رسالة كولوسي – الإصحاح ٢
الرد على الهرطقة الكولوسية
أولاً. جهاد بولس
أ ) الآية (١): عمق جهاد بولس من أجل أهل كولوسي والآخرين.
١فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّ جِهَادٍ لِي لأَجْلِكُمْ، وَلأَجْلِ الَّذِينَ فِي لاَوُدِكِيَّةَ، وَجَمِيعِ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا وَجْهِي فِي الْجَسَدِ
- أَيُّ جِهَادٍ لِي لأَجْلِكُمْ : هذا الجهاد كان داخل بولس (أَيُّ جِهَادٍ لِي لأَجْلِكُمْ). ولكن هذا لا يعني أن بولس كان يتعارك مع الآخرين حول مؤمني كولوسي. فوصف بولس حربه الروحية ومحبته الشديدة للكولوسيين على أنه جِهَادٍ.
- استخدم بولس صورة الرياضي في كولوسي ٢٩:١ (مجاهداً)، واستمر في استخدام الإستعارة الرياضية باستخدامه كلمة جِهَادٍ.
- وَجَمِيعِ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا وَجْهِي فِي الْجَسَدِ: من الواضح أن بولس لم يذهب إلى كولوسي من قبل. ولم يراه معظم المؤمنين في كولوسي وجهه فِي الْجَسَدِ. ومع أن سلطة بولس قد امتدت لهؤلاء الذين لم يقابلهم قط – أولئك الذين لَمْ يَرَوْا وَجْهِه – هكذا أيضاً تمتد الينا.
ب) الآيات (٢-٣): اهتمامات وأهداف بولس الخاصة في الجهاد الروحي.
٢لِكَيْ تَتَعَزَّى قُلُوبُهُمْ مُقْتَرِنَةً فِي الْمَحَبَّةِ لِكُلِّ غِنَى يَقِينِ الْفَهْمِ، لِمَعْرِفَةِ سِرِّ اللهِ الآبِ وَالْمَسِيحِ، ٣الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ.
- لِكَيْ تَتَعَزَّى قُلُوبُهُمْ: أراد بولس أن تتعزى قلوبهم لأنه اهتم كثيراً بحالتهم الروحية. فقد عرف بأن المؤمنين الذين يعانون من الإحباط والكآبة هم فريسة سهلة للعالم وللجسد وللشيطان.
- تتشجع: “الكلمة التي يستخدمها بولس هي paraklein. وتعني أحياناً التعزية، وأحياناً أخرى التعضيد، ولكنها دائماً ما تحمل فكرة تمكين شخص ما من مواجهة الصعوبات بثقة وببسالة.” باركلي (Barcley). فقد أراد بولس أن يكون هؤلاء المؤمنين مناسبين للعمل البطولي.
- مُقْتَرِنَةً فِي الْمَحَبَّةِ: أراد بولس هذا لأنه كان مهتماً بوحدتهم. فالوحدة لا تأتي بالإكراه، بل بالمحبة.
- لِكُلِّ غِنَى يَقِينِ الْفَهْمِ، لِمَعْرِفَةِ سِرِّ : أراد بولس ذلك لأنه كان مهتماً بفهمهم. فقد عرف بأن وحدتهم وثباتهم لم يكونا مسألة تتعلق بالمحبة فحسب، ولكنها أيضاً تتعلق بنموهم معاً في الحق الإلهي.
- عرف بولس أن وحدتهم لم تأتِ فقط من المحبة، ولكنها تأتي أيضاً من الحق، كونهم مقترنون معاً في المحبة ونامين في فهم ومعرفة الحق الإلهي.
- الحكمة الحقيقة التي أرادهم بولس أن يعرفوها في المسيح ستوحدهم معاً في المحبة بدلاً من تقسيمهم كما فعلت الحكمة المزيفة.
- كان الغنى الحقيقي بالنسبة لبولس موجوداً بفضل فهم المؤمن الكامل للمسيح. فالكثيرون لا يعرفون ما ينبغي عن شخص الله وهم غير مقتنعون أنه بالحقيقة صالح ومُحب. وآخرون غير واثقين بخلاصهم ويتسائلوا فيما إذا كانت حياتهم المسيحية حقيقة. ولكن الحرية الحقيقية والثقة تأتيان عندما نصل الى هذا اليقين.
- لِمَعْرِفَةِ سِرِّ اللهِ : يُستخدم مصطلح سر الله في طرق قليلة مختلفة في العهد الجديد. ولكن يستخدم بولس هنا المصطلح ليشير الى طبيعة وشخص الله – أي ليصف شيءٌ لا يمكن لنا أن نعرفه إلا إذا كشفه لنا الله.
- “إن كلمة ’المسيح‘ وضعت مقابل كلمة ’السر.‘ فالسر هو المسيح.” ويست (Wuest)
- “قد يقودهم الآخرين إلى الضلال بكلامهم المزيف عن الاسرار؛ لكن يوجد سر واحد فوق الجميع – سر الهدف من محبة الله، المُعلن في المسيح وحده – ولهذا أراد بولس لهم أن يعرفوا هذا السر الذي يفوق الكل، وأن يختبروا حضوره فيهم.” بروس (Bruce)
- تصف رسالة كولوسي ٢٤:١ ولغاية ٣:٢ ثلاثة أسرار:
- الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ: هذه فكرة مهمة في رسالة بولس إلى أهل كولوسي. وبهذه الفكرة، دحض بولس بعض التعاليم الكاذبة التي كانت تُزعج المؤمنين في كولوسي. فقد تأثروا بمعلمين قد أخبروهم أن يسعوا وراء كنوز الحكمة والعلم، ليس وراء يسوع. لهذا كتب بولس قائلاً: “ستجدون جميع كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ في يسوع فقط. فهو يمتلكها كلها.” فليس خطأً أن تسعى وراء الحكمة والعلم، ولكن يجب أن نطلبها من يسوع.
