إنجيل متى – الإصحاح ٥
العظة على الجبل (الجزء الأول)
أولًا. مقدمة للعظة على الجبل
أ ) الآية (١): يسوعُ يستعد ليُعلم تلاميذه.
١وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ.
- وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ: ذَكر الجُزء السابق أن جموعًا كثيرة قد تبعته، قادمة من مناطق مختلفة (متى ٢٥:٤)؛ واستجابة لهذا، صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ.
- من الخطأ الاعتقاد بأن يسوع صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ ليعزل نفسه عن الجموع. صحيح أن يسوع أعطى هذا التعليم لتلاميذه، ولكن هذا المصطلح ربما يكون واسع النطاق، ويشمل الجموع الغفيرة التي تبعته، والمذكورة في (متى ٢٥:٤). وبحلول نهاية العظة على الجبل، سمع الناس عمومًا رسالته وقد دُهِشوا (متى ٢٨:٧).
- يقول لوقا إن هذه المواضيع الأساسية ذاتها، في مناسبة مختلفة، قيلت لحشد من تلاميذه وجموع كثيرة من الناس من جميع يهوذا وأورشليم، ومن ساحل صور وصيدا، الذين جاؤوا لسماعه ولكي يشفيهم من أمراضهم (لوقا ١٧:٦). ومع ذلك، في بداية التعليم، يكتب لوقا، قائلًا: “وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ…” (لوقا ٢٠:٦). إن المعنى هنا هو المعنى ذاته في متى، فهذه العظة قد قيلت لتلاميذ يسوع، باستخدام كلمة تلاميذ بالمعنى الواسع إشارة لمن تبعوه وسمعوه؛ وليس بالمعنى الضيق للاثنا عشر فقط.
- “لم يكن يسوع منعزلًا في الروح، ولم يكن لديه عقيدتين، واحدة للأكثرية، والأخرى للأقلية، مثل بوذا. لقد كان تعليم يسوع الأسمى موجهٌ للجميع.” بروس (Bruce)
- “قد يكون سردابٌ أو كهفٌ هو المكان الذي ينبثق منه كل حرف من رسالة من شأنها أن تُنْشَر على أسطح المنازل، ويُكْرز بها لكل مخلوق تحت السماء.” سبيرجن (Spurgeon)
- فَلَمَّا جَلَسَ: كانت هذه هي الوضعية الشائعة أثناء التعليم في تلك الثقافة. فكان من المعتاد أن يجلس المُعلم ويقف السامعون.
- تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ: مرة أخرى يُقصد بذلك مجموعة أكبر بكثير من الاثني عشر، الذين لم يتم تقديمهم حتى الآن كمجموعة في هذا الإنجيل.
- “صعد التل للابتعاد عن الحشود في الأسفل، والتلاميذ – الذين أصبحوا الآن حشد كبير – يتجمعون حوله. لم يستبعد الآخرين، ولكن التلاميذ هم الجمهور المناسب.” بروس (Bruce)
ب) الآية (٢): يسوع يشرع في التعليم.
٢فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلًا…
- فَفتحَ فاهُ: هذا يعني أن يسوع استخدم صوته بطريقة قوية لتعليم هذا الحشد. لقد تحدث بحماس، عارضًا أفكاره بجدية.
- “ليس من الإسهاب أن نقول إنه “فَتَحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ” إذ كان يعلمهم كثيرًا عندما كان فمه مغلقًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- “بدأ يتحدث إليهم بحرية، حتى يتسنى للجمهور الاستماع إليه.” بوله (Poole). “تكلم يسوع المسيح بكل جدية؛ وأعرب عن نفسه بوضوح، وتحدث جَهرًا. لقد رفع صوته مثل البوق، ونشر الخلاص في كل الأنحاء، كإنسان لديه شيئًا ليقوله، ذلك الشيء الذي كان يريد لجمهوره أن يستمع إليه ويشعر به.” سبيرجن (Spurgeon)
- “في اللغة اليونانية، استخدام يسوع لهجة جليلة ووقورة وكريمة. وهي نفس نبرة الصوت التي تستخدم، على سبيل المثال، لوصف نبوة. إنه الصوت الأنسب لتوصيل كلام هام.” باركلي (Barclay)
- وعَلَّمَهُمْ قَائِلًا: ما سمعوه هو رسالة عرفت بأنها خُلاصة تعاليم يسوع الأخلاقية. ففي العظة على الجبل، يخبرنا يسوع كيف نعيش.
- يقال أنه إن أخذت كل النصائح الجيدة عن كيفية العيش التي نطق بها أي فيلسوف أو معالج نفساني أو مشير، وتخلصت من الحماقات المرافقة، ولخصّت الأمر كله إلى الأمور الجوهرية الحقيقية، فلن يبقى إلا محاكاة سقيمة لتلك الرسالة العجيبة ليسوع.
- يُنظر أحيانًا إلى العظة على الجبل على أنها إعلان يسوع عن الملكوت. وبتلك الرسالة أعلن يسوع ماهية ملكوته بجُملته.
- هذه التعاليم تقدم جدول أعمال مختلف اختلافًا جذريًا عما توقعته أمة إسرائيل من المسيا. إنها لا تقدم بركات سياسية أو مادية لمُلك المسيا، بل بالحري تعبر عن الجوهر الروحي لمُلك يسوع في حياتنا. إن هذه الرسالة العظيمة تخبرنا كيف نعيش عندما يكون يسوع هو ربنا. “في القرن الأول كان هناك اتفاق بين اليهود عما يبدو عليه الملكوت المسياني. وواحد من تلك الاعتقادات الشائعة كان أن نير الرومان سيتحطم، ويكون هناك سلام سياسي ورخاء متزايد.” كارسون (Carson)
- من المهم أن نفهم أن العظة على الجبل لا تتعامل مع موضوع الخلاص، ولكنها تضع أمام التلميذ، والآخرين الذين قد يصبحوا تلاميذًا لاحقًا، كيف تكون الحياة والأخلاقيات عندما يكون يسوع هو الملك على القلب.
- لا يمكن اثبات ذلك، لكن في رأيي أن العظة على الجبل كانت عظة يسوع المعتادة. فجوهر رسالته التَجوالية كانت كالتالي: إعلان بسيط عن كيف يتوقع الله منا أن نحيا، بعكس المفاهيم اليهودية الخاطئة الشائعة عن تلك الحياة. وربما اعتاد يسوع أن يعظ نفس العظة كلما خدم جمهور جديد، أو ربما استخدم الموضوعات الرئيسية منها.
- يمكننا أيضًا أن نعتبر ذلك تدريب يسوع لتلاميذه على الرسالة التي أرادهم أن يحملوها للآخرين. لقد كانت رسالته، المقصود لها أن تجتاز بهم ومن خلالهم. “في العظة على الجبل، يُظهر لنا متى يسوعَ وهو يُعلِّم تلاميذه رسالته، والتي كانوا مزمعين أن يحملوها ذاتها إلى الناس.” باركلي (Barclay). وفي إنجيل لوقا، تأتي المادة المشابهة للعظة على الجبل مباشرة بعد أن اختار يسوع الاثني عشر.
- يشير باركلي (Barclay) أيضًا إلى أن الفعل المُترجم ’عَلَّمَ‘ يأتي في الزمن الماضي الناقص: “لذلك فالفعل يصف الإجراء المتكرر المعتاد، ولذلك يجب أن تكون الترجمة كالتالي: هذا ما كان معتادًا أن يعلمهم به.”
- من الواضح أن العظة على الجبل كان لها تأثيرٌ كبير على الكنيسة الأولى. فكان المسيحيون الأولون يشيرون إليها باستمرار، وكانت حياتهم تظهر ما يعنيه التلميذ الحقيقي.
ثانيًا. التطويبات: هَوّية مواطني الملكوت
يُعرف الجزء الأول من العظة على الجبل باسم التطويبات، وهو ما يعني ’البركات،‘ ولكن يمكن فهمه أيضًا على أنه إرشادات لكيفية سلوك المؤمن وما يجب أن تكون عليه مواقفه. ففي التطويبات، يحدد يسوع طبيعة وتطلعات مواطني ملكوته. فعلى المؤمن أن يتحلى بهذه الصفات وأن يتعلمها.
كل هذه الصفات هي بمثابة علامات وأهداف ينبغي أن يتحلى بها كل مؤمن. وليس الأمر كما لو أننا نستطيع أن نتخصص في واحدة، ونستبعد الأخريات، كما هو الحال مع المواهب الروحية. فلا مفر من مسؤوليتنا في أن نرغب في كل واحدة من هذه الصفات الروحية. إذا قابلت شخصًا يدعي أنه مؤمن ولكنه لم يُبدي أو يرغب في أيٍ من هذه الصفات، فلك الحق أن تشك في خلاصه، لأنه لا يتمتع بهوية مواطني الملكوت. لكن إذا ادعى أنه قد تضّلعَّ في هذه الصفات، عندئذٍ يمكنك أن تتشكك في أمانته.
أ ) الآية (٣): الأساس: المَسْكَنة بالروح.
٣طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ.
- طُوبَى: لقد وعد يسوع بالبركة لتلاميذه؛ لقد وعد بأن اِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ هم مباركون. إن الفكرة التي وراء الكلمة اليونانية القديمة المترجمة ’طُوبَى‘ هي “يا لسعادة.” ولكن بالمعنى الحقيقي والإلهي للكلمة، وليس بالمعنى الحديث للكلمة لمجرد الشعور بالراحة أو الترف الوقتي.
- إن هذه الكلمة نفسها التي تعني “طوبى” – والتي تعني إلى حد ما “سعيد” – استخدمت للحديث عن الله في تيموثاوس الأولى ١١:١ “حَسَبَ إِنْجِيلِ مَجْدِ اللهِ الْمُبَارَكِ الَّذِي اؤْتُمِنْتُ أَنَا عَلَيْهِ. “إذًا تصف كلمة ’مَكاريوس‘ (Makarios) ذلك الفرح الذي له سره في داخله، ذلك الفرح الهادئ والذي لا يمكن المساس به، والمكتفي ذاتيًا، ذلك الفرح المُستقل تمامًا عن جميع مصادفات وتغيُرات الحياة.” باركلي (Barclay)
- في (متى ٣٤:٢٥) قال يسوع إنه في يوم الدينونة، سيقول لشعبه: “تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ.” في ذلك اليوم، سيحكم بين المباركين والملعونين؛ فهو يعرف ويشرح ما هي متطلبات الشخص المبارك. ويمكننا القول أيضًا أن يسوع كان أكثر شخص مبارك على الإطلاق، وهو يعرف ما يدور في الحياة المُبَارَكَة.
- “ربما أنت لم تغفل عن ملاحظة أن الكلمة الأخيرة في العهد القديم هي كلمة ’لعنة،‘ وربما كان هذا هو السبب الذي جعل ربنا يبدأ عظته الافتتاحية بكلمة ’طوبى.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- “لاحظ أيضًا، بكل حبور، أن المُبارَكَة هي في كل الأحوال، في زمن المضارع، سعادةٌ من شأنها أن يُسْتَمْتَعَ بها الآن وتُشرح الصدور من خلالها. لا يقول ’سَينال البركة‘ بل يقول ’طوبى لمن (أو مبارك هو).‘” سبيرجن (Spurgeon)
- الْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ: هذا ليس اعترافًا من الإنسان بأنه غير ذي أهمية بطبيعته، أو شخصيًا بلا قيمة، لأن ذلك المعنى سيكون غير صحيح. بل بالحري هو اعتراف بأنه مذنب ومتمرد، وبدون أي فضائل أخلاقية البتة، كافية ليتم مدحه لدى لله.
- إن الْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ يدركون أنه ليس لديهم مدخرات روحية. ويعلمون أنهم مفلسون روحيًا. ويمكننا القول أن اللغة اليونانية القديمة كان لديها كلمة تقابل “الفقراء العاملين” وكلمة أخرى تقابل “الفقراء الحقيقيين.” وقد استخدم يسوع هنا الكلمة التي تقابل “الفقراء الحقيقيين.” فالكلمة تشير إلى شخص من شأنه أن “يتسول” لأي شيء لديه أو يحصل عليه.
- لا يمكن أن تحدث المسكنة بالروح بشكل مُصطنع من خلال الكراهية الذاتية؛ بل الروح القدس واستجابتنا لعمله في قلوبنا، يُنتِج المَسكنة بالروح.
