يعلن حقوقه كرسول.
أ ) الآيات (١-٢): بولس يدافع عن مكانته كرسول.
١أَلَسْتُ أَنَا رَسُولاً؟ أَلَسْتُ أَنَا حُرًّا؟ أَمَا رَأَيْتُ يَسُوعَ الْمَسِيحَ رَبَّنَا؟ أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ عَمَلِي فِي الرَّبِّ؟ ٢إِنْ كُنْتُ لَسْتُ رَسُولاً إِلَى آخَرِينَ، فَإِنَّمَا أَنَا إِلَيْكُمْ رَسُولٌ! لأَنَّكُمْ أَنْتُمْ خَتْمُ رِسَالَتِي فِي الرَّبِّ.
- أَلَسْتُ أَنَا رَسُولًا؟ يتوجه بولس بحديثه هنا إلى مؤمني كورنثوس حول ’حقهم‘ في أكل اللحم الذي ذُبح للأوثان استنادًا على ’علمهم.‘
- يطلب بولس منهم التخلي عن ’حقهم‘ في أكل اللحم الذي ذُبح للأوثان، تمامًا مثلما ترك هو حقوقه كرسول. ولكن سوف يستغل بولس هذه المناسبة أيضًا للدفاع عن مكانته كرسول أمام مؤمني كورنثوس المتشككين.
- أَلَسْتُ أَنَا رَسُولًا؟ هذه حقيقة واضحة لا تحتاج إلى ذِكر. فبالطبع كان بولس رسولًا! ولكن بالرغم من وضوح هذه الحقيقة، كان هناك من ينكرها ويشك فيها منهم.
- أَلَسْتُ أَنَا رَسُولًا؟ يظهر الدليل على مكانة بولس الحقيقية كرسول في التعبيرات التالية:
- أَلَسْتُ أَنَا حُرًّا؟ لم يكن بولس ’تحت سلطة‘ أي شخص سوى يسوع المسيح، لكن المؤمنين الآخرين كانوا تحت السلطة الرسولية.
- أَمَا رَأَيْتُ يَسُوعَ الْمَسِيحَ رَبَّنَا؟ يُصرّ بولس على أنه لم يرَ يسوع في رؤيا فحسب، بل أنه رأى يسوع المقام بالعيان.
- أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ عَمَلِي فِي الرَّبِّ؟ التجربة هي أكبر بُرهان، وقد كان عمل الله بين مؤمني كورنثوس دليلًا كافيًا على مؤهلات بولس الرسولية، فقد كانوا في الواقع خَتْمُ رِسَالَتِه فِي الرَّبِّ.
- يدَّعي بعضهم اليوم، بسبب الرؤى أو الخبرات التي يزعمون أنهم مروا بها، أنهم رسل على مستوى بولس. ولكن رؤية يسوع المُقام ليست هي المؤهل الوحيد للرسول الحقيقي. فقد تعيين بولس بصفة خاصة رسولًا عندما ظهر له يسوع في الطريق إلى دمشق ( أعمال الرسل ١٢:٢٦-١٨).
- إِنْ كُنْتُ لَسْتُ رَسُولًا إِلَى آخَرِينَ، فَإِنَّمَا أَنَا إِلَيْكُمْ رَسُولٌ: لم يكن من الصواب أن يتشكك بعض مؤمني كورنثوس في مكانة بولس كرسول إذ كان لديهم السبب الأقوى الذي يؤكد لهم أن بولس رسول حقيقي؛ وهو أنهم رأوا أعماله عن قرب.
- يحاول بولس توعية مؤمني كورنثوس بأن شكهم في سلطته الرسولية شيء مثير للسخرية.
ب) الآيات: (٣-٦): تأكيد بولس على حقوقه كرسول.
٣هذَا هُوَ احْتِجَاجِي عِنْدَ الَّذِينَ يَفْحَصُونَنِي: ٤أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَأْكُلَ وَنَشْرَبَ؟ ٥أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَجُولَ بِأُخْتٍ زَوْجَةً كَبَاقِي الرُّسُلِ وَإِخْوَةِ الرَّبِّ وَصَفَا؟ ٦أَمْ أَنَا وَبَرْنَابَا وَحْدَنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ لاَ نَشْتَغِلَ؟
- هذَا هُوَ احْتِجَاجِي: سيؤكد بولس الآن على حقوقه كرسول كما لو كان محامياً يجادل بشأن قضية. فكلمَتَي احْتِجَاجِي (apologia) ويَفْحَصُونَنِي (anakrino) هما كلمتان قانونيتان مأخوذتان من المحاكم الرومانية. فقد شعر بولس بأنه قيد المحاكمة أو أنه قد وُجد ’مذنباً‘ مِن قِبل مؤمني كورنثوس.
- أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَأْكُلَ وَنَشْرَبَ؟: كان لبولس، مثل كل الرسل، الحق في الأكُلَ والشُرب. فلم يشُّك مؤمنو كورنثوس في حق بولس في الأكل، ولكن قصد بولس هو أنه يملك الحق (سُلْطَانٌ) في أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ على نفقة الكنيسة التي يخدمها.
- أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَجُولَ بِأُخْتٍ زَوْجَةً: كان لبولس، مثل باقي الرسل، سُلْطَانٌ أَنْ يَجُولَ بِأُخْتٍ زَوْجَةً. ومرة أخرى، لم يعارض مؤمنو كورنثوس زواج طالما لم يكن عليهم إعالتهم كأسرة. ولكن بولس يوضح أنه يحق له أن يتوقع الدعم منهم ليس لنفسه فحسب، بل لعائلته أيضًا.
- كَبَاقِي الرُّسُلِ: يبدو أن معظم الرسل الآخرين كانوا متزوجين ويصطحبون معهم زوجاتهم للخدمة. وهذا الأمر مثير للاهتمام خاصةً فيما يتعلق ببطرس (صَفَا) الذي كان متزوجًا، ومع ذلك لا تزال الكنيسة الكاثوليكية تعتبره البابا الأول، مما يتناقض مع مبدأ العزوبية الإلزامية لديهم.
- أَمْ أَنَا وَبَرْنَابَا: تلقى معظم الرسل الآخرين الدعم من الكنائس التي خدموا فيها. وكان بولس وبرنابا فريدين في هذا الصدد، فقد اختارا أن يعملا ليعولا أنفسهم حتى لا يتهمهم أحد بالوعظ بدافع المال.
- قد نعتقد أن هذا سيجعل بولس وبرنابا أكثر احترامًا في نظر مؤمني كورنثوس، ولكن من الغريب أن هذا جعلهما أقل احترامًا. وكأن أهل كورنثوس يقولون: “إذا كان بولس وبرنابا رسولين فعلاً لقدمنا لهما الدعم بالتأكيد، ولكن عدم دعمنا لهم يجعلنا نفترض أنهما ليسا رسولين حقيقيين.”
ج ) الآيات (٧-١٤): لماذا يحق لبولس أن يُدعم من أولئك الذين يخدمهم.
٧مَنْ تَجَنَّدَ قَطُّ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ؟ وَمَنْ يَغْرِسُ كَرْمًا وَمِنْ ثَمَرِهِ لاَ يَأْكُلُ؟ أَوْ مَنْ يَرْعَى رَعِيَّةً وَمِنْ لَبَنِ الرَّعِيَّةِ لاَ يَأْكُلُ؟ ٨أَلَعَلِّي أَتَكَلَّمُ بِهذَا كَإِنْسَانٍ؟ أَمْ لَيْسَ النَّامُوسُ أَيْضًا يَقُولُ هذَا؟ ٩فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ مُوسَى: «لاَ تَكُمَّ ثَوْرًا دَارِسًا». أَلَعَلَّ اللهَ تُهِمُّهُ الثِّيرَانُ؟ ١٠أَمْ يَقُولُ مُطْلَقًا مِنْ أَجْلِنَا؟ إِنَّهُ مِنْ أَجْلِنَا مَكْتُوبٌ. لأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْحَرَّاثِ أَنْ يَحْرُثَ عَلَى رَجَاءٍ، وَلِلدَّارِسِ عَلَى الرَّجَاءِ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا فِي رَجَائِهِ. ١١إِنْ كُنَّا نَحْنُ قَدْ زَرَعْنَا لَكُمُ الرُّوحِيَّاتِ، أَفَعَظِيمٌ إِنْ حَصَدْنَا مِنْكُمُ الْجَسَدِيَّاتِ؟ ١٢إِنْ كَانَ آخَرُونَ شُرَكَاءَ فِي السُّلْطَانِ عَلَيْكُمْ، أَفَلَسْنَا نَحْنُ بِالأَوْلَى؟ لكِنَّنَا لَمْ نَسْتَعْمِلْ هذَا السُّلْطَانَ، بَلْ نَتَحَمَّلُ كُلَّ شَيْءٍ لِئَلاَّ نَجْعَلَ عَائِقًا لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ. ١٣أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الأَشْيَاءِ الْمُقَدَّسَةِ، مِنَ الْهَيْكَلِ يَأْكُلُونَ؟ الَّذِينَ يُلاَزِمُونَ الْمَذْبَحَ يُشَارِكُونَ الْمَذْبَحَ؟ ١٤هكَذَا أَيْضًا أَمَرَ الرَّبُّ: أَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِالإِنْجِيلِ، مِنَ الإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ.
