رسالة تسالونيكي الأولى – الإصحاح ٥
الاستعداد ليوم الرب
أولًا. التعليم عن الاستعداد لعودة يسوع
أ ) الآيات (١-٣): مجيء يسوع المُفاجئ.
١وَأَمَّا الأَزْمِنَةُ وَالأَوْقَاتُ فَلاَ حَاجَةَ لَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ عَنْهَا، ٢لأَنَّكُمْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِالتَّحْقِيقِ أَنَّ يَوْمَ الرَّبِّ كَلِصٍّ فِي اللَّيْلِ هكَذَا يَجِيءُ. ٣لأَنَّهُ حِينَمَا يَقُولُونَ: «سَلاَمٌ وَأَمَانٌ»، حِينَئِذٍ يُفَاجِئُهُمْ هَلاَكٌ بَغْتَةً، كَالْمَخَاضِ لِلْحُبْلَى، فَلاَ يَنْجُونَ.
- وَأَمَّا ٱلْأَزْمِنَةُ وَٱلْأَوْقَاتُ فَلَا حَاجَةَ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ عَنْهَا: لقد تعلّم أهل تسالونيكي جيدًا عن عودة يسوع وغيرها من الأمور النبوية. فقد علّمهم بولس عن ٱلْأَزْمِنَة وَٱلْأَوْقَات المتعلّقة بعودة يسوع. وكانت عندهم فكرة عن ٱلْأَزْمِنَة النبوية التي يعيشون فيها، ويمكنهم تمييز ٱلْأَوْقَات في ثقافتهم آنذاك.
- مرَّة أخرى، نحن منبهرون من قضاء بولس بضعة أسابيع فقط مع أهل تسالونيكي (أعمال الرسل ٢:١٧). وفي ذلك الوقت، علّمهم عن ٱلْأَزْمِنَةُ وَٱلْأَوْقَاتُ المتعلّقة بعودة يسوع. إن بولس لَيُفاجأ من أنَّ بعض الناس اليوم يعتبرون عودة يسوع تعليمًا غير مهمّ.
- انتقد يسوع القادة الدينيّين في زمانه لأنهم عجزوا عن تمييز عَلَامَات ٱلْأَزْمِنَةِ (إنجيل متى ١:١٦-٣). يتوجب علينا أنْ ندرس الكتاب المُقَدَّس، ونتفحّص العالم الذي حولنا، لكي ندرك ٱلْأَزْمِنَةُ وَٱلْأَوْقَاتُ.
- كتب هيبرت (Hiebert) عن ’ٱلْأَزْمِنَةُ وَٱلْأَوْقَاتُ‘ قائلًا: “تدل الأولى على الوقت من حيث مدته، سواء كان طويلًا أو قصيرًا؛ أمَّا الثانية فتلفت النظر إلى خصائص الفترة الزمنية. الأولى تختصّ بقياس الوقت، أمَّا الثانية فبالطبيعة المناسبة أو الحرجة للوقت.”
- يَوْمَ ٱلرَّبِّ… هَكَذَا يَجِيءُ: يقتبس بولس هنا فكرة مألوفة في العهد القديم. والفكرة من وراء عبارة ’يَوْمَ ٱلرَّبِّ‘ هي أنَّه وقت الله. فللإنسان ’يومه‘ وللربّ يومه. وبالمعنى النهائيّ، يَوْمَ ٱلرَّبِّ يتحقّق عند حُكم يسوع على الأرض وعودته في المجد.
- هذا لا يشير إلى يوم واحد، بل إلى فترة زمنية يُحقِّق فيها الله تقدّمًا سريعًا في جدول أعماله حتّى نهاية الدهر. “تعبير ’يَوْمَ ٱلرَّبِّ‘ مألوف جدًا في العهد القديم. فهو يدلّ على اليوم الذي يتدخّل فيه الله في التاريخ ليحكم على أعدائه ويخلّص شعبه ويؤسّس ملكوته.” هيبرت (Hiebert)
- لِأَنَّكُمْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِٱلتَّحْقِيقِ أَنَّ يَوْمَ ٱلرَّبِّ كَلِصٍّ فِي ٱللَّيْلِ هَكَذَا يَجِيءُ: لقد علم أهل تسالونيكي، وتعلّموا، أنَّهم لا يستطيعون معرفة موعد عودة يسوع. وسيبقى ذلك اليوم مجهولًا، فيأتي فجأةً، كَلِصٍّ فِي ٱللَّيْلِ. فاللص لا يعلن عن الموعد المحدَّد لوصوله.
- يفسّر البعض فكرة أن يَوْمَ ٱلرَّبِّ كَلِصٍّ فِي ٱللَّيْلِ هَكَذَا يَجِيءُ بمعنى أنَّه لا يمكن أو لا ينبغي معرفة أي شيء عن خطّة الله النبويّة للمستقبل. بَيْدَ أنَّ بولس أشار إلى أنَّهم يعرفون تمامًا أنَّه لا يمكن معرفة الموعد بالتحديد.
