رسالة بطرس الأولى – الإصحاح ٣
الخضوع التقديم والتألُّم
أوّلًا. الخضوع في المنزل
أ ) الآيات (١-٢): قلب الزوجة التقيّة.
١كَذلِكُنَّ أَيَّتُهَا النِّسَاءُ، كُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِكُنَّ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ لاَ يُطِيعُونَ الْكَلِمَةَ، يُرْبَحُونَ بِسِيرَةِ النِّسَاءِ بِدُونِ كَلِمَةٍ، ٢مُلاَحِظِينَ سِيرَتَكُنَّ الطَّاهِرَةَ بِخَوْفٍ.
- كَذَلِكُنَّ أَيَّتُهَا ٱلنِّسَاءُ، كُنَّ خَاضِعَاتٍ: على الزوجة التقيّة أن تخضع لزوجها. وليس هذا الخضوع مكافأة للزوج على سلوكه الجيد؛ بل هو الترتيب السليم للمنزل الذي أمر به الله.
- كان التعليم عن الخضوع مهمًّا جدًا للمرأة المتزوّجة في القرن الأول التي بدأت تتبع يسوع. فلعلها كانت تسأل أسئلة مثل: “هل يجب أن أترك زوجي؟” أو “هل يجب أن أغيّر سلوكي تجاهه؟” أو “هل مكانتي أعلى منه لأنني الآن في يسوع؟”
- في ثقافة العالم القديم كان من غير المعقول أن تعتنق الزوجة دينًا مختلفًا عن زوجها. ولهذا احتاجت النساء، اللواتي جئن إلى يسوع قبل أزواجهن، إلى التعليم.
- كَذَلِكُنَّ: يتبع الخضوع السليم في المنزل نفس مبادئ الخضوع للحكومة أو أرباب العمل. وهو ليس خضوعًا بالأعمال فقط، بل بالقلب أيضًا – كما يتّضح من قلب يسوع وتنازله (بطرس الأولى ٢١:٢-٢٥).
- الدعوة إلى الخضوع ليست مجرَّد دعوة إلى الحب والحرص في العمل، بل إنَّها دعوة إلى الخضوع للسلطة. فالكلمة اليونانيّة المُتَرجَمة «خضوع» كانت تُستخدَم خارج العهد الجديد لوصف خضوع الجنود في الجيش وطاعتهم للأعلى منهم في الرتبة. وهي تعني حرفيًّا: ’الوجود تحت رُتبة.‘
- ومع ذلك، يمكن أن يكون الخضوع للسلطة متّسقًا تمامًا مع المساواة في الأهمّيّة والقدر والكرامة. فقد كان يسوع خاضعًا لوالديه ولله الآب، لكنّه لم يكن أقل من أيٍّ منهم. “من ثَمَّ لا ينبغي أبدًا أن يؤخذ أمر الزوجات بالخضوع لأزواجهن على أنه دليل على أنّهنَّ أدنى من الرجال ذهنيًّا أو روحيًّا، أو أقل أهمّيّة.” غرودِم (Grudem)
- بطبيعة الحال، فإنّ الخضوع في الزواج يتبع نفس مبادئ الخضوع في المجالات الأخرى. فنحن نخضع للسلطة المعيَّنة من الله كفرض علينا أمام الله، ما لم تأمرنا هذه السلطة بارتكاب خطيّة. وفي هذه الحالة، يحقّ لنا أن نطيع الله لا الناس (أعمال الرسل ١٩:٤-٢٠).
- كُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِكُنَّ: حدّد بطرس بدقّة أنَّ الزوجات مدعوات للخضوع لأزواجهن (لِرِجَالِكُنَّ)، لا لجميع الرجال بصورة عامّة. فرئاسة الرجل مبدأ أمر به الله في البيت والكنيسة، وليس في المجتمع بصورة عامّة.
- يُعرَض مبدأ الخضوع بعدّة طرق مختلفة في العهد الجديد.
- خضع يسوع لوالديه (لوقا ٥١:٢).
- خضعت الشياطين للتلاميذ (لوقا ١٧:١٠).
- يجب على المواطنين الخضوع لقوانين وسلطة الدولة (رومية ١:١٣ و٥، تيطس ١:٣،بطرس الأولى ١٣:٢).
- الكون سوف يخضع ليسوع (كورنثوس الأولى ٢٧:١٥ وأفسس ٢٢:١).
- الكائنات الروحيّة غير المرئية تخضع ليسوع (بطرس الأولى ٢٢:٣).
- على المؤمنين أن يخضعوا لقادة الكنيسة (كورنثوس الأولى ١٥:١٦-١٦، بطرس الأولى ٥:٥).
- على الزوجات أن تخضعن لأزواجهنَّ (كولوسي ١٨:٣،تيطس ٥:٢، بطرس الأولى ٥:٣، وأفسس ٢٢:٥-٢٤).
- على الكنيسة أن تخضع ليسوع (أفسس ٢٤:٥).
- على الخدّام أن يخضعوا للسادة (تيطس ٩:٢، بطرس الأولى ١٨:٢).
- على المؤمنين أن يخضعوا لله (عبرانيين ٩:١٢، يعقوب ٧:٤).
- ولا يمكن قلب أو عكس أي من هذه العلاقات. فعلى سبيل المثال، لا يُطلَب من السادة الخضوع للخدّام أبدًا، ولا يُطلَب من يسوع أبدًا الخضوع للكنيسة أو ما إلى ذلك. لذلك، فبينما يجب أن يتحلَّى أصحاب السلطة بقلب الخادم، إِلَّا أنَّ هذا لا يُلغِي مفهوم ترتيب الله للسلطة والخضوع المناسب له.
- يُعرَض مبدأ الخضوع بعدّة طرق مختلفة في العهد الجديد.
- حَتَّى وَإِنْ كَانَ ٱلْبَعْضُ لَا يُطِيعُونَ ٱلْكَلِمَةَ، يُرْبَحُونَ بِسِيرَةِ ٱلنِّسَاءِ بِدُونِ كَلِمَةٍ: تظهر فائدة الخضوع في الطريقة التي يؤثّر بها على الأزواج من جهة الله. فخضوع الزوجة هو تعبير قويّ عن ثقتها بالله. وهذا النوع من الإيمان والطاعة من شأنه أن يحقّق أشياء عظيمة، حتّى ولو بِدُونِ كَلِمَةٍ.