- عندما قال بولس أن هذه الحكمة مخفية في يسوع، استخدم الكلمة اليونانية القديمة apokruphos. “استخدامه لهذه الكلمة بالتحديد كان موجهاً الى الغنوسية… فكانت تؤمن الغنوسية بأن المعرفة الدقيقة كانت ضرورية للخلاص. وهذه المعرفة التي وضعوها في كتبهم والتي اسموها apokruphos كانت محرمة على الإنسان العادي” باركلي (Barcley). لهذا أراد بولس للجميع أن يعرفوا أن الحكمة الحقيقة لم تكن مُخبّأة في كتب سرية، لكنها مُودعة في يسوع المسيح لتكون في متناول الجميع.
- “كلمة ’مخفي‘ لا تعني أنه مغلق عليها بإحكام ولكن بالأحرى موجودة أو مخزونة بعيداً ككنز.” فون (Vaughn).
- “كل سؤال يمكننا أن نسأله حول الله وأهدافه ممكن الآن – هذا هو ما تركز عليه الآية – بالعودة الى يسوع المصلوب والمُقام، المسيا.” رايت (Wright).
- “إنه في الحقيقة سر الله، متعمّق في معجزة وجوده، ومع ذلك، حقيقي جداً لدرجة أن الطفل الصغير يتكلم عنه وكأنه يعرفه تماماً.” مورغان (Morgan)
- عندما يصف بولس حقيقة الله بكلمات مثل الغنى والكنوز، يذكّرنا بأن حقيقة الله ثمينة وتستحق السعي وراءها.
ج ) الآية (٤): تحذير بولس الجادّ.
٤وَإِنَّمَا أَقُولُ هذَا لِئَلاَّ يَخْدَعَكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ مَلِق.
- لِئَلاَّ يَخْدَعَكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ مَلِق: هؤلاء الذين اخبروا أهل كولوسي أن يجدوا الحكمة والمعرفة بعيداً عن بساطة المسيح كانوا مُقنعين جداً. فمن الممكن أن يكون إغراء الحكمة والمعرفة المخفيتين قوي ومخادع.
- لِئَلاَّ يَخْدَعَكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ مَلِق: لم يقُل بولس أنه تم خداعهم، لكنه رأى بوضوح الخطر وحذرهم بشأنه.
- قد يبدو تعليمهم بسيط للغاية، لكن يبقوا مخادعين. فلن يُعلنوا عقائدهم الكاذبة على أنها كاذبة، وتلك العقائد تشبه عادة الحق لدرجة خطيرة.
د ) الآيات (٥-٧): ثقة بولس في موقفهم الحاضر
٥فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ غَائِبًا فِي الْجَسَدِ لكِنِّي مَعَكُمْ فِي الرُّوحِ، فَرِحًا، وَنَاظِرًا تَرْتِيبَكُمْ وَمَتَانَةَ إِيمَانِكُمْ فِي الْمَسِيحِ. ٦فَكَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ الرَّبَّ اسْلُكُوا فِيهِ، ٧مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ فِيهِ، وَمُوَطَّدِينَ فِي الإِيمَانِ، كَمَا عُلِّمْتُمْ، مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ بِالشُّكْرِ.
- فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ غَائِبًا فِي الْجَسَدِ لكِنِّي مَعَكُمْ فِي الرُّوحِ: خلال الصلاة – مركز جهاده المذكور في كولوسي ١:٢ – شعر بولس أنه كان بالفعل مع المؤمنين في كولوسي فِي الرُّوحِ، حتى وإن كان غَائِبًا فِي الْجَسَدِ.
- “إحساس بولس بأنه حاضر بالروح مع اصدقائه الغائبين ممكن أن يكون قوي وواضح للغاية. وربما أفضل مثال على ذلك موجود في كورنثوس الأولى ٣:٥-٥، حيث يتكلم عن نفسه كحاضرٌ في الروح في اجتماع كنيسة كورنثوس (وقت إقامته في أفسس).” بروس (Bruce)
- فَرِحًا، وَنَاظِرًا تَرْتِيبَكُمْ: استمر بولس بالحديث عن نفس الفكرة التي بدأها في الآية السابقة، فهو لم ير أن كنيسة كولوسي قد استسلمت للهرطقة. صحيح أنهم كانوا تحت خطر محدق، لكن كان هناك ترتيب في حياتهم وكان إيمانهم ثابت في المسيح.
- وفقاً لفون (Vaughn)، الكلمات ترتيب وثبات هما كلمتان عسكريتان. “إنه يرى الوضع في كولوسي وكان هناك جيش تحت نيران المعركة إلا أن صفوفه بقيت ثابتة وانضباطهم سليم وايمانهم بالمسيح غير متزعزع.”
- فَكَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ الرَّبَّ اسْلُكُوا فِيهِ: هذه قاعدة رائعة للحياة المسيحية. فلن نصبح كاملين في الجسد ما بدأناه في الروح؛ لذلك كما قَبِلْتُمُ المسيح، اسْلُكُوا فِيهِ بنفس الطريقة. فالأشياء البسيطة في الحياة المسيحية توفر الوقود الروحي للنمو. وعلينا أن نتذكر دائماً الأشياء التي تعملناها (كَمَا عُلِّمْتُمْ).
- “عندما يقول أنهم قبلوا المسيح يسوع ربّاً لهم، يستعمل الفعل المُستخدم خصيصاً ليُشير الى قبول شيء كان قد انتقل إليهم بواسطة التقليد. وبكلمات أخرى، قَبِل أهل كولوسي المسيح نفسه كتقليدهم، وهذا من شأنه أن يوفر حماية كافية ضد تقليد الناس.” (كولوسي٨:٢).” بروس (Bruce)
- “أي أن بولس كان يتكلم عن العقائد بما يخص شخص وعمل الرب يسوع، أكثر من الكلام عنه كشخص، فالأمر الأول كان محور الهرطقة الكولوسية.” ويست (Wuest)
- “لا يقبل خصائصه وصفاته [التي للقداسة] كأشياء بعيدة عن الرب يسوع؛ لكن بقبوله هو، يحصل عليها كلها. فالقديس هو الشخص الذي تعلم فن قبول المسيح.” ماير (Meyer)
- اسْلُكُوا فِيهِ، مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ فِيهِ: يستخدم بولس دمج غريب للاستعارات. فنحن كمؤمنين نسلك فيه ولكننا أيضاً متأصلين وايضاً مَبْنِيِّينَ فِيهِ. الاستعارات مدموجة نوعاً ما، لكن الرسالة واضحة: تأسسوا واستمروا في النمو.