- من المؤكَّد أن بولس لم يكن مِمَّن يحدّدون مواعيد للنبوّات، فقد نهى يسوع عن تحديد التواريخ بقوله: «وَأَمَّا ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ وَتِلْكَ ٱلسَّاعَةُ فَلَا يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ» (متى ٣٦:٢٤). فالله يريد أن يكون ذلك اليوم غير متوقّع، لكنَّه يريد أن يكون شعبه مستعدًّا لِمَا هو غير متوقّع.
- لِأَنَّهُ حِينَمَا يَقُولُونَ: «سَلَامٌ وَأَمَانٌ»، حِينَئِذٍ يُفَاجِئُهُمْ هَلَاكٌ بَغْتَةً: إنَّ الطبيعة غير المتوقّعة لذلك اليوم ستكون مأساة لغير المؤمنين. ذلك أنَّهم سوف نيام بسبب الأحوال السياسية والاقتصادية، لكنهم سوف يستيقظون بغتةً. وسوف يسمعون الحكم المخيف: لن تقدرون على الهرب (لَا يَنْجُونَ).
- “عندما يكون ’كل شيء على ما يرام‘ و’ كل الأمور مطمئنة‘ على شفاه الناس.” موفات (Moffatt)
- هذا المجيء المفاجئ – في وقت يقول فيه الكثيرون: ’سَلَامٌ وَأَمَانٌ‘ – يجب أن يكون متميّزًا عن مجيء يسوع الموصوف في إنجيل متى ١٥:٢٤-٣٥. فمجيء يسوع الموصوف في إنجيل متى ١٥:٢٤-٣٥ يحدث في وقت يشهد كارثة عالمية كبرى، يستحيل فيه أن يقول أحد: ’سَلَامٌ وَأَمَانٌ.‘ فمقارنة مقاطع مثل هذه تبيّن لنا أنَّ مجيء يسوع الثاني لا بُدّ أن يكون له جانبان.
- أحد جانبي مجيئه أنّه يأتي في ساعة غير متوقّعة، أمَّا الآخر فأنه سهل توقّعه.
- سيكون مجيئه – من ناحية – إلى عالم ’يسير كالعادة‘، أمَّا من ناحية أخرى فإلى عالم يشهد كارثة.
- في أحد المجيئين نلاقيه في الهواء (تسالونيكي الأولى ١٦:٤-١٧)، أمَّا في الآخر فهو الذي يأتي مع القِدّيسين (سفر زكريا ٥:١٤).
- كَٱلْمَخَاضِ لِلْحُبْلَى: تشير عبارة آلام المخاض إلى الحتمية وعدم التوقّع. وقد استخدم يسوع الفكرة نفسها في إنجيل متى ٨:٢٤، عندما تحدّث عن الكوارث التي تسبق أزمنة النهاية وكأنها مُبتَدأ الأوجاع، أي بداية آلام المخاض. والمقصود بذلك ولادة عصر جديد وكذلك زيادة شِدّة وتكرار هذه الكوارث.
- كَٱلْمَخَاضِ لِلْحُبْلَى: “١. أكيد؛ ٢. مفاجئ؛ ٣. لا يُقاوَم، ولا فرار منه.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٤-٥): أساس نصيحة بولس.
٤وَأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَلَسْتُمْ فِي ظُلْمَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكُمْ ذلِكَ الْيَوْمُ كَلِصٍّ. ٥جَمِيعُكُمْ أَبْنَاءُ نُورٍ وَأَبْنَاءُ نَهَارٍ. لَسْنَا مِنْ لَيْل وَلاَ ظُلْمَةٍ.
- وَأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ فَلَسْتُمْ فِي ظُلْمَةٍ: عند تناول سلوكهم، أوصى بولس أهل تسالونيكي ببساطة أنَّ يكونوا على طبيعتهم. فقد جعلنا الله أَبْنَاءُ نُورٍ وَأَبْنَاءُ نَهَارٍ. أمَّا الوقت الذي كنا فيه مِنْ لَيْلٍ ومن ظُلْمَةٍ فقد مضى. والآن علينا ببساطة أن نعيش وفقًا للمعيار الذي خلقنا الله للعيش بموجبه.
- “في اللغات الساميّة عمومًا، معنى أنْ تكون ’ابن فلان‘ هو أن تحمل صفات ذلك الشخص.” موريس (Morris)
- حَتَّى يُدْرِكَكُمْ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ كَلِصٍّ: بولس يقصد أنّ هذا لا ينبغي أن يحدث للمؤمن الذي يعيش وفقًا لطبيعته كابن نور وابن نهار. فعلى المؤمن أن يكون مستعدًّا لعودة يسوع المسيح.
