سفر مراثي إرميا – الإصحاح ٣
كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ
“تختلف القصيدة الثالثة بشكل ملحوظ في البنية عن غيرها من القصائد إذ تتألف من سطور مفردة مجمّعة في ثلاثيات، كل مجموعة تبدأ بنفس الحرف الساكن من حروف الأبجدية العبرية.” آر. كي. هاريسون (R.K. Harrison)
“في الكتاب المقدس العبري، تبدأ الآيات الثلاث الأولى بأول حرف الألف (aleph)، وتبدأ الآيات الثلاث الثانية بالحرف الثاني أي ما يقابل الباء (beth)، وهكذا.” فيليب رايكن (Philipp Ryken)
أولًا. مقاومة من الرب
أ ) الآيات (١-٩): الرجل الذي رأى مذلّة من الرب.
١أَنَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ. ٢قَادَنِي وَسَيَّرَنِي فِي الظَّلاَمِ وَلاَ نُورَ. ٣حَقًّا إِنَّهُ يَعُودُ وَيَرُدُّ عَلَيَّ يَدَهُ الْيَوْمَ كُلَّهُ. ٤أَبْلَى لَحْمِي وَجِلْدِي. كَسَّرَ عِظَامِي. ٥بَنَى عَلَيَّ وَأَحَاطَنِي بِعَلْقَمٍ وَمَشَقَّةٍ. ٦أَسْكَنَنِي فِي ظُلُمَاتٍ كَمَوْتَى الْقِدَمِ. ٧سَيَّجَ عَلَيَّ فَلاَ أَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ. ثَقَّلَ سِلْسِلَتِي. ٨أَيْضًا حِينَ أَصْرُخُ وَأَسْتَغِيثُ يَصُدُّ صَلاَتِي. ٩سَيَّجَ طُرُقِي بِحِجَارَةٍ مَنْحُوتَةٍ. قَلَبَ سُبُلِي.
١. أَنَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ: في الإصحاحين الأول والثاني، كتب إرميا في المقام الأول معبّرًا عن أورشليم التي يتم تجسيدها في المراثي. وفي هذا الإصحاح بدأ يكتب معبّرًا عن شخص كان يعاني. نعم، كان هذا الرجل هو إرميا، لكنه بالتأكيد ليس هو الوحيد الذي كان يعاني. فهو وكثيرون آخرون قد رأَوا مَذَلَّةً، وعرفوا أنها جاءت عليهم كتأديب من الله (قَضِيبِ سَخَطِهِ).
• “لقد تم وصف معاناة شعب يهوذا كأن فرد واحد هو الذي اختبر هذه المعاناة. ويمكن تفسير هذا الإصحاح على أنه سجل لمشاعر إرميا نفسه، أو كتجسيد لمعاناة شخص غير معروف أو تسجيل للمعاناة المأسوية للأمة.” هاريسون (Harrison)
• “إن رثاء إرميا الشخصي يذكرنا بأن المعاناة هي دائمًا معاناة فردية بطبيعتها. فعندما تمر الدول بمأساة، تحدث المعاناة الأكبر دائمًا على المستوى الفردي.” رايكن (Ryken)
• “إن الشيء الأكثر إثارة للإعجاب حول هذه الأغنية هو دمج النبي نفسه مع الشعب ومع الله. لقد عرف النبي حتمية المعاناة، لكنه تألم مع المتألمين.” مورجان (Morgan)
• قَادَنِي وَسَيَّرَنِي فِي الظَّلاَمِ: “يبدو أن هذا هو الجزء الأصعب من نصيبنا، أن يقودنا الله إلى الظلمة: ’قَادَنِي وَسَيَّرَنِي فِي الظَّلاَمِ.‘ لكن من ناحية أخرى أيها الإخوة الأعزاء، هذا أحلى شيء في تجربتنا، لأنه إذا كانت الظلمة هي حيث قادنا الله، فمن الأفضل لنا أن نكون في الظلمة.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. حَقًّا إِنَّهُ يَعُودُ وَيَرُدُّ عَلَيَّ يَدَهُ: لم يبق إرميا في هذا المكان المظلم واليائس، لكنه لم ينكر تواجده هناك. وكثير من المرات كان يشعر أثناء ضيقته وكأن الله هو خصمه، وليس صديقه.
• وَيَرُدُّ عَلَيَّ يَدَهُ: “تُصوِّر هذه الاستعارة الملاكمون الذين يضاعفون ضرباتهم، فيضربون خصومهم من الجانبين، مثلما يقوم الحداد بتشكيل حديد ملتهب ساخن على السندان حتى يأخذ الشكل المطلوب.” تراب (Trapp)
٣. بَنَى عَلَيَّ: حتى عندما كانت أورشليم مُحَاصَرة (بَنَى عَلَيَّ) فعليًا، شعر إرميا (وكثيرون غيره) بأنهم محاطون بِعَلْقَمٍ وَمَشَقَّةٍ وكأن الله يخنقهم ببطء.
• سَيَّجَ عَلَيَّ: “ربما يشير هذا أيضًا إلى خطوط الحصار التي تم رسمها حول المدينة أثناء الحصار. ومع ذلك، فإن هذه التعبيرات وأمثالها في الآيات التالية قد تكون مجازية، لتسليط الضوء على حالتهم الُمحَاصَرة والُمضطَهدة والمَكروبة.” كلارك (Clarke).
• سَيَّجَ عَلَيَّ: رأى هاريسون (Harrison) في هذا التعبير صورة للسجن القاسي فيقول: “إن ممارسة حبس السجناء في أماكن ضيقة حتى يموتوا بسرعة كان شكلًا من أشكال التعذيب الذي اكتسب شعبية بين الآشوريين.”