- إن هذه التطويبة تأتي أولًا؛ لأنها الخطوة الأولى التي نبدأ بها مع الله. “ليكون أي سُلَّم نافعًا، يجب أن تكون الدرجة الأولى منه قريبة من سطح الأرض، وإلا فلن يتمكن المتسلقون الضُعفاء من الصعود عليه. وبالتالي، سيكون الأمر محبطًا للغاية بالنسبة للمؤمن الحديث، إذا أعطيت البركة الأولى لأنقياء القلب؛ فالمؤمن الحديث لن يصل إليها أبدًا، بينما يمكنه الوصول إلى المسكنة بالروح دون أي جهد.” سبيرجن (Spurgeon)
- يمكن للجميع البدء من هنا؛ فإنها ليست تطويبة أولى خاصة بالطاهرين أو المقدسين أو الروحانيين أو الرائعين؛ فالجميع يمكنهم أن يكونوا مساكين بالروح. “إن الأمر لا يتعلق بما لدي، بل بما ليس لدي، وتلك هي نقطة الاتصال الأولى، بين روحي والله.” سبيرجن (Spurgeon)
- لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ: إن أولئك المساكين بالروح، الذين لشِدة مسكنتهم عليهم أن يستعطوا، سوف يكافئون. إن لهم مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ، لأن المسكنة بالروح هي شرط أساسي للحصول على ملكوت السماوات، وطالما ننحصر في أوهام امتلاكنا موارد روحانية ذاتية، فلن نحصل أبدًا من الله على ما نحتاجه تمامًا لكي نخلص.
- “لا يُمنح ملكوت السماوات على أساس العِرق، أو المَكاسب المُحَققة، أو الحَماسة، واستبسال طائفة الغيوريين اليهودية، أو ثروة زكا. بل بالحري تُمنح للفقراء، ولجُباة الضرائب المحتقرين، والبَغايا، أولئك ’الفقراء‘ الذين لشدة فقرهم يدركون أنهم لا يستطيعون تقديم شيء ولا يحاولون تقديم شيء. إنهم يصرخون من أجل الرحمة وهم وحدهم الذين يُستجاب لهم.” كارسون (Carson)
- “يتم رفع المساكين بالروح من المزبلة، ووضعهم، ليس بين الخَدم المأجورين في الحقول، ولكن بين الأمراء في المملكة. ’المساكين بالروح‘ كلمات تبدو كما لو أنها تصف مالكين للاشيء، ولكن الكلمات ذاتها تصف ورثة كل شيء. طوبى للمساكين! فالأثرياء يغرقون في التفاهات، ويتبخر كنزهم كبُخار، بينما يبقى للمساكين بالروح ملكوت لا حدود له ولا نهاية له ولا عيب فيه، مما يجعلهم مباركين في تقدير ذاك الذي هو الله على الكل، مباركين إلى الأبد.” سبيرجن (Spurgeon)
- إن الدعوة إلى أن المسكنة بالروح موضوعة أولًا لسبب ما، لأنها تضع الأوامر التالية في نصابها الصحيح. فهي لا يمكن تحقيقها من خلال قوة الفرد، ولكن فقط من خلال اعتماد المتسول على قوة الله. فلا يستطيع أحد يرثى إلا حينما يكون مسكينًا بالروح؛ ولا أحد يستطيع أن يكون وديعًا تجاه الآخرين إلا حينما يكون لديه نظرة متواضعة عن نفسه. فإذا كنت لا تشعر بحاجتك الخاصة وبفقرك، فلن تجوع ولن تعطش أبدًا للبر؛ وإذا كانت لديك نظرة متعالية جدًا عن نفسك، فستجد صعوبة في أن تكون رحيمًا بالآخرين.
ب) الآية (٤): رد الفعل المقدس على المسكنة بالروح: الحُزن.
٤طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ.
- طُوبَى لِلْحَزَانَى: تشير قواعد اللغة اليونانية القديمة إلى ’حِداد كبير.‘ فلا يتحدث يسوع عن الحُزن العَرضي لعواقب خطايانا، بل عن حزن عميق أمام الله على حالتنا الساقطة.
- “الكلمة اليونانية ’للحزن‘ والمستخدمة هنا، هي أقوى كلمة للحزن في اللغة اليونانية. إنها الكلمة التي تُستخدم للحداد على الموتى، وللرثاء الانفعالي على الشخص الذي كان يُحَّب.” باركلي (Barclay)
- البكاء ناتج عن الحالة المتدّنية والمُعْدَمة لكل من الفرد والمجتمع؛ مع إدراك أنهم مُتدّنون ومُعْدَمون بسبب الخطيئة. فأولئك الحزانى في الحقيقة هم يحزنون على الخطيئة وآثارها.
- إن هذا الحزن هو حُزن مقدس الذي ينتج التوبة للخلاص التي وصفها بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس الثانية ١٠:٧.
- لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ: أولئك الذين يحزنون على خطيتهم وحالتهم الخاطئة، وُعِدوا بالتعزية؛ فالله يسمح بهذا الحزن في حياتنا كمَمَر، وليس كمَصير.
- يمكن لأولئك الذين يحزنون معرفة أمرٍ خاصٍ عن الله، ألا وهو شركة آلامه (فيلبي ١٠:٣)، ويمكنهم الاقتراب من رجل اختبر الحزن (إشعياء ٣:٥٣).
ج ) الآية (٥): الخطوة التالية: الوداعة.
٥طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ.
- طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ: من المستحيل ترجمة هذه الكلمة اليونانية القديمة ’Praus‘ أي الْوُدَعَاءِ إلى كلمة واحدة فقط. فالكلمة تحمل دلالة التوازن الصحيح بين الغضب واللامبالاة لشخصية منضبطة على نحو لائق ومُتضعة.
- في مفردات اللغة اليونانية القديمة، لم يكن الشخص الوديع سلبيًا أو من السهل التحُكم به. فكانت الفكرة الرئيسية وراء كلمة ’وديع‘ تنُم عن القوة التي تحت السيطرة، مثل الفَحل القوي الذي تم تدريبه على أداء المهمة بدلًا من الركض بجموح.
- “بشكل عام، اعتبر اليونانيون الوداعة نقيصة؛ لأنهم فشلوا في تمييزها عن الخنوع. فأن تكون وديعًا تجاه الآخرين ينطوي على تحررك من الخبث وروح الانتقام.” كارسون (Carson)
- “الوديع هو الذي يمكن أن يكون غاضبًا، لكنه يكبح غضبه عن طاعة لإرادة الله، ولن يكون غاضبًا، إلا إذا كان يمكن أن يكون غاضبًا مع عدم ارتكاب خطيئة، ولن يستفزه الآخرون بسهولة.” بوله (Poole)
- “هم البشر الذين يعانون من الإجحاف دون الشعور بمرارة أو الرغبة في الانتقام.” بروس (Bruce)
- إن التطويبتين الأوليتين متداخلتان؛ والثالثة تتناول كيفية تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان. التطويبتان الأوليتان سلبيتين بشكل رئيسي، والثالثة إيجابية بشكل واضح.
- أن تكون وديعًا يعني إظهار الاستعداد للخضوع والعمل تحت السُلطة المناسبة. كما أنه يظهر استعدادًا لتجاهل “الحقوق” والامتيازات الفردية. من ناحية، فلا بأس بالنسبة لي أن أعترف بإفلاسي الروحاني، ولكن ماذا لو قام شخص آخر بذلك من أجلي؟ فهل ستكون ردة فعلي بوداعة؟ هذا المُطوّب هو الوديع:
- إنه وديع أمام الله، من حيث أنه يخضع لإرادته ويتوافق مع كلمته.
- هو وديع أمام الناس، لأنه قوي، ولكنه أيضًا متواضع ولطيف وصبور وطويل الأناة.
- “إن كلمة وديع تأتي من كلمة قديمة تعني ’رفيق‘ أو ’مساوٍ‘ لأن الذي لديه روح وديعة أو رقيقة مستعدٌ دائمًا للتواصل مع أصعب المؤمنين، شاعرًا في نفسه أنه غير متفوقٌ على أحد، ويعلم جيدًا أنه لا يمتلك شيئًا من الخير الروحي أو الزمني، إلا ما حصل عليه من سخاء الله البحت، مدركًا أنه ليس مستحقًا أي مِنة من يده.” كلارك (Clarke)
- لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ: يمكننا فقط أن نكون ودعاء ومستعدين للسيطرة على رغبتنا حول حقوقنا وامتيازاتنا لأننا واثقون من عناية الله لنا، وأنه سيحمينا وسيصون قضيتنا. إن الوعد بقوله لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ، يثبت أن الله لن يسمح للودعاء أن ينتهي بهم المطاف خاسرين الصفقة.
- “يبدو الأمر كما لو أنه سيتم طردهم من العالم لكنهم لن يكونوا كذلك، لأنهم سيرثون الأرض. فرغم أن الذئاب تلتهم الخراف، لكن يوجد في العالم عدد من الأغنام أكثر من الذئاب، والخراف مستمرة في التكاثر وترعى في المراعي الخضراء.” سبيرجن (Spurgeon)
- “لقد ورث ودعاء إنجلترا – الذين دُفِعوا خارج أرضهم الأصلية بسبب التعصب الديني – قارة أمريكا.” بروس (Bruce)
- “كان عليَّ فقط أن أنظر إلى الأرض حولي، كل ما تشرق الشمس عليها، ثم أنظر إلى السماء، وأقول: ’يا أبي، هذا كله مُلككَ؛ وبالتالي، كلُه لي؛ لأني وريث الله، ووريثًا مشتركًا مع يسوع المسيح.‘ وهكذا، بهذا المعنى، يرث الإنسان المسكين بالروح الأرضَ كلها.” سبيرجن (Spurgeon)
- من خلال التطويبات الثلاث الأولى، نلاحظ أن الإنسان الطبيعي لا يجد أية سعادة أو بركة في المسكنة بالروح ولا في الحُزن أو الوداعة. إن هذه كلها بركات للإنسان الروحي، ذلك الذي أصبح خليقة جديدة في يسوع.
د ) الآية (٦): رغبة المسكين بالروح، والحزن على الخطيئة، والوداعة: البر.
٦طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ.
- طُوبَى لِلْجِيَاعِ: هذا يصف الجوع العميق الذي لا يمكن أن يُشبَع من خلال وجبة خفيفة. وهذا هو الشوق الذي يدوم، ولن يُشبع تمامًا على هذه الأرض.
- هذا الشغف حقيقي، تمامًا مثلما الجوع والعطش حقيقيان.
- هذا الشغف أمر طبيعي، تمامًا مثلما الجوع والعطش أمران طبيعيان في الشخص المتمتع بالصحة.
- هذا الشغف شديد، تمامًا مثلما يمكن أن يكون الجوع والعطش.
- قد يكون هذا الشغف مؤلم، تمامًا مثلما يمكن للجوع والعطش أن يتسببا بالألم.
- هذا الشغف قوة دافعة، مثلما يمكن أن يقود الجوعُ والعطشُ إنسانًا ما.
- هذا الشغف هو علامة على الصِحة، تمامًا مثلما ينُم الجوع والعطش عن الصحةَ.
- لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ: نرى المؤمنين متعطشين إلى أمور كثيرة: القوة والسُلطة والنجاح والراحة والسعادة، ولكن كم منهم جِيَاعِ وَعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ؟
- من الجيد أن نتذكر أن يسوع قال هذا في زمن وثقافة عرفت حقًا ماذا يعني الجوع والعطش. الإنسان المعاصر – على الأقل في العالم الغربي – غالبًا ما يكون بعيدًا جدًا عن الاحتياجات الأساسية للجوع والعطش إلى درجة أنه يصعب عليه أيضًا الجوع والعطش إلى البر.
- “قال: ’للأسف! لا يكفي أن أعرف أن خطيتي قد غُفرت؛ فلدي ينبوع من الخطيئة داخل قلبي، ومياه مُرة تتدفق منه باستمرار. آهٍ، لو تغيرت طبيعتي؛ بحيث أنا، عاشق الخطية، يمكن أن أصبح محبًا لما هو صالح؛ وبحيث أنا، المملوء بالشر الآن، يمكن أن أمتلئ بالقداسة!‘” سبيرجن (Spurgeon)
- كيف يعبر هذا الجوع والعطش إلى البر عن نفسه؟
- في إنسان يتوق أن يكون له طبيعة البر.