- “ينتقل بولس من التفكير في يوم الربّ إلى فكرة أنَّ أهل تسالونيكي لا ينبغي أنْ يخافوا من مجيء ذلك اليوم. وهذه تؤدِّي إلى فكرة أخرى: هي أنَّ حياتهم يجب أن تكون في انسجام مع كل ما يمثّله ذلك اليوم.” موريس (Morris)
- سيكون مجيء يسوع مفاجأة للجميع نوعًا ما، لأنَّ أحدًا لا يعرف اليوم ولا الساعة (إنجيل متى ٣٦:٢٤). ولكن بالنسبة إلى المؤمنين الذين يعرفون الأزمنة والأوقات، لن تكون هذه مفاجأة بالكامل. فلا أحد يعرف بالضبط الساعة التي سيأتي فيها اللص، لكنَّ البعض يعيشون في استعداد عامّ لمجيء اللصوص، فالذين ليسوا فِي ظُلْمَةٍ، أي الذين يعيشون جميعًا كـأَبْنَاء نُورٍ وَأَبْنَاء نَهَارٍ، هم مستعدّون لعودة يسوع.
- لكن إذا كنا فِي ظُلْمَةٍ – فلعلّنا انزلقنا في خطية من الخطايا التي حذّر منها بولس في هذه الرسالة – فلن نكون مستعدّين وسنحتاج إلى أنْ نُعدّ أنفسنا لعودة يسوع.
ج) الآيات (٦-٨): نصائح بولس: اسهروا، اصحوا، وتيقّظوا.
٦فَلاَ نَنَمْ إِذًا كَالْبَاقِينَ، بَلْ لِنَسْهَرْ وَنَصْحُ. ٧لأَنَّ الَّذِينَ يَنَامُونَ فَبِاللَّيْلِ يَنَامُونَ، وَالَّذِينَ يَسْكَرُونَ فَبِاللَّيْلِ يَسْكَرُونَ. ٨وَأَمَّا نَحْنُ الَّذِينَ مِنْ نَهَارٍ، فَلْنَصْحُ لاَبِسِينَ دِرْعَ الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ، وَخُوذَةً هِيَ رَجَاءُ الْخَلاَصِ.
- فَلَا نَنَمْ إِذًا: لأننا لا ننتمي إلى الليل ولا الظلمة تسالونيكي الأولى ٥:٥)، فيجب ألَّا تتميّز حالتنا الروحيّة بالنوم. ومن الناحية الروحيّة، نحتاج أنَّ نكون نشيطين وواعين، أن نَسْهَر وَنَصْحُوا (نكون متيقّظين).
- فَلَا نَنَمْ: استخدم بولس هنا كلمة مختلفة عن رُقاد الموت المذكور في الإصحاح ١٣ والآية ٤. “تُستَخدم كلمة النوم هنا مجازيًا للدلالة على اللامبالاة بالحقائق الروحيّة من جانب المؤمنين. إنَّها كلمة مختلفة عن الواردة في ١٣:٤-١٥ الدالة على رقاد الموت. وهي تغطي جميع أنواع التراخي الأخلاقيّ والروحيّ أو عدم الشعور.” هيبرت (Hiebert)
- النوم يتحدث كثيرًا عن الأشياء التي تميّز العالم (ٱلْبَاقِينَ)، التي لا ينبغي أن تميّز المؤمن:
- النوم ينطوي على الجهل.
- النوم ينطوي على عدم الشعور.
- النوم ينطوي على عدم وجود دفاع.
- النوم ينطوي على الخمول.
- في عظة عن هذا النص بعنوان «اصحوا! اصحوا!» أظهر سبيرجن (Spurgeon) حماقة ومأساة المؤمن النائم بثلاث صور قويّة:
- المدينة تعاني من الطاعون، فيسير مسؤول في الشوارع ويصرخ: ’أَخرِجوا الموتى! أَخرِجوا الموتى!‘ – بينما هناك طبيب نائم وعنده الدواء في جيبه.
- سفينة الركّاب تتدافعها العاصفة فتوشك على التحطّم على الصخور، مِمَّا سيؤدّي إلى موت حتمي لمئات الركاب – بينما القبطان يغطّ في نومه.
- السجين قابع في زنزانته على وشك الاستعداد لإعدامه. قلبه يمتلئ رعبًا من موته شنقًا، ومِمّا ينتظره بعد الموت. بينما هناك رجل جالس يحمل خطاب عفو عن الرجل المدان في غرفة أخرى – غالبه النعاس فنام.
- الصحو لا يعني التخلّي عن المشاعر. إنَّما يعني معرفة القيمة الصحيحة للأمور، وبالتالي لا نتحمّس حماسًا شديدًا لأمور الدنيا. فالشخص الذي يعيش حياته من أجل التسلية والترفيه ليس صاحيًا (واعيًا).
- لَمَّا أوصى بولس بأن نصحو، لم يكن يقصد أنْ نقضي على الحماس والإثارة ليسوع، وأن ندعو إلى ما نعتقد أنَّه أسلوب أكثر توازن للحياة. فبولس نفسه كان تابعًا متحمّسا ليسوع، حتّى أنَّه اتُّهم بالتطرُّف الدينيّ. مما جعل المسؤول الرومانيّ فستوس يقول أنَّ بولس يهذي ( أعمال الرسل ٢٤:٢٦)، وأهل كورنثوس أن يقولوا أنَّه كان مختلّ العقل (كورنثوس الثانية ١٣:٥).