- قد تريد الزوجات تشكيل أزواجهنَّ، إما بتوجيههم إلى يسوع أو توجيههم من خلال يسوع عن طريق كلامهنَّ. فيُذكّرهنَّ بطرس أنَّ خطَّة الله تقضي بأن تؤثّر الزوجات على أزواجهنَّ ليس بالمحاضرات المقنعة، ولكن بالخضوع التقيّ، أي عن طريق سِيرَتَكُنَّ ٱلطَّاهِرَةَ وبِخَوْف الله.
- يجوز القول بأنّ جهود الزوجة لتشكيل زوجها بواسطة كلامها وجهودها الخاصّة قد تعوق قوّة عمل الله في حياة الزوج. فمن الأكثر فعالية الخضوع بالطريقة التي يأمر بها الله، ومن ثَمَّ نُظهِر ثقتنا فيه، ونسمح له أنْ يتصرَّف كما يشاء مع الزوج.
- “إنَّ جاذبية سلوك الزوجة الخاضعة، حتّى ولو لزوج غير مؤمن، تشير إلى أنَّ الله قد أسّس صحّة وجمال تميّز الأدوار بحيث يشمل قيادة أو رئاسة الذكور في الأسرة وقبول الإناث لهذه القيادة وتجاوبهنَّ مع هذه القيادة… فيرى الزوج غير المؤمن هذا السلوك ويشعر بجماله في عمق أعماقه. فتتولّد في أعماق قلبه شهادة على أنَّ هذا صحيح، وأنّ الله أراد من الرجال والنساء أن يتعاملوا أحدهم مع الآخر على هذا النحو. وبالتالي يستنتج أنَّ الإنجيل الذي تؤمن زوجته به لابُدَّ أنْ يكون صحيحًا أيضًا.” غرودِم (Grudem)
- لَا يُطِيعُونَ ٱلْكَلِمَةَ: هذا يشير إلى الزوج غير المؤمن، لكنَّ الفكرة أقوى من مجرَّد أنّه ’لا يؤمن.‘ فالمقصود بذلك شخص يعصى كلمة الله عصيانًا متعمّدًا. حتّى هؤلاء الأزواج يمكن ربحهم بفضل السلوك التقيّ للزوجات المُحبّات.
ب) الآيات (٣-٤): الجمال الحقيقي للمرأة التقيّة.
٣وَلاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ الزِّينَةَ الْخَارِجِيَّةَ، مِنْ ضَفْرِ الشَّعْرِ وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبْسِ الثِّيَابِ، ٤بَلْ إِنْسَانَ الْقَلْبِ الْخَفِيَّ فِي الْعَدِيمَةِ الْفَسَادِ، زِينَةَ الرُّوحِ الْوَدِيعِ الْهَادِئِ، الَّذِي هُوَ قُدَّامَ اللهِ كَثِيرُ الثَّمَنِ.
- وَلَا تَكُنْ زِينَتُكُنَّ ٱلزِّينَةَ ٱلْخَارِجِيَّةَ: لم يمنع بطرس ٱلزِّينَةَ كلها. ولكن بالنسبة للمرأة التقيّة، فإن ٱلزِّينَةَ ٱلْخَارِجِيَّةَ يجب أنْ تكون دائمًا باعتدال، ويجب أنْ يكون تركيزها دائمًا على الزينة الداخلية.
- ضَفْرِ ٱلشَّعْرِ: على حد قول ويليام باركلي، في العالم الذي كان يعيش فيه بطرس، كانت النساء في كثير من الأحيان تضفر شعرها وتصبغه. وكنَّ يرتدينَ أيضًا باروكات، وخاصّة الباروكات الشقراء المصنوعة من الشعر المستورد من ألمانيا. وهذا ما كان بطرس يفكّر فيه عندما تحدّث عن ٱلزِّينَة ٱلْخَارِجِيَّة. فبطرس لم يمنع تصفيف المرأة لشعرها أو ضفره أو ارتداء الحليّ، ولم يمنعها من لِبْسِ الثِّيَابِ.
- بَلْ إِنْسَانَ ٱلْقَلْبِ ٱلْخَفِيَّ: الجمال الحقيقي ينبع من إِنْسَانَ ٱلْقَلْبِ ٱلْخَفِيَّ. إنَّه ليس شيئًا ترتديه المرأة أو تضعه على وجهها أمام المرآة. إنَّه شيء تتمتّع به في داخلها.
- السؤال الحقيقي هو: ’ما الذي تعتمدين عليه في جعل نفسك جميلة؟‘ ليس المقصود أنَّ بطرس يمنع أيًّا من هذه الأشياء، لكن لا ينبغي أن تكون هذه الزينة الوحيدة للمرأة، أي مصدر جمالها الحقيقي.
- فِي ٱلْعَدِيمَةِ ٱلْفَسَادِ، زِينَةَ ٱلرُّوحِ ٱلْوَدِيعِ ٱلْهَادِئ: إن الجمال الداخلي للمرأة التقيّة هو عَدِيم ٱلْفَسَادِ. مما يعني أنّه لا يتحلل أو يفسد مع تقدم الزمن. بل الجمال عَدِيم ٱلْفَسَادِ يزداد جودة مع تقدم الزمن، وبالتالي تزداد قيمته جدًّا أكثر من الجمال الذي مصدره الشعر أو الجواهر أو الثياب.
- ٱلرُّوحِ ٱلْوَدِيعِ ٱلْهَادِئ، ٱلَّذِي هُوَ قُدَّامَ ٱللهِ كَثِيرُ ٱلثَّمَنِ: وصف بطرس طبيعة الجمال الحقيقي: ٱلرُّوحِ ٱلْوَدِيعِ ٱلْهَادِئ. ومع أن ثقافتنا المعاصرة لا تروّج لهذه السمات الشخصيّة في النساء؛ إلا أنها كَثِيرُة ٱلثَّمَنِ قُدَّامَ ٱللهِ.
ج) الآيات (٥-٦): أمثلة على الخضوع.