- مَنْ تَجَنَّدَ قَطُّ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ؟: إن الجيش يدعَم جنوده، والمُزارع يأكل من الحقل الذي يعمل فيه (وَمَنْ يَغْرِسُ كَرْمًا وَمِنْ ثَمَرِهِ لاَ يَأْكُلُ؟)، كما أن الراعي تعوله الأغنام التي يرعاها (مَنْ يَرْعَى رَعِيَّةً وَمِنْ لَبَنِ الرَّعِيَّةِ لاَ يَأْكُلُ؟). لذلك، لا ينبغي أن يبدو غريباً بالنسبة لمؤمني كورنثوس أن يطالب بولس في حقه في الحصول على دعم من يخدمهم.
- أَمْ لَيْسَ النَّامُوسُ أَيْضًا يَقُولُ هذَا؟: إن حق بولس مذكور أيضًا في ناموس موسى. لهذا يستعين بولس بالكتاب المقدس وليس فقط بالأمثلة التوضيحية البشرية (أَلَعَلِّي أَتَكَلَّمُ بِهذَا كَإِنْسَانٍ؟).
- أمر الله في سفر التثنية ٤:٢٥ بأن: لَا تُكَمِّمْ ثَوْرًا وَهْوَ يَدْرُسُ القَمْحَ. وهذا القانون ببساطة يأمر بالمعاملة الإنسانية للحيوان. وفي تلك الأيام، كان يتم فصل الحبوب عن قشرتها بواسطة ثور يمشي عليها مرارًا وتكرارًا (عادةً على شكل دائرة)، وكان من القسوة إجبار الثور على السير فوق كل تلك الحبوب وهو مُكمم لمنعه من الأكل منها.
- أَلَعَلَّ اللهَ تُهِمُّهُ الثِّيرَانُ؟ المبدأ المذكور في سفر التثنية ٤:٢٥ أهم بكثير من مجرد تسديد احتياجات الثيران. فالله يضع هنا الأساس لمبدأ هام وهو ما يلي: يحق للخادم أن يحصل على دعم الأشخاص الذين يخدمهم. وكما يقول ويرزبي (Wiersbe): “بما أن الثيران لا تستطيع القراءة، فإن هذه الآية لم تكتب لهم.”
- لقد أشار قانون أكل الثيران إلى تطبيق أوسع. ومع ذلك، “يجب ألا نقع في خطأ التفكير بأن بولس أراد أن يشرح هذه الوصية بطريقة مجازية؛ فبعض الأشخاص ذوي العقول الفارغة يجعلون من ذلك ذريعة لتحويل كل شيء إلى قصة رمزية، فيحولون الكلاب إلى رجال، والأشجار إلى ملائكة، بل ويحولون الكتاب المقدس بأكمله إلى لعبة مُسلية.” كالفن (Calvin)
- لأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْحَرَّاثِ أَنْ يَحْرُثَ عَلَى رَجَاءٍ، وَلِلدَّارِسِ عَلَى الرَّجَاءِ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا فِي رَجَائِه: سيكون من القسوة تجويع أولئك الذين يجهزون ويقدمون لك طعامك. فقيامك بذلك سوف يسلب كل رجاء لديهم ويجعلهم يشعرون بالظلم وعدم التقدير.
- إِنْ كُنَّا نَحْنُ قَدْ زَرَعْنَا لَكُمُ الرُّوحِيَّاتِ: يوضح بولس هنا أنه من الصواب أن يُقدَم الدعم المادي للخدام كتعويض لهم عن العمل الروحي الذي يقدمونه لمن يخدمونهم.