- “ليس أمراً طبيعياً للرسول أن يستخدم مثل هذه الاستعارة المزدوجة، فقد استخدم استعارة نمو شجرة واستعارة البناء. فعليهم أن يتجذروا؛ كالبذرة الجيدة التي تبذر وتتجذر وتنشر جذورها بسرعة وبعمق. ويجب أن يكون لهم أساس؛ كالأساس الذي يوضع ويبنى عليه. وفي الحالة الأولى، يجب أن يأتوا بثمر كثير؛ وفي الأخرى، ينبغي أن ينمو كي يسكن الله فيهم من خلال الروح القدس.” كلارك (Clarke)
ثانياً. يحذر بولس من انتشار الهرطقة الكولوسية
أ ) الآية (٨): تحذير: لا تنخدعوا بالفلسفة والتقاليد.
٨اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِالْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِل، حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ الْمَسِيحِ.
- اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِالْفَلْسَفَةِ: كانت التعاليم الكاذبة بين الكولوسيين تتمحور حول الفَلسَفَةِ وَتَعَالِيمَ خَادِعَةٍ فَارِغَةٍ. والأهم من ذلك كله، أن هذه التعاليم الخادعة كانت حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ. كان عليها ختم الإنسان وليس الله.
- قال بييك (Peake) إن أفضل معنى لكلمة يَسْبِيكُمْ هي: ’أن يُوقِعَكُمْ كفريسة.‘ وتعني الفكرة أيضاً معنى السرقة والنهب. “كانت سلعتهم الخلاص الذي قبلوه من المسيح؛ وحاول كل من المعلمين اليهود والأمم أن يسلبوهم منه من خلال تشويه أذهانهم ويبعدوهم عن الحقائق المسيحية.” كلارك (Clarke)
- هذه الْفَلْسَفَةِ التي هددت المؤمنين في كولوسي كانت خليط غريب من الغنوسية القديمة والفلسفة اليونانية والديانات الغامضة المحلية والصوفية اليهودية. وكانت الفلسفة التي هددت المؤمنين في كولوسي خطيرة جداً لأنها لم تظهر بأنها خاطئة وفاسدة، بل بدت وكأنها نبيلة وعقلانية للغاية.
- علق فينسنت (Vincent) على كلمة فلسفة كالتالي: “كان معنى الكلمة في البداية جيد، فكانت الفلسفة تعني في البداية: حب الحكمة. ولكن استخدمها بولس هنا بمعنى التكهنات العقيمة، مشيراً إلى الممارسات التي كان يستخدمها المعلمين الكذبة في كولوسي كرمز للتعبير عن نظام التكهنات الخاص بهم ليخفوا ممارساتهم الزاهدة التي لا تختلف عن الصوفية.”
- يوجد هناك نقاش هام بين المفسرين بما يخص طبيعة الهرطقة الكولوسية تحديداً. فيراها البعض على أنها بشكل عام مصطلح للغنوسية الأولى مع إضافة بعض العناصر اليهودية المتصوفة؛ ويراها البعض الآخر على أنها صوفية يهودية مع بعض مفاهيم الغنوسية الأولى. ولكن بغض النظر عن أصل أو تكوين هذه الهرطقة، كان واضحاً أنها تحتوي العنصرين.
- الأرتباط بالغنوسية الأولى كان واضحاً من طريقة سرد بولس لنقاطه:
- علّمت الغنوسية أن الله (الروح الكامل) لا يمكن أن يتعامل مباشرة مع العالم المادي. لهذا اهتم بولس أن يُظهر أن المسيح هو الله، وأنه جاء في جسم بشريته. (كولوسي ١٩:١-٢٢).
- علّمت الغنوسية أنه طالما لا يمكن أن يكون هناك أي إتصال بين الله والعالم المادي، فهذا يثبت أن الله لم يخلق العالم، لكنه عمل من خلال أرواح ذات رتبة أقل أو من خلال الملائكة. لهذا اهتم بولس أن يُظهر بأن يسوع هو خالق الكون. (كولوسي ١٥:١-١٦).
- علّمت الغنوسية ( وبعض أشكال الصوفية اليهودية) بأن الله لم يتعامل مباشرة مع الإنسان والعالم المادي، لكنه تعامل مع العالم من خلال سلسلة من الوسطاء. لهذا اهتم بولس بان يُظهر أن يسوع قد قام بالمصالحة بنفسه (كولوسي ١٩:١-٢٠).
- احترمت الغنوسية (وبعض أشكال الصوفية اليهودية) الوسطاء المُفترضين، واعتبرتهم كائنات ملائكية من نوع ما. لهذا اهتم بولس من أن يحذر أهل كولوسي بأن الملائكة لا يجب أن تُعبد (١٨:٢).
- الإرتباط بالصوفية اليهودية كان واضحاً من طريقة سرد بولس لمزيد من النقاط:
- تأثير اليهود على المسيحية أكد على القوانين المتعلقة بالطعام. لهذا اهتم بولس أن يقول أن المؤمنين لم يكونوا تحت قوانين اليهود المتعلقة بالطعام (كولوسي ١٦:٢).
- تأثير اليهود على المسيحية أكد على حفظ أيام معينة كفريضة. لهذا اهتم بولس بأن يقول أن المؤمنين لم يكونوا تحت هذه الفرائض (كولوسي١٦:٢).
- حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ: قدمت الهرطقة الكولوسية نفسها على أنها تقليدية. وكان من الممكن تتبع الكثير من الافكار الى التقاليد التي كانت سائدة بين الفلاسفة اليهود أو اليونانيين أو كليهما. لهذا حذر بولس هنا أن تَقْلِيدِ النَّاسِ لا يساوي سلطان كلمة الله.
- حَسَبَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ: الكلمة اليونانية القديمة المُترجمة أركان العالم هي stoicheia. وقد تعني عدة أمور وفقاً للسياق، وربما استخدم بولس هذه الكلمة بمعناها الواسع ليغطي الكثير من المعاني.
- “الاسم astoicheia يعني أشياء أساسية موضوعة جنباً الى جنب في صف؛ وتستخدم لتشير إلى الأحرف الأبجدية، وبما أن الأحرف الأبجدية هي أول الدروس التي يتعلمها الطالب، فإنها تعني ’الأساسيات‘ أو ’المبادئ الأولية‘ (مرجع عبرانيين ١٢:٥، أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ الله)” بروس (Bruce) وبسبب هذا التعاون مع العناصر الأساسية، جاءت الكلمة ايضاً لتُشير إلى العناصر الأساسية مثل الأرض والماء والهواء والنار.
- فكّرت الكثير من الديانات الغامضة القديمة في العالم كمكان خطير مُهددٌ بالأرواح أو قوى روحية تُسمى أركان العالم أو القوى المسيطرة على هذا العالم (نفس الكلمة التي استخدمها بولس في كولوسي ٨:٢ و٢٠:٢). وآمنوا بأن الطريقة الوحيدة ليتجنب الإنسان خطر هذه القوى المسيطرة هو عبادتها أو ايجاد الحماية تحت إله أعظم أو قوى روحية تفوق هذه العناصر.
- مع هذا، قد يقول أحدهم أن معنى بولس هنا يشمل بالتأكيد جواب لأفكار الغنوسية الأولية، لكن المعنى يمتد إلى أبعد من هذه الأفكار المحددة. “استخدمت الكلمة بإستمرار بمعنى أساسيات المعرفة الدينية… وينبغي أن يُطبق المصطلح على شيء يتفق عليه كل من اليهود واليونان معاً. بييك (Peake)
- كان شائعاً بين اليهود والوثنيين الفكرة القائلة: ’ما يزرعه الإنسان إياه يحصد‘ وأن هذه الفكرة تحكم الطبيعة وعقول الناس. فنحن نعيش مقتنعين بأننا نحصل على ما نستحق؛ فعندما نفعل الخير، نستحق الخير؛ وعندما نفعل الشر، نستحق الشر. وقد حذّر بولس أهل كولوسي أن لا يُخضِعوا أنفسهم إلى هذا النوع من التفكير الذي يتجاهل النعمة، ويعتبروا أنفسهم أمواتاً عنه.
ب) الآيات (٩-١٠): يُظهر كمال يسوع وشركتنا معه أن الفلسفات الأخرى والتقاليد غير ضروريين.
٩فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا. ١٠وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ، الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ.
- فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ: هذا إعلان مُثير ويؤكد كمال ألوهية المسيح. وبما أن كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ يحل في يسوع، فلا يمكن له أن يكون نصف إله أو إله صغير مبتدئ.
- اللاَّهُوتِ: “يُعلن بولس أنه في المَسِيحِ يَحِلُّ اللهُ بِكُلِّ أُلوهِيَّتِهِ؛ لم يكن مجرد إشعاع للمجد الإلهي الذي غطاه لموسم معين وأعطاه عظمة ليست له؛ لكنه كان وسيبقى الله الكامل والمُطلق؛ ويستخدم الرسول theotes ليعبّر عن هذا اللاهوت الشخصي والأساسي للابن.” (ترينش، ورد في ويست Trench, cited in Wuest)
- فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا: كان التعليم الكاذب بين المؤمنين في كولوسي يشبه الهرطقة الغنوسية القديمة التي ستظهر لاحقاً. وهذه الهرطقات الغنوسية عملت فاصلاً جوهرياً بين الروحي والمادي. لهذه احتاج بولس أن يوضح أن كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ كان في جسد المسيح، ليس في طريقة غريبة وغامضة. وقد تعامل يوحنا أيضاً مع المعلمين الكذبة في يوحنا الأولى ٢:٤-٣ ومقاطع كتابية أخرى.
- إحدى التعاليم الكاذبة المتعلقة بهذا في الكنيسة الأولى كان يُطلق عليها اسم Docetism الدوسيتية، والتي علمت أن يسوع لم يكن لديه أي جسد بشري حقيقي؛ لكنه يبدو وكأنه أخذ جسداً. وتعليم كاذب آخر اسمه Cerinthianism السيرينثيازية، ويقول أن ’يسوع الإنسان‘ كان منفصلاً ومختلفاً عن ’يسوع الروح.‘
- وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ: يمكن لهذا أن يكون صحيحاً لأن يسوع هو الله. وإن لم يكن هو الله، فلا يمكننا أن نكون مملوئين فيه. فأي شيء يقول أننا لسنا مملوئين فيه يقلل من ألوهية يسوع.
- إن كان كل ملء الله يسكن في يسوع، ونحن كمؤمنين متحدين معه بالايمان، إذاً نحن أيضاً مملوئين فيه. ولهذا لم يكن هناك أي سبب للسعي وراء الوعود الكاذبة والاغراءات التي يقدمها المعلمين الكذبة بين الكولوسيين.
- وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ: يقول بولس أن هذه حقيقة للتمتع بها وليس حالة علينا اكتسابها.
- الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ: في الكثير من مقاطع العهد الجديد، الرياسة والسلطان تصفان رتب لكائنات ملائكية، بغض النظر إن كانت الملائكة أمينة أم ساقطة (رومية ٣٨:٨، أفسس٢١:١، أفسس ١٠:٣، أفسس ١٢:٦). لذلك، يُعلن بولس هنا سلطان يسوع على كل الكائنات الروحية. وقد ركوت التعاليم الكاذبة بين الكولوسيين على هذه الكائنات الأقل روحاً، لكن بولس يوضح أن يسوع أسمى جداً منهم كلها.
ج ) الآيات (١١-١٢): عمل يسوع وسط شعبه من خلال الاختتان الروحي ووضحه بواسطة المعمودية.