٥فَإِنَّهُ هكَذَا كَانَتْ قَدِيمًا النِّسَاءُ الْقِدِّيسَاتُ أَيْضًا الْمُتَوَكِّلاَتُ عَلَى اللهِ، يُزَيِّنَّ أَنْفُسَهُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِهِنَّ، ٦كَمَا كَانَتْ سَارَةُ تُطِيعُ إِبْرَاهِيمَ دَاعِيَةً إِيَّاهُ «سَيِّدَهَا». الَّتِي صِرْتُنَّ أَوْلاَدَهَا، صَانِعَاتٍ خَيْرًا، وَغَيْرَ خَائِفَاتٍ خَوْفًا الْبَتَّةَ.
- فَإِنَّهُ هَكَذَا كَانَتْ قَدِيمًا ٱلنِّسَاءُ ٱلْقِدِّيسَاتُ أَيْضًا ٱلْمُتَوَكِّلَاتُ عَلَى ٱللهِ: يذكّر بطرس النساء أنّه لا يدعوهنَّ إلى معيار جديد؛ بل إلى شيء كانت ٱلنِّسَاءُ ٱلْقِدِّيسَاتُ تمارسه قَدِيمًا.
- ٱلْمُتَوَكِّلَاتُ عَلَى ٱللهِ: عندما تخضع النساء لأزواجهنَّ ولا يضعن ثقتهنَّ في الزينة الخارجية، فإنهنَّ يشبهن النساء المُقدَّسات في الماضي، أي ٱلْمُتَوَكِّلَات عَلَى ٱللهِ. فهنَّ قد أثبتنَ إيمانهنَّ بقوة.
- يمكن للمرأة أن تثق في قدرتها على التأثير على زوجها والسيطرة عليه، أو أن تثق في الله وأن تكون خاضعة. ويمكن للمرأة أن تثق بجمالها الخارجي وزينتها، أو يمكنها أن تثق بالله وأن تنمّي روحًا لطيفًا وهادئًا. وكل ذلك يعود إلى الاتّكال على الله، لكي تكون مثل ٱلنِّسَاءُ ٱلْقِدِّيسَاتُ أَيْضًا ٱلْمُتَوَكِّلَاتُ عَلَى ٱللهِ.
- كَمَا كَانَتْ سَارَةُ تُطِيعُ إِبْرَاهِيمَ: هناك دليلان على خضوع سارة لإبراهيم. أوَّلًا، كانت تُطِيعُ إبراهيم حتّى عندما كان الأمر صعبًا وحتّى عندما كان مخطئًا (كما نرى في سفر التكوين ١٠:١٢-٢٠). ثانيًا، كانت تُكرِم إبراهيم دَاعِيَةً إِيَّاهُ «سَيِّدَهَا». إذ يمكننا إطاعة شخص من دون أن نُظهر له الإكرام الذي هو جزء من الخضوع. فالخضوع الحقيقي يعرف مكانة كلٍّ من الطاعة والإكرام.
- “ينعكس الخضوع الحقيقي لسلطة الزوج في الكلمات والتصرفات اليومية، وهي بدورها تدلّ على الاحترام لقيادته والاعتراف بمسؤوليته النهائية.” غرودِم (Grudem)
- صَانِعَاتٍ خَيْرًا، وَغَيْرَ خَائِفَاتٍ خَوْفًا ٱلْبَتَّةَ: الخضوع الحقيقي، الممتلئ بالإيمان بالله ليس فيه مجال للخوف أو الرعب. إنه يصنع الخير ويترك النتيجة على الله لا على الإنسان.
- تذكّرنا عبارة ’صَانِعَاتٍ خَيْرًا‘ بأن الخضوع الحقيقي ليس استسلامًا خانعًا للسلطة، بل هو اعتناق نشط لإرادة الله، يدلّ على الثقة به.
د ) الآية (٧): قلب الزوج التقيّ.
٧كَذَلِكُمْ أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، كُونُوا سَاكِنِينَ بِحَسَبِ ٱلْفِطْنَةِ مَعَ ٱلْإِنَاءِ ٱلنِّسَائِيِّ كَٱلْأَضْعَفِ، مُعْطِينَ إِيَّاهُنَّ كَرَامَةً، كَٱلْوَارِثَاتِ أَيْضًا مَعَكُمْ نِعْمَةَ ٱلْحَيَاةِ، لِكَيْ لَا تُعَاقَ صَلَوَاتُكُمْ.
- كُونُوا سَاكِنِينَ: الزوج التقيّ يساكن زوجته. إنهما لا يتقاسمان المسكن فقط، ولكنه يسكن معها حقًا. إنَّه يُقرّ ويعترف بالمغزى المهم في تعليم بولس عن الزواج في أفسس ٥: “يَجِبُ عَلَى ٱلرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ ٱمْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ” (أفسس ٢٨:٥). فالزوج التقيّ يفهم الوحدة أو الوحدانية الجوهرية التي أقامها الله بين الزوج والزوجة.
- بِحَسَبِ ٱلْفِطْنَةِ: الزوج التقيّ يسعى إلى فهم زوجته (ٱلْفِطْنَةِ). تفهم الزوج الجيد لزوجته، يمكنه من إظهار محبّته لها بشكل أكثر فعاليّة.
- عندما يكون للزوج هذا الفهم (ٱلْفِطْنَة)، فإنّ الله يرشده إلى استخدامه بحيث يسكن مع زوجته في جوّ من السعادة في البيت. فمن واجبه أن يأخذ فهمه ويطبّقه على الحياة اليومية مع زوجته. وهو الأمر الذي يفشل الكثيرون من الرجال في تطبيقه. فقد يتمتّعون بٱلْفِطْنَة (بالفهم) بخصوص زوجاتهم، لكنهم لا يستخدمونه في حياتهم اليومية معهنَّ.
- مُعْطِينَ إِيَّاهُنَّ كَرَامَةً: يعرف الزوج التقيّ كيف يُشعِر زوجته بالكرامة. فرغم أنّها تخضع له، إلاَّ أنّه يهتم بألاَّ تشعر بأنها موظفة أو جارية عنده.
- الكلمة الدالّة على الزوجات في عبارة مُعْطِينَ إِيَّاهُنَّ كَرَامَةً في اللغة اليونانيّة نادرة، فهي تعني حرفيًّا ’الأنوثة.‘ وتشير إلى أنَّ الطبيعة الأنثوية للمرأة يجب أن تدفع الزوج إلى تكريمها.