- إِنْ كَانَ آخَرُونَ شُرَكَاءَ فِي السُّلْطَانِ عَلَيْكُمْ: لم يرفض مؤمنو كورنثوس أن يدعموا أحد في الخدمة. كلا، فقد كانوا يدعمون خدام آخرون (فآخَرُونَ شُرَكَاءَ فِي السُّلْطَانِ عَلَيْكُمْ) لكن المشكلة مع مؤمني كورنثوس كانت تكمُن في رفضهم دعم بولس بالذات، واعتباره أقل من الرسل الآخرين لأنه لم يأخذ منهم.
- لكِنَّنَا لَمْ نَسْتَعْمِلْ هذَا السُّلْطَانَ… لِئَلاَّ نَجْعَلَ عَائِقًا لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ: مثلما أكَّد بولس على حقه في الحصول على الدعم من الأشخاص الذين يخدمهم، فإنه يؤكد أيضًا على حقه في عدم استخدام ذلك الحق إذا كان استخدامه سوف يكون عَائِقًا لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ.
- نستطيع أن نرى هنا قلب بولس الحقيقي. فلم يكن بولس يهتم بالدعم، بل ما كان يهمه هو عمل الإنجيل. فلو كان الحصول على الدعم سيساعد في نشر الإنجيل، لقبله بولس. وإن كان دعمه لنفسه سيساعد أكثر في نشر الإنجيل، لفعل ذلك أيضًا. فكل ما كان يهم بولس حقًا هو ألا يُعاق الإنجيل بأي شكل من الأشكال.
- إذا كان بولس على استعداد لحرمان نفسه من هذا الحق الهام من أجل الإنجيل ومن أجل مؤمني كورنثوس، أفلا ينبغي على مؤمني كورنثوس أيضًا أن ينكروا ’حقهم‘ في أكل اللحم الذي ذُبح للأوثان من أجل الإنجيل؟
- أَمَرَ الرَّبُّ: أَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِالإِنْجِيلِ، مِنَ الإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ: هذه عبارة موجزة وحاسمة. فقد يقول البعض: “نعم، كان من حق الرسل أن يحصلوا على دعم مادي آنذاك، لكن هذا الحق لم يعُد سارياً في يومنا هذا.” ولكن هذا الأمر من الرب يعني أن أي كارز بالإنجيل له الحق في الحصول على الدعم من أولئك الذين يخدمهم.
- هل ينبغي للخدام المعاصرين التمسك بهذا الحق أم التخلي عنه؟ يجب أن يكون قرارهم مبني على ما يخدم الإنجيل والكنيسة بشكل أفضل. ولكن إذا أخذ خادم دعمًا ماديًا، فعليه أن يعمل بجد حتى يكون مستحقًا لهذا المال.
- “إذا أخذ رجل غير عاملٍ دعمًا ماديًا من كنيسة الله، فهذا لا يعد فقط سرقة داخلية، بل هو انتهاك للمقدسات. فمن يُضحي بوقته في هذا العمل له الحق في الحصول على الدعم له ولأسرته، ومن يأخذ أكثر من حاجته لهذا الغرض يكون مثل المرتزقة الجشعين. ومن لم يفعل شيئًا من أجل قضية الله والدين، ومع ذلك يُلزم الكنيسة أن تدعمه، متغاضية عن كسله ومخالفاته وترفه وجشعه وطموحه، فهو وحش لا يوجد له بعد اسم تصفه به أي لغة.” كلارك (Clarke)
- أَمَرَ الرَّبُّ: أَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِالإِنْجِيلِ، مِنَ الإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ: ليس لدينا سجل بكلمات يسوع المحددة في هذا الصدد، لكنه ذكر هذا المبدأ في موضعين: في إنجيل متى ١٠:١٠ (لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌ طَعَامَهُ)، وفي إنجيل لوقا ٨:١٠ (وَأَيَّةَ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ).
ثانياً. رغبة بولس في عدم المُطالبة بحقوقه
أ ) الآيات (١٥-١٨): أجر بولس: الكرازة بالإنجيل دون الاعتماد على دعم أي إنسان.