١١وَبِهِ أَيْضًا خُتِنْتُمْ خِتَانًا غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا الْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ الْمَسِيحِ. ١٢مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ، الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ.
- وَبِهِ أَيْضًا خُتِنْتُمْ: كان معظم المؤمنين في كولوسي من الأمم الذين لم يختتنوا جسدياً. وقد أكد لهم بولس أنهم كانوا مُختتنين بالمعنى الروحي، الذي هو أهم كثيراً من الختان الجسدي.
- اضطر مؤمنو كولوسي أن يتعاملوا مع تشكيلة كاملة من التعاليم الكاذبة. فلم تكن لديهم افكاراً خاطئة عن يسوع فحسب، لكن كانت لديهم أفكار خاطئة عن أمور مثل الختان. ومن الواضح، أنه تم تعليمهم أنه يجب عليهم أن يختتنوا لكي يصبحوا في علاقة صحيحة مع الله. ولكن يوضح بولس أن كانوا مختونين، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا الْبَشَرِيَّةِ.
- “يبدو أن المعلمين الكذبة قد أعطوا قيمة عالية للختان وفرضوه على الكولوسيين، ليس لأنه ضروري للخلاص، وإلا لجادلهم بولس على هذه النقطة، بهدف الوصول القداسة.” بييك (Peake)
- يعني الختان الروحي خَلْعِ الإنسان العتيق. “الكلمة اليونانية ’خلع‘ تحمل معنى مركب، تُشير الى التجريد والإلقاء بعيداً. والصورة هي إتلاف أو التخلص من الملابس الرثّة.” فون (Vaughan)
- وَبِهِ أَيْضًا خُتِنْتُمْ: “حقيقة تاريخية مؤكدة منسوبة الى، كما هو واضح بواسطة الفعل aorist. هذا كان تحولهم، الختان الداخلي للقلب، الذي من خلاله دخلوا إلى بركات العهد الجديد.” بييك (Peake)
- بِخِتَانِ الْمَسِيحِ. مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ: يقول بولس بأن المؤمنين من الأمم يجدون ختانهم الحقيقي في معموديتهم. فلا يحتاج المؤمنون للختان، بل يحتاجون الى التعميد.
- حتى العهد القديم يُقر بأن هناك نوعين للختان: واحد للجسد والآخر للقلب (تثنية١٦:١٠ و ٦:٣٠؛ ارميا ٤:٤؛ حزقيال٧:٤٤ و ٩:٤٤). المعمودية الصادقة تُظهر أن “الختان الحقيقي للقلب” قد تمّ.
- مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ: تجاوب المعمودية على سؤال الختان، لكنها لا توضحه. ومع هذا توضح المعمودية هويتنا بموت وقيامة يسوع المسيح. فقد دُفنّا مع يسوع عندما نزلنا تحت الماء، وقمنا معه أيضاً حينما قمنا من الماء.
- وكأن بولس يقول: “الختان ليس مهماً؛ المهم هو التنقية الروحية للجسد الذي يجريها يسوع في حياة كل مؤمن. فإذا اردت مراسمٌ لتُبرز هذا التغيير الروحي في حياتك، أنظر الى معموديتك وليس الى ختانك.”
- لأن بولس ربط بين الختان والمعمودية، قال البعض – خصوصاً اللاهوتيين الإصلاحيين – أنه ينبغي تعميد الأطفال لأنهم اختتنوا. لكن هذا لا يعكس ما قاله بولس عن الختان والمعمودية ويتجاهل الأمثلة عن المعمودية في سفر أعمال الرسل. فلا يقول بولس أن الختان والمعمودية هما نفس الأمر، لكنه يقول أن الختان غير ضروري للخلاص لأننا عُرفنا في المسيح وتعمّدنا لنُظهر ذلك.
- “ومع ذلك فإن تركيز الآية ليس على المقارنة بين الختان والمعمودية؛ فهذا المفهوم، مع أنه مُطبّق، سريعاً ما يُستبعد، وتتوجه الفكرة إلى أن المعمودية ليست إلا رمز لمشاركة المؤمن في دفن وقيامة المسيح.” فون (Vaughan)
- بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ: يظهر هذا أن بولس فهم أن قوة الخليقة الجديدة لم تكن في المعمودية أو نحصل عليها من خلال عمل المعمودية، بل من خلال الإيمان بعمل الله.
د ) الآيات (١٣-١٥): عمل يسوع في أولاده من خلال عمله على الصليب.
١٣وَإِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فِي الْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أَحْيَاكُمْ مَعَهُ، مُسَامِحًا لَكُمْ بِجَمِيعِ الْخَطَايَا، ١٤إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ، ١٥إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا، ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ.
- وَإِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا: هذا هو الوصف الملائم لكل إنسان لم يقم بعد معه مؤمناً بعمل الله، كما قال بولس في كولوسي ١٢:٢. فقبل أن تكون لنا حياة جديدة، كنا أَمْوَاتًا. فالإنسان الذي يريد حياة جديدة في المسيح، لا يأتي كإنسان مريض يحتاج إلى طبيب؛ بل كإنسان ميت يحتاج إلى مُخلّص.
- لم نصبح أحياء فحسب، لكنه أحيَانا معه أيضاً. “هل صحيح أنه أقامنا من الأموات؟ وأحيانا معه وغفر لنا خطايانا وأعطانا البر. فكل هذه الأشياء ثمينة جداً، لكننا لا نكتفي بها لأننا قبلنا يسوع نفسه. فقد انسكب ابن الله فينا، ونحن قبلناه وملكناه.” سبيرجن (Spurgeon)
- كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فِي الْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ: قبل أن نحصل على حياة جديدة في المسيح، نحن أموات في تعدياتنا. والتعدي هو نوع محدد من الخطية: إنه تجاوز حدٌّ ما. إذاً فنحن أموات لأننا تجاوزنا حدود الله بخطيتنا وعصياننا.
- أَحْيَاكُمْ مَعَهُ: لا نستطيع أن نعطي أنفسنا الحياة، لكن الله يستطيع أن يجعلنا أحياءَ مع المسيح. فلن نحيا بعيداً عن المسيح.