- كان هذا تعليمًا متطرّفًا في العالم الذي عاش فيه بطرس. ففي تلك الثقافة القديمة، كان للزوج حقوق مطلقة على زوجته ولم تكن الزوجة تتمتّع بأيّة حقوق في الزواج. ففي العالم الروماني، إذا أمسك رجل زوجته وهي تزني كان بإمكانه أن يقتلها على الفور. ولكن إذا امسكت الزوجة زوجها، فلا تستطيع عمل شيء ضده. وكانت جميع الواجبات والالتزامات في الزواج موضوعة على عاتق الزوجة. أمَّا تعليم بطرس الراديكالية فتقول بأن الزوج عنده واجبات وفرائض مُعيّنة من الله نحو زوجته.
- ٱلْإِنَاءِ… َٱلْأَضْعَفِ: المقصود بـالأضعف في هذا السياق هو الضعف البدني النسبي للمرأة مقارنةً بالرجل. فالرجال ليسوا بالضرورة أقوى روحيًا من النساء، لكنهم عموما أقوى جسمانيًّا. وبعدما أدخل بطرس فكرة الطبيعة الأنثوية للمرأة، يستمر في إظهار التقدير للطبيعة الأنثوية وبيان كيفية تجاوب الزوج معها.
- لذلك يدرك الزوج التقيّ القيود الجسديّة المفروضة على زوجته، ولا يتوقع منها أكثر مِمّا يتناسب وهذه القيود ويتماشى مع الرفق والرقّة.
- كَٱلْوَارِثَاتِ أَيْضًا مَعَكُمْ: الزوج التقيّ يدرك أنَّ زوجته ليست زوجته فقط، بل أخته في يسوع. وجزء من ميراثه في الرب لا يتحقّق إلاَّ بوحدتهما كزوج وزوجة.
- وَارِثَات أَيْضًا مَعَكُمْ: هذا “يذكّر الأزواج بأَنَّه رغم منحهم سلطة كبيرة في إطار الزواج، فإنّ زوجاتهم لا يزلن مساويات لهم في الامتياز الروحيّ والأهمّيّة الأبديّة: إنهنَّ «شريكات في الميراث».” غرودِم (Grudem)
- لِكَيْ لَا تُعَاقَ صَلَوَاتُكُمْ: إنَّ عدم العيش كزوج تقيّ له عواقب روحيّة. فمن شأنه إعاقة الصلاة.
- لقد افترض البعض أنَّ بطرس يقصد هنا الصلوات التي يصلّيها الأزواج والزوجات معًا. ولكن حيث أنّه يخاطب الأزواج فقط، وحيث أنّه يقول صَلَوَاتُكُمْ، فهو يشير إلى صلوات الأزواج بصورة عامّة.
- افترض بطرس أنَّ الخوف من أن تُعَاق الصلاة من شأنه أن يحفّز الأزواج المؤمنين على محبّة زوجاتهم ورعايتهنَّ كما ينبغي. وكثيرون من الرجال المؤمنين لا يحترمون الصلاة بما يكفي لكي يحفّزهم هذا التحذير.
- “في الواقع، إنَّ صلاة المؤمنين الحقيقيين لا تُقدَّر بثمن إلى درجة أنَّ بطرس يستخدم خطر إعاقتها كحافز يدفعهم إلى التصرف بحكمة عظيمة في علاقاتهم الزوجية وشؤونهم المنزلية. إنَّه يوصي الزوج بأنَّ يفهم زوجته ويعاملها بالإكرام والمحبّة خشية إعاقة صلواتهما المتحدة. فأيّ شيء يعيق الصلاة لابُدَّ أن يكون خطأ. فإذا كانت إدارة الأسرة أو حاجتها للإدارة يعيق صلواتنا، فهناك حاجة ماسّة للتغيير.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. التقوى في فترات الألم
أ ) الآيات (٨-٩): الحضّ على الوحدة والمحبة بين شعب الله.
٨وَالنِّهَايَةُ، كُونُوا جَمِيعًا مُتَّحِدِي الرَّأْيِ بِحِسٍّ وَاحِدٍ، ذَوِي مَحَبَّةٍ أَخَوِيَّةٍ، مُشْفِقِينَ، لُطَفَاءَ، ٩غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرّ بِشَرّ أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ، بَلْ بِالْعَكْسِ مُبَارِكِينَ، عَالِمِينَ أَنَّكُمْ لِهذَا دُعِيتُمْ لِكَيْ تَرِثُوا بَرَكَةً.
- كُونُوا جَمِيعًا مُتَّحِدِي ٱلرَّأْيِ: معظمنا يرغب في أن نكون مُتَّحِدِي ٱلرَّأْيِ، طالما أن هذا ٱلرَّأْي هو رأيي! لكن الرأي الذي علينا أنْ نتّحد فيه هو رأي (فِكر) المسيح (كورنثوس الأولى ١٦:٢). وينبغي أنْ يكون ٱلرَّأْي المشترك الذي نتّحد فيه رأي يسوع.
- يعيدنا هذا الأمر إلى ضرورة معرفة كلمة الله. فلا يمكننا أن نكون مُتَّحِدِي ٱلرَّأْيِ، أي رأي وفكر يسوع، إذا كنا لا نعرف ما هو فِكره. وكلمة الله هي التي تبيّن لنا فِكر يسوع.
- كُونُوا جَمِيعًا مُتَّحِدِي ٱلرَّأْيِ: المقصود بذلك وحدة شعب الله. فنحن واحد؛ لكننا لسنا جميعًا متشابهين. صحيح أننا يجب أن نكون جَمِيعًا مُتَّحِدِي ٱلرَّأْيِ، لكنْ لا يمكننا أن نتوقع أن يكون الجميع مثلنا. لقد بنى الله الوحدة والتنوُّع كليهما بين شعبه.
- كل خلية في جسمك مختلفة عن غيرها، ولكل خلية دورها. ولكن كل خلية في جسمك لها نفس شفرة الحامض النووي، أي الدليل للجسم كله. وكل خلية في جسمك لها نفس ’الرأي.‘
- يمكننا القول إنَّ المؤمنين يجب أن يكونوا مثل جوقة ترنيم جيدة. فكل واحد يغنّي بصوته الخاصّ، والبعض يغنّون أجزاء مختلفة، ولكنَّ الجميع يغنّون نفس الموسيقى ويتناغمون بعضهم مع البعض.