- لِأَنَّ ٱلَّذِينَ يَنَامُونَ فَبِاللَّيْلِ يَنَامُونَ، وَٱلَّذِينَ يَسْكَرُونَ فَبِاللَّيْلِ يَسْكَرُونَ: إنَّ عكس اليقظة الروحيّة هو النوم الروحيّ. وعكس الصحو الروحيّ هو أن نكون في حالة سكر روحيًّا. نحن – المؤمنين – مِنْ نَهَارٍ، ولذا يجب علينا أن نَسْهَرْ وَنَصْحُ.
- لَابِسِينَ دِرْعَ ٱلْإِيمَانِ وَٱلْمَحَبَّةِ، وَخُوذَةً هِيَ رَجَاءُ ٱلْخَلَاصِ: استخدم بولس صورة دِرع (تُرس) الجندي لتوضيح فكرة اليقظة. فالجندي مثال جيّد على الشخص الذي يجب أن يسهر ويصحو، المجهَّز للقيام بذلك بدرعه.
- عندما نقارن هذا الوصف للدرع الروحيّ بالوصف الوارد في رسالة أفسس ٦، لا نجد تماثلًا دقيقًا. وهذا دليل على أنَّ بولس كان يستخدم فكرة السلاح (الدرع) الروحيّ كتصوير مفيد، وليس شيئًا جامدًا في تفاصيله الخاصة.
- يُرمَز ٱلْإِيمَانِ وَٱلْمَحَبَّةِ إلى الدِرْع، وذلك لأنَّ الدِرْع يغطّي الأعضاء الحيوية. فلا يذهب الجندي إلى المعركة بدون دِرْع، ولا يكون المؤمن مجهَّزًا ليعيش الحياة المسيحيّة بدون إيمان ومحبّة.
- يُرمَز رَجَاءُ ٱلْخَلَاصِ إلى الخُوذَة، لأنَّ الخُوذَة تحمي الرأس، وهي عنصر ضروريّ، مَثَلُها مَثَل الدِرْع الذي يحمي الصدر. ولا يُستَخدَم الرجاء بمعنى التمنّي، ولكن بمعنى التوقّع الواثق ليد الله في المستقبل.
د ) الآيات (٩-١٠): يقينيّة مستقبلنا.
٩لأَنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْنَا لِلْغَضَبِ، بَلْ لاقْتِنَاءِ الْخَلاَصِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، ١٠الَّذِي مَاتَ لأَجْلِنَا، حَتَّى إِذَا سَهِرْنَا أَوْ نِمْنَا نَحْيَا جَمِيعًا مَعَهُ.
- لِأَنَّ ٱللهَ لَمْ يَجْعَلْنَا (مُعيَّنين) لِلْغَضَبِ: قبل أن ننال رجاء الخلاص (تسالونيكي الأولى ٨:٥)، كنا مُعيَّنين لِلْغَضَبِ. أمَّا الآن فلسنا مُعيَّنين لِلْغَضَبِ بعد، بل لنوال الخلاص بواسطة ربنا يسوع المسيح.
- الْغَضَب: مهمّ أنَّ نفهم أنَّ بولس يقصد غَضَب الله. فنحن نخلص من العالم والجسد والشيطان. ولكن أوّلًا وقبل كل شيء، نخلص من غَضَب الله، الْغَضَب الذي نستحقّه. إنَّ سياق بولس كله هنا هو خلاص المؤمن من غَضَب الله.
- لم يجعلنا أو يختارنا لِلْغَضَبِ كان بطريقتين. أوّلًا، قد جُعِلنا لِلْغَضَبِ بسبب ما فعله آدم بنا وبالجنس البشريّ كله (رسالة رومية ١٦:٥-١٩). ثانيًا، قد جُعِلنا لِلْغَضَبِ بسبب خطايانا الخاصّة. فعندما مات يسوع على الصليب، أخذ مكاننا – نحن المُعيَّنين لِلْغَضَبِ – وأعاد تعييننا لِٱقْتِنَاءِ ٱلْخَلَاصِ. لذا فعندما نعتقد – نحن المؤمنين – أنَّنا مُعيَّنون لِلْغَضَبِ، فكأننا نؤمن بشيء ألغاه يسوع.
- ٱلَّذِي مَاتَ لِأَجْلِنَا: المقصود هو أنَّ يسوع مات بدلًا عنا. أي أن يسوع لم يمت كخدمة لنا، بل مَاتَ عوضًا عنّا.
- لِأَنَّ ٱللهَ لَمْ يَجْعَلْنَا لِلْغَضَبِ، بَلْ لِٱقْتِنَاءِ ٱلْخَلَاصِ: وضع بولس فكّرتين مثيرتين جنبًا إلى جنب هنا. فكلمة يَجْعَلْنَا تؤكّد على سيادة الله، ولكن كلمة الاقتناء تؤكد على المجهود البشري. وهما الاثنان معًا يُظهِران أنَّ النطاق الكامل للخلاص يشمل المبادرة الإلهيّة والجهد البشري.