- الولادة الجديدة (أَحْيَاكُمْ مَعَهُ) والتطهير (مُسَامِحًا لَكُمْ بِجَمِيعِ الْخَطَايَا) يسيران معاً في العهد الجديد، تماماً كما تنبأ العهد القديم في (حزقيال ٢٥:٣٦-٢٧) وفي العهد الجديد (يوحنا ٥:٣).
- مُسَامِحًا لَكُمْ: هي الكلمة اليونانية القديمة charizomai وتعني في اليونانية القديمة charis (أي نعمة). فقد نلنا الغفران بالنعمة.
- إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا: المقصود بالصك اللائحة المكونة من جرائمنا أو ديننا الاخلاقي أمام الله، دَينٌ لا يمكن لأي إنسان غير كامل أن يسدده كلياً. ولكن ممكن أن يمحى بالكامل من خلال الانسان الكامل، يسوع المسيح.
- الصك هو كلمة شائعة تدل على وثيقة مكتوبة بخط اليد. ولكنها كانت تحمل عدة معاني. فالبعض يأخذه بالمفهوم القانوني ويقول أنه يُمثل التهم ضد السجين أو إعتراف السجين. ويأخذه البعض الآخر من الناحية المالية ويقولون أنه يمثل ورقة دين أو دفتر حسابات تُظهر أننا مُفلسين أمام الله. بغض النظر عن المعنى، فإن الصك يعني أن الوثيقة التي أدانت مرة كل منا، أُزيلت من أمامنا الآن، مسمراً اياها بالصليب.
- “إتحدت كل وصية من الوصايا العشر لوضع لائحة اتهام ضدنا. فتقول الوصية الأولى: ’لقد كسر وصيتي‘ والثانية تصرخ: ’لقد كسر وصيتي أنا أيضاً‘ والثالثة: ’كسر وصيتي‘؛ وهكذا وجهت كل الوصايا العشر أصابع الإتهام ضد كل منا؛ هذا هو صك الناموس الذي يُدين كل رجل وامرأة طالما ولدوا في الطبيعة البشرية.” سبيرجن (Spurgeon).
- “ويمكن أن يقال أيضاً بأن يسوع أخذ الصك (أي الوثيقة) وكل الأنظمة وسمرهم على صليبه ليعلن انتصاره على قوات الشر التي تحمل لائحة الإتهام ضد الإنسان مطالبة بولاءه.” بروس (Bruce)
- بحسب فنسنت (Vincent)، الكلمة اليونانية القديمة المُترجمة محا هي كلمة مركّبة تتكون من كلمة ’يمسح‘ والرمز الذي يعني تماماً. والفكرة هي أن شيء ما قد مُسِح تماماً، وفي العالم القديم، كان يُستخدم المصطلح لطلاء حائط باللون الابيض أو تغطية حائط ما بالذهب. مما تعني أن الاتهامات التي كانت ضدنا قد مُسِحت تماماً وتم تغطيتها.
- مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ: لم يُسدد يسوع ثمن الصك الذي كان ضدنا فحسب؛ بل أيضاً رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ، ومن ثم سمّره على الصليب. وقد عمل كل ما يمكن عمله ليضمن أن الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ لن يستطيع أن يتهمنا مرة أخرى.
- “نظر بولس الى الصليب ورأى الصك التي قدم ضد شعب المسيح، الصك المكتوب الذي وقف ضدهم، وجعلهم غير مؤهلين للحياة الجديدة. ولكن الله هو من وضعه هناك وليس بيلاطس.” رايت (Wright)
- نتذكر بأن الإتهامات وجهت ضد يسوع كانت قد سُمرت على الصليب وعُلّقت فوق رأسه (متى ٣٧:٢٧). وبما أننا إتحدنا مع المسيح في موته على الصليب (رومية ٣:٦-٨)، يبدو وكأن الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ قد سُمر على الصليب أيضاً، تماماً كما فعلوا بالإتهامات التي وجهوها ضد ليسوع.
- إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ: جانب آخر من عمل المسيح على الصليب هو أنه جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ. فأسلحة تلك الكائنات الشريرة (رومية ٣٨:٨، أفسس ٢١:١، ١٠:٣، ١٢:٦) المستخدمة ضد المؤمنين الأمناء تختلف تماماً عن الأسلحة المستخدمة ضد من هم ليسوا في المسيح.
- تآمرت أعظم القوى على الأرض في تلك الأيام معاً لتضع ابن الله على الصليب: روما – أعظم القوات الحكومية، واليهودية – أعظم القوات الدينية. “غضب هؤلاء لأن يسوع تحدى سلطتهم، فجردوه ورفعوه على الصليب للاحتقار العلني واحتفلوا بالنصرة عليه.” رايت (Wright). فيُظهر لنا بولس هنا مرة أخرى تناقض الصليب؛ أخذ يسوع المنتصر القوات الروحية التي كانت تحرك القوات الأرضية وجردها ثم أشهرها جهاراً وازدرى بها وانتصر عليهم أمام الجميع.
- نستطيع فقط أن نتخيل كيف هاجم الشيطان وكل أعوانه يسوع المُعلّق على الصليب نيابةً عنا، كما لو كان خاطئٌ مذنب. “بينما كان مُعلقاً هناك، وهو مُقيد من اليدين والرجلين وفي حالة من الضعف الشديد، اعتقدوا أنهم وضعوه تحت رحمتهم وصاروا يسيؤون إليه. ولكن، بعيداً عن ألم هجومهم دون مقاومة، أمسك بهم وسادَ عليهم وجردهم من الأسلحة التي وثقوا بها وحملهم عالياً بيديه الممدودتين، كاشفاً للكون عجزهم ومظهراً قوته التي لا تُقهر.” بروس (Bruce)
- كتب بولس في مكان آخر أنه لو عرف عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ، أي قوات الظلمة الروحية وممثليها الارضيين – ماذا كان سيحدث على الصليب، لما صلبوا يسوع أبداً (كورنثوس الأولى ٨:٢). فقد انتصروا على أنفسهم دون أن يعلموا.
