سفر الجامعة – الإصحاح ١٢
خِتَامَ الأَمْرِ
أولًا. الحياة في نور الأبدية
أ ) الإصحاح ١١، الآيات (٩-١٠): تذكُّر الدينونة في شبابك لأنها ستأتي يومًا ما.
٩اِفْرَحْ أَيُّهَا الشَّابُّ في حَدَاثَتِكَ، وَلْيَسُرَّكَ قَلْبُكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ، وَاسْلُكْ فِي طُرُقِ قَلْبِكَ وَبِمَرْأَى عَيْنَيْكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى هذِهِ الأُمُورِ كُلِّهَا يَأْتِي بِكَ اللهُ إِلَى الدَّيْنُونَةِ. ١٠فَانْزِعِ الْغَمَّ مِنْ قَلْبِكَ، وَأَبْعِدِ الشَّرَّ عَنْ لَحْمِكَ، لأَنَّ الْحَدَاثَةَ وَالشَّبَابَ بَاطِلاَنِ.
١. اِفْرَحْ أَيُّهَا الشَّابُّ في حَدَاثَتِكَ: ربما هذه الجملة تدلّ على أن سليمان نظر في سنّه المتقدّمة إلى أيّام شبابه، قبل أن أثَّر منظور تَحْتَ الشَّمْسِ على حياته وعقله. ويعبِّر هنا عن رجائه بما هو أفضل لقرّائه من الشباب.
• يكتب مورغان (Morgan) بشأن هذا الجزء الأخير من السفر، بدءًا بجامعة ١١: ٩: “كلماته الأولى، مثل الكلمات الأولى في بيانٍ ملك في أيّامه الأخيرة، تشير إلى فكر ورغبة الله الحقيقيين تجاه الناس: ’اِفْرَحْ.‘”
• هذا يشير إلى أن سليمان في خاتمته رأى بوضوح أنّ هناك مكان في الْحَدَاثَةَ (ولكنْ ليس فيها فقط) للمسرّات والمتع المشروعة في الحياة. فإن لم يُوجَد معنى الحياة في السعي وراء المسرّة (كما في جامعة ٢: ١٠-١١)، فإنّه لا يوجَد في الزُّهْد وإنكار الذات لأجل الزهد وإنكار الذات أيضًا.
• إن قبِلنا حقّ الشطور القليلة التالية، نرى أنّ الحياة أكبر وأبعد ممّا نراه، وأن هناك أبدية وإله أبدي ينبغي وضعه في اعتبارنا، وعندئذٍ يمكن التمتُّع بمسرّات الحياة المُشروعة بأفضل معنى. لا يحاول الإنسان أن يجد المعنى في هذه المسرّات، ولكنّها تُضفي شيئًا من النكهة إلى حياة تجِد معناها في الأبدية والله الأبدي.
• “بهذا الموقف الذهني يمكننا الآن أن ننتقل إلى مُتَع الحياة… ليس كما لو كانت مخدِّرًا يهدِّئنا، ولكن بوصفها هباتٍ من الله تنشِّطنا.” كيدنر (Kidner)
• “كتب راب (Rab)، المعلِّم اليهودي في القرن الثالث الميلادي: ’سيكون على الإنسان أن يُعطي حسابًا عمّا رآه ولم يتمتَّع به.‘” رايت (Wright)
٢. اسْلُكْ فِي طُرُقِ قَلْبِكَ وَبِمَرْأَى عَيْنَيْكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى هذِهِ الأُمُورِ كُلِّهَا يَأْتِي بِكَ اللهُ إِلَى الدَّيْنُونَةِ: يأتي الواعظ هنا إلى الإجابة بشأن منظوره وما يكتب في كل كتابه. يمكن للإنسان أن يحيا بحسب قلبه وبحسب ما يراه، ولكن ينبغي ألا يظنّ أن قلبه أو عينيه هما من سيكونان قاضييه. فاللهُ موجود في السماء، وهو من سيأتي بكل حياتك وكل أعمالك إِلَى الدَّيْنُونَةِ.
