سفر الجامعة – الإصحاح ١١
نحو الحكمة الحقيقية
أولًا. النظر إلى ما وراء المرئي
أ ) الآيات (١-٢): العمل لأجل فائدة لا تُرى في الحاضر.
١اِرْمِ خُبْزَكَ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ. ٢أَعْطِ نَصِيبًا لِسَبْعَةٍ، وَلِثَمَانِيَةٍ أَيْضًا، لأَنَّكَ لَسْتَ تَعْلَمُ أَيَّ شَرّ يَكُونُ عَلَى الأَرْضِ.
١. اِرْمِ خُبْزَكَ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ: الراجح أن هذا يشير إلى مغامرة شحنٍ تطلَّبت الكثير من الصبر للحصول على عائدات الاستثمار. المقصود هنا هو أنّ الإنسان يُحسِن ويتصرف بحكمة إن عمل لأجل الحصول على عائدات لا يمكن رؤيتها بصورة مباشرة.
• “يُشار هنا إلى عنصر الثقة في عالم التجارة قديمًا. قد تتأخَّر السفن السائرة في رحلاتٍ تجارية قبل أن يصل أي ربح.” إيتون (Eaton)
• يظنّ بعض المُفسِّرين (تراب [Trapp] وكلارك [Clarke] وآخرين) أن هذه إشارة إلى السخاء. كثيرًا ما تكون جملة: اِرْمِ خُبْزَكَ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ طريقةً لقول: “أعطِ أشياءك المادية للمحتاجين بطريقة قد تبدو تضييعًا لها، مثلما يكون رمي ’الخبز عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ‘ وستُكافَأ.” إن كان هذا هو معنى الجملة، فإن القصد هو نفسه إلى حد كبير: اِعمل شيئًا الآن لأجل مكافأة لا تُرى فورًا.
٢. أَعْطِ نَصِيبًا لِسَبْعَةٍ، وَلِثَمَانِيَةٍ أَيْضًا، لأَنَّكَ لَسْتَ تَعْلَمُ أَيَّ شَرّ يَكُونُ عَلَى الأَرْضِ: ينصح الواعظ بالسخاء، وهو يُعطي هذه النصيحة في ضوء أن المستقبل، وإن كان ينطوي على عدم اليقين، ينبغي الاستعداد له. يستمرّ بهذه الأفكار في توجيهنا نحو مكان الحكمة الحقيقية.
• “جملة ’أَعْطِ نَصِيبًا لِسَبْعَةٍ‘ نصيحة لاستغلال كل فرصة حتى غير المؤكدة منها، لأنّ الإنسان لا يعرف الكوارث التي قد تواجهه، ولأنّه لا بأس في التحضير مسبقًا لمثل هذه الطوارئ.” مورجان (Morgan)
ب) الآيات (٣-٤): السبب والنتيجة وحدود التحليل.
٣إِذَا امْتَلأَتِ السُّحُبُ مَطَرًا تُرِيقُهُ عَلَى الأَرْضِ. وَإِذَا وَقَعَتِ الشَّجَرَةُ نَحْوَ الْجَنُوبِ أَوْ نَحْوَ الشَّمَالِ، فَفِي الْمَوْضِعِ حَيْثُ تَقَعُ الشَّجَرَةُ هُنَاكَ تَكُونُ. ٤مَنْ يَرْصُدُ الرِّيحَ لاَ يَزْرَعُ، وَمَنْ يُرَاقِبُ السُّحُبَ لاَ يَحْصُدُ.
١. إِذَا امْتَلأَتِ السُّحُبُ مَطَرًا تُرِيقُهُ عَلَى الأَرْضِ: شدَّد سليمان بهذه الأمثلة على فكرة السبب والنتيجة. هذا المبدأ يوجِّهنا نحو الأبدية، لأنّ شرّ الإنسان أو صلاحه في هذه الحياة الأرضية عادةً ما لا يُجاب عنه في هذه الحياة. فينبغي للنتيجة الضرورية والأكيدة لذلك السبب أن تُدرَك في الأبدية.