١٥أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَسْتَعْمِلْ شَيْئًا مِنْ هذَا، وَلاَ كَتَبْتُ هذَا لِكَيْ يَصِيرَ فِيَّ هكَذَا. لأَنَّهُ خَيْرٌ لِي أَنْ أَمُوتَ مِنْ أَنْ يُعَطِّلَ أَحَدٌ فَخْرِي. ١٦لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُبَشِّرُ فَلَيْسَ لِي فَخْرٌ، إِذِ الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ. ١٧فَإِنَّهُ إِنْ كُنْتُ أَفْعَلُ هذَا طَوْعًا فَلِي أَجْرٌ، وَلكِنْ إِنْ كَانَ كَرْهًا فَقَدِ اسْتُؤْمِنْتُ عَلَى وَكَالَةٍ. ١٨فَمَا هُوَ أَجْرِي؟ إِذْ وَأَنَا أُبَشِّرُ أَجْعَلُ إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ بِلاَ نَفَقَةٍ، حَتَّى لَمْ أَسْتَعْمِلْ سُلْطَانِي فِي الإِنْجِيلِ.
- فَلَمْ أَسْتَعْمِلْ شَيْئًا مِنْ هذَا: كان لبولس الحق في الحصول على الدعم، لكنه لم يستخدم هذا الحق.
- وَلاَ كَتَبْتُ هذَا: عندما كتب بولس هذه الكلمات لم يقصد ’الإشارة‘ إلى طلب الدعم من مؤمني كورنثوس؛ فهو يُظهر لهم القيمة والأسباب وراء تخلي الإنسان عن حقوقه.
- لأَنَّهُ خَيْرٌ لِي أَنْ أَمُوتَ مِنْ أَنْ يُعَطِّلَ أَحَدٌ فَخْرِي: إن فخر بولس لم يكن بأنه يُبشر بالإنجيل. فقد كان عليه أن يفعل ذلك (إِذِ الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ)؛ لكن فخره كان بسبب قدرته على التبشير دون مطالبة مستمعيه بالدعم.
- تذكر أن الثقافة اليونانية، التي كان مؤمنو كورنثوس مُتفقون عليها، كانت تحتقر العمل اليدوي. فعلى الرغم من أن مؤمني كورنثوس كانوا ينظرون باحتقار إلى بولس بسبب عمله اليدوي لإعالة نفسه، إلا أنه لم يشعر مطلقًا بالحرج، بل على العكس كان يتفاخر بذلك!
- فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ! لم تكن خدمة بولس مجرد مسألة اختيار أو طموح شخصي؛ لقد كانت تلك دعوته التي شعر بضرورة تلبيتها.
- فَإِنَّهُ إِنْ كُنْتُ أَفْعَلُ هذَا طَوْعًا: البعض لا يحصلون على الدعم المادي من الخدمة، لكن هذا الأمر لا يتعلق بالاختيار، بل بظروفهم. ولكن الخادم الذي لا يحصل على الدعم باختياره (طَوْعًا)، فإنه سوف ينال مكافأة (أَجْر). ويقول بولس: إن كان عدم حصولي على الدعم هو عكس ما أريد، فلا يهم، لأني أقوم بمهمة كلفني بها الله (فَقَدِ اسْتُؤْمِنْتُ عَلَى وَكَالَةٍ).
- أَجْعَلُ إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ بِلاَ نَفَقَةٍ: في أيام بولس، كان يخرج الكثير من رجال الأعمال المتدينين للتبشير بأي رسالة للحصول على المال. لذا كان بولس سعيدًا بأن ينأى بنفسه عن هؤلاء من خلال عدم تلقيه أي تقدمة من أي شخص، حتى لا يعتقد أنه أساء اسْتعمالْ سُلْطَانه فِي الإِنْجِيلِ. وهذا هو أَجْرٌ بولس.
- قد لا نواجه أبدًا نفس موقف بولس واحتياجه لأن يأخذ قرار برفض أو قبول الدعم لاستمرار الخدمة، لكن لدى كلٍ منا سؤال شائك ينبغي أن يجيب عليه: ما هي الحقوق التي يمكنك أن تتخلى أنت عنها من أجل قضية يسوع؟
ب ) الآيات (١٩-٢٣): مرونة بولس في الخدمة.
١٩فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرًّا مِنَ الْجَمِيعِ، اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ. ٢٠فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ. ٢١وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ للهِ، بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ. ٢٢صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ، لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا. ٢٣وَهذَا أَنَا أَفْعَلُهُ لأَجْلِ الإِنْجِيلِ، لأَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ.