- ماذا تمتلك قوات الشر الروحية من أسلحة ضد المؤمن الآن؟ فهم لا يملكون شيئاً ’إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ‘، ما عدا قدرتهم على الخداع وخلق الخوف. فهذه “الأسلحة” الفعالة ليست مادية على الإطلاق. فقوى الشر الروحية لا يمكنها أن تؤثر علينا إلا إن سمحنا لها بذلك، فنحن نعطيهم القوة حينما نصدق أكاذيبها. فالأسلحة معنا وليست معهم، ويوماً ما سنرى مقدار خوفهم منا.
- ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ: يستخدم بولس تعبير مشابه في كورنثوس الثانية ١٤:٢، وكان في ذهنه موكب النصرة الذي يقوده الجنرال المنتصر ويسير خلفه الأسرى المهزومين عبر شوارع المدينة.
- ربما اعتقد الشيطان ولوهلة أنه أنتصر عند الصليب. ولكن نصرة الجحيم الوهمية سرعان ما تحولت إلى هزيمة إذ قد جَرَّدَ يسوع قوى الشر الروحية من أسلحتها التي كانت تقاتل بها الذين يعيشون تحت نور وقوة الصليب. وهزيمتهم العلنية أمام العالم جعلت هزيمتهم أكثر إهانة بالنسبة لهم.
- “يسوع، في هذه الصورة، هو القائد المنتصر؛ والقوات والسلاطين هم العدو المقهور الذي أظهر للكون كغنائم الحرب.” فون (Vaughan).
- “لم يكن موت المسيح غفرانٌ للخطايا فحسب، بل أظهر أيضاً العظمة والقوة. فلم يلغي الدين فقط؛ لكنه كان انتصاراً مُمجّداً.” ايردمان (Erdman)
هـ) الآيات (١٦-١٧): تطبيق حقيقة نصرة المسيح في ضوء الهرطقة الكولوسية.
١٦فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْل أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَل أَوْ سَبْتٍ، ١٧الَّتِي هِيَ ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ.
- فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ: حرف “الفاء” في بداية الآية مهم جداً، فهو يربط هذه الفكرة بالفكرة التي تسبقها. ولأن يسوع أنتصر مثل هذا الأنتصار الممجد على الصليب، فلا ينبغي أن نسمح لأحد أن يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ فِي أَكْل أَوْ شُرْبٍ أو في أي أمر آخر له علاقة بالتقيد الحرفي بالناموس. فالحياة المرتكزة على المسيح وما عمله على الصليب لا تمتلك مكاناً لمثل هذا التقييد بالتقاليد والشرائع.
- “من غير المعقول لهؤلاء الذين استفادوا من نصرة المسيح أن يضعوا أنفسهم طوعاً تحت سلطان القوات التي انتصر يسوع عليها.” بروس (Bruce)
- أَكْل أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَل أَوْ سَبْتٍ، الَّتِي هِيَ ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ: للعهد القديم بنودٌ محددة ولكنها أكملت في المسيح، خاصة أمور مثل الطعام والسبت. ولا يعني هذا أن هذه القوانين كانت سيئة، لكنها ببساطة كانت ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ. ومتى جاء الجوهر، أي يسوع المسيح، فلا نحتاج الى التوجه إلى الظِلّ بعدْ.
- النقطة واضحة للغاية: الأيام والطعام، التي كانت تحفظ وفقاً لشريعة موسى، لا تنطبق على أناس العهد الجديد. فقد انقشع الظلال، وجاء الحق. لذلك وبالنسبة للمؤمنين، كل المأكولات هي طاهرة (تيموثاوس الأولى ٤:٤-٥) وكل الأيام هي مُلك الله.
- لذلك، لدى جميع المؤمنين مطلق الحرية ليحتفظوا بالطعام الصحي وبحسب الشريعة اليهودية أو أن يُراعوا يوم السبت إذا ارادوا. فلا يوجد عيبٌ في هذه الأمور. ومع هذا، لا ينبغي أن يعتقدوا أن الأكل بحسب المفهوم اليهودي أو حفظهم ليوم السبت سيقربهم أكثر الى الله. ولا يستطيعوا أن يحكموا على أي أخ أو أخت لا يُراعي مثل هذه القوانين.
- “كانت الأنظمة اليهودية مُصممة للفترة عندما كان شعب الله يتكون من وحدة جغرافية وثقافية وعرقية واحدة، وهذه الأنظمة بكل بساطة لا تصلح لوقتنا الحالي حيث أن هذا الشعب أصبح خليط من الأمم. كانت هذه الأمور “الظلال” التي يتشكل أمامها الجيل الجديد القادم.” رايت (Wright)
و ) الآيات (١٨-١٩): بولس ينتهر التصوّف الغريب في الهرطقة الكولوسية
١٨لاَ يُخَسِّرْكُمْ أَحَدٌ الْجِعَالَةَ، رَاغِبًا فِي التَّوَاضُعِ وَعِبَادَةِ الْمَلاَئِكَةِ، مُتَدَاخِلاً فِي مَا لَمْ يَنْظُرْهُ، مُنْتَفِخًا بَاطِلاً مِنْ قِبَلِ ذِهْنِهِ الْجَسَدِيِّ، ١٩وَغَيْرَ مُتَمَسِّكٍ بِالرَّأْسِ الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ بِمَفَاصِلَ وَرُبُطٍ، مُتَوَازِرًا وَمُقْتَرِنًا يَنْمُو نُمُوًّا مِنَ اللهِ.
- رَاغِبًا فِي التَّوَاضُعِ وَعِبَادَةِ الْمَلاَئِكَةِ: كان التَّوَاضُعِ (ِالتَّذَلُّلِ) وعِبَادَةِ الْمَلاَئِكَةِ جزءاً من التعليم الكاذب الذي أزعج المؤمنين في كولوسي. ولهذا السبب يضع بولس لمساته على هذه المواضيع من خلال رسالته الى أهل كولوسي. فالعلاج لكلا التعليمين الكاذبين ببساطة هو يسوع، رافعاً إياه أعلى من الملائكة، ومدركاً أنه بسبب عمله التام والمنتهي، لا يوجد لنا مكان للتفاخر أبداً.