• السُّحُب مُصمَّمة لتمتلئ بالمطر، وبالتالي تُرِيقُهُ عَلَى الأَرْضِ. بالنسبة لسبيرجن (Spurgeon)، تشير فكرة التصميم هذه وما ينتج عنها إلى عمل يسوع المسيح لأجلنا: “والآن، أيّها القلب العزيز، إن كنتَ تؤمن بأن يسوع المسيح سحابة تمتلئ بالمطر، فلأي سبب هو ممتلئ؟ لماذا سيُفرِغ نفسه على الأرض؟ لم يكن لديه احتياج لأن يكون إنسانًا ممتلئًا بالشعور بالآخرين إلا ليشعر مع الرجال والنساء الحزانى النائحين. لم يكن هناك احتياج لأن يسيل دمه إلا حتّى يسيل دمه لأجلك. لم تكن هناك ضرورة لموته إلا ليحرِّرك موته من الموت.”
• فِي الْمَوْضِعِ حَيْثُ تَقَعُ الشَّجَرَةُ هُنَاكَ تَكُونُ: بقي تفسير جيروم الغريب للشجرة التي وقعت شائعًا، وبعض المسيحيين الحقيقيين يقتبسونه مخرجين القول الكتابي من سياقه. قال جيروم إن الشجرة هي الإنسان الميت، ومصيره محتوم بالموت. ولكنْ مع أن هذه حقيقة، فإنّه لا يمكن إثبات هذا التفسير من هذه الآية.” رايت (Wright)
٢. مَنْ يَرْصُدُ الرِّيحَ لاَ يَزْرَعُ: الفلاح الذي يكثِر من التحليل بشأن الرِّيح والسُّحُب لن يزرع حقله، وبالتالي لاَ يَحْصُدُ. يدفعنا الواعظ بلطفٍ بعيدًا عن نهج التحليل الزائد في الحياة.
• “إن كُنّا دائمًا ننتظر ظروفًا ملائمة، فسنشابه الفلّاح الذي يبحث دائمًا عن الطقس الأفضل، فيمرُّ كلُّ الخريف من دون أن تصل قبضةٌ واحدة من البذور إلى أتلام أرضه.” ماير (Meyer)
• “إن استمررنا في مراقبة الظروف، بدلًا من الوثوق بالله، فسنقع في خطية العصيان. يأمرني الله بأن أبذر: أنا لا أبذر لأن الريح ستحمل بعض بذوري بعيدًا. ويأمرني الله بأن أحصد: أنا لا أحصد لأنّ هناك سحابة سوداء، وقبل أن أتمكّن من تخزين ما أحصده، سيفسد بعضه. يمكنني أن أقول ما أريد، ولكنني أبقى مذنبًا بالعصيان.” سبيرجن (Spurgeon)
• استمرّ سبيرجن (Spurgeon) في عظته تلك (زرع في الريح وحصاد تحت السحاب – [Sowing in the Wind, Reaping Under Clouds]) ليصف طرقًا أخرى يُمثِّل بها هذا الموقف خطايا نحو الله والآخرين من الناس. إن مراقبة الظروف بدلًا من الوثوق بالله يُظهِر عدم الإيمان والعصيان والخوف الأحمق والكسل.
ثانيًا. التحرُّك نحو الحكمة الحقيقية كرًّا وفرًّا
أ ) الآية (٥): محدودية المعرفة.
٥كَمَا أَنَّكَ لَسْتَ تَعْلَمُ مَا هِيَ طَرِيقُ الرِّيحِ، وَلاَ كَيْفَ الْعِظَامُ فِي بَطْنِ الْحُبْلَى، كَذلِكَ لاَ تَعْلَمُ أَعْمَالَ اللهِ الَّذِي يَصْنَعُ الْجَمِيعَ.
١. كَمَا أَنَّكَ لَسْتَ تَعْلَمُ مَا هِيَ طَرِيقُ الرِّيحِ: يذكِّرنا سليمان ثانيةً بمحدوديات المعرفة البشرية. لا نعرف طَرِيقُ الرِّيحِ ولا كَيْفَ الْعِظَامُ فِي بَطْنِ الْحُبْلَى.