• “هذا تصريح قصير، لأنّه لم يعرف أكثر من الواقع، ولا يمكنه أن يُضيف شيئًا إليه.” ديين (Deane)
• لدينا هنا ترياق منظور تَحْتَ الشَّمْسِ ومنظوره المُضاد. لا يعيش الإنسان الحياة لأجل هذه الحياة فقط، بل لأجل الأبدية، عارفًا أن الخير سيُكافَأ والشّرّ سيُدان بصورة كاملة من الله الذي سوف يَأْتِي بِكَ… إِلَى الدَّيْنُونَةِ. يُشير سليمان بصورة حرفية إلى الدَّيْنُونَةِ، التي هي مساءلتنا العظيمة أمام الله.
• “نظام سليمان القضائي ليس من ’نوع سيدة العدل الماسكة ميزانًا بيدها وهي معصوبة العينين،‘ ولا ’الحياد البارد في قاضٍ غير متحيِّز،‘ ولكنّه الطاقة المُشتعلة التي لا بدّ أن يصوّب لله بها أن يصوِّب كلِّ شيء” إيتون (Eaton). هذا يعطي معنى كاملًا لكلّ شيء.
٣. فَانْزِعِ الْغَمَّ مِنْ قَلْبِكَ: عَيش الحياة في نور الأبدية والله السرمدي يعطينا رجاءً بشأن هذه الحياة، وليس فقط الحياة الآتية. سينزع هذا المنظور الْغَمَّ مِن القلب.
• عرِف الرسول بولس أن هذا المنظور يطرد الْغَمَّ مِن القلب، ولذا كتب لاحقًا: إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلًا فِي الرَّبِّ. (١ كورنثوس ١٥: ٥٨)
• من دون هذا المنظور إلى الأبدية والله السرمدي، تكون الحياة باطلة وبلا معنى. وقد فهم الرسول بولس هذه الحقيقة، فقال: إِنْ كَانَ لَنَا فِي هذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي الْمَسِيحِ، فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ النَّاسِ. (١ كورنثوس ١٥: ١٩)
٤. أَبْعِدِ الشَّرَّ عَنْ لَحْمِكَ: عَيش الحياة في نور الأبدية والله السرمدي حافزٌ أيضًا لعيش حياة مُقدَّسة وتقية في أيّامنا على الأرض. نعرف أنّ نيّاتنا الصالحة ستُكافَأ وتُبارَك، ليس فقط في هذه الحياة، بل وفي الحياة الآتية أيضًا.
٥. لأَنَّ الْحَدَاثَةَ وَالشَّبَابَ بَاطِلاَنِ: في منظور تَحْتَ الشَّمْسِ، الْحَدَاثَةَ وَالشَّبَابَ هما الشيء المهمّ الوحيد. لكنّ هذا يتغيَّر حين نعيش في نور الأبدية والله السرمدي.
ب) الإصحاح ١٢، الآية (١): قيمة تذكُّر الله والأبدية في الشباب.
١فَاذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ، قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ أَيَّامُ الشَّرِّ أَوْ تَجِيءَ السِّنُونَ إِذْ تَقُولُ: «لَيْسَ لِي فِيهَا سُرُورٌ».
١. فَاذْكُرْ خَالِقَكَ: فكرة ’الخَالِق‘ مهمة. هذا أوَّل ذكرٍ لله بصفته الخالق. حتّى هذه اللحظة عمل الواعظ بجدٍّ واجتهاد في تجاهل الله السرمدي الذي لا بدّ أن يَمثُل الإنسان أمامه في المستقبل، ومع هذا رفضَ أيضًا أن يفكِّر بالله الخالق الذي كان قبل وجوده. هذا التجاهل الذي فرضه سُليمان على نفسه خفَّف من الإحساس بالمساءلة والمحاسبية أمام الخالق الذي سيُحاسَب أمامه في الحياة الآتية.
• “تأتي الكلمة ’خالق‘ بصيغة الجمع في اللغة العبرية، مما يشير إلى عظمة جلاله.” إيتون (Eaton)
٢. فَاذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ: عرِف سُليمان أن الشباب هم الذين في الغالب يتجاهلون حقيقة الأبدية والله السرمدي. هذا أمرٌ طبيعي، ولكنّه مؤسِف. ففي الشباب، يكون الإنسان أكثر صعوبة في إقناعه بأن هذه الحياة ليست سوى مُقدِّمة قصيرة إلى الأبدية.