• ثَقَّلَ سِلْسِلَتِي: “شعر النبي كما لو أن الله قد قيده بسلسلة ثقيلة جعلته يشعر بالعجز والثِقْل، مثلما يَجُرّ المحكوم عليه سلسلته وهو مربوط بكُرةٍ في قدمه.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. يَصُدُّ صَلاَتِي: عندما تكون علاقتنا مع الله صحيحة، يصبح هو ملجأنا ودفاعنا في أوقات الضيق. وهذا ما لم يختبراه كلا من إرميا وشعب يهوذا في عمق آلامهم. فقد كانوا مُحاصَرين وقد بَنَى عَلَيَّهم، وسَيَّجَ عَلَيَّهم، وكان الله يَصُدُّ صلاتهم.
ب) الآيات (١٠-١٨): الله خَصم من نواح كثيرة.
١٠هُوَ لِي دُبٌّ كَامِنٌ، أَسَدٌ فِي مَخَابِىءَ. ١١مَيَّلَ طُرُقِي وَمَزَّقَنِي. جَعَلَنِي خَرَابًا. ١٢مَدَّ قَوْسَهُ وَنَصَبَنِي كَغَرَضٍ لِلسَّهْمِ. ١٣أَدْخَلَ فِي كُلْيَتَيَّ نِبَالَ جُعْبَتِهِ. ١٤صِرْتُ ضُحْكَةً لِكُلِّ شَعْبِي، وَأُغْنِيَةً لَهُمُ الْيَوْمَ كُلَّهُ. ١٥أَشْبَعَنِي مَرَائِرَ وَأَرْوَانِي أَفْسَنْتِينًا، ١٦وَجَرَشَ بِالْحَصَى أَسْنَانِي. كَبَسَنِي بِالرَّمَادِ. ١٧وَقَدْ أَبْعَدْتَ عَنِ السَّلاَمِ نَفْسِي. نَسِيتُ الْخَيْرَ. ١٨وَقُلْتُ: «بَادَتْ ثِقَتِي وَرَجَائِي مِنَ الرَّبِّ».
١. هُوَ لِي دُبٌّ كَامِنٌ: لقد صور إرميا ببلاغة كيف شعروا أن الله كان ضدهم بل ومهاجم لهم، مستخدمًا كلمات تصاحب التعبير عن البؤس.
• كان الله مثل دُبّ وأَسَد يَتَرَبَّصُ بهم ينتظر مباغتهم.
• كان الله مثل الرامي الذي مَدَّ قَوْسَهُ ووجهه نحو الغَرَضٍ المستهدف.
• كان الله مثل المستهزئ الذي كان يتغنّى ساخرًا بضُحْكَة ضد شعبه.
• كان الله مثل القاضي الذي أعطى المُدان كأس دينونة وأَفْسَنْتِينًا ليشرب.
• كان الله هو الوحش الذي جَرَشَ بِالْحَصَى أَسْنَانِه.
مَدَّ قَوْسَهُ: “توضح هذه الصورة قوة ذراع الرامي التي طعنت الشاعر بالسهام.” إليسون (Ellison)
وَجَرَشَ بِالْحَصَى أَسْنَانِي: “يا لها من صورة معبّرة عن الاشمئزاز والألم، وما يترتب على ذلك من عجز عن تناول الطعام لدعم الحياة؛ يضطر الرجل، بدلًا من أكل الخبز، إلى أكل الحصى حتى تُجَرَشَ وتتكسر أسنانه بينما يحاول مضَغ الحصى. بالكاد يمكن للمرء أن يقرأ هذا الوصف دون أن يشعر بألم في أسنانه.” كلارك (Clarke)
بِالْحَصَى: “ربما يشير الحَصَى إلى نوعية الخبز الرديئة الذي كان مصنوعًا من حبوب جاءت من كنس أرضية مخزن الحبوب. وهذا هو الخبز الذي لابد أن إرميا كان يتناوله أثناء الحصار.” إليسون (Ellison)
أَدْخَلَ فِي كُلْيَتَيَّ: “في طقوس الذبائح في أسفار موسى الخمسة، كانت الكُلى أحد مراكز الحياة في الحيوان والأمر نفسه ينطبق على الكُلى البشرية أيضًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن السمات العاطفية للفرح (أمثال ٢٣: ١٦) والحزن (أيوب ١٩: ٢٧؛ مزمور ٧٣: ٢١) قد نُسبت إلى الكُلى.” هاريسون (Harrison)
٢. بَادَتْ ثِقَتِي وَرَجَائِي مِنَ الرَّبِّ: لا عجب أن إرميا وأورشليم استطاعا أن يقولا هذه الكلمات. عند وجود الله كخصم، فما هي الثِقَة التي يمكن أن تتواجد؟ وأين الرَجَاء لوجود السَّلاَمِ أو الْخَيْر؟
• “إن ذِكر الشاعر لاسم الرب كسر تعويذة البؤس التي كانت تقيده.” إليسون (Ellison)
ثانيًا. تزايد الرجاء في معونة الله
أ ) الآيات (١٩-٢٠): الروح الغارقة.
١٩ذِكْرُ مَذَلَّتِي وَتَيَهَانِي أَفْسَنْتِينٌ وَعَلْقَمٌ. ٢٠ذِكْرًا تَذْكُرُ نَفْسِي وَتَنْحَنِي فِيَّ.
١. ذِكْرُ مَذَلَّتِي وَتَيَهَانِي: لم يصف إرميا تفكيرًا إيجابيًا في مواجهة هذه المَذَلَّة. لكنه في الواقع، شعر بأنه من المفيد تذِكْرُها، وفهم حقيقتها، وعدم إنكار وجودها.
٢. ذِكْرًا تَذْكُرُ نَفْسِي وَتَنْحَنِي فِيَّ: إن هذا الإنحناء في نفس إرميا قد سمح له بالوصول لأعماق روحه حتى يبنى على أساس متين.