- بِحِسٍّ وَاحِدٍ، ذَوِي مَحَبَّةٍ أَخَوِيَّةٍ، مُشْفِقِينَ، لُطَفَاءَ: وصف بطرس نوع المحبّة الدافئة الذي يجب أن يتحلَّى بها شعب الله. فيجب أن نكون شفوقين، وادّين بعضنا البعض، متفاهمين، بل ومهذبين.
- تذكّر أنَّ هذا كان هو المعيار الذي أعطاه يسوع للعالم ليتعرفوا به على تلاميذه الحقيقيين: ’بِهَذَا يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلَامِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ‘ (يوحنا ٣٥:١٣). فلم يأمرنا يسوع أنَّ نُعجَب بإخوتنا في المسيح. بل أمرنا أن نحبهم. وبمجرَّد أن نبدأ نحبّهم، سنبدأ في الإعجاب بهم.
- غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ، بَلْ بِٱلْعَكْسِ مُبَارِكِينَ: إن التحدّي الأكبر الذي يواجه محبّتنا للآخرين يظهر عندما نُظلَم. ففي تلك الأوقات، نحن مدعُوّون إلى عدم المجازاة عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ، بل أن نُبارِك.
- لا ينبغي أن يدوم الخلاف أو الجدال أو الخصام بين المؤمنين. حتّى لو تخطّى أحد المؤمنين حدوده، فإنّ استجابة المحبة من المؤمنين الآخرين يجب أن تقلّل من حجم المشكلة وتعجّل بحلّها.
- ردّ الفعل الطبيعي لمشاعر الحقد هو الانتقام. فهذا هو محور الصراعات العرقية الرهيبة في جميع أنحاء العالم – جماعة ما تعتدي على الأخرى، فتكرّس هذه كلّ وجودها للثأر منها. إنَّ محبّة يسوع للأعداء هي الوحيدة القادرة على كسر هذه السلسلة الفظيعة.
- ذكّرنا يسوع أنّه لا فضلَ لنا إذا أحببنا من يحبوننا؛ فالامتحان الحقيقي للمحبة هو إظهار الشفقة على أعدائنا (متى ٤٤:٥-٤٧).
- لِكَيْ تَرِثُوا بَرَكَةً: نحن نحب بعضنا بعضًا، ولكن ليس لأجل خاطر يسوع فقط، الذي نحن أعضاء في جسده، وليس من أجل أخوتنا أو أخواتنا الذين مات يسوع من أجلهم فقط، ولكننا نحب بعضنا البعض أيضًا من أجل خاطر أنفسنا – فعندما نبارك أولئك الذين ظلمونا، نرث بركة. إذا كنت لا تستطيع أن تحب من أجل خاطر يسوع، أو من أجل خاطر إخوتك، فافعل ذلك من أجل خاطر نفسك!
ب) الآيات (١٠-١٢): اقتباس من مزمور ١٢:٣٤-١٦ يوضّح البركة التي تحلّ على من ينصرفون عن الشر ويفعلون الخير.
١٠لأَنَّ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّ الْحَيَاةَ وَيَرَى أَيَّامًا صَالِحَةً، فَلْيَكْفُفْ لِسَانَهُ عَنِ الشَّرِّ وَشَفَتَيْهِ أَنْ تَتَكَلَّمَا بِالْمَكْرِ، ١١لِيُعْرِضْ عَنِ الشَّرِّ وَيَصْنَعِ الْخَيْرَ، لِيَطْلُبِ السَّلاَمَ وَيَجِدَّ فِي أَثَرِهِ. ١٢لأَنَّ عَيْنَيِ الرَّبِّ عَلَى الأَبْرَارِ، وَأُذْنَيْهِ إِلَى طَلِبَتِهِمْ، وَلكِنَّ وَجْهَ الرَّبِّ ضِدُّ فَاعِلِي الشَّرِّ».
- لِيُعْرِضْ عَنِ ٱلشَّرِّ، وَيَصْنَعِ ٱلْخَيْرَ: غالبًا ما يكون صنع الخير صعبًا لأن مكافأة الشر عامّةً تكون فورية، بينما تتأخّر مكافأة الخير على الأرجح. ولكنَّ مكافآت الخير أفضل وآمن من مكافآت صنع الشر. فإنّ الله يعد بذلك في المقطع الذي اقتبسه بطرس.
ج) الآيات (١٣-١٧): كيف نتعامل عندما يُجازَى الخير الذي نصنعه بالشر.
١٣فَمَنْ يُؤْذِيكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِالْخَيْرِ؟ ١٤وَلكِنْ وَإِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، فَطُوبَاكُمْ. وَأَمَّا خَوْفَهُمْ فَلاَ تَخَافُوهُ وَلاَ تَضْطَرِبُوا، ١٥بَلْ قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ، بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ، ١٦وَلَكُمْ ضَمِيرٌ صَالِحٌ، لِكَيْ يَكُونَ الَّذِينَ يَشْتِمُونَ سِيرَتَكُمُ الصَّالِحَةَ فِي الْمَسِيحِ، يُخْزَوْنَ فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرّ. ١٧لأَنَّ تَأَلُّمَكُمْ إِنْ شَاءَتْ مَشِيئَةُ اللهِ، وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ خَيْرًا، أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ شَرًّا.
- فَمَنْ يُؤْذِيكُمْ: رغم أنَّ بطرس يقول إنّه على المؤمنين دائمًا أن يردّوا على الشر بالخير، لكنه كان أيضًا واقعيًا وكان يعلم أنَّ الناس غالبًا ما كانوا يجازون عن الخير بالشر.