• اقترح آدم كلارك (Adam Clarke) عدّة أفكار عملية ومهمة استقاها من هذا الحضّ، ومنها:
لستَ لنفسك، ليس لك حقّ بامتلاك نفسك. الله صنعك. هو خَالِقَكَ.
اذْكُرْه؛ ضع في اعتبارك أنّه خالقك.
تذكَّر الله فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ، وأعطِهِ المكانة الأولى وأفضل ما لديك.
• “يحثّهم الواعظ هنا على أن يتذكَّروا الله مُبكّرًا، وأن يجمعوا المنّ في صباح حياتهم، ليقدِّموا باكوراتهم لله.” تراب (Trapp)
• “إذ تكون قواهم في الشباب أكثر نشاطًا، ويكونون أكثر قدرة على الاستقاء من المُتَع والمسرّات الأسمى. فسيكون الإيمان والرجاء والمحبة في أسمى حيويتهم ونشاطهم وحالتهم غير المُثقَلة. وسيكون سهلًا عليك أن تؤمن وترجو وتصلّي وتحبّ وتطيع وتحمل صليبك أكثر ممّا هو في سن الشيخوخة والهرَم.” كلارك (Clarke)
٣. قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ أَيَّامُ الشَّرِّ أَوْ تَجِيءَ السِّنُونَ إِذْ تَقُولُ: «لَيْسَ لِي فِيهَا سُرُورٌ»: نصح الواعظ الشباب بأن يتذكَّروا الله والأبدية قبل أن يعانوا كثيرًا بخضوعهم لمنظور تَحْتَ الشَّمْسِ وكل التفاهة واللامعنى المُتّصلة بها.
ج) الآيات (٢-٥): وصف شعري للتقدُّم في العمر.
٢قَبْلَ مَا تَظْلُمُ الشَّمْسُ وَالنُّورُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ، وَتَرْجعُ السُّحُبُ بَعْدَ الْمَطَرِ. ٣فِي يَوْمٍ يَتَزَعْزَعُ فِيهِ حَفَظَةُ الْبَيْتِ، وَتَتَلَوَّى رِجَالُ الْقُوَّةِ، وَتَبْطُلُ الطَّوَاحِنُ لأَنَّهَا قَلَّتْ، وَتُظْلِمُ النَّوَاظِرُ مِنَ الشَّبَابِيكِ. ٤وَتُغْلَقُ الأَبْوَابُ فِي السُّوقِ. حِينَ يَنْخَفِضُ صَوْتُ الْمِطْحَنَةِ، وَيَقُومُ لِصَوْتِ الْعُصْفُورِ، وَتُحَطُّ كُلُّ بَنَاتِ الْغِنَاءِ. ٥وَأَيْضًا يَخَافُونَ مِنَ الْعَالِي، وَفِي الطَّرِيقِ أَهْوَالٌ، وَاللَّوْزُ يُزْهِرُ، وَالْجُنْدُبُ يُسْتَثْقَلُ، وَالشَّهْوَةُ تَبْطُلُ. لأَنَّ الإِنْسَانَ ذَاهِبٌ إِلَى بَيْتِهِ الأَبَدِيِّ، وَالنَّادِبُونَ يَطُوفُونَ فِي السُّوقِ.
١. قَبْلَ مَا تَظْلُمُ الشَّمْسُ وَالنُّورُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ: يتّفق معظم الدارسين أن الآيات القليلة التالية تقدِّم وصفًا شعريًا لتأثيرات التقدُّم في العمر.
• الأذرع والأيدي التي تحمي الجسد تعاني الآن الارتجاف (يَتَزَعْزَعُ فِيهِ حَفَظَةُ الْبَيْتِ).
• الأرجل والركب تبدأ بالارتخاء (تَتَلَوَّى رِجَالُ الْقُوَّةِ).