• “من الواضح في الآيات السابقة إن مرارة الشكوى بسبب مرارة الشدائد هي أمر لا يليق لإنسان تحت تأديب الله أن يفعله. فالانغماس في هذه المشاعر يبدد الرجاء. هنا، نجد شعورًا مختلفًا: يتواضع إرميا تحت يد الله القوية، فيتجدد رجاؤه.” كلارك (Clarke)
ب) الآيات (٢١-٢٣): مراحم جديدة من إله أمين.
٢١أُرَدِّدُ هذَا فِي قَلْبِي، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَرْجُو: ٢٢إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ، لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ. ٢٣هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ. كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ. ٢٤
١. أُرَدِّدُ هذَا فِي قَلْبِي، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَرْجُو: ربما لأول مرة في هذا السفر يصبح الرْجاء مسموحًا. فبعد أن انحنت روحه (مراثي إرميا ٣: ٢٠)، ها هو إرميا يتذكر شيئًا جعل الرْجاء يتأجج بداخله.
• “في تعبير رائع عن الإيمان بمراحم الرب التي لا تنضب، ينظر الكاتب إلى المستقبل البعيد بأمل متجدد.” هاريسون (Harrison)
• “في جنوب أفريقيا، كان البحر عمومًا عاصفًا للغاية، لدرجة أن البحارة البرتغاليون أطلقوا عليه اسم رأس العواصف. ولكن بعد أن أبحر فيه هؤلاء البحارة الشجعان بنجاح، أطلقوا عليه اسم رأس الرجاء الصالح. ربما واجهت أنت أيضًا العديد من العواصف في حياتك، ولكنك تغلبت عليها جميعًا، فاسمح لها الآن أن تكون بالنسبة لك رأس الرجاء الصالح.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ: أحد الأشياء التي يتذكّرها إرميا هو أنه على الرغم من الدمار الشديد والهزيمة التي لحقت بشعب أورشليم ويهوذا، إلا أنهم لَمْ يَفْنَوا بعد. بقيت بقية ومعها وعد بالاسترداد. فحيثما يحفظ الله الحياة، يحفظ أيضًا الرْجاء.
• “الكلمة الجوهرية في هذه الآية هي هاسد (ḥeseḏ) (محبة عظيمة [إِحْسَانَات])، فعهد محبة الرب وأمانته يؤدي إلى الرحاميم (rahamim) أي (الإشفاق، الرحمة)، وهذه الكلمة مشتقة من ريحم (reḥem) أي (الرحم).” إليسون (Ellison)
• “انظروا أين يجد إرميا العزاء؛ ويبدو أنه يقول: ’رغم حالتي السيئة، كان يمكن أن تكون أسوأ من ذلك بكثير، وكان من الممكن أن أهلك، بل كان ينبغي أن أهلك لولا مراحم الرب.‘” سبيرجن (Spurgeon)
٣. لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ: حتى وسط تصحيح الرب القاسي الذي تحمّله شعب الله، كان هناك دليل على مَرَاحِمَه. كان هناك عزاء في حقيقة أن حنان الله لم ينفذ بالكامل. إن هذه المراحم كانت جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ.
• “هذا النص مليء بالجمال، لأنه يتعامل مع مراحم الرب التي لا تزول أبدًا حتى في خضم التأديب.” مورجان (Morgan)
٤. هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ: كل يوم جديد يحمل للإنسانية الأمل في مَرَاحِم الله الجديدة وإِحْسَانَاته. نحن نعتمد على هذا الإمداد المستمر الذي يضمنه وعد الله الثابت الذي لا يسقط. ولا يهم كم كان اليوم السابق سيئًا، فيمكن لشعب الله أن ينظر لكُلِّ صَبَاحٍ جديد بإيمان ورجاء.
• هذه المراحم جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ لأن مصدرها الله. “إن الكنوز التي نجمعها على الأرض هي مثل برك راكدة، لكن الكنوز التي يمنحنا إياها الله من السماء، من خلال عنايته ونعمته، هي مثل ينابيع بلورية تنبع باستمرار من الأعماق الأبدية، وهي دائمًا مُنعشة ومتجددة.” سبيرجن (Spurgeon)
إن كل صباح ينهي الليل.
إن كل صباح يأتي بيوم جديد.
إن كل صباح يجلب إمدادات جديدة لذلك اليوم الجديد.
إن كل صباح يأتي بمغفرة جديدة لذنوب جديدة.
إن كل صباح يأتي بقوة متجددة لمواجهة المُغرِيات والمهام والتجارب.
٥. كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ: كل هذا جعل إرميا يفكر في أمانة الله العظيمة، وأنه لا يفشل في أن يُرسل إِحْسَانَاتِه ومَرَاحِمَهُ. فقد ظل الله أمينًا حتى وسط الكارثة التي تعرضوا لها. لقد أعلن أحكامه باستمرار وتمّمها، وسيُظهر الله أنه أمين في تحقيق وعوده بالاسترداد تمامًا كما أظهر من قبل.
• “وجه النبي كلامه مباشرة إلى الله عندما قال: كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ. وفي تذكّره لصفات الله، وجد إرميا نفسه منجذبًا مرة أخرى إلى شركة عميقة وحميمة مع إلهه الأمين.” رايكن (Ryken)
ج) الآيات (٢٤-٢٦): صلاح الله للنفس الطالبة إياه.
٢٤نَصِيبِي هُوَ الرَّبُّ، قَالَتْ نَفْسِي، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَرْجُوهُ. ٢٥طَيِّبٌ هُوَ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يَتَرَجَّوْنَهُ، لِلنَّفْسِ الَّتِي تَطْلُبُهُ. ٢٦جَيِّدٌ أَنْ يَنْتَظِرَ الإِنْسَانُ وَيَتَوَقَّعَ بِسُكُوتٍ خَلاَصَ الرَّبِّ.
١. نَصِيبِي هُوَ الرَّبُّ: كما في مزمور ٥٧:١١٩، وجد إرميا مفتاح الشبع – وهو أن يجد المرء نَصِيبه في الرَّبِّ. فمهما كان المكيال الذي عليه أن يتلقاه، ومهما كان الميراث، ومهما كان المستقبل، كان يعلم أن الكل قائم في يهوه الرب.