- حَتَّى إِذَا سَهِرْنَا أَوْ نِمْنَا نَحْيَا جَمِيعًا مَعَهُ: بعد أن نلنا ٱلْخَلَاصِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، سوف نعيش جَمِيعًا مَعَهُ دائمًا. فلا يمكن نقض الوعد بالوحدانيّة مع يسوع؛ فسواء عِشنا أو مُتنا (سَهِرْنَا أَوْ نِمْنَا)، سنكون دائمًا معه.
- ٱلَّذِي مَاتَ لِأَجْلِنَا … حَتَّى إِذَا سَهِرْنَا أَوْ نِمْنَا: إنَّه لا يُخفِّف من موت يسوع بتسميته نومًا، لكنَّ موتنا يمكن أن يُسمَّى نومًا. فموته كان موتًا، بحيث يكون موتنا مُجَرَّد نوم.
هـ) الآية (١١): امتيازنا: تعزية بعضنا البعض.
١١لِذَلِكَ عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَٱبْنُوا أَحَدُكُمُ ٱلْآخَرَ، كَمَا تَفْعَلُونَ أَيْضًا.
- لِذَلِكَ عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا: يأمرنا بولس مرَّة أخرى بألَّا نتعزَّى، بل نُعزِّي. فإذا اهتمّ جميع المؤمنين بتعزية بعضهم البعض، فسوف يتعزَّى الجميع.
- وَٱبْنُوا أَحَدُكُمُ ٱلْآخَرَ: نهتمّ ببنيان المؤمنين الآخرين، أمَّا نحن فالله هو الذي يبنينا. وهذه صورة لكنيسة مليئة بالمشاركين النشطين، لا بالمتفرجين السلبيين.
- “من الواضح أنَّ رعاية النفوس في الكنائس الأولى لم تكن مسؤولية فرد واحد، ولا حتّى الإخوة الأكثر موهبة بينهم؛ بل كانت عملًا يمكن أن يساهم فيه كل مؤمن.” هيبرت (Hiebert)
- كَمَا تَفْعَلُونَ أَيْضًا: ليس المقصود أنَّه لم تكن هناك تعزية بين أهل تسالونيكي، أو أنَّ أحدًا لم يكن يُبنَ. إنَّما المقصود أنَّه ينبغي لهم الاستمرار في تعزية الآخرين، وأن يعملوا ذلك أكثر وأكثر.
ثانيًا. الحث والنصح
أ ) الآيات (١٢-١٣): يحثّهم بولس على القيام بثلاثة أشياء فيما يتعلّق بقادتهم.
١٢ثُمَّ نَسْأَلُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَعْرِفُوا الَّذِينَ يَتْعَبُونَ بَيْنَكُمْ وَيُدَبِّرُونَكُمْ فِي الرَّبِّ وَيُنْذِرُونَكُمْ، ١٣وَأَنْ تَعْتَبِرُوهُمْ كَثِيرًا جِدًّا فِي الْمَحَبَّةِ مِنْ أَجْلِ عَمَلِهِمْ. سَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
- أَنْ تَعْرِفُوا ٱلَّذِينَ يَتْعَبُونَ بَيْنَكُمْ: على المؤمنين التعرُّف على قادتهم، ويمكن معرفة القادة بثلاثة طرق.
- ٱلَّذِينَ يَتْعَبُونَ بَيْنَكُمْ. يُعرَف القادة لا عن طريق ألقابهم ولكن عن طريق خدمتهم. فالألقاب جيدة، ولكن بشرط أن يكون اللقب صحيحًا وإن يصف فعلًا حقيقة الشخص في نظر الله والناس.
- وَيُدَبِّرُونَكُمْ فِي ٱلرَّبِّ. يُعرَف القادة بأنهم من ’يدبرون‘ شؤون الكنيسة بمعنى القيادة والإرشاد، مثل الراعي الذي يرشد خرافه ويقودهم. وهذا وصف لترتيب السلطة الواضح والشرعيّ.
- وَيُنْذِرُونَكُمْ. يُعرَف القادة بأنهم الذين ينصحون أهل الكنيسة. فـالإنذار يعني ’التحذير أو التوبيخ بلطف.‘ يقول موريس (Morris): “مع أنَّ اللهجة المستخدمة أخوية، إلاَّ أنَّها صادرة من أخ أكبر لأخيه الصغير.”
- “هذه عبارة عن ثلاثة أسماء فاعل في اليونانيّة يربطها أداة تعريف واحدة، مِمَّا يشير إلى أنَّهم ليسوا ثلاث مجموعات متميّزة، بل فئة واحدة من الناس يباشرون وظيفة ثلاثية.” هيبرت (Hiebert)
- وَأَنْ تَعْتَبِرُوهُمْ (تقدّروهم) كَثِيرًا جِدًّا فِي ٱلْمَحَبَّةِ: يجب على المؤمنين أن يقدروا قادتهم (أَنْ تَعْتَبِرُوهُمْ) وأن يفعلوا هذا في المحبّة، لأنهم يخدمونهم (مِنْ أَجْلِ عَمَلِهِمْ). إنهم لا يستحقّون التقدير بسبب ألقابهم أو بسبب شخصيّاتهم، ولكن بسبب تفانيهم في العمل من أجل شعب الله.