- في إنسان يريد أن يتقدس، ليكون أكثر قداسة.
- في إنسان يتوق إلى الاستمرار في بر الله.
- في إنسان يتوق لسيادة البر في العالم.
- “إنه جائعٌ وعطشانٌ للبر. إنه لا يجوع أو يعطش وراء تمكُن حزبه السياسي من الوصول إلى السلطة، ولكنه يجوع ويعطش حتى يقوم البر في الأرض. إنه لا يجوع أو يعطش لتصبح آرائه في المقدمة، أو أن تزداد طائفته أو مذهبه عددًا وتأثيرًا، لكنه يرغب في أن يكون البر متقدمًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ: وعد يسوع أن يُشبع الجياع؛ أن يشبعهم بقدر ما يمكن أن يأكلوا. وهذا الإشباع غريب لأنه يملئنا، وبنفس الوقت يشوقنا للمزيد.
هـ) الآية (٧): طوبى للرحماء.
٧طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ.
- طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ: عندما توجه هذه التطويبة للذين يظهرون الرحمة، فإنها تتحدث إلى أولئك الذين قد رُحِموا بالفعل. إنها رحمة أن تُفرغ من كبرياءك وتُفرغ من روحك وتعود لمسكنة الروح. إنها رحمة لكي تحزن على حالتك الروحانية. إنها رحمة تجعلك تستقبل نعمة الوداعة، وتصبح لطيفًا. إنها رحمة أن تكون جائعًا وعطِشًا إلى البر. لذلك، فالإنسان الذي يُتوقع منه أن يُظهر الرحمة، قد رُحِم بالفعل من قبل.
- يُظهر الرحيم الرحمة لأولئك الذين هم الأضعف والأكثر فقرًا.
- يبحث الرحيم دائمًا عن من يبكي ويحزن.
- يغفر الرحيم للآخرين، ويبحث دائمًا عن استعادة العلاقات المُحَطمة.
- يكون الرحيم رحيمًا لشخصية الآخرين، ويختار أن يفكر في أفضل ما فيهم كلما كان ذلك ممكنًا.
- لن يتوقع الرحيم ما فوق طاقة الآخرين.
- يكون الرحيم متعاطفًا مع أولئك الذين يخطئون ظاهريًا.
- يهتم الشخص الرحيم بنفوس جميع الناس.
- لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ: إذا كنت تريد الرحمة من الآخرين – وخاصة الله – فيجب عليك أن تكون رحيمًا بالآخرين. يتساءل بعض الناس لماذا أظهر الله هذه الرحمة الرائعة للملك داود، خاصةً بعد الأمور الرهيبة التي أخطأ فيها. أحد الأسباب التي منحه الله هذه الرحمة هو أن داود كان رحيمًا على وجه الخصوص بالملك شاول، وفي عدة مناسبات كان لطيفًا مع شاول الذي لا يستحق. وفي مثال داود، حصل الرحيم على الرحمة.
و) الآية (٨): طوبى لأنقياء القلب.
٨طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ.
- طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ: في اليونانية القديمة، تنم عبارة أَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ عن الاستقامة والصدق والوضوح؛ ويمكن أن ينطوي المعنى هنا على فكرتين. الأولى هي النقاء الأخلاقي الداخلي في مقابل صورة النقاء أو الطهارة الطقسية. والفكرة الثانية هي وجود قلب واحد غير منقسم الذي لأولئك الصادقين تمامًا وغير المنقسمين في إخلاصهم والتزامهم نحو الله.
- “كان المسيح يتعامل مع أرواح البشر، مع طبيعتهم الداخلية الروحانية. ولقد فعل ذلك بشكل أو بآخر في جميع التطويبات، وفي هذه التطويبة بالذات أصاب الهدف تمامًا في قوله: ’ليس طوبى لمن كلامهم نقي أو لمن هم أنقياء في الفعل أو لمن هم أنقياء في الطقوس أو في المَلبس أو في الطعام،‘ لكنه يقول: ’طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ: في هذا، يحصل نقي القلب على الجعالة الكُبرى، إذ يستمتع بعلاقة حميمة مع الله بكيفية لم يكن يتصورها. فالخطايا الملوِثة مثل الطمع والقمع والشهوة والخداع تعمي الإنسان؛ ولكن النقي القلب أكثر تحررًا من هذه الملوثات.
- “على الرغم من أنه لا يمكن لأي عين بشرية رؤية وفَهم جوهر الله، إلا أن هؤلاء البشر يروا الله بعين الإيمان ويستمتعون به في هذه الحياة، وإن كانوا يرونه من خلال مرآة معتمة جدًا الآن، لكنهم في الحياة القادمة سيرونه وجهًا لوجه.” بوله (Poole)
- يمكن للشخص النقي القلب أن يرى الله في الطبيعة.
- يمكن للشخص النقي القلب أن يرى الله في الكتاب المقدس.
- يمكن للشخص النقي القلب أن يرى الله في عائلة كنيسته.
- “في أحد الأيام، على مائدة عشاء في فندق، كنت أتحدث مع أحد الرعاة حول بعض الأمور الروحية، عندما أدلى أحد الرجال المحترمين – كان يجلس أمامنا، وكان يرتدى منديلًا للطعام مطويًا تحت ذقنه، وكان وجهه يشير إلى ولعه بالخمر – بهذه الملاحظة، قائلًا: ’يبلغ عمري الآن ستين عامًا، ولم أكن على دراية بأي أمر روحاني.‘ لم نقل ما فكرنا فيه، لكننا اعتقدنا أنه من المحتمل جدًا أن ما قاله كان صحيحًا تمامًا، وأن هناك عدد أكبر بكثير من الناس في العالم قد يدلون بالتصريح ذاته كما أفاد هذا الرجل. ولكنه، قد أثبت فقط أنه لم يكن واعيًا بأي من الأمور الروحانية، وليس أن الآخرين لم يكونوا على وعي بها.” سبيرجن (Spurgeon)
- جوهريًا، يجب أن تصبح هذه العلاقة الحميمة مع الله أكبر دوافعنا نحو النقاء، أكبر من الخوف من الامساك بنا متلبسين أو الخوف من العواقب.
- “على الرغم من أنه لا يمكن لأي عين بشرية رؤية وفَهم جوهر الله، إلا أن هؤلاء البشر يروا الله بعين الإيمان ويستمتعون به في هذه الحياة، وإن كانوا يرونه من خلال مرآة معتمة جدًا الآن، لكنهم في الحياة القادمة سيرونه وجهًا لوجه.” بوله (Poole)
ز ) الآية (٩): طوبى لصانعي السلام.
٩طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ.
- طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ: هذا لا يصف أولئك الذين يعيشون في سلام، بل أولئك الذين يجلبون السلام بالفعل، الذين يغلبون الشر بالخير. وتوجد طريقة واحدة لتحقيق ذلك، وهي من خلال نشر الإنجيل، لأن الله قد أوكل إلينا خدمة المصالحة (كورنثوس الثانية ١٨:٥). فمن خلال الكرازة، نصنع السلام بين الله والإنسان الذي رفضه وأهانه.
- “إن الآية التي تسبقها تتحدث عن البركة التي يحصل عليها ’أَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ.‘ ومن الجيد أن نفهم هذا؛ إذ يجب أن نكون ’أولًا أنقياء، ومن ثمَّ مسالمين.‘ إن مسالمتنا لا تكون أبدًا اتفاقًا مع الخطية، أو تحالفًا مع الشر، بل يجب أن نولي وجوهنا مثل الصوان على كل ما يتعارض مع الله وقداسته. وكوننا نحوي في نفوسنا حالة من الاستقرار، يمكننا أن نكون مسالمين باستمرار تجاه البشر.” سبيرجن (Spurgeon)
- نحن نعتقد عادة أن هذا عمل ووظيفة صانع السلام، أي الشخص الذي يقف بين طرفي النزاع. وقد تكون هذه طريقة واحدة لتحقيق ذلك؛ لكن يمكن للمرء أيضًا إنهاء النزاع وأن يكون صانع سلام عندما يكون طرفًا في النزاع ذاته؛ عندما يكون هو المُصاب أو الطرف المُساء إليه.
- “الشيطان هو الذي يثير الشغب؛ الله هو الذي يحب المصالحة، وهو الآن، من خلال أولاده، كما كان سابقًا من خلال ابنه الوحيد، عازمٌ على صنع السلام.” ستوت (Stott)
- لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ: إن مكافأة صَانِعِي السَّلاَمِ هو أن يتم الاعتراف بهم كأبناء الله الحقيقيين. فهم يشتركون في شغفه بالسلام والمصالحة، وتحطيم الجدران التي تفصل بين الناس.
- الله يبارك صانع السلام؛ على الرغم من أن صانع السلام قد يتعرض لسوء المعاملة من قبل الناس، لكنه مبارك من الله. لقد أنعم الله عليه بأن يكون من بين أبناء الله، وتم تبنيه في عائلة الله، وهو محاط بأخوة وأخوات على مر العصور.
- “على الرغم من أنها، في معظم الأحيان، تعتبر وظيفة غير مستحبة (من قبل البشر) بأن يتوسط شخص ما، ويسعى إلى مواجهة الفتنة، ويجمع مجددًا شتات أولئك الذين ذهبوا بعيدًا؛ ولكنه يفعل ذلك من أجل الله، لأنه سيقدم الحساب لاحقًا، ليس كمتدخل فيما لا يعنيه أو كفضولي، بل كإبنٍ لله.” تراب (Trapp)
- “وأحيانًا يضع نفسه بين الاثنين، عندما يكونان غاضبين جدًا، ويتلقى الضربات من كلا الجانبين، لأنه يعلم أن يسوع قد فعل ذلك، إذ أخذ الضربات من أبيه ومِنا أيضًا، وهذا لكي يحمل المعاناة بدلًا منا، لكي في النهاية يصنع السلام بين الله والإنسان.” سبيرجن (Spurgeon)
ح) الآيات (١٠-١٢): ردة فعل العالم تجاه هذه النوعية من البشر: الاضطهاد.
١٠طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. ١١طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ. ١٢اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ.
- طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ: هؤلاء المباركون يتعرضون للاضطهاد مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ ومن أجل خاطر يسوع (مِنْ أَجْلِي)، وليس بسبب غبائهم أو تعصبهم. لقد أدرك بطرس أن المعاناة قد تأتي لبعض المؤمنين لأسباب أخرى غير إخلاصهم ليسوع (بطرس الأولى ١٥:٤-١٦)، ولكن هذا ليس ما يتحدث عنه يسوع هنا.
- لا يتم تقييم سمات الشخصية الموضحة في التطويبات بثقافتنا الحديثة. فنحن لا نعترف أو نعطي جوائز للناس “الأكثر نقاءًا في القلب” أو “الأكثر مسكنة بالروح.” وعلى الرغم من أن ثقافتنا لا تفكر كثيرًا في هذه الصفات الشخصية، إلا أنها تصف شخصية مواطني ملكوت الله.
- “وهكذا يضيف الملك تطويبة ثامنة، مضاعفةً، لأولئك الذين بسبب إخلاصهم يتحملون المعاناة.” مورجان (Morgan)
- طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي: يضع يسوع الشتائم والخبث المُعلن، في دائرة الاضطهاد. فلا يمكننا اقتصار فكرتنا عن الاضطهاد على المعاناة الجسدية أو التعذيب فقط.
- في إنجيل متى ١٠:٥ يتعرضون للاضطهاد من أجل البر؛ وفي إنجيل متى ١١:٥ يتعرضون للاضطهاد من أجل يسوع. وهذا يدل على أن يسوع كان يتوقع أن تُعاش حياتهم الصالحة حسب مثاله وإكرامًا له.
- لم يمر وقت طويل حتى أصبحت كلمات يسوع هذه حقيقة بالنسبة لأتباعه. فلقد سمع المؤمنون الأوائل الكثير من الأعداء يتفوهون بكُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ ضدهم كَاذِبينَ من أجل خاطر يسوع. ولقد تم اتهام المؤمنين بالآتي:
- أكل لحوم البشر، بسبب التحريف الجسيم والمُتعَمَّد لممارسة العشاء الرباني.
- الفجور، بسبب التحريف الجسيم والمُتعَمَّد لولائم المحبة الأسبوعية، واجتماعاتهم الخاصة.