- “الحرص على أَلاَّ يكرهنا العالم، وأن نكون محبوبين ونحصل على الإطراء والمداهنة من العالم – هو من أفظع المواقف التي يمكن للمؤمن أن يجد نفسه فيها. سأل الحكيم قديمًا: ’ما الشيء السيئ الذي فعلته حتّى أنّهم يتكلّمون عني بالخير؟‘” ماير (Meyer)
- إِنْ كُنْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِٱلْخَيْرِ: المعنى الحرفي لجملة ’كُنْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ‘ هو ’كونوا غيورين.‘ “كان بعض اليهود من الغيورين، ويفخرون بغيرتهم من أجل الرب أو شريعته… ولكن يجب أن يكون جميع المؤمنين غيورين على فعل ما هو صالح.” هارت (Hart)
- وَلَكِنْ وَإِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ، فَطُوبَاكُمْ (فأنتم في بركة): يذكّرنا بطرس بأننا ننال بركة عندما نَتَأَلَّمْ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ. فالله سوف يعتني بنا، خصوصًا عندما نَتَأَلَّمْ ظلمًا.
- كان يسوع يقصد نفس الموقف حين قال: ’وَلَا تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ وَلَكِنَّ ٱلنَّفْسَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ ٱلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ.‘ (متى ٢٨:١٠).
- وَأَمَّا خَوْفَهُمْ فَلَا تَخَافُوهُ وَلَا تَضْطَرِبُوا: إن وجود أو احتمال التألُّم بسبب فعل الخير لا ينبغي أن يجعلنا نتراجع عن فعله. بل وبدلًا من ذلك، يجب أن نعطي مكانًا خاصًّا لله (قَدِّسُوا ٱلرَّبَّ) في قلوبنا، وأن نكون دائمًا على استعداد لتوضيح إيماننا (لِمُجَاوَبَةِ)، وعمل ذلك دائمًا بموقف قلبيّ سليم (بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ).
- هناك قراءة بديلة في بعض المخطوطات لعبارة ’قَدِّسُوا ٱلرَّبَّ ٱلْإِلَهَ فِي قُلُوبِكُمْ‘ وهي: «قَدِّسوا المسيح ربًّا في قلوبكم». “المعنى البسيط للأمر هو أنّه يجب أن يكون هناك رب واحد في مركز الحياة، أي المسيح… ولكنْ يُسمَح لأرباب آخرين بغزو مَقدس القلب، والتسيُّد علينا. فرغباتنا الأنانية، وآراء الآخرين، والحكمة الدنيوية، وضغط الظروف، هذه والعديد من الأرباب الأخرى تسود علينا، فنُبعِد ولاءنا التام والبسيط عن سيّدنا الأوحد.” مورغان (Morgan)
- يمكننا أن نكون مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِلمُجَاوَبَةِ إذا درسنا الكتاب المُقدَّس جيدًا. لقد عرف بطرس أهمّيّة أنْ نكون مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ. فقد تعيَّن عليه عمل ذلك في المواقف الواردة في أعمال الرسل ١٤:٢-٣٩، ١١:٣-٢٦، ٨:٤-١٢، ٢٩:٥-٣٢. ففي كل مرحلة من أي اختبار، اعتمد بطرس على قوة الروح القُدُس وكان قادرًا على الدفاع عن رسالته (مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِلمُجَاوَبَةِ).
- لِكَيْ يَكُونَ ٱلَّذِينَ يَشْتِمُونَ سِيرَتَكُمُ ٱلصَّالِحَةَ فِي ٱلْمَسِيحِ، يُخْزَوْنَ: عندما يُجازَى خيرنا بالشر، سوف يثبت للآخرين خطأ رأيهم فينا، وسوف يشعرون بالخزي لأنهم افتروا على سيرتنا الصالحة.
- لِأَنَّ تَأَلُّمَكُمْ إِنْ شَاءَتْ مَشِيئَةُ ٱللهِ، وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ خَيْرًا، أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ شَرًّا: لا أحد منا يريد أن يتألّم. ولكن إن كان يجب علينا ذلك، فليكن ذلك لصنع الخير وليس لصنع الشرّ. أحيانًا يسيء المؤمنون التصرّف ويكونون عدائيين فيتألّمون نتيجةً لذلك. وقد يتمنّون أن يكون ذلك اضطهادًا من أجل الإنجيل، لكنّهم في الحقيقة يعانون ببساطة لأنهم صنعوا الشر.
ثالثًا. يسوع مثال على قوة الألم لصنع الخير
أ ) الآية (١٨): يسوع قرّبنا إلى الله بفضل آلامه.
١٨فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلْأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللهِ، مُمَاتًا فِي ٱلْجَسَدِ وَلَكِنْ مُحْيىً فِي ٱلرُّوحِ.
- فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا: يسوع قد تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا. فما من ذبيحة أو كفّارة يمكن أن ترضي الله بخلاف ما قدّمها يسوع على الصليب. بل إنَّ آلامنا الخاصّة لا تدفع ثمن خطايانا. فالثمن قد دُفِع بالفعل.
- مع أنَّ بطرس استخدم آلام ومعاناة المسيح لتشجيع وتعضيد قرائه في شدائدهم، إلاَّ أنه يجب علينا أن نتذكّر أن بطرس قد ميّز يسوع عن غيره تمامًا في تألّمه. تذكّر سبيرجن التألُّم البطولي لأحد الأتقياء فقال: “أتذكّر أني قرأت في كتاب فوكس عن الشهداء، قصة أحد رجال الله الذي حُكِم عليه بالموت حرقًا من أجل المسيح. فإذا به هادئًا حتّى احترقت ساقاه وسقطتا. نظر المارّة فشاهدوا جسده العاجز يتساقط من السلاسل أسودَ مثل الفحم، وقد فقد كل ملامحه البشرية. لكنَّ شخصًا كان على مقربة منه فوجئ جدًّا حين رأى تلك الجثة المتفحّمة تفتح فمها وتنطق بثلاث كلمات. فماذا قالت يا ترى؟ ’حبيبي يا يسوع!‘ ثم سقط الشهيد من على السلاسل، وفي النهاية انطفأت جذوة حياته.”
- لقد كان ذلك القديس يتمتّع بحضور حبيبه يسوع الذي ساعده أثناء معاناته الرهيبة؛ لكنَّ يسوع لم يتمتّع بحضور أبيه الحبيب لمساعدته على الصليب. وبدلًا من ذلك، عامله الله الآب كما لو كان عدوًا، إذ كان هدفًا لغضب الله البارّ. بهذا المعنى، كان تألُّم يسوع على الصليب أسوأ من أي آلام عانى منها أي شهيد على الإطلاق؛ ورُبَّما لم يكن أسوأ من ناحية الآلام البدنية، ولكن بالتأكيد من ناحية الآلام الروحيّة وفظاعة التجربة بكاملها.