- “يحق للخُدّام، الذين يبشرون بالحقّ الكامل، ويتعبون في التعليم، أنْ ينالوا أكثر من مُجَرَّد الاحترام. فالرسول بولس يأمر أهل تسالونيكي أن يمنحوهم وافر التقدير والاعتبار. وأن يكون هذا في المحبّة.” كلارك (Clark)
- يذكر بولس عمل الخدمة مرّتين ويربطه بالاحترام الذي يجب أن يناله هؤلاء الخدّام الذين يخدمونهم. وهذا يدلّ على شيئين على الأقل:
- إذا عرفت الكنيسة وفهمت الخدمة التي يقوم بها هؤلاء الخدام عليهم، فإنَّهم سوف يقدّرون القادة أكثر ويحترمونهم.
- العمل جانب أساسيّ من جوانب الخدمة، فلا يوجد مكان لقسيس كسول. “صرّح في المقام الأول بأنهم يتعبون. فيترتب على ذلك أنَّه يستبعد جميع الكسالى من عداد القساوسة.” كالفين (Calvin)
- “الكلام في اليونانيّة يحمل نبرة تأكيد قويّة لا يمكن التعبير عنها جيدًا باللغة الإنجليزية، حيث ينقل الاعتبار (التقدير) والمحبّة إلى أعلى درجة. إذ يجب أنْ تقترن المحبّة بالتقدير، والتقدير بالمحبّة، فيزداد كلاهما تجاههم.” بوله (Poole)
- إذا كان المؤمن لا يستطيع تقدير ومحبّة راعي كنيسته، فيجب عليه إمّا أن يركع على ركبتيه ويطلب من الروح القُدُس أن يغيّر قلبه، أو أن يذهب إلى مكان آخر ويخضع لقسيس آخر يقدّره ويحبّه.
- سَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا: بهذا الأمر البسيط، قال بولس إنَّ على المؤمنين أن يتخلّصوا من كل شجار ومجادلات بينهم. وهذه طريقة رائعة لتقدير قادة كنيستك وإظهار المحبة لهم.
ب) الآيات (١٤-١٥): بولس يوصيهم بالطريقة المناسبة للتعامل مع الناس العَسِرين.
١٤وَنَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ: أَنْذِرُوا الَّذِينَ بِلاَ تَرْتِيبٍ. شَجِّعُوا صِغَارَ النُّفُوسِ. أَسْنِدُوا الضُّعَفَاءَ. تَأَنَّوْا عَلَى الْجَمِيعِ. ١٥انْظُرُوا أَنْ لاَ يُجَازِيَ أَحَدٌ أَحَدًا عَنْ شَرّ بِشَرّ، بَلْ كُلَّ حِينٍ اتَّبِعُوا الْخَيْرَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ وَلِلْجَمِيعِ.
- وَنَطْلُبُ إِلَيْكُمْ: الطلب هنا هو أن تخبر أحدًا بما يجب عليه فعله، ولكن دون حِدّة أو انقاد. إنه لا يوبّخهم ولا يدينهم، ولكنَّه لا يقترح عليهم مُجَرَّد اقتراح. طلبه عاجل وخطير، ولكنه يقال بهدوء ورفق.
- أَنْذِرُوا ٱلَّذِينَ بِلَا تَرْتِيبٍ. شَجِّعُوا صِغَارَ ٱلنُّفُوسِ. أَسْنِدُوا ٱلضُّعَفَاءَ. تَأَنَّوْا عَلَى ٱلْجَمِيعِ: أوصى بولس أهل تسالونيكي – شعبًا ورعاةً وقادةً – أن يخدموا بطرق متنوعة، على حسب حالة الشخص المحتاج إلى الخدمة. فإذا كان هناك شخص بِلَا تَرْتِيبٍ (منفلت الزمام)، فمن واجب المؤمن أنْ يُنذِره. وقد يحتاج البعض إلى التشجيع، بينما يحتاج البعض الآخر إلى المساندة.
- الأشخاص ٱلَّذِينَ بِلَا تَرْتِيبٍ (المنفلتون) هم الذين خرجوا عن النظام، على حدّ التعبير العسكري الذي يصف الجندي الذي يخرج عن الصفّ أو يشذّ عن التشكيل. وهو شخص متمرّد، مصرّ على التمسُّك برأيه أو بما يروق له. مثل أولئك يجب إنذارهم.
- أمَّا صِغَارَ ٱلنُّفُوسِ فهم الشاعرون بالنقص، الذين يميلون بطبيعتهم أو بحسب الخبرة إلى الخجل ونقص الشجاعة. وهؤلاء يحتاجون إلى تقديم التعزية لهم، أي التقوية والمساعدة.
- يجب دعم ٱلضُّعَفَاءَ ومساعدتهم بهدف بنيان قوتهم لا إدامة ضعفهم.
- يرى البعض أنَّ بولس يخاطب هذه المجموعات الثلاث في مقاطع سابقة من رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي. إذا كان الأمر كذلك، فهي توفّر أمثلة جيّدة على كيفية مخاطبة الأفراد من كل فئة.