• هذه كلمات النفس الشبعانة. فلم يكن لإرميا أي مصدر آخر للشبع، ولذا كان مكتفيًا بنَصِيبِه الذي تلقاه، وكان ذلك النصيب هو الرَّبّ نفسه.
• “قال الشاعر (إرميا) إنه لم يحصل في الواقع سوى على القليل من خيرات هذا العالم وملذاته لأن نصيبه كان الرب.” إليسون (Ellison)
٢. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَرْجُوهُ: كان يجب أن يكون الله نَصِيبَ إرميا أولًا قبل أن يكون رَجائُه. لقد كان هذا هو سبيله للرجاء.
٣. طَيِّبٌ هُوَ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يَتَرَجَّوْنَهُ، لِلنَّفْسِ الَّتِي تَطْلُبُهُ: لقد أتى كل البؤس على شعب الله لأنهم لم يطلبوه حقًا ولم يَتَرَجَّوْنَهُ. لقد رفضوا الله وتمردوا عليه لأجيال عديدة، ثم لجأوا إلى الأمم الأخرى طلبًا للمساعدة والنجاة. إنّ طلب الرب من جديد سيقود إلى اختبارات لصلاحه من جديد.
• “تأنّى، لا تكنّ في عَجَلة من أمرك، ولا تتوقع الخلاص الفوري من متاعبك عندما تبدأ بالصراخ إلى الله. كلا: طَيِّبٌ هُوَ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يَتَرَجَّوْنَهُ (يَنْتَظِرَونه)، لِلنَّفْسِ الَّتِي تَطْلُبُهُ.” سبيرجن (Spurgeon)
• “هناك أوقات يكون فيها كل ما يستطيع الشخص المتألم أن يفعله هو انتظار الرب. لكن الانتظار جيد لأن الرب يستحق الانتظار.” رايكن (Ryken)
٤. جَيِّدٌ أَنْ يَنْتَظِرَ الإِنْسَانُ وَيَتَوَقَّعَ بِسُكُوتٍ خَلاَصَ الرَّبِّ: وسط اليأس العميق الذي ساد في هذه المراثي، ورغم أن البؤس لم ينتهِ بأي حال من الأحوال، فلمحات الأمل هذه إنما هي موضع ترحيب، وهي ضرورية. فعلى الرغم من كل هذا اليأس، أعلن إرميا بجرأة لنفسه ولكل الآخرين عن أهمية الرَجَاء وطلب الرب بصبر.
• “يختلف الرجاء والانتظار بعضهما عن بعض، لكنهما كالأم وابنتها. فالرجاء يوّلد الصبر والانتظار. وكالعادة والفعل، هكذا الرجاء والانتظار ينبعان من قوة ومن عادات تمنحها النعمة للنفس فتعطيها القدرة على الانتظار. الهدوء ضروري أثناء الانتظار، لأن أي اضطراب في الروح أو نفاد للصبر وسط حزن العناية الإلهية إنما يتعارض مع الانتظار.” بوله (Poole)
د ) الآيات (٢٧-٢٩): رجاء للنفس الصامتة.
٢٧جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْمِلَ النِّيرَ فِي صِبَاهُ. ٢٨يَجْلِسُ وَحْدَهُ وَيَسْكُتُ، لأَنَّهُ قَدْ وَضَعَهُ عَلَيْهِ. ٢٩يَجْعَلُ فِي التُّرَابِ فَمَهُ لَعَلَّهُ يُوجَدُ رَجَاءٌ.
١. جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْمِلَ النِّيرَ فِي صِبَاهُ: يمر الإنسان بمواسم من المِحن، ومن الأفضل للإنسان أن يختبر المواسم وهو في صِبَاه. فإن أدّبنا الرب في صبانا، فهذا ليُعدّنا لمستقبل مثمر.
• النِّيرَ فِي صِبَاهُ: “إن إرساء عادات جيدة في وقت مبكر من الحياة أمر لا يُقدّر بثمن، وكذلك التأديب المُبكّر أيضًا. فالشخص الذي يفتقر إلى التأديب والانضباط في صباه، لن يصبح أبدًا شخصًا مفيدًا أو صالحًا أو سعيدًا.” كلارك (Clarke)
• اقترح سبيرجن (Spurgeon) العديد من الأسباب التي تجعل من الجيد أَنْ يَحْمِلَ الإنسان النِّيرَ فِي صِبَاه:
إنه أمر جيد لأنه من الأفضل تعلُّم طاعة الله في الصِبا.
إنه أمر جيد لأنه يُنجّي من ألف فخ.
إنه أمر جيد لأنه يحفظ من حمل نير الشيطان.
إنه أمر جيد لأنه يمنحك سنوات أكثر لخدمة الله.
إنه أمر جيد لأنه يعطي المرء سنوات عديدة من الخبرة.
٢. يَجْلِسُ وَحْدَهُ وَيَسْكُتُ: في ظل أحلك الظروف، لا تحاول أن تستوعب الأمور على الفور. هذه الأوقات مهمة للتأمل (يَجْلِسُ وَحْدَهُ) وللاستماع بدلًا من الكلام. فهناك سبب يدعو للرجاء عندما نطلب الله بانتظار.