- التعصب الثوري، لأنهم اعتقدوا أن يسوع سيعود ويضع نهاية مروعة للتاريخ.
- تقسيم العائلات، لأنه عندما يصبح أحد الزوجين أو أحد الأبوين مؤمنًا، غالبًا ما يحدث تغيير وانقسام في الأسرة.
- الخيانة، لأنهم لم يكرموا الآلهة الرومانية ولم يشاركوا في عبادة الإمبراطور.
- افْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا: حرفيًا، يمكننا ترجمة هذه العبارة ليقول إن المضطهدين يجب أن “يقفزوا من شدة الفرح” لماذا؟ لأن المضطهدين سيكون لهم أجرًا عظيمًا في السماء، ولأنهم سيكونون مثل الأَنْبِيَاءَ العظماء الذين تعرضوا للاضطهاد أيضًا.
- “كلمة قوية من صياغة العصر الهيلينستي، تنطوي على ’القفز الكثير‘ ولها دلالة ’اظهار فرحة لا يمكن كبحها.‘ إنها فرحة أحد متسلقي جبال الألب وهو يقف على قمة الجبل المغطى بالثلوج.” بروس (Bruce)
- يذكر تراب (Trapp) أسماء بعض الناس الذين فرحوا في الواقع وكانوا متهللين عندما تعرضوا للاضطهاد. فلقد تقدم جورج روبر (George Roper) نحو الخازوق وهو يقفز من الفرح، ثم عانق الخازوق، الذي كان على وشك أن يُشّد إليه ليموت حرقًا، كصديق. ووثب الدكتور تايلور (Taylor) ورقص قليلًا عندما حان موعد إعدامه، وعندما سئل كيف حاله، قال: “أنا بخير، الحمد لله، أيها السيد، لم أكن أفضل حالًا مما أنا عليه الآن، إذ أنني على مقربة من موطني، بل بالحري لقد وصلت إلى بيت أبي.” وهناك لورنس سوندرز (Lawrence Saunders)، الذي احتضن بوجهه المبتسم خازوق إعدامه، وقبّله قائلًا: “مرحبًا بصليب المسيح، مرحبًا بالحياة الأبدية.”
- ومع ذلك، فإن العالم يضطهد هؤلاء الأشخاص الصالحين لأن القيم والشخصية المُعبَّر عنها في هذه التطويبات تتعارض تمامًا مع طريقة تفكير العالم. وقد يكون الاضطهاد الذي نتعرض له لا يُقارن كثيرًا بالاضطهاد الذي يتعرض له الآخرون، ولكن إذا لم يتكلم أحد عنك بالشر، فهل هذه التطويبات ستجد طريقها في حياتك؟
ثالثًا. حيث يريد يسوع من تلاميذه أن يظهروا تلمذتهم
أ ) الآية (١٣): يجب أن يكون أتباع يسوع كالملح.
١٣أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ.
- أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ: التلاميذ مثل الملح لأن ثمنهم غالٍ. ففي زمن يسوع، كان الملح سِلعة قيّمة. وكان أحيانًا يُدفع الملحُ للجنود الرومانيين، مما أنشأ عبارة “يستحق ملحه.”
- أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ: التلاميذ يشبهون الملح لأن لديهم تأثيرًا حافظًا. فقد كان الملح يستخدم للحفاظ على اللحوم وإبطاء التعفُن. فيجب أن يكون للمؤمنين تأثيرًا منقيًا لثقافتهم.
- أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ: التلاميذ مثل الملح لأنهم يضيفون نكهة. فيجب أن يكون المؤمنون أناسًا يقدمون نكهة عذبة لمن حولهم.
- “التلاميذ، إذا كانوا مخلصين لدعوتهم، لجعلوا الأرض مكانًا أنقى وألذ.” فرانس (France)
- وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ: يجب أن يحافظ الملح على “المُلوحة” ليكون ذات قيمة. فعندما لا يكون الملح جيدًا، يُدَاسَ. وبالطريقة ذاتها، يفقد الكثير من المؤمنين “نكهتهم” ويصبحون بلا فائدة.
- “كان معظم الملح في العالم القديم يشتق من مستنقعات الملح أو ما شابه، بدلًا من تبخير الماء المالح، وبالتالي كان يحتوي على العديد من الشوائب. وكان يمكن تصفية الملح الفعلي، كونه أكثر قابلية للذوبان من الشوائب، تارِكًا رواسب مخفّفة ذات قيمة ضئيلة.” كارسون (Carson)
ب) الآيات (١٤-١٦): يجب أن يكون أتباع يسوع كالنور.
١٤أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، ١٥وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. ١٦فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.
- أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ: يوجه يسوع للمؤمنين إطراءً عظيمًا وفي الوقت ذاته يكلفهم بمسؤولية كبيرة عندما يقول أننا نور العالم، لأنه أطلق هذا اللقب على نفسه عندما كان يعيش على هذه الأرض (يوحنا ١٢: ٨ ؛ ٥: ٩).
- نُورُ الْعَالَمِ يعني أننا لسنا مستقبلين للنور فحسب، ولكننا أيضًا نقدم النور. يجب أن يكون لدينا اهتمام أكبر من أنفسنا فقط، فلا يمكننا العيش لأنفسنا فقط؛ يجب أن يكون هناك شخص نعكس نور المسيح له، وأن نفعل ذلك بمحبة.
- “لقد أطلق اليهود هذا اللقب على بعض معلمي اليهود البارزين. وتحدثوا بحذر شديد عن معلم اسمه يهوذا أو آخر اسمه يوحنا، وقالوا أنهم كمصابيح الكون، وأنوار العالم. فلا بد أن الأمر كان يبدو غريبًا في مسامع الكتبة والفريسيين عندما سمعوا، أن هذا اللقب نفسه يُطلق على عدد من الفلاحين وصيادي السمك ملفوحي الوجوه وخشني الأيادي، الذين أصبحوا تلاميذًا ليسوع.” سبيرجن (Spurgeon)
- لم يحثنا يسوع أبدًا لكي نصبح ملحًا أو نورًا. لقد قال ببساطة إننا كذلك بالفعل، سواء كنا نتمم هذه المسؤولية الملقاة على عاتقنا أم نفشل فيها.
- إن الفكرة الرئيسي في كل من أمثلة الملح والنور هو التميُز. فالملح ضروري لأن العالم يتعفن ويتحلل، وإذا كانت المسيحية لدينا متعفنة ومتحللة، فلن تكون ذات نفع. فهناك حاجة إلى النور لأن العالم في الظلام، وإذا كانت مسيحيتنا تحاكي الظلام، فليس لدينا ما نظهره للعالم. ولكي نكون فعالين، يجب أن نطلب التميُز المسيحي ونظهره. فلا يمكننا أبدًا التأثير على العالم من أجل خاطر يسوع، من خلال مشابهتنا للعالم.
- “يا له من عالم مسكين، يتلاشى في ظُلمة دامسة، ولا يمكنه الحصول على النور إلا إذا استقبله من خلالنا! أن نكون نور العالم فهذا يحيط بالحياة بأكثر المسؤوليات ضخامة، ومن ثمَّ يتم استثمارها مع أكثر الكرامات هيبة. اسمعوا هذا، أيها الرجال والنساء المتواضعون، أيها الذين ليست لديهم أية صفة رسمية في المجتمع ، أنتم نور العالم. إذا كنت تحترق خافتًا، فنورك الخافت يضئ العالم، وبهتانه هو ظلامه.” سبيرجن (Spurgeon)
- فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ: إن الغرض من النور هو إلقاء الضوء على ما هو موجود وكشف ما بالداخل. لذلك يجب أن يكون النور ظاهرًا إن كان له أن يكون نافعًا، أما إذا كان مخفيًا تَحْتَ مِكْيَالِ، فإنه لم يعد مفيدًا.
- “علِم السيد المسيح أن الذين لديهم النور بداخلهم ليكونوا نور العالم، سوف يتعرضون للإغراء بأن يخفوا نورهم. فالنور سوف يلفت انتباه العالم لهم، وبالتالي يبث فيهم نيه أن يكرهوا النور.” بروس (Bruce)
- “لم يفكر المسيح أبدًا في إنتاج مؤمنين سريين، أي مؤمنون لا يُظهرون فضائلهم أبدًا، أو سُياح يسافرون إلى السماء ليلًا، ولا يراهم زملائهم السياح أبدًا أو أي شخص آخر.” سبيرجن (Spurgeon)
- تذكرنا أمثلة الملح والنور أيضًا بأن الحياة الموضحة في التطويبات ليس من شأنها أن تُعاش في عزلة، إذ نفترض غالبًا أن تلك الخواص الداخلية لا يمكن تطويرها أو إظهارها إلا بمعزل عن العالم، لكن يسوع يريدنا أن نعيش بها ونظهرها للعالم.
- لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل: مِثل هذه المدينة البارزة لا يمكن إخفاؤها. إذا رأيت هذه المدينة من مسافة بعيدة، فمن الصعب أن تغمض عينيك عنها. وبالطريقة نفسها، أراد يسوع أن يعيش شعب ملكوته حياة مرئية تجذب الانتباه إلى جمال عمل الله في الحياة.
- “كما لو أن مخلصنا كان ينبغي أن يقول: ’كان عليك أن تكون مقدسًا، لأن كلامك لا يمكن أن يختبئ، لأنك مثل مدينة مبنية على جبل، واضحة لكل عين. لذا فكل عيون البشر ستنظر إليك.‘” بوله (Poole)
- “لم تكن مدينة صفد بعيدة عن هذا الجبل الصغير، حيث علم يسوع، التي من المفترض أن تكون هي مدينة بتوليا القديمة. فكانت المدينة مبنية على جبل عالٍ للغاية وواضح، وكانت تُرى من قريب ومن بعيد. ألا يجوز لنا أن نفترض أن المسيح كان يلمح إلى هذه المدينة، على حد تعبيره: أيُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل؟” موندريل (Maundrell) تم الاستشهاد به في كلارك (Clarke).
- وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ: إن فكرة المنارة تعطي إحساسًا بأننا سنكون متعمدين أن نترك هذا المصباح مضاءً. وحتى مع وضع المصابيح عاليًا، بحيث يمكن أن يكون ضوءها أكثر فعالية، يجب أن نبحث عن طرق لجعل نورنا يتألق بطرق أكبر وأوسع.
- “كم من حامل مصباح تم العثور عليه في ساحة الكلوزيوم، وفي المحارق العلنية التي قام بها الوثنيون والباباويون، وفي جميع أنماط الاستشهاد الأخرى التي شُدَّ المؤمنون بالمسيح إليها لكي يتم الإضاءة بأجسادهم المُحترقة.” سبيرجن (Spurgeon)
- “يقول النص إن السراج يعطي الضوء لكل من في المنزل. وبعض الأساتذة الجامعيين يعطون الضوء فقط لجزء من المنزل. لقد عرِفتُ سيدات رائعات جدًا مع الجميع باستثناء أزواجهن، حيث أنهن يزعجونهم ليلة بعد الأخرى، ولا يضيئن لهم. ولقد عرِفتُ أزواجًا يقضون معظم وقتهم في اجتماعات الكنيسة، حتى أنهم يهمِلون منازلهم، وبالتالي يفتقرن زوجاتهم إلى النور.” سبيرجن (Spurgeon)
- “لقد قال بيدا (Bede) المُكرَّم، عندما كان يفسر هذا النص، أن المسيح يسوع جلب نور الألوهية إلى مِشكلة إنسانيتنا البائسة، ومن ثمَّ وضعها على شمعدان كنيسته، حتى بذلك يضيء بيت العالم بأسره. وهكذا حدث بالفعل.” سبيرجن (Spurgeon)
- لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ: إن الهدف من جعل نورنا يُضئ هَكذا من خلال القيام بالأعمال الحسنة هو أن الآخرين سوف يمجدون الله، وليس نحن.