- تَأَنَّوْا عَلَى ٱلْجَمِيعِ: رغم أنَّه يجب تنويع طرق التعامل على حسب الأشخاص، إلاَّ أنَّ المؤمنين يجب أن يتحلّوا بـطول الأناة (الصبر) مع الجميع (تَأَنَّوْا عَلَى ٱلْجَمِيعِ). وذلك لأنَّ المسيحيّة الحقيقيّة تتجلَّى في قدرتها على المحبّة ومساعدة الأشخاص العسرين. فنحن لا نبحث عن الكاملين فقط لخدمتهم والخدمة معهم.
- ٱنْظُرُوا أَنْ لَا يُجَازِيَ أَحَدٌ أَحَدًا عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ: لا ينبغي للمؤمن أن يسعى إلى الانتقام أو الأخذ بالثأر أبدًا، بل أنْ يَدَع الله يقف في صفّه. بدلًا من ذلك، يجب كُلَّ حِينٍ أن نتَّبِع ٱلْخَيْرَ بَعْضُنا لِبَعْضٍ وَلِلْجَمِيعِ. فعندما نتحلّى بقلب متسامح تجاه الآخرين، لا يكون في هذا خير لهم فحسب، بل ولنا نحن أيضًا.
- في المقطع التالي، سيكتب بولس عن مزيد من الأمور الروحيّة مثل الصلاة والشكر والعبادة. ولكن قبل هذه الأمور الروحيّة أو الدينيّة، يقدّم تعليمًا عن العلاقات الصحيحة. لقد أوضح يسوع أنَّه ينبغي لنا أن نصحّح أمورنا مع البشر قبل أن نتقدّم إلى عبادة الله (إنجيل متّى ٢٣:٥-٢٤).
ج) الآيات (١٦-١٨): بخصوص عبادتهم الشخصيّة.
كتب جيمس موفات (James Moffatt) عن هذه الآيات: “إنَّ تفسير هذه الدُّرَر تفسيرًا وافيًا هو بمثابة تلخيص لتاريخ الاختبار المسيحيّ على أعلى المستويات.”
١٦افْرَحُوا كُلَّ حِينٍ. ١٧صَلُّوا بِلاَ انْقِطَاعٍ. ١٨اشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مِنْ جِهَتِكُمْ.
- ٱفْرَحُوا كُلَّ حِينٍ: لا نفرح بالأمور المفرحة فقط، بل وفي الأحزان أيضًا. فيمكن للمؤمن أن يفرح كُلَّ حِينٍ لأنَّ فرحه لا يستند إلى الظروف، بل إلى الله. فالظروف تتغيّر، أمَّا الله فلا يتغيّر.
- “لا بد لي أنَّ أذكر من بين الغرائب التي أراها في الكنائس، أنني تعرّفت على مؤمنين روحيّين عميقين كثيرين يخشون أن يفرحوا… إذ ينظر البعض إلى الدين وكأنّ من واجبهم المُقَدَّس أن يكونوا مكتئبين.” سبيرجن (Spurgeon)
- “قلِّب هذا الكتاب وانظر إذا كان هناك أي مبدأ أعطاه الربّ لك يقول: ’إنّوا في الربّ كلّ حين، وأقول أيضًا إنّوا.‘ طبعًا يمكنك أنْ تئنّ كما يحلو لك. ولكن، في الوقت نفسه، ألاَ تعتقد أنَّ المسيحية تترك مجالًا أوسع للفرح، بل وتأمرك به؟” سبيرجن (Spurgeon)
- صَلُّوا بِلَا ٱنْقِطَاعٍ: يجب على المؤمنين أن يصلوّا باستمرار. فلا يمكننا إحناء رؤوسنا وتغميض أعيننا وطي أيدينا بِلَا ٱنْقِطَاعٍ، لكن هذه كلها عادات اعتدناها عند الصلاة وليست الصلاة في حد ذاتها. فالصلاة هي تواصل مع الله، ويمكننا أن نعيش في كل دقيقة من اليوم في حديث مستمر وجارٍ مع الله.
- هناك قيمة عظيمة ومهمّة في استقطاع وقت نوقف فيه كل المشوّشات الأخرى ونركّز على الله في الصلاة (إنجيل متى ٦:٦). ولكن هناك أيضًا مجال – وقيمة كبيرة – في الشركة مع الله في كل لحظة من اليوم.
- يترتّب على هذا الأمر العديد من النتائج القيمة:
- ليس استخدام الصوت عنصرًا أساسيًّا في الصلاة.
- وضع الصلاة ليس ذا أهمّيّة أساسيّة.
- مكان الصلاة ليس ذا أهمّيّة كبيرة.
- الوقت المحدد للصلاة غير مهمّ.
- يجب ألَّا يكون المؤمن في مكان يعجز فيه عن الصلاة.
- ٱشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ: نحن لا نشكر على كل شيء، ولكن فِي كُلِّ شَيْءٍ. فإننا ندرك أنَّ يد الله المسيطرة هي المسؤولة، وليس القدر أو الصدفة العمياء.