• يَسْكُتُ: “جاء شاب إلى ديموستيني (Demosthenes) – وهو رجل دولة إغريقي وخطيبًا بارزًا في أثينا القديمة – ليتعلم فن الخطابة؛ ولكنه أكثر من الكلام وأطال، فقال له ديموستيني: ’يجب أن أطلب منك ضِعف الرسوم.‘ فسأله الشاب: ’لماذا؟‘ رد المُعلم وقال: ’لماذا؟ لأنه يجب أن أعلّمك أولًا كيف تُمسك لسانك، ثم أعلّمك كيف تتكلم.‘ وبالمثل، يُعلّم الرب التائبين الحقيقيين كيف يضبطون لسانهم.” سبيرجن (Spurgeon)
• “الصمت لا يعني قبول مشيئة الله فحسب، بل يعني أيضًا رفض الشكوى للآخرين. ويصاحب الصمت، التسليم الكامل لله المصور في الآية ٢٩ من خلال وضعية الانحناء. كما أن الصمت يقود أيضًا للاستعداد لقبول معاملة شبيهة بمعاملة العبد (الآية ٣٠)، لأن النير يرمز إلى العبودية (قارن مع إرميا ٢٠: ١-٢).” إليسون (Ellison)
هـ) الآيات (٣٠-٣٦): صلاح الله حتى في قضائه.
٣٠يُعْطِي خَدَّهُ لِضَارِبِهِ. يَشْبَعُ عَارًا. ٣١لأَنَّ السَّيِّدَ لاَ يَرْفُضُ إِلَى الأَبَدِ. ٣٢فَإِنَّهُ وَلَوْ أَحْزَنَ يَرْحَمُ حَسَبَ كَثْرَةِ مَرَاحِمِهِ. ٣٣لأَنَّهُ لاَ يُذِلُّ مِنْ قَلْبِهِ، وَلاَ يُحْزِنُ بَنِي الإِنْسَانِ. ٣٤أَنْ يَدُوسَ أَحَدٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ كُلَّ أَسْرَى الأَرْضِ، ٣٥أَنْ يُحَرِّفَ حَقَّ الرَّجُلِ أَمَامَ وَجْهِ الْعَلِيِّ، ٣٦أَنْ يَقْلِبَ الإِنْسَانَ فِي دَعْوَاهُ. السَّيِّدُ لاَ يَرَى!
١. يُعْطِي خَدَّهُ لِضَارِبِهِ: قال إرميا هذا الكلام في سياق احتماله المعاناة بصبر (مراثي إرميا ٣: ٢٧-٢٩). ومغزى الكلام يشير لأهمية قبول المعاناة والعَار اللذان عيّنهما الله لهما بالصبر.
• “في تقديم الخد للضارب كان الأسير ينقل فكرة الاستسلام المطلق.” هاريسون (Harrison)
• لقد أعطى يسوع خَدَّهُ لِضَارِبِهِ إذ قبِل بصبر الآلام التي عيّنها له الآب السماوي (متى ٢٦: ٦٧-٦٨، لوقا ٢٢: ٦٤).
٢. لأَنَّ السَّيِّدَ لاَ يَرْفُضُ إِلَى الأَبَدِ: لن يدوم الألم إلى الأبد. ففي أحكام الله العادلة والحكيمة، سمح بالُحْزِن، ولكنه وعد أيضًا أن يَرْحَم حَسَبَ كَثْرَةِ مَرَاحِمِه.
٣. لأَنَّهُ لاَ يُذِلُّ مِنْ قَلْبِهِ، وَلاَ يُحْزِنُ بَنِي الإِنْسَانِ: عندما يسمح الله بأحكامه أو يرسلها، فإنه لا يفعل هذا بسرور. وتأديبه ليس مُسرّ ولا هو غير عادل (أَنْ يُحَرِّفَ حَقَّ الرَّجُلِ). وكما قال إبراهيم للرب: أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلًا؟ (تكوين ١٨: ٢٥).
• “لا يفرح الله حين يُحْزِن البشر. ولا يُسر بآلامنا وبؤسنا، ومع ذلك فهو يستخدم العصا كوالد حنون وحكيم؛ لا ليُرضي نفسه، بل هو يفعل هذا لخيرنا وليخلّصنا.” كلارك (Clarke)
• أَنْ يُحَرِّفَ حَقَّ الرَّجُلِ أَمَامَ وَجْهِ الْعَلِيِّ: “عند ترجمة النص العبري الماسوري للآية ٣٥ نجده يضفي قوة وتأكيدًا على مفهوم حقوق الإنسان الطبيعية أو الفطرية فيقول: [لإفساد/لتحريف الحق الذي يملكه الإنسان في حضرة العلي]. لذلك، يرفض الله بشدة أية محاولة لحرمان الفرد أي حق من حقوقه في الناموس (الآية ٣٦)، أو إدانته بشكل ظالم.
ثالثًا. صلوات القلب الواثق الخاشع
أ ) الآيات (٣٧-٣٩): الإله الذي لا يمكن مقاومته.
٣٧مَنْ ذَا الَّذِي يَقُولُ فَيَكُونَ وَالرَّبُّ لَمْ يَأْمُرْ؟ ٣٨مِنْ فَمِ الْعَلِيِّ أَلاَ تَخْرُجُ الشُّرُورُ وَالْخَيْرُ؟ ٣٩لِمَاذَا يَشْتَكِي الإِنْسَانُ الْحَيُّ، الرَّجُلُ مِنْ قِصَاصِ خَطَايَاهُ؟
١. مَنْ ذَا الَّذِي يَقُولُ فَيَكُونَ وَالرَّبُّ لَمْ يَأْمُرْ: ربما يكون من الصعب، في موسم المعاناة أو الفاجعة، أن نتذكر أن الله يحكم جميع الأشياء – إن لم يكن بشكل مباشر فبسماح منه. إلا أن اعترافهم بسيادة الله يمكن أن يكون أيضًا منبع رجائهم. ولكن الأسوأ هو أن تكون تحت رحمة القدر الأعمى.
٢. مِنْ فَمِ الْعَلِيِّ أَلاَ تَخْرُجُ الشُّرُورُ وَالْخَيْرُ: للتأكيد، طرح إرميا السؤال نفسه مستخدمًا كلمات مختلفة.