• تُفقَد الأسنان ويصير المضغُ أصعب (تَبْطُلُ الطَّوَاحِنُ لأَنَّهَا قَلَّتْ).
• تُظلِم العيون (تُظْلِمُ النَّوَاظِرُ مِنَ الشَّبَابِيكِ)
• تضعف الأذن أكثر فأكثر (يَنْخَفِضُ صَوْتُ الْمِطْحَنَةِ).
• يصير النوم أصعب ويسهل على الإنسان أن يستيقظ (يَقُومُ لِصَوْتِ الْعُصْفُورِ).
• يتراجع تقدير الإنسان للغناء والموسيقى (تُحَطُّ كُلُّ بَنَاتِ الْغِنَاءِ).
• يصير الإنسان أكثر خوفًا في الحياة (يَخَافُونَ مِنَ الْعَالِي، وَفِي الطَّرِيقِ أَهْوَالٌ).
• يبيضّ الشعر (اللَّوْزُ يُزْهِرُ).
• يصير النشِط ضعيفًا (الْجُنْدُبُ يُسْتَثْقَلُ).
• يضعف الشغف والرغبات في الحياة وتتراجع (الشَّهْوَةُ تَبْطُلُ).
الشَّهْوَةُ تَبْطُلُ: “لا ترِد الكلمة العبرية المُترجمة إلى ’شَّهْوَة‘ في أي موقع آخر في العهد القديم، ومعناها محلّ خلاف” ديين (Deane). ولكن كيدنر (Kidner) يقول: “هذا هو مقصد التعبير العبري: ’تفشل نبتة القبار.‘ كانت هذه النبتة تُعتبَر محفِّزًا قويًا للشهية والشهوة الجنسية.”
٢. لأَنَّ الإِنْسَانَ ذَاهِبٌ إِلَى بَيْتِهِ الأَبَدِيِّ، وَالنَّادِبُونَ يَطُوفُونَ فِي السُّوقِ: في نهاية تقدُّم الإنسان في السن يصل بَيْتِهِ الأَبَدِيِّ، وليس القبر والظلمة غير المعروفين. يربط الواعظ الآن تقدُّم الإنسان في العمر بالأبدية، لا بالباطل.
• نُحسِن حين نتذكَّر أن العهد القديم عمومًا لا يصرِّح بحياة الإنسان بعد الموت وحالته فيها بيقين كبير. ومع هذا، فإنّه بالبحث المجتهِد وصل الواعظ إلى الاستنتاج الصحيح، أنّه بعد هذه الحياة الإِنْسَانَ ذَاهِبٌ إِلَى بَيْتِهِ الأَبَدِيِّ، بينما النَّادِبُونَ يَطُوفُونَ فِي السُّوقِ (يَحمِلُونَكَ إلَى القَبْرِ).
• “وهكذا، يختتم هذا السِفر الرائع بإعلان لحقّ لا يوجد في أيّ موقعٍ آخر في العهد القديم معرَّفًا بهذا الوضوح، وبالتالي يمهِّد الطريق للنور الأوضح الذي سيُسلَّط على المستقبل المخيف بإعلان الإنجيل.” ديين (Deane)
د ) الآيات (٦-٧): مناشَدة أخيرة: تذكَّر الله قبل أن تذهب إلى الحياة وراء الشمس.
٦قَبْلَ مَا يَنْفَصِمُ حَبْلُ الْفِضَّةِ، أَوْ يَنْسَحِقُ كُوزُ الذَّهَبِ، أَوْ تَنْكَسِرُ الْجَرَّةُ عَلَى الْعَيْنِ، أَوْ تَنْقَصِفُ الْبَكَرَةُ عِنْدَ الْبِئْرِ. ٧فَيَرْجعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجعُ الرُّوحُ إِلَى اللهِ الَّذِي أَعْطَاهَا.
١. قَبْلَ مَا يَنْفَصِمُ حَبْلُ الْفِضَّةِ: يناشد سليمان قارئه بأن يتذكَّر الله قبل أن تنتهي الحياة، وقد أورد عدّة صُوَر مجازية لوصف نهاية هذه الحياة.