- إِذْ كُنْتُ حُرًّا مِنَ الْجَمِيعِ، اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ: كان بولس حراً في أن يفعل ما يريد، لكن ربح النفوس ليسوع كان أكثر أهمية بالنسبة له من أن يستخدم حريته بأنانية.
- فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ: قد يبدو الأمر لبعض المراقبين أن حياة بولس كانت مليئة بالمساومة، لكن الحقيقة هي أن بولس كان يسعى دائمًا إلى تحقيق هدف واحد وهو ربح النفوس ليسوع.
- في أعمال الرسل ٢٣:٢١-٢٦، شارك بولس في احتفالات التطهير اليهودي، رغم أنه كان يعرف أنها ليست ضرورية لحياته، لكنه كان يأمل أن يساعد ذلك في بناء جسر للخدمة بين اليهود. وفي أعمال الرسل ٣:١٦، أخذ بولس تيموثاوس وَخَتَنَهُ من أجل اليهود، ليس لأن هذا الأمر كان ضروريًا، ولكن لأنه قد يساعد في اتمام الخدمة بين اليهود.
- “بالنسبة للأمم، كان بولس يسلك بأخلاق وكأنه أممي، أي أنه كان يتغاضى عن التقيد بناموس اللاويين الذي لم يكن للأمم أي التزام به على الإطلاق.” بووله (Poole)
- “لقد سعى بولس إلى ربح النفوس ليسوع المسيح من خلال حساسيته لاحتياجاتهم والتشبُّه بهم. وعلينا نحاول أيضاً أن نفهم واقع الناس ومن هناك نكرز لهم بالإنجيل وأن نتوقع أن نرى التغييرات في وقت لاحق.” سميث (Smith)
- صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ، لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا: لا ينبغي لنا أن نعتقد أن بولس قام بتغيير عقيدته أو رسالته حتى ينال إعجاب المجموعات المختلفة (هو يُنكر هذا تماماً في كورنثوس الأولى ٢٢:١-٢٣)، لكنه كان يغيّر سلوكه وطريقة نهجه.
- “غالبًا ما كان يستخدم هذا المقطع لدعم فكرة ’استيعاب الآخرين‘ في الكرازة، أي تكييف الرسالة مع لغة ووجهة نظر المُتلقين. وللأسف، بالرغم من الحاجة إلى الدخول في مثل هذا النقاش، إلا أن هذا المقطع لا يتحدث عن ذلك مباشرة. فالمقطع يتحدث عن كيف ينبغي للشخص أن يسلك بين من يرغب في التبشير لهم.” فيي (Fee)
- “دع أولئك الذين يسعون لتطبيق نظام تكييف الرسالة متخذين بولس الرسول كمثال لهم، أن ينتبهوا إلى الغاية التي كان يرنو إليها وإلى الأسلوب الذي اتبعه للوصول إلى تلك الغاية. فلم تكن غايته الحصول على المال أو النفوذ أو الاحترام، بل كل غايته كانت خلاص النفوس! ولم تكن الغاية أيضًا هي خلاص حياته، بل تقديمها ذبيحة من أجل خير النفوس!” كلارك (Clarke)
- وَهذَا أَنَا أَفْعَلُهُ لأَجْلِ الإِنْجِيلِ: كان بولس على استعداد لمضايقة بعض الناس من أجل قضية الإنجيل فقط وليس لأي سبب آخر.
ج ) الآيات (٢٤-٢٧): موقف بولس الذي يشبه موقف الرياضي.
٢٤أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ، وَلكِنَّ وَاحِدًا يَأْخُذُ الْجَعَالَةَ؟ هكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا. ٢٥وَكُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبُطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. أَمَّا أُولئِكَ فَلِكَيْ يَأْخُذُوا إِكْلِيلاً يَفْنَى، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِكْلِيلاً لاَ يَفْنَى. ٢٦إِذًا، أَنَا أَرْكُضُ هكَذَا كَأَنَّهُ لَيْسَ عَنْ غَيْرِ يَقِينٍ. هكَذَا أُضَارِبُ كَأَنِّي لاَ أَضْرِبُ الْهَوَاءَ. ٢٧بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضًا.
- أَرْكُض.. أُضَارِبُ: كانت الأحداث الرياضية مهمة جداً في أيام بولس كما هو الحال في وقتنا هذا. وكان هذا له مدلول خاص بالنسبة لأهل كورنثوس، لأن مدينتهم كانت مركزًا للألعاب البرزخية، وهي الثانية في المكانة بعد الألعاب الأولمبية القديمة.