٣. لِمَاذَا يَشْتَكِي الإِنْسَانُ الْحَيُّ، الرَّجُلُ مِنْ قِصَاصِ خَطَايَاهُ: قد نشتكي على الله وسيادته، لكن مثل هذه الشكاوى عقيمة وناكرة للجميل. وبدلًا من ذلك، على الإِنْسَانُ الْحَيُّ أن يكون شاكرًا لأنه ما زال حيًا، وأن يعترف بأن قِصَاصِ خَطَايَاهُ عادل.
• “إن الإنسان الذي لا يزال حيًّا وحياته مُعارةُ له، يصبح سبب شكواه صغيرًا. ومهما عظمت محنته فإنه لا يزال حيًّا. وبالتالي، لديه الفرصة ليطلب رحمة للحياة الأبدية وينالها. الأمر الذي سيحرمه منه الموت. فليكُف إذًا الإنسان الحي عن الشكوى.” كلارك (Clarke)
• “إذا جُرب بالشكوى والتذمر، فليتذكر أنه لا يزال على قيد الحياة، وهذا أكثر مما يستحق، فمن مراحم الرب أنه لم يفن، ولم يُرسل إلى الجحيم. إن أي شكل من أشكال الحياة هو رحمة ثمينة، حتى تلك التي قد تبدو للمنكوب حياة مُقفرة.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٤٠-٤٧): الرجوع إلى الرب بتواضع.
٤٠لِنَفْحَصْ طُرُقَنَا وَنَمْتَحِنْهَا وَنَرْجعْ إِلَى الرَّبِّ. ٤١لِنَرْفَعْ قُلُوبَنَا وَأَيْدِيَنَا إِلَى اللهِ فِي السَّمَاوَاتِ: ٤٢«نَحْنُ أَذْنَبْنَا وَعَصَيْنَا. أَنْتَ لَمْ تَغْفِرْ. ٤٣الْتَحَفْتَ بِالْغَضَبِ وَطَرَدْتَنَا. قَتَلْتَ وَلَمْ تَشْفِقْ. ٤٤الْتَحَفْتَ بِالسَّحَابِ حَتَّى لاَ تَنْفُذَ الصَّلاَةُ. ٤٥جَعَلْتَنَا وَسَخًا وَكَرْهًا فِي وَسَطِ الشُّعُوبِ. ٤٦فَتَحَ كُلُّ أَعْدَائِنَا أَفْوَاهَهُمْ عَلَيْنَا. ٤٧صَارَ عَلَيْنَا خَوْفٌ وَرُعْبٌ، هَلاَكٌ وَسَحْقٌ».
١. لِنَفْحَصْ طُرُقَنَا وَنَمْتَحِنْهَا وَنَرْجعْ إِلَى الرَّبِّ: حتى في ظل الشعور الساحق بأن الله كان ضدهم (مراثي أرميا ٣: ١-١٨)، دعا إرميا إلى التحلّي بموقف سليم ومتواضع.
٢. لِنَفْحَصْ طُرُقَنَا وَنَمْتَحِنْهَا: لا ينبغي الاعتراف بالخطايا والتعامل معها بشكل عَرَضي وسطحي. كما لا ينبغي أن نركز باستمرار على خطايانا وإخفاقاتنا، ولكن تأتي لحظات مناسبة لِنَفْحَصْ طُرُقَنَا وَنَمْتَحِنْهَا بعناية وبإرادة حرة.
٣. نَرْجعْ إِلَى الرَّبِّ: إن فائدة فحص الذات قليلة إن لم يقودنا هذا الفحص إلى هذه النقطة وهي الرجوع للرب. لذا علينا، بل ينبغي أن نبتعد عن الخطية وعن الذات ونَرْجعْ إِلَى الرَّبّ.
٤. جَعَلْتَنَا وَسَخًا وَكَرْهًا: انطلاقًا من رغبته في أن يرْجعْوا إِلَى الرَّبِّ، فهم إرميا جيدًا أهمية أن يدركوا حالتهم الحالية بأمانة. فقد كانوا تحت تأديب الله الشديد بسبب خطيتهم المترسخة والمستمرة.
• “في اعتراف الأمة بأنها صارت وَسَخًا وَكَرْهًا فِي وَسَطِ الشُّعُوبِ (كما توضحها معظم الترجمات) يُستخدم المصطلح الوصفي (sehi) الموجود هنا فقط في الكتاب المقدس العبري. وتشير هذه الكلمة، في هذا السياق، إلى أي شيء مرفوض باعتباره غير صالح للاستخدام. والكلمة نظيرها والتي تحمل نفس المعنى في العهد الجديد (١ كورنثوس ٤: ١٣)، وهي نادرة الاستخدام في الكتاب المقدس على نفس القدر، هي تستخدم لتصور معاناة الرسل.” هاريسون (Harrison)
• “هذا يعني أنك جعلتنا محتقرين للغاية في نظر جميع الأمم، لدرجة أنهم لا ينظرون إلينا أكثر من مجرد كناسة منازلهم، وكل ما يمكن تخيله من أشياء أكثر دناءة ورفضًا واحتقارًا.” بوله (Poole)
ج) الآيات (٤٨-٥١): البكاء على الدمار.
٤٨سَكَبَتْ عَيْنَايَ يَنَابِيعَ مَاءٍ عَلَى سَحْقِ بِنْتِ شَعْبِي. ٤٩عَيْنِي تَسْكُبُ وَلاَ تَكُفُّ بِلاَ انْقِطَاعٍ ٥٠حَتَّى يُشْرِفَ وَيَنْظُرَ الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ. ٥١عَيْنِي تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِي لأَجْلِ كُلِّ بَنَاتِ مَدِينَتِي.
١. سَكَبَتْ عَيْنَايَ يَنَابِيعَ مَاءٍ: في الإصحاح السابق (مراثي إرميا ٢: ١٨)، ذكر إرميا الدعاء الذي رفعه أعداء أورشليم ضدها، دعاء لكي تبكي المدينة وأسوارها نهارًا وليلًا بلا نهاية. وهنا يتمّم إرميا هذا الدور بالدموع التي تَسْكُبُ وَلاَ تَكُفُّ بِلاَ انْقِطَاعٍ.