• “تُشير هذه الصورة إلى قيمة الحياة (الْفِضَّةِ… الذَّهَبِ)، ودراما آخر الحياة التي لا يمكن جمع أجزاءها معًا مرّة أخرى.” إيتون (Eaton)
٢. فَيَرْجعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجعُ الرُّوحُ إِلَى اللهِ الَّذِي أَعْطَاهَا: لهذا ضروري أن تَذَكَّر خَالِقَكَ في هذه الحياة، لأنّه حين تنتهي الحياة، سيُقدِّم الإنسان حسابًا للإله السرمدي، ويتأثر به طيلة الأبدية.
ثانيًا. الاستنتاج: الأبدية والله هما ما يجعلان كلَّ شيءٍ ذا قيمة وأهمّيّة
أ ) الآية (٨): تحليل أخير للحياة تَحْتَ الشَّمْسِ.
٨بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، قَالَ الْجَامِعَةُ: الْكُلُّ بَاطِلٌ.
١. بَاطِلُ الأَبَاطِيل: بالمقابلة عاد الواعظ إلى النقطة التي بدأ منها (جامعة ١: ٢). بعد أن يتفحَّص الإنسان تفاهة الحياة بمنظور تَحْتَ الشَّمْسِ (مستبعدًا الأبدية والله السرمدي)، عليه أن يقول إن الحياة ليست بلا معنى وتافهة فقط، ولكنّها ذروة اللامعنى والتفاهة (بَاطِلُ الأَبَاطِيل).
٢. الْكُلُّ بَاطِلٌ: بمنظور تَحْتَ الشَّمْسِ، ليست الحياة فقط بلا معنى، ولكنّ الْكُلُّ بَاطِلٌ. ليس لشيءٍ معنى.
• إنسانٌ تفكَّر عميقًا بمعنى الحياة وثمّن الحياة التي تُعاش بلا معنى، نجا من الهولوكوست (إِبَادَةٌ بِالإِحْراق)، واسمه فيكتور فرانكل (Viktor Frankl). يربط كتابه ’بحث الإنسان عن المعنى‘ – (Man’s Search for Meaning) بعض تجاربه في الحرب وفهمه للحياة. كتب:
• “هذا السعي لإيجاد معنى في حياة الإنسان هو القوة المحفِّزة الرئيسية في الإنسان.” “أظن أن معنى وجودنا لا نخترعه بأنفسنا بل نكتشفه.” فرانكل (Frankl)
• “ألتفت إلى التأثير المؤدي لذلك الشعور الذي يشتكي منه مرضى كثيرون اليوم، وهو شعور تفاهة حياتهم بصورة تامة ونهائية. إنّهم يفتقرون لإدراك معنى يستحقّ عيش الحياة لأجله. يعذِّبهم شعورهم بالفراغ الداخلي… ويظهر هذا الفراغ الوجودي بصورة رئيسية في حالة الملَل.” فرانكل (Frankl)
• حذَّر فرانكل (Frankl) من خطر الذين يعيشون من دون معنى: “ليس من فطرة تُخبِره بما عليه أن يعمله، وليس من تقليدٍ يُخبِره بما عليه أن يعمله. وفي بعض الأحيان لا يعرف ما يتمنّى أن يعمله. وبدلًا من ذلك، إمّا أنّه يتمنّى أن يعمل ما يعمله الآخرون (التوافقية) أو أنّه يعمل ما يتمنّى الآخرون له أن يعمل (الشمولية).”
• لم يكن فرانكل (Frankl) مؤمنًا، ولم يؤمن بأنّ هناك معنى واحدًا للحياة. كان يعتقد بأنّه لكلّ إنسان معنى لحياته، ويمكن لهذا المعنى أن يتغيَّر من لحظة إلى أخرى. كان يعتقد أنّ معنى الحياة يمكن أن يُوجَد بثلاث طرق: أولًا، بعمل عملٍ معين. ثانيًا، باختبار قِيمة معينة. ثالثًا، بالألم.
ب) الآيات (٩-١٢): يحثُّنا الواعظ على السعي نحو الحكمة الحقيقية.