- “إن الهدف من سطوعنا ليس أن الناس يرون كيف نحن صالحون، ولا حتى أن يرونا على الإطلاق، بل أن يروا النعمة فينا والله فينا، فيهتفون قائلين: ’يا له من آب لدى هؤلاء الناس.‘ أليست هذه هي المرة الأولى في العهد الجديد التي يُقال فيها أن الله أبونا؟ أليس من الاستثنائي أن تكون المرة الأولى التي يبرز فيها هذا الحق، هي عندما يتكلم عن رؤية الناس للأعمال الحسنة التي لأولاد الله؟” سبيرجن (Spurgeon)
- أشار يسوع إلى اتساع نطاق تأثير التلاميذ الذي ربما كان يبدو سخيفًا في ذلك الزمان؛ إذ كيف يمكن لهؤلاء الجليليين المتواضعين أن يُملحوا الأرض، أو أن يضيئوا العالم؟ لكنهم قد قاموا بذلك.
- إن الصور الثلاث قوية وهي مجتمعة، تتحدث عن تأثير تلاميذ يسوع في العالم:
- الملح هو عكس الفساد، ويمنع الفساد من أن يزداد سوءًا.
- يمنح النور عطية التوجيه، حتى يتمكن أولئك الذين فقدوا طريقهم من العثور على المسار عائدين للمنزل.
- المدينة هي نتاج النظام الاجتماعي والحكومة؛ وهي ضد الفوضى والاضطراب.
- يعلق بروس (Bruce) على هذه الإشارة الأولى إلى الله كأب، قائلًا: “نحن نعلم أن الله كأب، يُسرُ بالسلوك النبيل؛ كما يجد الآباء البشريين سرورًا في الأبناء الذين يبلون بلاءً حسنًا بشجاعة.”
رابعًا. الشريعة والبر الحقيقي
أ ) الآيات (١٧-١٨): علاقة يسوع بالشريعة.
١٧لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. ١٨فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ.
- لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ: لقد بدأ يسوع هنا بمناقشة طويلة خاصة بالناموس، وأراد أن يوضح أنه لم يعارض ما أعطاه الله لإسرائيل فيما نسميه بالعهد القديم. فلم يأت لينقض كلمة الله، بل لتحريرها من الطريقة التي فسرها بها الفريسيون والكتبة.
- “كان اليهود في زمن يسوع يشيروا إلى الكتاب المقدس باسم ’الناموس والأنبياء‘ (متى ١٢:٧، ١٣:١١، ٤٠:٢٢، لوقا ١٦:١٦، يوحنا ٤٥:١، أعمال الرسل ١٥:١٣، ٢٣:٢٨، رومية ٢١:٣)؛ وتأتي عبارة ’الناموس والأنبياء والمزامير‘ في (لوقا ٤٤:٢٤)؛ وتأتي كلمة ’الناموس‘ منفردة في (متى ١٨:٥، يوحنا ٣٤:١٠، ٣٤:١٢، ٢٥:١٥، كورنثوس الأولى ٢١:١٤).” كارسون (Carson)
- “لقد جسَدَّ ربُنا يسوع جميع وصايا الناموس في حياته، لإظهار أنه لم يكن يقصد أبدًا أن ينقض الناموس. ففي شخصه كانت هناك طبيعة تتفق تمامًا مع شريعة الله. وكما كانت طبيعته هكذا كانت حياته.” سبيرجن (Spurgeon)
- الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كانت هذه العبارة (التي تعني آمين في اليونانية) هي توقيع المسيح الخاص؛ فلا يوجد أي معلم آخر قد استخدمها؛ إنها تشبه ما كان يقوله الأنبياء: ’هكذا يقول الرب،‘ لتمييز قول جوهري وجازِم.” فرانس (France)
- مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ: أراد يسوع أن يوضح أن لديه سلطة فوق سُلطة ناموس موسى، ولكن ليس في تناقض معها. فلم يضِف يسوع شيئًا إلى الناموس، سوى أمر واحد لم يضِفه أحد إلى الناموس: ألا وهو الطاعة التامة. وهذه بالتأكيد طريقة واحدة جاء بها يسوع ليُكَمَّلَ الناموس.
- على الرغم من أنه كثيرًا ما تحدى تفسيرات الإنسان للناموس (خاصة اللوائح الخاصة بيوم السبت)، فإن يسوع لم يخرق قط قانونَ الله.
- “يوجد هنا من هو أعظم من العهد القديم ومن موسى والأنبياء. ولكن هذا العظيم مليء بالتقدير للمؤسسات والكتب المقدسة الخاصة بشعبه؛ فهو لم يأتِ لإلغاء الناموس أو الأنبياء.” بروس (Bruce)
- “يسوع يُكَمَّل الناموس والأنبياء، فهي تشير إليه، وهو إتمامٌ لها.” كارسون (Carson)
- أكْمَل يسوع تعاليم الناموس والأنبياء في أنه أتى بالوحي الكامل.
- أكْمَل يسوع الإنسان النبوات في الناموس والأنبياء من حيث أنه الموعود بها، موضحًا المرموز إليه وراء ظلال الرموز.
- أكْمَل يسوع المطالب الأخلاقية والقانونية للناموس والأنبياء لأنه أطاعهم تمامًا وأعاد تفسيرهم حسب ما جاء فيهم من حق كتابي.
- أكْمَل يسوع عقوبة الناموس والأنبياء بموته على الصليب، وأخذ العقوبة التي كنا نستحقها.
- كتب الرسول بولس عن هذا الموضوع قائلًا: “لأَنَّ غَايَةَ النَّامُوسِ هِيَ: الْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ.” (رومية ٤:١٠).
- “وخُلاصة القول، لقد أكمل المسيح الناموسَ: أولًا، في حد ذاته؛ فقد كان الناموس فقط هو الظل، والتمثيل النموذجي، للأشياء الصالحة القادمة؛ وأضاف إليه ما كان من الضروري لجعله كاملًا، ألا وهو ذبيحته الخاصة، التي بدونها لا يمكن إرضاء الله، ولا تقدس البشر. ثانيًا، لقد أكمله في ذاته عن طريق الخضوع لوصاياه بطاعة تامة، وتكميلها بموته على الصليب. ثالثًا، لقد أكمل هذا الناموس وأقوال أنبيائه، في أتباعه، من خلال منحهم النعمة ليحبوا الرب من كل قلوبهم وأرواحهم وعقولهم وقوتهم وأقربائهم كأنفسهم؛ لأن هذا هو كل الناموس والأنبياء.” كلارك (Clarke)
- لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ: كان الحرف (jot) والنقطة (tittle) علامات صغيرة في الكتابة العبرية. ويخبرنا يسوع هنا أن أفكار كلمة الله ليست هي المهمة فحسب، بل إن الكلمات نفسها – حتى حروف الكلمات – مهمة. وهذا يبين لنا مدى تقدير الله لكلمته.
- وتشير’يوت‘ (jot) إلى حرف yod (י)، أصغر حرف في الأبجدية العبرية. ويبدو كنصف حرف.
- أما النقطة ’تيتل‘ (tittle) فهي علامة صغيرة في الحرف العبري، وإلى حد ما تشبه تقاطع الخطين في حرف (t) أو الذيل في حرف (y).
- إن الفرق بين حرف ’بيت‘ (ב) وحرف ’كاف‘ (כ) في الكتابة هو ’تيتل‘ (tittle).
- إن الفرق بين حرف ’دالِت‘ (ד) وحرف ’ريش‘ (ר) هو ’تيتل‘ (tittle).
- إن الفرق بين حرف ’ڤاڤ‘ (ו) وحرف ’زاين‘ (ז) هو ’تيتل‘ (tittle).
- “على الرغم من أن كل الأرض والجحيم يجب أن يجتمعا لعرقلة إنجاز التصميمات العظيمة للإله القدير، إلا أنها ستذهب سدى؛ فحتى معنى حرف واحد لن يضيع. وكلمات الله، التي تلفت الانتباه إلى تصميماته، غير قابلة للتغيير مثل طبيعته نفسها.” كلارك (Clarke)
- حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ: هذا صحيح في بعض المعاني المختلفة:
- إنه التأكيد على أن يسوع نفسه قد أكمل الناموس من خلال طاعته الكاملة.
- إنه التأكيد على أن يسوع نفسه قد أكمل الناموس فينا من خلال طاعته الكاملة. (رومية ٤:٨).
- إنه التأكيد على أن خطة الله لن يتم تنحيتها أبدًا إلى أن يتم إكمال كل الأشياء في نهاية الزمن.
ب) الآيات (١٩-٢٠): علاقة التلميذ بالناموس.
١٩فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. ٢٠فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ.”
- فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى: إن الوصايا يجب أن تطاع كما أوضحتها وحققتها حياة يسوع وتعليمه، وليس حسب تفكير السلطات الدينية المتزمت في زمن يسوع. فعلى سبيل المثال، يأمر الناموس بتقديم الذبيحة، لكن تم تحقيق ذلك في يسوع، لذلك نحن لا نواجه خطر أن نُدعى الأصغر في ملكوت السماوات من خلال عدم مراعاة التضحية بالحيوان على النحو المُفصَّل في ناموس موسى.
- وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ: لقد انتهى ارتباط المؤمن بالناموس كوسيلة لكسب البر أمام الله. وهناك نص كتابي يشرح هذا، في رسالة غلاطية ٢١:٢ “لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللهِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ، فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ!” ومع ذلك، فالناموس هو التعبير التام عن شخصية الله ومتطلباته الأخلاقية.
- يدفعنا الناموس نحو يسوع ليتم تبريرنا، لأن الناموس يُظهر لنا عدم قدرتنا على إرضاء الله في أنفسنا. ولكن بعد أن نأتي إلى يسوع، يدفعنا يسوع نحو الناموس لنعرف قلب الله من جهة سلوكنا وتقديسنا.
- إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ: بالنظر إلى التفاني المذهل للناموس الذي أظهره الكتبة والفريسيون، كيف يمكننا أن نأمل في تجاوز برَّهُم؟
- كان الفريسيون دقيقين للغاية في حفظهم للناموس، حتى أنهم كانوا يقدمون العشور من التوابل الصغيرة التي تم الحصول عليها من حدائقهم العُشبية (متى ٢٣:٢٣). وفي العصر الحديث، يظهرُ اليهود المتشددين جوهر هذا الإخلاص لله. ففي أوائل عام ١٩٩٢، ترك المستأجرون ثلاث وحدات سكنية في حي لليهود المتشددين في إسرائيل، تحترق وتُسوى بالأرض، وهم يسألون المعلم اليهودي عما إذا كانت مكالمة هاتفية إلى إدارة الإطفاء في يوم السبت تنتهك الناموس اليهودي أم لا. فيحظر على اليهود الملتزمين استخدام الهاتف في يوم السبت، لأن القيام بذلك من شأنه أن يُطلق تيارًا كهربائيًا، الذي يعتبر شكلًا من أشكال العمل. وفي نصف ساعة استغرق الأمرُ المعلم اليهودي ليقرر بالموافقة، ولكن بعد أن امتدت النيران إلى الوحدتين السكنيتين المجاورتين.
- تُظهر حياة بولس كيف كان بر الفريسيين (أعمال الرسل ٦:٢٣، ٥:٢٦، فيلبي ٥:٣).
- يمكننا أن نَزيد على برهم لأن برَنا يتجاوز بر الكتبة والفريسيين في النوع وليس في الدرجة. ويصف بولس نوعيّ البر في (فيلبي ٦:٣-٩) في قوله: “مِنْ جِهَةِ الْبِرِّ الَّذِي فِي النَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ. لكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحًا، فَهذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ، وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ، بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ، الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ.”
- على الرغم من أن بر الكتبة والفريسيين كان مثيرًا للإعجاب عندما يراقبه الإنسان، إلا أنه لم يستطع أن يقف أمام الله (إشعياء ٦:٦٤).
- إذًا، لن نكون أبرارًا من خلال حفظنا للناموس. فعندما نعرف ماذا يعني حفظنا للناموس حقًا، سوف نشكر يسوع أنه يقدم لنا نوعًا مختلفًا من البر.
خامسًا. يسوع يفسر الناموس في حقيقته
في هذا القسم، يُظهر يسوع المعنى الحقيقي للناموس. ولكن هذا ليس يسوع ضد ناموس موسى؛ بل إنه يسوع ضد التفسيرات الخاطئة والسطحية لناموس موسى. ففيما يتعلق بالناموس، فإن خطأي الكتبة والفريسيين هما أنهم حصروا وصايا الله (كما في الوصايا المتعلقة بجريمة القتل) وتوسعوا في وصايا أخرى واعطوها معنى بعيدًا كل البعد عن قصده الأصلي (كما في الوصايا المتعلقة بالطلاق).