٢. حَتَّى يُشْرِفَ وَيَنْظُرَ الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ: يجب أن يستمر بكاء إرميا المكثّف وأمثاله حتى يُشْرِف الله وَيَنْظُر، ويلاحظ بؤسهم ويرحمهم.
د ) الآيات (٥٢-٥٦): طلب معونة أمام هجمات العدو.
٥٢قَدِ اصْطَادَتْنِي أَعْدَائِي كَعُصْفُورٍ بِلاَ سَبَبٍ. ٥٣قَرَضُوا فِي الْجُبِّ حَيَاتِي وَأَلْقَوْا عَلَيَّ حِجَارَةً. ٥٤طَفَتِ الْمِيَاهُ فَوْقَ رَأْسِي. قُلْتُ: «قَدْ قُرِضْتُ!». ٥٥دَعَوْتُ بِاسْمِكَ يَا رَبُّ مِنَ الْجُبِّ الأَسْفَلِ. ٥٦لِصَوْتِي سَمِعْتَ: «لاَ تَسْتُرْ أُذُنَكَ عَنْ زَفْرَتِي، عَنْ صِيَاحِي».
١. قَدِ اصْطَادَتْنِي أَعْدَائِي كَعُصْفُورٍ بِلاَ سَبَبٍ: لقد شعر إرميا وأمثاله بالضغط والتهديد المستمر بالاعتقال أو الموت. لقد تمت ملاحقتهم بلا هوادة، مثل طائر يلاحقه صياد. شعر إرميا بأنه مغمور، مثل رجل يغرق في بئر (طَفَتِ الْمِيَاهُ فَوْقَ رَأْسِي).
• قَرَضُوا فِي الْجُبِّ حَيَاتِي: “يبدو أنه لا يمكن فهم هذه الكلمات بشكل حرفي. ذلك لأن المكان الأدنى والأكثر سوءً في السجون كان من نصيب عدد قليل من اليهود؛ ولكنه مستخدمًا هنا بشكل مجازي ليعبّر عن تلك الحالة الأدنى والأكثر بؤسًا. لقد أوصلهم أعداؤهم إلى أعمق حالة بؤس.” بوله (Poole)
٢. دَعَوْتُ بِاسْمِكَ يَا رَبُّ: حتى في أعماق اليأس، مِنَ الْجُبِّ الأَسْفَلِ، عرف إرميا أنه لا يزال بإمكانه أن يدعو الرب، واثقًا من أن الرب سوف يسمع صوته. فلو كان كل ما يمكن أن يفعله هو التنهد، فسيكون صِيَاحِه من أجل النجاة هو كل ما يشتاق إرميا أن يسمعه الله منه.
• عَنْ زَفْرَتِي، عَنْ صِيَاحِي: “لم يجرؤ إرميا حتى على الشكوى أو الصراخ أو الصلاة بصوت عالٍ؛ كان عليه أن يهمس بصلاته إلى الله. لقد كانت مجرد زفير.” كلارك (Clarke)
• “إن الصلاة مثل الزفير. فالزفير لدى الحيوان الحيّ هو دليل الحياة، ذلك على الرغم من أن الصلاة ليست ضعيفًة كالزفير، ولا الزفير هو شيء روحاني كالصلاة. لذلك، إذا كنت لا تستطيع أن تتكلم، ابكِ، فالدموع أيضًا لها صوت (مزمور ٣٩: ١٢)، وإذا كنت لا تستطيع البكاء، تنهد. قد يكون تأثير عاصفة من التنهدات هي بمثابة وابل من الدموع. وإذا كنت لا تستطيع التنهد، مع ذلك فأنت تتنفس، كما هو الحال هنا، فإن الله يشعر بهذا النفس الذي يخرج منك. ويا لسعادة من يستطيع قول: ’رجائي فيك يا رب، وإليك كل نسمة تخرج مني ونحوك ألهث.‘” تراب (Trapp)
• “تستمع الأم إلى نفس طفلها في الليل. وهذا يخبرها بالكثير – هل يتنفس طفلها بشكل طبيعي أم هو يلهث ويعاني ليتنفس. هكذا الله، هو لا يَسُدّ أُذُنَيه عن تنهّداتنا، أو صرخات الألم العميق التي لا تستطيع الكلمات أن تعبر عنها. إذا كنت لا تستطيع الكلام، أو البكاء، أو التنهد، أو التأوه، فابق صامتًا. فالله يستطيع أن يفسر كل هذا ويفهمه.” ماير (Meyer)
هـ) الآيات (٥٧-٦٣): مُمتن وواثق في المعونة المستقبلية.
٥٧دَنَوْتَ يَوْمَ دَعَوْتُكَ. قُلْتَ: «لاَ تَخَفْ!». ٥٨خَاصَمْتَ يَا سَيِّدُ خُصُومَاتِ نَفْسِي. فَكَكْتَ حَيَاتِي. ٥٩رَأَيْتَ يَا رَبُّ ظُلْمِي. أَقِمْ دَعْوَايَ. ٦٠رَأَيْتَ كُلَّ نَقْمَتِهِمْ، كُلَّ أَفْكَارِهِمْ عَلَيَّ. ٦١سَمِعْتَ تَعْيِيرَهُمْ يَا رَبُّ، كُلَّ أَفْكَارِهِمْ عَلَيَّ. ٦٢كَلاَمُ مُقَاوِمِيَّ وَمُؤَامَرَتُهُمْ عَلَيَّ الْيَوْمَ كُلَّهُ. ٦٣اُنْظُرْ إِلَى جُلُوسِهِمْ وَوُقُوفِهِمْ، أَنَا أُغْنِيَتُهُمْ!
١. دَنَوْتَ يَوْمَ دَعَوْتُكَ: عرف إرميا أن الله استجاب عندما طلبه. وكان رد الله على هذه النفس الطالبة الرب هو: «لاَ تَخَفْ!»