• “وهكذا، في هذه النقطة من مناشدة الواعظ الختامية، يؤكِّد ببساطة على الحقيقة التالية: هناك نواحٍ في عمل الله على الأرض نعجز عن شرحها. السرّ الذي يحيط بأصلنا يكمن وراء كل الحقيقة.” إيتون (Eaton)
• كما قال يسوع لاحقًا: «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ» (يوحنا ٣: ٨).
٢. كَذلِكَ لاَ تَعْلَمُ أَعْمَالَ اللهِ الَّذِي يَصْنَعُ الْجَمِيعَ: كما أننا لا نعرف الأشياء المخفية، فإنّنا لا نعرف أَعْمَالَ اللهِ بطريقة شاملة وتامّة. يأتي بنا الواعظ إلى نقطة التواضع والخضوع لله وأعماله التي تدفعنا ثانيةً للخروج من منظور تَحْتَ الشَّمْسِ الذي كان راسخًا لديه.
ب) الآية (٦): زرع البذور بثقة تفوق اليقين.
٦فِي الصَّبَاحِ ازْرَعْ زَرْعَكَ، وَفِي الْمَسَاءِ لاَ تَرْخِ يَدَكَ، لأَنَّكَ لاَ تَعْلَمُ أَيُّهُمَا يَنْمُو: هذَا أَوْ ذَاكَ، أَوْ أَنْ يَكُونَ كِلاَهُمَا جَيِّدَيْنِ سَوَاءً.
١. فِي الصَّبَاحِ ازْرَعْ زَرْعَكَ، وَفِي الْمَسَاءِ لاَ تَرْخِ يَدَكَ: باستخدام الواعظ لصورٍ زراعية يُخبِرنا بأن نعمل أعمالًا مختلفة: العمل الذي يعمله الإنسان فِي الصَّبَاحِ، والعمل الذي يعمله فِي الْمَسَاءِ.
• “فَهِم البعض عبارة ’ازْرَعْ زَرْعَكَ‘ بمعنى ولادة الأولاد، مُتبعين بهذا التلمود والمدراش، ولكنّ هذا الفهم لا يتوافق مع السياق.” إيتون (Eaton)
٢. لأَنَّكَ لاَ تَعْلَمُ أَيُّهُمَا يَنْمُو: يدفع سليمان ثانيةً نحو الخسارة المتواضعة للثقة بالذات. علينا أن نجتهد في كل أنواع العمل، لأنّنا لا نعلم النتائج. نعرف عن المستقبل أقل مما نظنّ أنّنا نعرف. يزعزع هذا منظور تَحْتَ الشَّمْسِ الذي كان راسخًا ومؤكَّدًا في السابق.
ج) الآيات (٧-٨): آخر مغازلة مع منظور تَحْتَ الشَّمْسِ.
٧اَلنُّورُ حُلْوٌ، وَخَيْرٌ لِلْعَيْنَيْنِ أَنْ تَنْظُرَا الشَّمْسَ. ٨لأَنَّهُ إِنْ عَاشَ الإِنْسَانُ سِنِينَ كَثِيرَةً فَلْيَفْرَحْ فِيهَا كُلِّهَا، وَلْيَتَذَكَّرْ أَيَّامَ الظُّلْمَةِ لأَنَّهَا تَكُونُ كَثِيرَةً. كُلُّ مَا يَأْتِي بَاطِلٌ.
١. اَلنُّورُ حُلْوٌ، وَخَيْرٌ لِلْعَيْنَيْنِ أَنْ تَنْظُرَا الشَّمْسَ: بعد المجادلة بصورة متكرِّرة مع المنظور الذي يُعبِّر عنه الواعظ بكلمتي ’تَحْتَ الشَّمْسِ،‘ يعبِّر مرّة أخرى عن هذه الفكرة قبل أن يصل لاستنتاجاته في الإصحاح الأخير من سفر الجامعة.
٢. وَلْيَتَذَكَّرْ أَيَّامَ الظُّلْمَةِ: تُعطي الشمس النور، ولكن بدا أنّ منظور تَحْتَ الشَّمْسِ يأتي بالواعظ (وبنا) إلى أَيَّامَ الظُّلْمَةِ، فإن عاشها في إطار هذا المنظور، فستكون أيام الظلمة كَثِيرَةً، وسيأتي الكثير من البَاطِل.