- “بكلمات أخرى، ربما كان إصرار الهرطقة الكولوسية على عبادة الملائكة بدلاً من الله كنوع من التعبير عن مذلتهم.” فون (Vaughan)
- “كانت عبادتهم للملائكة تعبيراً عن تواضعهم. فهذا التذلل وصغر النفس، حيث يرى الإنسان من خلاله أنه غير مستحق أن يكون في شركة مع الله، جعله يتوجه لعبادة الملائكة.” بييك (Peake)
- التَّوَاضُعِ وَعِبَادَةِ الْمَلاَئِكَةِ لا تزيد من روحانية المرء، ولكن الُتَمَسِّكٍ بِالرَّأْسِ (أي يسوع) هو الذي يجعلنا روحيين حقاً.
- مُتَدَاخِلاً فِي مَا لَمْ يَنْظُرْهُ، مُنْتَفِخًا بَاطِلاً مِنْ قِبَلِ ذِهْنِهِ الْجَسَدِيِّ، وَغَيْرَ مُتَمَسِّكٍ بِالرَّأْسِ: يصف هذا الغرور الروحي للمعلمين الكذبة ولكل من يؤمن بتعليمهم. فهناك أشياء قليلة أخرى خطيرة بين المؤمنين تفوق الكبرياء الروحي والغرور.
- مُتَدَاخِلاً فِي مَا لَمْ يَنْظُرْهُ : “هناك خطأ في ترجمة هذه الآية، الترجمة الصحيحة هي كالتالي: ’استعراض الأمور التي قد رآها.‘ فقد تفاخر الغنوسي لأنه ادعى أنه يرى رؤى لأسرار عميقة لا يمكن للإنسان الطبيعي أن يراها بعينيه المجردتين.” باركلي (Barcley)
- مُنْتَفِخًا بَاطِلاً: “باطلاً تعطي صفة الحُجّة الفارغة أو الشخص الذي ينتفخ بغباء معتقداً أنه أسمى من الآخرين. ولهذا تم تشخيص التواضع هنا على أنه مرض، والمعلمين على أنهم دجالين.” فينسنت (Vencent)
- الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ: عندما تظهر هذه الحركات الغريبة والصوفية في الكنيسة، لا تستعطف كل جسد المسيح، بل يتأثر بها “نخبة” قليلة من المؤمنين. فهذا يحدث لأنهم ليسوا تحت سيادة الرأس، يسوع – فهو يريد لكُلُّ الْجَسَدِ أن ينمو معاً.
- يَنْمُو نُمُوًّا مِنَ اللهِ: هذه هي خطة الله لنمو الكنيسة. فدورنا هو أن نبقى أمناء وثابتين في يسوع (رأسنا)، والله هو الذي يعطي النمو.
ز ) الآيات (٢٠-٢٣): ينتهر بولس جوهر الناموسية
٢٠إِذًا إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي الْعَالَمِ؟ تُفْرَضُ عَلَيْكُمْ فَرَائِضُ: ٢١«لاَ تَمَسَّ! وَلاَ تَذُقْ! وَلاَ تَجُسَّ!» ٢٢الَّتِي هِيَ جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي الاسْتِعْمَالِ، حَسَبَ وَصَايَا وَتَعَالِيمِ النَّاسِ، ٢٣الَّتِي لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ، بِعِبَادَةٍ نَافِلَةٍ، وَتَوَاضُعٍ، وَقَهْرِ الْجَسَدِ، لَيْسَ بِقِيمَةٍ مَا مِنْ جِهَةِ إِشْبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ.
- لاَ… لاَ… لاَ…: هذا وصف كامل للتدين الذي يعتمد ويحدد بالأعمال، ما نعمله وما لا نعمله. أما المسيحية فهي ديانة أخلاقية؛ تحتوي على حدود أخلاقية واضحة. ولكن في أساسها، المسيحية هي ديانة تحتوي على العمل الايجابي.
- قَدْ مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ الْعَالَمِ: هذا هو المفتاح لكي نعيش فوق الناموسية. فإتحادنا مع المسيح في موته وقيامته (كما ذُكر سابقاً في كولوسي ١٢:٢) يصبحان أساس حياتنا المسيحية بدلاً من حفظنا للناموس.
- الَّتِي هِيَ جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي الاسْتِعْمَالِ: “هذه الأشياء ستفسد بعد الاستخدام. فالتعامل معها أو تناولها يعني دمارها. فالطعام حينما يُؤكل، يتوقف عن كونه طعاماً. فهذه الأمور ليست مهمة، وهي ليست الحقائق الأسمى.” بروس (Bruce)
- حَسَبَ وَصَايَا وَتَعَالِيمِ النَّاسِ: أحد جوانب الناموسية هو ترويج تَعَالِيمِ النَّاسِ وكأنها قوانين الله.
- الَّتِي لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ …. لَيْسَ بِقِيمَةٍ مَا مِنْ جِهَةِ إِشْبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ: ممكن أن ننسب هذه على أنها أعظم إتهام ضد الناموسية في الكتاب المقدس. فالفكرة الرئيسية هنا هي أن هذه القوانين والتقاليد لا قيمة لها في مواجهة ملذات الطبيعة الجسدية.
- تمتلك مثل هذه القوانين الناموسية شكل الحكمة، ولكن ليس لها أي قيمة حقيقية. فالناموسية لا تقيد شهوات الجسد، بل تغذيها بطريقة قوية ومُتقنة. “في الواقع، يمكن للكبرياء الروحي أن يتعايش بسهولة مع التنسّك القاسي، فهذه من أكثر الأمور التي يتقنها الجسد.” بروس (Bruce)
- العِبَادَةٍ النَافِلَةٍ هي محاولة الإنسان الإقتراب إلى الله من خلال تبرير نفسه بحفظه لقائمة من القوانين والتقاليد. أما المسيحية فهي اقتراب الله من الإنسان في المحبة من خلال المسيح.