• دَنَوْتَ: يبدو أن إرميا يسجّل هذه الحقيقة بقدر كبير من الدهشة. إنه يتعجب من هذا الحضور الإلهي، فقد كانت حالته يُرثى لها حقًا. كان يشعر بالإحباط الشديد كما لو أن الحياة نفسها تفلت منه، فكان يئن.” سبيرجن (Spurgeon)
• لاَ تَخَفْ: “ما أقوى هذه الكلمات عندما يتفوه بها روح الرب على مسامع القلب المنسحق. يمكننا أن نقول لكل حزين، بسلطان الله: لاَ تَخَفْ! الله سوف يدافع عن قضيتك، ويَفْدِي نفسك.” كلارك (Clarke)
٢. خَاصَمْتَ يَا سَيِّدُ خُصُومَاتِ نَفْسِي: بعد أن اختبر إرميا في السابق بأنه مَترُوك، وجد الآن العزاء في حقيقة أن الله كان محاميه. وكما يدافع المحامي عن موكله، دافع الله وخَاصَمْ خُصُومَاتِ إرميا حفاظًا على حياته.
• في وقت سابق من هذا الإصحاح، شعر إرميا أن الله هو خصمه (مراثي إرميا ٣: ١-١٨). وها هو الآن يصلي إلى الله بصفته من يدافع عنه.
• “ستلاحظ أن إرميا لم يذكر نفسه أو مرافعاته. فهو لا يعزو خلاصه، بأي حال من الأحوال، إلى أي تدخل بشري أو إلى أي استحقاق خاص فيه؛ بل يُنسب كل ذلك إلى الله.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. رَأَيْتَ يَا رَبُّ ظُلْمِي: لقد وجد إرميا التعزية في ثقته أن الله قاضيًا عادلًا، سيعترف بالظُلْمِ الذي يواجهه وأنه سيقِيم دَعْوَاه.
• “إذا نظرت إلى حياة القديسين عبر التاريخ، فستجد أنهم غالبًا ما تعرضوا لأشد الافتراءات خبثًا. وحتى يومنا هذا يؤكد الرومان أن مارتن لوثر كان سكيرًا. وفي عصره، كان يُطلق عليه اسم الوحش الألماني، الذي ستدفعه شهوته حتى من الزواج من كاثرين. وإذا قرأت ما يُكتب عن حياة الواعظ العظيم والقوي روحيًا، وايتفيلد في العصر الحديث – وكيف يصفونه؟ لقد اُتّهم بكل جريمة يمكن تصورها، حتى تلك المعروفة في سدوم؛ ووقف شاهد زور ليقسم ويشهد كذبًا بأن هذا الاتهام حقيقي. أما بالنسبة إلى ويسلي، فقد سمعت أنه قال في إحدى المناسبات أنه اتُهم بارتكاب كل جريمة يمكن تصورها ما عدا الثمالة (السُكر). وعندما وقفت امرأة وسط الحشد واتّهمته بذلك، كان رده: ’مبارك الرب، لقد قيل عليّ الآن كل كلمة شريرة من أجل اسم المسيح.‘” سبيرجن (Spurgeon)
٤. رَأَيْتَ كُلَّ نَقْمَتِهِمْ: قدم إرميا شكاواه إلى الله، شاكيًا له كل الطرق المختلفة التي اعتدى بها أعداؤه عليه. لقد احتقروه (تَعْيِيرَهُمْ)، وَتآمروا عليه، ونشروا أكاذيب أَفْكَارِهِمْ من نحوه، وسخروا منه بأُغْنِيَتُهُمْ.
• أَنَا أُغْنِيَتُهُمْ: “كانت أغاني السخرية أو التهكم أغاني عادة ما تُستخدم بشكل شائع للتعبير عن الازدراء بالخصم.” هاريسون (Harrison)
و ) الآيات (٦٤-٦٦): توكيل الله للانتقام لهم.
٦٤رُدَّ لَهُمْ جَزَاءً يَا رَبُّ حَسَبَ عَمَلِ أَيَادِيهِمْ. ٦٥أَعْطِهِمْ غِشَاوَةَ قَلْبٍ، لَعْنَتَكَ لَهُمْ. ٦٦اِتْبَعْ بِالْغَضَبِ وَأَهْلِكْهُمْ مِنْ تَحْتِ سَمَاوَاتِ الرَّبِّ.
١. رُدَّ لَهُمْ جَزَاءً يَا رَبُّ حَسَبَ عَمَلِ أَيَادِيهِمْ: لقد جازى الله أورشليم ويهوذا عن كل خطاياهم وعصيانهم. والآن قد صلّى إرميا لكي يجازي يهوه الرب أعداءهم، وأن يعْطِهِمْ غِشَاوَةَ قَلْبٍ، كما كان يهوذا أعمى.
٢. لَعْنَتَكَ لَهُمْ: وفقًا لشروط العهد الذي قطعه الله مع إسرائيل (تثنية ٢٧-٢٨)، سيُلعن إسرائيل بشكل رهيب بسبب عصيانه ورفضه لله. وقد حلّت بالفعل تلك اللعنات على أورشليم في أيام إرميا. والآن ها هو إرميا يصلّي من أجل أن تحل تلك اللعنات على أعدائهم.
٣. اِتْبَعْ بِالْغَضَبِ وَأَهْلِكْهُمْ مِنْ تَحْتِ سَمَاوَاتِ الرَّبِّ: اختبرت أورشليم ويهوذا غضب الله والدمار الناتج عنه. والآن، صلّى إرميا حتى يواجه أعداؤهم أيضًا نفس غَضَبِ الله هذا.
• “إن ثقة إرميا في تعاملات الرب الماضية مع شعبه خلق يقينًا بداخله بأنه حتمًا سيتدخل يهوه الرب ثانية لصالح شعبه ويستأصل أعدائهم من الأرض.” مورجان (Morgan)