- “يبدو الأمر كما لو أنَّ الرسول قال: ’لم يتألّم أحد منكم بالمقارنة به‘ أو: كان يسوع – على الأقل – المتألّم الأعظم، رئيس المتألّمين، إمبراطور عالم العذاب، سيد أسياد الحزن… أنتم لا تعرفون عن الحزن سوى القليل. فكل ما لمستموه هو هدب ثوب الحزن، ولكن المسيح اتّشح بالألم يوميًّا. إننا لا نرتشف سوى رشفة من الكأس التي شربها هو حتّى الثمالة. إننا لا نشعر إِلَّا بالقليل من دفء أتون نبوخذنصر، أمَّا هو فسكن في حومة النار.” سبيرجن (Spurgeon)
- ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلْأَثَمَةِ: يسوع هو مثال نموذجي على تعرضه للألم لأنه صنع الخير. فإنَّه، وهو ٱلْبَارُّ، تألَّم من أجلنا أجمعين، نحن ٱلْأَثَمَةِ – والغرض من ذلك كله هو أنْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللهِ، لاسترداد علاقتنا المُحطَّمة والميتة معه.
- حيث أنَّ يسوع فعل كل هذا لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللهِ، فكم نكون مخطئين إذا لم نقترب من الله في الشركة! الكلمة اليونانيّة المترجمة ’يُقَرِّبَنَا‘ هي نفس الكلمة التي تُرجِمت في رومية ٢:٥ بمعنى «ٱلدُّخُول» وفي أفسس ١٨:٢ بمعنى «قُدُوم». وفي الأدب القديم، كانت هذه الكلمة تُستخدَم بمعنى: “إدخال شخص لمقابلة الملك العظيم.” بلوم (Blum)
- مُمَاتًا فِي ٱلْجَسَدِ وَلَكِنْ مُحْيىً فِي ٱلرُّوحِ: قد مات يسوع في جسده لكنّه قام من بين الأموات بواسطة الروح القُدُس. ويخبرنا الكتاب المُقدَّس هنا أنَّ الروح القُدُس قد أقام يسوع من الأموات. ويخبرنا أيضًا أنَّ الآب أقام يسوع من الأموات (رومية ٤:٦)، ويقول كذلك إنَّ يسوع قد أقام نفسه من الأموات (يوحنا ١٨:٢-٢٢). فالقيامة، إذًا، كانت من عمل الله المُثلَّث الأقانيم.
ب) الآيات (١٩-٢٠أ): كرز يسوع من خلال آلامه، للأرواح التي في السجن.
١٩الَّذِي فِيهِ أَيْضًا ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ، ٢٠إِذْ عَصَتْ قَدِيمًا…
- ٱلَّذِي فِيهِ: هذا يعني أنَّ يسوع كان مُلهَمًا بالروح القُدُس عندما كرز للأرواح التي في السجن. لقد أحياه الروح، ومن ثُمَّ فعل هذا بواسطة نفس الروح.
- ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلْأَرْوَاحِ ٱلَّتِي فِي ٱلسِّجْنِ: من الواضح أنَّ هذا العمل قد تم في الفترة التي أعقبت موت يسوع ولكن قبل قيامته وأول ظهور له للتلاميذ. قد نزل يسوع إلى الهاوية – مثوى الموتى – وكَرَزَ لِلْأَرْوَاحِ هناك.
- لِلْأَرْوَاحِ ٱلَّتِي فِي ٱلسِّجْنِ: رغم أنَّ البعض قد اعتبروا هذه الأرواح أرواحًا بشرية، ولكن من الأرجح أنها أرواح شيطانية. فإننا نعلم أنَّ عصيانها قد حدث في أيّام نوح (بطرس الأولى ٢٠:٣). ويوجد دليل على أن ذلك كان وقت ارتكاب خطيّة بشعة من جانب كلٍّ من الشياطين والبشر، حيث حدث اختلاط شرير بين البشر والشياطين (تكوين ١:٦-٢).
- “يبدو أن أقدم تفسير وجد أن هؤلاء الأرواح المسجونة هم الملائكة الذين سقطوا في تكوين ٦. ولقد كان هذا الرأي معروفًا على نطاق واسع ومقبولًا عمومًا في العصر الرسولي.” هيبرت (Hiebert)
- كَرَزَ لِلْأَرْوَاحِ ٱلَّتِي فِي ٱلسِّجْنِ: نحن لا نعرف بالضبط لماذا كَرَزَ يسوع لهذه الأرواح المسجونة. أغلب الظنّ أنَّ هذا كان وعظًا (أي إعلانًا عن رسالة الله)، لكنّه لم يكن تبشيرًا (إعلانًا عن الخبر السارّ). قد كَرَزَ يسوع إلى هذه الأرواح العاصية برسالة قضاء ودينونة نهائية على ضوء عمله المُكتمِل على الصليب.
- وبذلك أكمل يسوع انتصاره على الشر، بل وعلى الشر الذي حدث قبل الطوفان. ويقول الكتاب المُقدَّس إنَّه حتى أولئك الذين تحت الأرض يجب أن يعترفوا بربوبيّة يسوع النهائية. ويسوع كان يعلن هذه الحقيقة هنا: ’لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَمَنْ عَلَى ٱلْأَرْضِ، وَمَنْ تَحْتَ ٱلْأَرْضِ‘ (فيلبي ١٠:٢).
- “نحن لا نعتقد أنَّ بطرس قال إنّ المسيح بشّر بالإنجيل لهذه الأرواح المسجونة؛ بل أنَّ المسيح أعلن انتصاره على الشر، الذي كان خبرًا سيئًا لها. أمَّا لقرّاء بطرس، فكان ذلك بمثابة تعزية وتشجيع.” هيبرت (Hiebert)
- “لا يخبرنا الوحي بمضمون رسالته. ولا يذكر لماذا اختار أولئك العصاة في أيّام نوح بالذات. إنَّه لا يكشف لنا عن غرض كرازة المسيح أو نتيجتها. ولكن يمكننا تكوين استنتاجاتنا الخاصّة في جميع هذه النقاط، لكنَّها تظل استنتاجات عديمة السلطة ولا ترقى إلى مستوى التعليم العقائدي.” مورغان (Morgan)
ج) الآيات (٢٠ب-٢٢): خلاص نوح كصورة للمعمودية.