٩بَقِيَ أَنَّ الْجَامِعَةَ كَانَ حَكِيمًا، وَأَيْضًا عَلَّمَ الشَّعْبَ عِلْمًا، وَوَزَنَ وَبَحَثَ وَأَتْقَنَ أَمْثَالًا كَثِيرَةً. ١٠اَلْجَامِعَةُ طَلَبَ أَنْ يَجِدَ كَلِمَاتٍ مُسِرَّةً مَكْتُوبَةً بِالاسْتِقَامَةِ، كَلِمَاتِ حَقّ. ١١كَلاَمُ الْحُكَمَاءِ كَالْمَنَاسِيسِ، وَكَأَوْتَادٍ مُنْغَرِزَةٍ، أَرْبَابُ الْجَمَاعَاتِ، قَدْ أُعْطِيَتْ مِنْ رَاعٍ وَاحِدٍ. ١٢وَبَقِيَ، فَمِنْ هذَا يَا ابْنِي تَحَذَّرْ: لِعَمَلِ كُتُبٍ كَثِيرَةٍ لاَ نِهَايَةَ، وَالدَّرْسُ الْكَثِيرُ تَعَبٌ لِلْجَسَدِ.
١. الْجَامِعَةَ كَانَ حَكِيمًا، وَأَيْضًا عَلَّمَ الشَّعْبَ عِلْمًا: البحث عن المعرفة لم يجعل الواعظ أقل حكمةً. فما يزال مُعلِّم الشَّعْبَ، وكاتب أمثالٍ كثيرة.
٢. كَلاَمُ الْحُكَمَاءِ كَالْمَنَاسِيسِ، وَكَأَوْتَادٍ مُنْغَرِزَةٍ: أبقى الواعظ ثقته بأن الكلام يملك القوّة على أن يُعلِّم ويتحدَّى ويغيِّر الناس. وقد أعطى ثقة مناسبة بالكلمات التي أُعْطِيَتْ مِنْ رَاعٍ وَاحِدٍ، حتى لو أتت بواسطة رجلٍ حكيم أو معلِّم.
• فَهِم الواعظ كيف ينبغي للإنسان أن يُعلِن حقّ الله.
ينبغي أن يعلِّم الشَّعْبَ عِلْمًا.
ينبغي أن يسعى إلى أَنْ يَجِدَ كَلِمَاتٍ مُسِرَّةً.
ينبغي أن يسعى لإبراز الاسْتِقَامَةِ، كَلِمَاتِ حَقّ.
ينبغي أن يجعل كلماته كَالْمَنَاسِيسِ، وَكَأَوْتَادٍ مُنْغَرِزَةٍ، لها هدف وتوجُّه.
ينبغي أن يُقدِّم الكلمات التي أُعْطِيَتْ مِنْ رَاعٍ وَاحِدٍ.
ينبغي أن يفهم أن الدَّرْسُ الْكَثِيرُ تَعَبٌ لِلْجَسَدِ، وأن يكون مستعدًّا لأن يدفع ذلك الثمن.
• الْمَنَاسِيسِ… أَوْتَادٍ مُنْغَرِزَةٍ: لدينا هنا سمتان للأقوال المُوجَّهة من الحكماء. إنّها تنخس وتنغرس في الذاكرة.” كيدنر (Kidner)
• “أدرك أنّ ’كَلِمَاتٍ مُسِرَّةً‘ (تعني حرفيًا ’كلمات المتعة والمسرّة‘) لها تأثير تفتقر إليه الكلمات المُتسرِّعة المتهوّرة وغير المدروسة. ثانيًا، كُتِبت كلماته بِالاسْتِقَامَةِ. توازن هاتان السمتان إحداهما الأخرى. فعندما تكون كلماته ليست مُسِرَّةً جدًا، فسوف تتوقف عن أن تكون مَكْتُوبَةً بِالاسْتِقَامَةِ.” إيتون (Eaton)
• “كان البليغ يبذل جهدًا ليُسمَع ويُفهم ومن ثمّ يُطاع.” تراب (Trapp)
٣. فَمِنْ هذَا يَا ابْنِي تَحَذَّرْ: ينبغي للإنسان أن يهتمّ اهتمامًا خاصًّا بأن يسمع ويُحَث بكلمات الله التي أُعْطِيَتْ مِنْ رَاعٍ وَاحِدٍ.