- غالبًا ما كان يستخدم بولس تشبيهات من مباريات الساحة (هناك على الأقل ١٢ إشارة مختلفة عن هذا في رسائله)، بما في ذلك أمثلة للمتسابقين والملاكمين والمصارعين ومتسابقي العربات والجوائز.
- هكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا: يخبرنا بولس بأنه يتعين علينا أن نتدرب ونتنافس كرياضيين يرغبون حقًا في تحقيق الفوز، لأن الفوز الرياضي لا يتحقق إلا بالجهد والتدريب.
- وَكُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبُطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ: يشير هذا المصطلح إلى الرياضيين الرومانيين الذين كان عليهم أن يتدربوا لمدة عشرة أشهر قبل السماح لهم بالاشتراك في الألعاب الرياضية، لأنه ينبغي على المرء أن يَضْبُطُ نَفْسَهُ حتى يستطيع أن يتنافس مثل الرياضيين.
- على الرياضي أن يرفض الأشياء التي قد تكون جيدة، لكنها تُعيق سعيه وراء هدفه. وهذا ما ينبغي أن يفعله أهل كورنثوس أيضًا: أن يرفضوا الأشياء الجيدة (مثل أكل اللحم الذي ذُبح للأوثان) لأنها قد تعيق سعيهم وراء الهدف الهام، الذي هو إِكْلِيلًا لاَ يَفْنَى، أي مكافأة سماوية لن تزول أبدًا.
- أَقْمَعُ جَسَدِي: كلمة أَقْمَعُ هي ترجمة ضعيفة للكلمة اليونانية القديمة التي تعني ’الضربة التي تتسبب في هالة سوداء حول العين.‘ فبولس لم يُرد أن يكون لجسده السيادة على كل كيانه.
- أسْتَعْبِدُهُ تعني حرفيًا أقوده كعبد. أكد بولس على جسده هو العبد، وأن إنسانه الداخلي هو السيد. فلم تكن رغبات جسده تسود عليه.
- لكن بولس لم يكن يعتقد أن الجسد كان شريرًا في ذاته؛ فهو رغم كل شيء ينتمي إلى يسوع (كورنثوس ٢٠:٦)؛ ولا كان ليتفق لاحقًا مع النُساك الذين عاقبوا أجسادهم طلبًا للقداسة. فقد ظهر عبر التاريخ، مجموعة من المسيحيين المعروفون بإسم ’جالدي الذات‘ الذين كانوا يجلدون ويضربون ويعذبون أجسادهم في محاولة مضللة لتطبيق هذه الآية، واعتقد هؤلاء أنهم يستطيعون دفع ثمن خطاياهم من خلال هذا التعذيب الذاتي، وكانوا يرفضون الاعتراف بأن يسوع دفع عقوبة خطيتهم الكامل.
- حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ: يرى بولس نفسه مثل الشخص الذي يُعلِن قواعد الألعاب الرياضية، كما أنه يرى نفسه كمُشارك فيها؛ بمعنى أنه يُخبر الآخرين بقواعد اللعبة التي يجب عليه هو نفسه اتباع قواعدها.
- كَرَزْتُ: “تشير هذه الكلمة إلى وظيفة مُعلن الألعاب الرياضية الذي كان عليه إعلان شروط المسابقات وعرض الجوائز ونُصح المقاتلون وإثارة روح المنافسة بين المتسابقين وإعلان قواعد كل مسابقة والنُطق بأسماء الفائزين ووضع التيجان على رؤوسهم.” كلارك (Clarke)
- حَتَّى… لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضًا: ربما لا تُشير كلمة مَرْفُوضًا هنا إلى فقدان الخلاص (لأنه لم يكُن من الممكن أن يُجرَد المواطن اليوناني من جنسيته)، بل إلى فقدان الأجر أو المكافأة.
- مَرْفُوضًا: “تُعبر الكلمة عن شخص رفضه حكام الألعاب لكونه لا يستحق الجائزة. فربما قد يرفض القاضي العظيم بولس نفسه؛ ولهذا ركض بولس وتنافس وأنكر نفسه وأخضع جسده لروحه وأخضع روحه لروح الله.” كلارك (Clarke)