٢٠… حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ اللهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ الْفُلْكُ يُبْنَى، الَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ بِالْمَاءِ. ٢١الَّذِي مِثَالُهُ يُخَلِّصُنَا نَحْنُ الآنَ، أَيِ الْمَعْمُودِيَّةُ. لاَ إِزَالَةُ وَسَخِ الْجَسَدِ، بَلْ سُؤَالُ ضَمِيرٍ صَالِحٍ عَنِ اللهِ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، ٢٢الَّذِي هُوَ فِي يَمِينِ اللهِ، إِذْ قَدْ مَضَى إِلَى السَّمَاءِ، وَمَلاَئِكَةٌ وَسَلاَطِينُ وَقُوَّاتٌ مُخْضَعَةٌ لَهُ.
- ٱلَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ بِٱلْمَاءِ: رسم بطرس هنا صورة مستخدمًا كلامه. كما كان خلاص نوح من دينونة الله مرتبطًا بِٱلْمَاءِ، فإنّ خلاص المؤمن مرتبط بِٱلْمَاءِ، أي ماء ٱلْمَعْمُودِيَّة.
- جرفت مياه الطوفان الخطيّة والشر وأتت بعالم جديد وببداية جديدة أمام الله. وماء المعمودية يفعل الشيء عينه، حيث يوفّر انتقالًا من القديم إلى الجديد.
- “لم يخلص نوح بإصلاح العالم تدريجيًا واستعادته إلى براءته الأولى، بل نطق الله عليه حكم إدانة، وأعقب ذلك موت ودفن وقيامة. وتعيَّن على نوح أن يذهب إلى الفلك ويصبح ميتًا للعالم. وكان لا بد للطوفان أن ينزل من السماء، وأن ترتفع الينابيع السرية تحت الأرض، لتغمر الفلك بمياه كثيرة – وهذا هو الدفن. ثم بعد فترة، كان على نوح وأسرته أن يخرجوا إلى عالم جديد تمامًا ليتمتّعوا بحياة القيامة.” سبيرجن (Spurgeon)
- لَا إِزَالَةُ وَسَخِ ٱلْجَسَدِ، بَلْ سُؤَالُ (التعهُّد بـ) ضَمِيرٍ صَالِحٍ عَنِ ٱللهِ: لقد حرص بطرس – في الوقت نفسه – على الإشارة إلى أنّ غسل الجسم الخارجي بالماء في المعمودية ليس هو الذي يخلّصنا، بل المغزى الروحيّ الكامن وراء ذلك الغمر في الماء. فما يخلّصنا حقًا هو أن نسأل من الله لكي يعطينا ضمير صالح، وهذا الضمير يصبح صالحًا من خلال عمل يسوع المكتمل على الصليب.
- يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي هُوَ فِي يَمِينِ ٱللهِ، إِذْ قَدْ مَضَى إِلَى ٱلسَّمَاءِ: نحن نرى اكتمال عمل يسوع من خلال ارتفاعه إلى يَمِينِ ٱللهِ الآب، وخضوع جميع الأرواح المخلوقة له (مَلَائِكَةٌ وَسَلَاطِينُ وَقُوَّاتٌ مُخْضَعَةٌ لَهُ). فعلى الرغم من أنَّ يسوع قد تألَّم بسبب صنعه للخير، إلا أنه نال الغلبة في نهاية المطاف. ومثال يسوع يثبت وجهة نظر بطرس في رسالته الأولى ٩:٣: عندما نتألّم بسبب صنع الخير، نرث بركة.
- قَدْ مَضَى يسوع إِلَى ٱلسَّمَاءِ، وخير لنا أنّه هناك. ربط سبيرجن (Spurgeon) هذا الأمر باختفاء رئيس الكهنة الذي كان يخدم إسرائيل يوم الكفارة عن الشعب ودخوله وراء الحجاب. “مع أنّه لم يكن معهم، إِلَّا أنّه كان مع الله، وهذا خير لهم. كان رئيس الكهنة مفيدًا لهم وراء الحجاب أكثر منه خارج الحجاب؛ فقد كان يصنع من أجلهم في الخفاء ما لم يكن يستطع إنجازه في العلانية. يسرّني أنَّ سيّدي مع الآب. أحيانًا لا أستطيع الوصول إلى الله، وكأني ممنوع من الدخول بسبب عجزي؛ أمَّا هو فدائمًا عند الله ليشفع فيَّ.”
- إنَّ صلتنا بيسوع تشبه صلة الصبي الصغير بطائرته الورقيّة. قد طارت طائرته عاليًا في السماء إلى درجة أنَّه لم يعد قادرًا على مشاهدتها. فسأله أحدهم: ’كيف تعرف أنّها لا تزال هناك؟‘ أجاب الصبي: ’أستطيع أن أشعر بها تسحبني.‘ فنحن لا نستطيع أنْ نرى يسوع متربّعًا على عرشه في السماء، ولكن يمكننا بالتأكيد أن نشعر به يجذبنا إليه.
- حيث أنَّ يسوع مَضَى إِلَى ٱلسَّمَاءِ، فإنّ كنيسته في أمان. “على الكنيسة ألا ترتعد أو تفكر في مد يد عدم الإيمان لتثبيت تابوت الرب. فتاريخ الكنيسة ينبغي أنْ يكون تكرارًا لتاريخ المسيح: فسوف تتعرّض للخيانة وللجلد وللاتّهام زورًا وسيبصق عليها؛ وقد تتعرَّض للصلب والاستشهاد؛ لكنها سوف تقوم مَرَّة أخرى. فقد قام سيدها وهي مثله ستقوم وتفوز بالمجد. فلا يمكنك أن تقتل الكنيسة إلى أن تتمكن من قتل المسيح، ولا يمكنك أبدًا أن تهزمها حتى تهزم الرب يسوع، المُتوَّج بالفعل بتاج الغلبة.” سبيرجن (Spurgeon)