٤. لِعَمَلِ كُتُبٍ كَثِيرَةٍ لاَ نِهَايَةَ، وَالدَّرْسُ الْكَثِيرُ تَعَبٌ لِلْجَسَدِ: يحذِّرنا الواعظ من أن نؤمن بكل ما نقرأ، لأنّه ليس كل ما نقرأه يأتي مِنْ رَاعٍ وَاحِدٍ.
• “نصير مدمنين على البحث نفسه، ونزداد حبًّا لأسئلتنا الصعبة. ويمكن لإجابةٍ أن تُفسِد كلَّ شيء.” كيدنر (Kidner)
• “مرّت ألفا سنة منذ كتابة هذه الكلمات، ومنذُ ذلك الوقت أُضيفت ملايين الأطروحات، حول شتى المواضيع، إلى كل الأطروحات التي كُتِبت قبلًا. وما تزال المطابع تئن تحتَ ضغط طباعة الكتب التي لا حصر لها، ومع هذا لم تكتمل الكتابة حول أي موضوع، بالرغم من كلّ ما كُتِب عنه.” كلارك (Clarke)
ج) الآيات (١٣-١٤): خِتَامَ الأَمْرِ: عِش كإنسان مستعدٍّ للدينونة والأبدية.
١٣فَلْنَسْمَعْ خِتَامَ الأَمْرِ كُلِّهِ: اتَّقِ اللهَ وَاحْفَظْ وَصَايَاهُ، لأَنَّ هذَا هُوَ الإِنْسَانُ كُلُّهُ. ١٤لأَنَّ اللهَ يُحْضِرُ كُلَّ عَمَل إِلَى الدَّيْنُونَةِ، عَلَى كُلِّ خَفِيٍّ، إِنْ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا.
١. فَلْنَسْمَعْ خِتَامَ الأَمْرِ كُلِّهِ: بعد كتابة معظم سِفر الجامعة انطلاقًا من منظورٍ شائع ولكن خاطئ، منظور استثنى المساءلة الأبدية وإله الأبدية، يختم الواعظ الآن بإيصالنا إلى خِتَامَ الأَمْرِ كُلِّهِ.
٢. اتَّقِ اللهَ وَاحْفَظْ وَصَايَاهُ، لأَنَّ هذَا هُوَ الإِنْسَانُ كُلُّهُ: وصل سليمان إلى فهم قيمة إطاعة الله، وأن هذه الطاعة تُرضي الله وتتمِّم مصير الإنسان.
• “اتَّقِ الله (مخافة الله) دعوة تضعنا في مكاننا الحقيقي، وتضع كل المخاوف والآمال والإعجابات الأخرى في مكانها.” كيدنر (Kidner)
• “من تلك النقطة إلى هذه النقطة ينبغي أن تكون رحلة كلّ إنسان في هذا العالم. فنحنُ نبدأ بالباطل واللامعنى، ولا نعرف بصورةٍ كاملة أننا باطلون إلا حين نتقي الله ونحفظ وصاياه.” تراب (Trapp)
• “إن كانت مخافة الله (تَقَوى الله) هي ’بداية الحكمة‘ فهي النهاية أيضًا، الختام. وليس من تقدُّم في حياة المؤمن يتجاهل مخافة الله.” إيتون (Eaton)
• “هذا هو المكان الوحيد في سفر الجامعة الذي تُذكَر فيه ’وصايا‘ الله.” إيتون (Eaton)
• تُضيف بعض الترجمات كلمة غير مفيدة (كلمة ’واجب‘) في جامعة ١٢: ١٣، حيث تقول: ’لأن هذا هو واجب الإنسان.‘ ولكنّ الكلمة ’واجب‘ لا ترد في النص العبري، الذي يعطي معنى أسمى هو: هذَا هُوَ الإِنْسَانُ كُلُّهُ.