أ ) الآيات (٢١-٢٢): يسوع يفسر وصية ’لا تقتُل.‘
٢١قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. ٢٢وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ.
- قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: هؤلاء الناس لم يدرسوا حقًا ناموس موسى بأنفسهم. فكل ما كان لديهم هو تعليم الكتبة والفريسيين عن الناموس. وفي هذه المسألة بالذات، كان الناس قد سمعوا الكتبة والفريسيين يعلمون قائلين: “لاَ تَقْتُلْ.”
- عندما يقول يسوع “قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ…” فإنه يذكرنا بأن شيئًا ليس صحيحًا لمجرد أنه قديم. وإذا لم يكن ذلك صحيحًا، فلن تكون أقدميته ذات تأثير. “إن الأقدمية المنفصلة عن الحقيقة ليست سوى قذارة عتيقة، ويجب أن يكون التقدير الموجه لها هو ذاته الموجه لنفاية عتيقة قذرة كريهة الرائحة.” تراب (Trapp)
- وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إن يسوع يُظهر سلطته، فهو لا يعتمد على كلمات الكتبة أو المعلمين السابقين. فهو يعلمهم الفَهم الحقيقي لناموس موسى.
- “يا له من ملك رائع بالنسبة لنا، ذاك الذي يمتد صولجانه على عالم شهواتنا الداخلية! كيف قالها سياديًا: ’وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ!‘ من هو الكيان إلا الله الذي لديه سلطة التحدث بهذه الطريقة؟ كلمته هي القانون. وهكذا يجب أن تكون، فنراه يتعامل مع الإثم من منابعه، ويمنع النجاسة في القلب.” سبيرجن (Spurgeon)
- إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ: كان تعليم الكتبة والفريسيين قائلين (“لاَ تَقْتُلْ“) صحيحًا بما فيه الكفاية. ومع ذلك، فقد علموا أيضًا أنه قد يُسمح بأي شيء أقل من القتل. ويصحح يسوع ذلك، ويوضح أنه ليس فقط أولئك الذين يرتكبون فعل القتل هم المُسْتَوْجِبون الْحُكْمِ، فالذين لديهم نية القتل في قلوبهم هم أيضًا مُسْتَوْجِبون الْحُكْمِ.
- يكشف يسوع جوهر بدعة الكتبة. فبالنسبة لهم، كان الناموس في الواقع مجرد مسألة أداء خارجيّ، وليس قلبي. فيعيد يسوع الناموس إلى مسألة داخلية قلبية. “لا يبدأ الإشراف على الملكوت بإلقاء القبض على مجرم يداه مملؤتان بالدماء؛ بل باعتقال الإنسان الذي ولدت فيه روح القتل للتو.” مورجان (Morgan)
- يجب أن نؤكد أن يسوع لا يقول إن الغضب سيء مثل القتل. فمن المُحير جدًا من الناحية الأخلاقية أن نعتقد أن الشخص الذي يصرخ في وجه شخص آخر في غضب، قد أخطأ بشكل سيء، ويشبه شخص قتل شخص آخر في لحظة غضب. فقد أكد يسوع أن الناموس يدين كليهما، ولكنه لم يقل أن الناموس يعتبرهما الأمر ذاته. فالناموس البشري يتعامل فقط مع السلوك الخارجي للقتل، لكن يسوع أعلن أن تلاميذه قد فهموا أن شخصية الله الأخلاقية لا تتعامل فقط مع النتيجة، بل وأيضًا مع الأصل والجوهر الذي نتج عنه القتل.
- يُعلق باركلي (Barclay) على الكلمة اليونانية القديمة المحددة المترجمة ’يَغْضَب‘ قائلًا: “لذلك يحرم يسوع إلى الأبد الغضبَ الذي يتم احتضانه، والغضب الذي لا يُنسى، والغضب الذي يرفض أن يتم تهدئته، والغضب الذي يسعى للانتقام.”
- “إن كلمة ’بَاطِلًا‘ ربما تعكس تلطيفًا مبكرًا واسع النطاق لتعليم يسوع القوي. فغيابها لا يثبت أنه لا يوجد استثناء.” كارسون (Carson)
- وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ: أن تدعو شخصًا ما بكلمة ’رَقَا‘ يعبر عن ازدرائك لذكائه. وأن تدعو شخصًا ما بكلمة ’أَحْمَقُ‘ يعبر عن ازدرائك بشخصيته. فيمكن أن يكسر شخص ما جوهر الناموس الذي ينهى عن القتل، حتى لو لم يرتكب ذلك الشخص جريمة قتل.
- لقد ترجم المفسرون الفكرة التي وراء كلمة ’رَقَا‘ بأنها تعني: الشخص الأبله والأخرق والسفيه والتافه والبليد والمعتوه. “كلمة ’رَقَا‘ غير قابلة للترجمة تقريبًا، لأنها تصف نغمة الكلام أكثر من أي شيء آخر. ولهجتها الكاملة هي لهجة الازدراء. إنها كلمة صادرة من شخص يحتقر الآخر بازدراء متعجرف.” باركلي (Barclay)
- “هذه ليست كلمات غير شائعة أو كلمات بذيئة للغاية، لكنها تشير إلى موقف من الاحتقار الغاضب.” فرانس (France)
- هناك جانب من المبالغة في حديث يسوع فيما يخص الغضب والاحتقار؛ إذ أنه يتحدث عن كلمات منطوقة قوية صادرة من شخص أثارت فيه كل أشكال اللاإنسانية مشاعرَ البُغض العاطفيّ. إن هذه الكلمات ذات قيمة قصوى لأنها تنم عن شخصية الناطق بها.” بروس (Bruce)
ب) الآيات (٢٣-٢٦): المزيد عن مشكلة العلاقات الشخصية.
٢٣فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، ٢٤فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلًا اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ. ٢٥كُنْ مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ. ٢٦اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ!
- اتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ: يعتبر يسوع أن التصالح مع أخٍ هو أهم بكثير من أداء الواجب الديني. قال يسوع: اذْهَبْ أَوَّلًا اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ. فلا يمكننا أن نعتقد أن خدمتنا تجاه الرب تبرر العلاقات السيئة مع الآخرين. ويجب أن نفعل ما أمر به بولس في رومية ١٨:١٢ “إنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ.”
- كُنْ مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا: يأمرنا يسوع بتسوية الغضب والحقد بسرعة مع الآخر. فعندما نتغاضى عن هذه الأمور أو نتجاهلها، فإنها تسجننا فعلًا (فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ).
- يعبر بولس عن نفس الفكرة في رسالته إلى أهل أفسس ٢٦:٤-٢٧ “اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ، وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَانًا.” فعندما نكبت غضبنا تجاه الآخر، فبذلك نخطئ، ونعطي مكانًا لإبليس.
- اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ!: يستخدم يسوع هنا صورة مجازية. فالعقوبة النهائية التي يدفعها المرء على يد الْقَاضِي أو الشُّرَطِيِّ أو فِي السِّجْنِ لا يمكن أن تُسدد بالمال (الْفَلْسَ الأَخِيرَ). ومع ذلك، فإن الواقع الذي تقترحه اللغة المجازية القوية هنا، يذكرنا بأن العقاب الأبدي هو حقًا ليس له نهاية.
- “دع الذين يؤمنون بكسب رضى الله بالأعمال أن يذهبوا أولًا إلى الجحيم بسبب خطاياهم، والبقاء هناك إلى الأبد؛ ثم بعد ذلك، دعهم يذهبون إلى أبدية أخرى يخلقها الله، حيث يمارسون فيها أعمالهم الصالحة ويطالبون بالمكافأة. ربما سيكون الطفل الذي يحاول أن يُفرغ ماء البحر بملعقة أسرع من الخاطئ البائس الذي في الجحيم، يحاول أن يسدد ما عليه من ديون.” تراب (Trapp)
ج) الآيات (٢٧-٢٨): يسوع يفسر وصية: ’لاَ تَزْنِ.‘
٢٧قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. ٢٨وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ.
- قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: الآن، يتعامل يسوع مع ما سمعوه فيما يتعلق بوصية: لاَ تَزْنِ. وبالطبع، لقد علم معلمو ذلك الزمان أن الزنا بحد ذاته كان خطًأ. لكنهم طبقوا الناموس فقط على الأفعال، وليس على القلب.
- كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ: يشرح يسوع أنه من الممكن أن يُرتكب الزنا أو القتل في قلوبنا أو عقولنا، وهذا أيضًا خطيئة تمنعها وصية لاَ تَزْنِ.
- بهذه الكلمات ’مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا،‘ أعزى يسوع أصل الشهوة إلى العينين. وهذا صحيح وفقًا لما ورد في النصوص الكتابية (مثلًا أيوب ١:٣١) وتجارب الحياة. “عندما شعر أحدهم بالشفقة على رجل ذي عين واحدة، رد الرجل وقال أنه في الواقع فقد أحد أعداءه، اللص الحقيقي، الذي كان من شأنه أن يسرق قلبه.” تراب (Trapp)
- ومع ذلك، من المهم أن نفهم أن يسوع لا يقول أن فعل الزنا، والزنا في القلب هما الأمر ذاته. فقد تم خداع عدد ليس بقليل من الناس حول هذه النقطة، إذ يقولون: “لقد ارتكبت بالفعل الزنا في قلبي، إذًا يمكنني الآن ممارسته فعليًا.” إن فعل الزنا أسوأ بكثير من الزنا في القلب. وليس هدف يسوع هو القول بأنهما الأمر ذاته، ولكن القول أن كليهما خطية، وكلاهما محظور بموجب وصية لاَ تَزْنِ.
- بعض الناس يبتعدون عن فعل الزنا فقط لأنهم يخشون أن يتم ضبطهم، ولكنهم يرتكبون الزنا كل يوم فى قلوبهم. من الجيد أنهم يبتعدون عن فعل الزنا، لكن من المؤسف أن قلوبهم مليئة بالزنا.
- لا ينطبق هذا المبدأ فقط على الرجال الذين ينظرون إلى النساء، بل ينطبق على أي شيء يمكن أن نتطلع إليه بالعين أو العقل. “إن هذه من أقوى الكلمات التي قيلت لتكشف عن أصل النجاسة.” مورجان (Morgan)
- زَنَى… فِي قَلْبِهِ: بما أن يسوع يعتبر الزنا في القلب خطيئة، فنحن نعرف أن ما نفكر فيه، ونسمح لقلبنا بالركون إليه، له علاقة بالاختيار. ويعتقد الكثيرون أنه ليس لديهم خيار، وبالتالي لا يتحملون أي مسؤولية عما يفكرون فيه، ولكن هذا يتناقض مع تعاليم يسوع الواضحة هنا. فقد لا نكون قادرين على التحكم بأفكار أو مشاعر عابرة، لكننا بالتأكيد نقرر أين ستميل قلوبنا وعقولنا.
- “الخيال هو هبة من الله؛ ولكن إذا تم تغذية العين بالأوساخ، فستصبح قذرة. كل الخطايا، وليس أقلها الخطايا الجنسية، تبدأ بالخيال. لذلك ما يغذي الخيال له أهمية قصوى في السعي وراء بر الملكوت.” كارسون (Carson)
- من المهم أيضًا التمييز بين إغراء الخطيئة والخطيئة نفسها. “من المفترض أن تكون تلك النظرة غير عادية، ولكن مصمِمة، والرغبة ليست لا إرادية أو مؤقتة، بل هي معزَزّة بالشوق.” بروس (Bruce)
- على الرغم من أن يسوع كان مُجربًا في كل شيء (عبرانيين ١٥:٤)، فقد تحمل مثل هذه الإغراءات، لكنه لم يستسلم لمثل هذه الخطيئة. فكان قادرًا على رؤية النساء ليس كأشياء أو مصدر للإشباع. “لقد كان مُجرَبًا في كل شيء مثلنا، ولكنه طرد الرغبات من خلال القوة العظيمة للمحبة الخالصة التي رأت كل امرأة، كابنة أو أخت أو خطيبة، وككائن مقدس له الاحترام الرؤوم.” بروس (Bruce)
د ) الآيات (٢٩-٣٠): موقفنا في الحرب ضد الخطيئة.
٢٩فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. ٣٠وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ.
- فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا: يتحدث يسوع هنا بصورة مجازية، ولا يتكلم حرفيًا. فمن المحزن أن البعض أخذوا ذلك وشوهوا أنفسهم في جهود خاطئة سعيًا وراء القداسة. فعلى سبيل المثال، قام المسيحي الشهير في العصور الأولى المعروف باسم أوريجانوس بإخصاء نفسه تبعًا لهذا المبدأ.
- إن المشكلة في التفسير الحرفي هي أنه لا يُجنى من ورائه القصدُ! حتى لو قطعت يدك أو قلعت عينيك، فلا يزال بإمكانك الخطيئة بيدك أو عينك الأخرى. وعندما تختفي كل هذه الأشياء، يمكنك أن تخطيء خاصة في ذهنك.
- “إن التشويه لن يخدم الغرض؛ قد يمنع الفعل الخارجي، لكنه لن يطفئ الرغبة.” بروس (Bruce)
- لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ: لقد شدد يسوع ببساطة على وجوب أن يكون المرء مستعدًا للتضحية ليكون مطيعًا. فإذا تم تسليم جزء من حياتنا للخطيئة، فيجب أن نكون مقتنعين أنه من المربح أكثر لهذا الجزء من حياتنا أن “يموت” بدلًا من أن تُدان حياتنا كلها.
- هذا هو الشيء الوحيد الذي لا يرغب الكثيرون في فعله، ولهذا يظلون محاصرين في الخطيئة، أو لا يأتون إلى يسوع أبدًا. فهم لا يملكون الرغبة في أن يصبحوا أفضل.
- “إن خلاص أرواحنا يجب أن يأتي أولًا وقبل كل شيء، فلا ينبغي أن تكون هناك أشياء عزيزة أو ذات قيمة لدينا؛ فإن كان التمييز الطبيعي في الإنسان يُعّلمه بأن الطريقة الوحيدة ليحافظ فيها على جسده كله هو أن يبتر العضو المُصاب، الذي من شأنه أن يعرض حياته للخطر، فكم بالحري يعلمهم أن يتخلوا عن أى شيء من شأنه أن يؤدي بخلاص أرواحهم الأبدي!” بوله (Poole)
هـ) الآيات (٣١-٣٢): يفسر يسوع الوصية الخاصة بالطلاق.
٣١وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَق. ٣٢وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي.
- وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَق: في زمن يسوع، فسر كثير من الناس الإذن الموسوي بالطلاق (تثنية ١:٢٤) على أنه تخويل بالطلاق لأي سبب تقريبًا. فقام بعض معلمو اليهود بتدريس هذا الأمر ليشمل السماح للرجل بتطليق امرأته إذا أحرقت الإفطار.
- “أوصى موسى بإعطاء ’كتاب طلاق‘ إلى أن تهدأ تلك العواطف الغاضبة وأن يتم الانفصال، إن كان لا بدّ أن يحدث، عن طريق المداولات والشكليات القانونية. فكان طلب كتاب الطلاق يهدف إلى كبح هذه العادة الشريرة التي كانت متأصلة في الناس لدرجة أن رفضها تمامًا كان بلا فائدة، بل كان من شأنه أن يخلق جريمة أخرى فقط.” سبيرجن (Spurgeon)
- لكن في زمن يسوع، أصبح هذا الإذن المذكور في تثنية ١:٢٤) أداة للقسوة ضد الزوجات. “لقد انشغل الكتبة فقط حول الحصول على وثيقة الانفصال في الشكل القانوني المناسب. ولكنهم لم يفعلوا شيئًا لكبح جماح الأزواج الظالمين؛ بل بالحري فتحوا بابًا أوسع للترخيص للأمر.” بروس (Bruce)
- في ذلك الزمان، تمت مناقشة الأسباب المسموح بها للطلاق:
- مدرسة شماي: “حصر ’العيب‘ المذكور في (تثنية ١:٢٤) للإشارة فقط إلى الجنحة الجنسية المُصادق عليها من قبل الشهود.” فرانس (France)
- مدرسة هليل: “إباحة الطلاق لأي شكوى، بما في ذلك حرق العَشاء.” فرانس (France)
- إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى: كانت قضية الطلاق تدور حول تفسير صارم أو فضفاض لكلمة نجاسة في سفر التثنية ١:٢٤. وأولئك الذين أرادوا جعل الطلاق سهلًا كان لديهم تفسير فضفاض. ويوضح يسوع أن فكرة النجاسة هي الزِّنَى، وليس أي شيء قد تفعله الزوجة لإزعاج الزوج.
- “إن كلمة ’الزِّنَى‘ هي ترجمة لكلمة ’بورنيا‘ (porneia)، التي تأتي من جذر أساسي بمعنى ’دعارة،‘ ولكنها تستخدم على نطاق أوسع، لذلك يمكن أن يشتمل معناها على فقدان العفة قبل الزواج، وبالتالي يكون ذلك سببًا في الطلاق لاحقًا.” فرانس (France)
- إن تعاليم يسوع حول الزواج والطلاق مشروحة باستفاضة في (متى ١٩)، ولكن هنا نرى نية يسوع: ألا وهو العودة إلى قصد الناموس، بدلًا من السماح باستخدامه كإذن سهل للطلاق.
- “إن الفقرة الاستثنائية الموجودة في إنجيل متى لا تقدم بندًا جديدًا، ولكنها توضح ما كان يمكن للقارئ اليهودي اعتباره أمرًا مُسّلمًا به عندما أصدر يسوع التصريحات غير القاطعة التي جاءت في إنجيل مرقس ٩:١٠-١٢.” فرانس (France)
- إن تركيز يسوع على ديمومة الزواج وخطأ الطلاق غير المبرر يتعارض مع تفكير الكثيرين في كل من الثقافتين اليهودية والأممية. “في اليونان، نرى نظامًا اجتماعيًا كاملًا قائمًا على العلاقات خارج الزواج؛ ونرى أن هذه العلاقات كانت مقبولة وطبيعية، وليس أقلها إثارة للاشمئزاز. وقد جاءت الثقافة الرومانية لتتبنى هذا الموقف تجاه الزواج.” باركلي (Barclay)
- يَجْعَلُهَا تَزْنِي: الطلاق غير الشرعي يعطي المجال للزِّنَى لأن الله لا يعترف بالطلاق، ويرى أن العلاقة الجديدة هي تعدد أزواج. فمن الممكن أن يحصل الشخص على الطلاق الذي تعترف به الدولة، ولكن لا يعترف الله به. وإذا تزوج المطلق بشخص آخر، فإن الله يعتبر هذه العلاقة علاقة زنى؛ لأنه يرى أنه لا يزال متزوجًا.
و ) الآيات (٣٣-٣٧): يسوع يفسر الوصية المتعلقة بالقَسَم.
٣٣أَيْضًا سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. ٣٤وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ،٣٥وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. ٣٦وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ.٣٧بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ.
- أَيْضًا سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَحْنَثْ: لقد قام الكتبة والفريسيون بتعويج الوصية القائلة “لاَ تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلًا” (خروج ٧:٢٠) للسماح تقريبًا باستخدام أي اسم آخر في يمين باطل.
- لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ: يذكرنا يسوع أن الله هو جزء من كل قسم؛ فإذا أقسمت بالسماء أو الأرض أو بأورشليم أو حتى برأسك، فإنك بذلك تكون قد أقسمت بالله؛ عندها يجب أن تفي بقسمك.
- “نرى مرة أخرى هنا عبارة غير قاطعة لا يفترض أن تؤخذ حرفيًا كقانون جديد، ولكن بالروح بمثابة غرس مثل هذا الحب للحق، بحيث لا يكون هناك حاجة إلى القسم.” بروس (Bruce)
- بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ: الاضطرار إلى الحَلف أو جعل القسم يعني أننا لا نملك الكلمات المناسبة. إن الأمر ينم أنه لا يوجد ثقل كافٍ في شخصيتك لتأكيد كلماتك. ما هو أفضل من جعل الـ ’نَعَمْ‘ خاصتك تكون ’نَعَمْ‘ والـ ’لاَ‘ تكون ’لاَ‘.
- اعتبر البعض كلمة يسوع هذه أكثر من مجرد تأكيد على قول الحقيقة والصدق، بحيث أنها حظر مطلق لجميع الأقسام. ولكن هذا مضلل، لأن القسم مسموح به في ظروف معينة، طالما لم يتم إساءة معاملته واستخدامه كغطاء للخِداع.
- الله نفسه يُقسم: عبرانيين ١٣:٦؛ لوقا ٣٧:١.
- تكلم يسوع تحت القَسم في مَحكمة: متى ٦٣:٢٦-٦٤.
- قام بولس بأداء القَسم: رومية ٩:١، ٢، كورنثوس الثانية ٢٣:١، غلاطية ٢٠:١، تسالونيكي الثانية ٥:٢.
- “إن الإنسان الصالح حقًا لن يحتاج أبدًا إلى القسم؛ حقيقة أقواله وواقع وعوده لا تحتاج إلى مثل هذا الضمان. ولكن حقيقة أن القسم لا يزال ضروريًا في بعض الأحيان هو دليل على أن البشر ليسوا رجالًا صالحين وأن هذا ليس عالمًا صالحًا.” باركلي (Barclay)
- اعتبر البعض كلمة يسوع هذه أكثر من مجرد تأكيد على قول الحقيقة والصدق، بحيث أنها حظر مطلق لجميع الأقسام. ولكن هذا مضلل، لأن القسم مسموح به في ظروف معينة، طالما لم يتم إساءة معاملته واستخدامه كغطاء للخِداع.
ز ) الآيات (٣٨-٤٢): يسوع يفسر قانون القصاص.
٣٨سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. ٣٩وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. ٤٠وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. ٤١وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. ٤٢مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ.
- سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ: يفيد ناموس موسى بعَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ (خروج ٢٤:٢١). ولكن مع مرور الوقت، نقل المعلمون الدينيون هذا الأمر خارج نطاقه المناسب (مبدأ يُخِصُ الانتقام للحكومة المدنية) ووضعوه في النطاق الخطأ (كالتزام في العلاقات الشخصية).
- بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا: يوضح يسوع هنا كمال قانون عَيْنٌ بِعَيْنٍ، وكيف تمتد فكرته المتمثلة في الحد من الانتقام إلى مبدأ قبول شرور معينة موجهة ضد الذات.
- عندما يهيننا أحدهم (لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ)، فإننا نريد رد ما أعطونا إياه، بل والمزيد منه. ولكن قال يسوع إنه ينبغي لنا أن نتحمل بصبر هذه الشتائم والإساءات، وألا نقاوم شخصًا شريرًا (لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ) يهيننا بهذه الطريقة، بل نثق بالله للدفاع عنا. ويشير فرانس (France) إلى أن الكتابات اليهودية القديمة تقول إن ضرب شخص ما بظهر اليد – وهي إهانة شديدة – كان يعاقب عليه بغرامة ثقيلة للغاية، وفقًا للمشناه ٦:٨.
- من الخطأ الاعتقاد بأن يسوع يعني بذلك عدم مقاومة الشر مطلقًا. فقد أظهر يسوع بحياته أن الشر لابد أن يقاوم، ويجب أن يقاوم، كما حدث عندما قلب الموائد في الهيكل.
- “يقول يسوع هنا أن المؤمن الحقيقي قد تعلم ألا يستاء من أي إهانة وألا يسعى إلى الانتقام مقابل أي ازدراء.” باركلي (Barclay). فعندما نفكر كيف أهانوا يسوع واتهموه بأنه شره للطعام وشراب للخمر وطفل غير شرعي ومجدَّف ومجنون، وهلم جرًا، نرى كيف عاش نفسه هذا المبدأ.
- من الخطأ الاعتقاد بأن يسوع يعني أنه لا يمكن مقاومة أي هجوم جسدي أو الدفاع ضده. فعندما يتحدث يسوع عن اللّطْم عَلَى الخَد الأَيْمَنِ، كان هذا مفهومًا ثقافيًا على أنه إهانة عميقة وليس هجومًا بدنيًا. فيسوع لا يعني أنه إذا ضربك أحدهم على الجانب الأيمن من رأسك، فإنك يجب أن تسمح له بضرب الجانب الأيسر. “إذا قام شخص أيمني اليد بضرب الخد الأيمن لأحدهم، فمن المفترض أنه استخدم ظهر يده، وربما تكون هذه أكثر إهانة من صفعة براحة اليد المفتوح.” كارسون (Carson). وربما يكون هذا ما يقصده بولس في كورنثوس الثانية ٢٠:١١ عن ’الصفعة المُهينة.‘
- من الخطأ أيضًا الاعتقاد بأن يسوع يعني أنه لا يوجد مكان للعقاب أو القصاص في المجتمع. فيسوع يتحدث هنا إلى العلاقات الشخصية، وليس إلى الوظائف المناسبة للحكومة في كبح الشر (رومية ١:١٣-٤). يجب أن أدير خدي عندما أتعرض لإهانة شخصية، ولكن على الحكومة أن تتحمل مسؤولية كبح الإنسان الشرير من الاعتداء الجسدي على الآخرين.
- وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا: وفقًا لناموس موسى، لا يمكن أن تُؤخذ عباءة خارجية من شخص ما (خروج ٢٦:٢٢، تثنية ١٣:٢٤).
- “إذا تم اقامة دعوى قضائية ضد تلاميذ يسوع لأخذ ثيابهم (اللِباس الداخلي مثل سُترتنا ولكنه يُلبس ملاصقًا للجلد)، فسوف يرضون بتركها بكل سرور ويحتفظون بما يمكنهم قانونًا.” كارسون (Carson)
- “ومع ذلك، حتى في بلد يمكن فيه تحقيق العدالة، فإننا لا نلجأ إلى القانون لكل خطأ شخصي. إذ يجب علينا أن نتحمل بدلًا من أن نصيح دومًا: ’سأقيم دعوى قضائية ضد…‘” سبيرجن (Spurgeon)
- وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ: بشكل إيجابي، يُطلب منا أن نتعامل مع أثقال الشر عن طريق اتخاذ خيار متعمد في إعطاء أكثر مما هو مطلوب منا. ففي ذلك الزمن، كانت اليهودية واقعة تحت الاحتلال العسكري الروماني. وبموجب القانون العسكري، يجوز لأي جندي روماني أن يأمر يهوديًا بحمل حقيبة الجندي لمسافة ميل واحد، ولكن لميل واحد فقط. يقول يسوع هنا: “تجاوز الميل الواحد الذي يتطلبه القانون وامنح ميلًا آخر بدافع المحبة.”
- “استاء اليهود بشدة من هذه الأثقال، واختيار يسوع لهذا المثال عن عمد من شأنه أن يثير القوميين المتشددين ضده. ولكن بدلًا من المقاومة، أو حتى الاستياء، يجب أن يتطوع التلميذ لمسافة أطول.” فرانس (Fracne)
- “يقول القديم: لا تترك حقك، وأحب جارك، وأكره عدوك، وحافظ على سلامتك. ولكن الجديد يقول: تحمل الظُلم، وقدم حبك بسخاء للكُل.” مورجان (Morgan)
- مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ: إن الحد الوحيد لهذه التضحية هو الحد الذي ستفرضه المحبة نفسها. فليس من المحبذ الاستسلام لتلاعب شخص ما دون تحويلنا للتلاعب إلى فعل حب مجاني. فليست المحبة دومًا العطاء أو عدم المقاومة.
- قد نقول أن بولس قد كرر هذه الفكرة المقتبسة من قول يسوع: “لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ.” (رومية ٢١:١٢)
ح) الآيات (٤٣-٤٧): يسوع يفسر قانون المحبة تجاه جارك.
٤٣سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. ٤٤وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، ٤٥لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. ٤٦لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ ٤٧وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟
- سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ: أمر قانون موسى بأن “تُحِبُّ قَرِيبَكَ” (لاويين ١٨:١٩). ومع ذلك، أضاف بعض المعلمين في أيام يسوع سوء تطبيق معاكس وشرير: أن تُبْغِضُ عَدُوَّكَ في صورة مساوية لمحبة القريب.
- “لقد كانوا ينظرون عمومًا إلى جميع الغُلف على أنهم ليسوا أقربائهم، بل أعداءهم، الذين لم تلزمهم الوصية بمحبتهم.” بوله (Poole)
- وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ: بدلًا من ذلك، يذكرنا يسوع بقصد الله، وهو أن كل الناس هم أقربائنا، حتى الأعداء منهم. ولتحقيق هذه الوصية حقًا، يجب علينا أن نحِب ونبارِك ونفعل الخير ونصلي لأعدائنا، وليس لأصدقائنا فقط.
- لقد فهم يسوع أنه سيكون لدينا أعداء، لكن علينا الرد عليهم بالمحبة، واثقين من أن الله سيحمي قضيتنا ويدمر أعدائنا بأفضل طريقة ممكنة، من خلال تحويلهم إلى أصدقائنا.
- “إن موقف التلميذ من الاضطهاد الديني يجب أن يتجاوز عدم الانتقام ويتحول إلى محبة إيجابية.” فرانس (France)
- “لابد لي أن أقول إنها مهمة صعبة، ولكن، صعبة كانت أم لا، فيجب القيام بها، حتى وإن كانت تتعارض مع طبيعتنا البشعة وممارساتنا القديمة.” تراب (Trapp)
- لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ: من خلال القيام بذلك، فإننا نشبه الله الذي يُظهر المحبة تجاه أعدائه، عن طريق إرسال المطر على الأَبرار وَالظّالمين.
- “يمكنك أن ترى فلسفة ربنا يسوع المسيح للطبيعة. فقد آمن بوجود الله وعمله الفوريين. فكابن الله العظيم، كان لديه تصور حساس للغاية لوجود أبيه في جميع المواقف المحيطة به، وبالتالي دعا الشمس شَمس الله – ’فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- “كما لو أن الله لا يُدرك طبيعة الإنسان على الإطلاق، فإنه يجعل شمسه تشرق على الصالحين والطالحين. كما لو أنه لم يكن يعلم أن كل البشر ساقطين، إلا أنه يجعل مطره ينزل على العادلين والظالمين. ولكنه يعلم تمام العلم، لأنه ليس إلهًا أعمى. إنه يعلم، وهو يعرف متى تشرق شمسه على صاحب الأرض البخيل الذي يستمتع في الحصاد في حينه. الله يفعل ذلك عن عمد. فعندما يسقط المطر على محاصيل الظالم، يعرف أن المضطهد سيكون الأغنى بسبب هذه المحاصيل؛ فالله لا يفعل شيئًا عن طريق الخطأ ولا شيء بلا هدف.” سبيرجن (Spurgeon)
- “ماذا يقول لنا الله عندما يتصرف هكذا؟ أعتقد أنه يقول الآتي: ’هذا هو يوم النعمة الحرة؛ هذا هو وقت الرحمة.‘ فساعة الدينونة لم تأتِ بعد، حيث سيفصل الله بين الخير والشر، وعندما يعتلي كرسي القضاء ويُجازي بعدلٍ كلًا من الأبرار والأشرار.” سبيرجن (Spurgeon)
- هذا مثال على أننا أيضًا يجب أن نحب أعدائنا ونباركهم إذا استطعنا. ففي القيام بذلك، نظهر أنفسنا أننا أبناء أبينا الذي في السماء. “لقد أصبحنا أبناء من خلال التجديد، من خلال الإيمان بالابن؛ لكننا مدعوون إلى جعل دعوتنا واختيارنا مؤكدين، حتى نجعل استحقاقنا في هذا الاسم المقدس مزكى ومُصدقًا عليه. فلا يمكننا أن نفعل هذا إلا من خلال القول والفعل بأن الحياة والمبادئ الإلهية هي مصدر الحياة بداخلنا.” ماير (Meyer)
- لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟: ماذا تفعل أكثر من الخاطئ؟ ينبغي لنا ألا نعتبرها مسألة فضيلة في مجرد ردنا على الحب الذي يعطي لنا بحب.
- تذكر، أن يسوع كان يعلم هنا عن شخصية مواطني ملكوته. ويجب أن نتوقع أن تكون تلك الشخصية مختلفة عن الشخصية التي نراها في العالم. فهناك العديد من الأسباب الجيدة وراء توقع المزيد من المؤمنين أكثر من الآخرين:
- فهم يزعمون أن لديهم شيئًا لا يملكه الآخرون؛ يزعمون أنهم قد تجددوا وتابوا وتم افتداؤهم بواسطة يسوع المسيح.
- في الواقع لديهم شيء لا يملكه الآخرون؛ هم في الحقيقة متجددون وتائبون ومفديون بواسطة يسوع المسيح.
- لديهم قوة لا يتمتع بها الآخرون؛ يمكنهم أن يفعلوا كل شيء من خلال المسيح الذي يقويهم.
- لديهم روح الله الذي يسكن بداخلهم.
- لديهم مستقبل أفضل من الآخرين.
- تذكر، أن يسوع كان يعلم هنا عن شخصية مواطني ملكوته. ويجب أن نتوقع أن تكون تلك الشخصية مختلفة عن الشخصية التي نراها في العالم. فهناك العديد من الأسباب الجيدة وراء توقع المزيد من المؤمنين أكثر من الآخرين:
ط) الآية (٤٨): خلاصة التفسير الحقيقي لوصية ’كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ.‘
٤٨فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ.
- فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ: إذا استطاع الإنسان أن يعيش بالطريقة التي أخبرنا بها يسوع في هذا الإصحاح، فسيكون كاملًا حقًا.
- لن يكره أو يشوه سمعة أو يتكلم بشر أبدًا عن شخص آخر.
- لن يشتهي أبدًا في قلبه أو عقله، ولن يشتهي أي شيء.
- لن يحلف بقسم كاذب أبدًا، ويكون دائمًا صادقًا تمامًا.
- سيسمح لله بالدفاع عن حقوقه الشخصية ولا يأخذ على عاتقه الدفاع عن تلك الحقوق.
- سيحب أقربائه دائمًا، وحتى أعدائه.
- كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ: إذا استطاع الإنسان أن يحفظ ما قاله يسوع هنا، سيكون له بر أعظم من الكتبة والفريسيين (متى ٢٠:٥)، البر ذاته الذي لابد أن ندخل به ملكوت الله. ولكن هناك إنسان واحد فقط عاش طبقًا لذلك كله: إنه يسوع المسيح. ولكن ماذا عن بقيتنا؟ هل مازلنا خارج ملكوت الله؟
- “يقول يسوع أن الاتجاه الحقيقي الذي يشير إليه الناموس دائمًا ليس هو مجرد قيود قضائية أو تنازلات تنطلق من قلوب البشر القاسية أو حتى من ’وصية المحبة‘… لا، بل بالحري يشير إلى كل كمال الله، ذلك الكمال الممثل في التفسير الرسمي للناموس.” كارسون (Carson)
- نرى أنه في هذا الجزء، لم يكن يسوع يسعى في المقام الأول إلى إظهار ما يطلبه الله من المؤمن في حياته اليومية. صحيح أن يسوع قد كشف عن المعيار الله المُطلق، وأن علينا أن نأخذه بعين الاعتبار، ولكن قصده الأساسي كان أن يقول: “إذا كنت تريد أن تكون بارًا بموجب الناموس، فيجب عليك الحفاظ على الناموس بأكمله، داخليًا وخارجيًا؛ أي، يجب أن تكون كاملًا.”
- لقد أظهر يسوع أننا نحتاج إلى بر يتجاوز الناموس (رومية ٢١:٣-٢٢). وعلى حد تعبير بولس في رسالته إلى أهل رومية ٢١:٣-٢٢ “وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ، مَشْهُودًا لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ، بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ.”
- ما هي علاقتنا الحالية بالناموس وفقًا لتفسيره الحقيقي؟ كشف الناموس أننا مذنبين وأثمة ولا يمكننا أن نجعل أنفسنا أبرارًا من خلال القيام بالأعمال الصالحة؛ وهذه كانت بالضبط وجهة نظر معظم الناس في زمن يسوع وفي يومنا هذا.
- أخيرًا، عندما يتعلق الأمر بفهم تفسير الناموس ومطالبه، من الجيد أن نتذكر جانبًا آخر من تعاليم يسوع عن الناموس: فبالتركيز على وصية محبة الله وأقربائنا، سوف نفهم بحق مطالب وتفاصيل الناموس (متى ٣٧:٢٢-٤٠). وقد كتب الرسول بولس الشيء ذاته، في قوله: “وَأَمَّا غَايَةُ الْوَصِيَّةِ فَهِيَ الْمَحَبَّةُ مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ، وَضَمِيرٍ صَالِحٍ، وَإِيمَانٍ بِلاَ رِيَاءٍ.” (تيموثاوس الأولى ٥:١)