• “المعنى الحرفي للعبارة الأخيرة هو: لأَنَّ هذَا هُوَ الإِنْسَانُ كُلُّهُ. ولكن في مواقع أخرى في سفر الجامعة، يأتي التعبير ’الإِنْسَانُ كُلُّهُ‘ بمعنى ’كُلُّ إِنْسَانٍ‘ (انظر جامعة ٣: ١٣؛ ٥: ١٩). ولذا، فإن المعنى المقصود هنا هو أن ’هذا ينطبق على الجميع‘.” إيتون (Eaton)
٣. لأَنَّ اللهَ يُحْضِرُ كُلَّ عَمَل إِلَى الدَّيْنُونَةِ، عَلَى كُلِّ خَفِيٍّ، إِنْ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا: هذا كلام يستحيل قوله من منطلق منظور تَحْتَ الشَّمْسِ، ومع هذا فهو السبب الأساسي وراء كون ’اتّقاء الله وحفظ وصاياه‘ أمرًا صالحًا وحكيمًا.
• هناك حساب أبدي لكلّ شيءٍ نعمله. تأتي هذه الحقيقة على نقيض الإيمان بأن كلَّ شيءٍ باطلٌ وبلا معنى، إذ تعني أن لكل شيءٍ معنى وأهمية، للحاضر والأبدية. “إن كان الله يهتمّ بهذا القدر، فليس من شيءٍ بلا هدف.” كيدنر (Kidner)
• في هذا السِفر فكَّر الواعظ بحرصٍ بمنظور يتبنّاه كثيرون (ويعيشونه): منظور حياة يُعاش من دون وضع الأبدية والله الأبدي في الاعتبار. وبعد كلّ هذا، يصل إلى هذا الاستنتاج، ويتحدى جميع من يستمرّون في اعتناق المنظور الذي تكلَّم منطلقًا منه في معظم السِفر. يسأل الواعظ: “كيف ستكون الأمور لو تبيَّن أنّها مختلفةٌ تمامًا عمّا كنتَ تظنّ؟ وماذا لو لم يكن هذا العالم هو العالم النهائي والأسمى؟ وماذا لو كان الله موجودًا ويجازي الذين يطلبونه؟” إيتون (Eaton)
• كما أوضح الرسول بولس، هذا يضع الحياة في منظورها الصحيح: “لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا. وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ. لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ. فَإِنَّنَا فِي هذِهِ أَيْضًا نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ.” (٢ كورنثوس ٤: ١٧-٥: ٢)
• “هكذا سينتهي السِفر. على هذه الصخرة يمكن أن نُدمَّر. ولكنّها صخرة، لا رمل متحرك، ولذا لدينا فرصة لأن نبني عليها.” كيدنر (Kidner)
• في ثلاثينيات القرن العشرين، آمن رجلٌ أسترالي مدمنٌ على الكحول اسمه آرثر ستيس (Arthur Stace)، وسمع عظةً مُلهِمة حول موضوع ’الأبدية.‘ قال الواعظ: “أتمنّى لو أنني أستطيع أن أصرخ ’الأبدية‘ في كل شوارع سيدني!” تحمَّس ستيس بهذه الكلمات، وغادر الكنيسة شاعرًا بدافعٍ فوري بأن يكتب كلمة ’الأبدية‘ في كل مكان. فوضع قطعة طباشير في جيبه، وانحنى وكتب على الرصيف. كان ستيس شِبه أُمّي، وبالكاد يستطيع أن يكتب اسمه بطريقة مقروءة. ولكن حين كتب كلمة ’الأبدية‘ عمل هذا بخطٍّ جميل، بعرضٍ ستين سنتمترًا تقريبًا على الرصيف. وقضى بقية حياته، حتى العام ١٩٦٧، وهو يستيقظ كل صباح في الساعة الخامسة والنصف، فيصلِّي مدّة ساعة تقريبًا، ثم يجول حول سيدني حيث كان يشعر أن الله قاده لكتابة كلمة ’الأبدية‘ في كل أرجاء المدينة. لو كان سُليمان موجودًا لصادَق على عمل آرثر ستيس ورسالته: ’الأبدية.‘