- “عندما يقترن الفرح بالصلاة، يكون أوَّل طفل مولود هو الشكر.” سبيرجن (Spurgeon)
- لِأَنَّ هَذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ ٱللهِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ مِنْ جِهَتِكُمْ: بعد كل هذه النصائح – ٱفْرَحُوا كُلَّ حِينٍ. صَلُّوا بِلَا ٱنْقِطَاعٍ. ٱشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ – يوصينا بولس أن نفعل هذا لأنها مَشِيئَةُ ٱللهِ. فليس المقصود ’هذه هي مشيئة الله، فيجب عليكم تنفيذها.‘ إنَّما المقصود بالأحرى: ’هذه هي مشيئة الله، لذلك يمكنكم تنفيذها.‘ فليس هيّنًا أن نفرح كل حين، وأن نصلّي بلا انقطاع، وأن نشكر في كل شيء، لكن يمكننا عمل ذلك لأنها مشيئة الله.
د ) الآيات (١٩-٢٢): بولس يحضّهم في عبادتهم العامّة.
١٩لاَ تُطْفِئُوا الرُّوحَ. ٢٠لاَ تَحْتَقِرُوا النُّبُوَّاتِ. ٢١امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ. ٢٢امْتَنِعُوا عَنْ كُلِّ شِبْهِ شَرّ.
- لَا تُطْفِئُوا ٱلرُّوحَ: يمكننا إطفاء (إخماد) نار الروح بشكّنا أو عدم مبالاتنا أو رفضنا له أو بالسماح للآخرين بإلهائنا عنه. فعندما يبدأ الناس في جذب الانتباه إلى أنفسهم، فإنَّ ذلك يكون بمثابة إطفاء أكيد للروح.
- “ينطبق ’الإطفاء‘ بصورة صحيحة على إطفاء لهب ما، كلهب النار (إنجيل مرقس ٤٨:٩)، أو المصباح (إنجيل متى ٨:٢٥). وهذا هو المكان الوحيد في العهد الجديد الذي يستخدم فيه بالمعنى المجازي.” موريس (Morris). يقول توماس (Thomas) إنَّ العبارة يمكن ترجمتها حرفيًّا بـ ’توقّفوا عن إطفاء نار الروح.‘”
- لذلك تعتمد هذه الوصية على الصورة المألوفة للروح القُدُس كنار أو لهب. صحيح أننا لا نستطيع أنْ نخلق النار، إلاَّ أننا نستطيع توفير البيئة التي تشتعل فيها وتضطرم. ولكن يمكن إطفاء اللهب بتجاهله وعدم الاهتمام به، أو عندما يطغى على اللهب شيء آخر.
- “يمكن إطفاء الروح في الآخرين وكذلك في أنفسنا. فقد يطفئه الناس في الخدام بتثبيط عزيمتهم، وفي بعضهم البعض بكونهم قدوة سيئة، أو بتوبيخهم على غيرتهم وحماسهم.” بوله (Poole)
- لَا تَحْتَقِرُوا ٱلنُّبُوَّاتِ: نحن ندرك أنَّ الربّ يتحدّث إلى شعبه وبواسطته اليوم، ونحن نتعلّم أن علينا أن نكون منفتحين على صوته. ولكننا نعلم أيضًا أن علينا أن نختبر النبوّات أولًا (باتّباع وصية ٱمْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ)، لكننا لا نحتقر النبوّات.
- جائز جدًّا أن تكون النبوّة قد احتُقِرت لأنَّ الأفراد كانوا يسيئون استخدام هذه الموهبة. فقد كان هناك كسالى بين أهل تسالونيكي (تسالونيكي الأولى ١١:٤-١٢)، ورُبَّما كانوا يبرّرون كسلهم بالنبوّات. وكان من بين أهل تسالونيكي هواة تحديد الأوقات وتخمين أزمنة النهاية (تسالونيكي الثانية ١:٢-٥)، ورُبَّما قام هؤلاء بدعم تخميناتهم بسلطة نبويّة مزعومة.
- ٱمْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ، تَمَسَّكُوا بِٱلْحَسَنِ: الشرّ والخداع يمكن أن يظهرا في الأجواء الروحيّة، لذلك من المهمّ للمؤمنين أن يمتحنوا كل شيء. وبعد إجراء الامتحان (وفقًا لمعايير كلمة الله وتمييز الروح بين القادة)، نتمسّك بما هو حسن.
- أمضى بولس وقتًا في بيرية في الفترة بين آخر مرَّة رأى فيها أهل تسالونيكي وكتابة هذه الرسالة (أعمال الرسل ١٠:١٧-١٢). وهناك كان المؤمنون على خُلُق نبيل لأنهم سمعوا عظات بولس وفتّشوا الكتاب المُقَدَّس بجدّ للوقوف على صحّة تعليمه. فأراد بولس أن يكون لأهل تسالونيكي قلب وفكر البيريين.
- ٱمْتَنِعُوا عَنْ كُلِّ شِبْهِ شَرٍّ (كل شكل من أشكال الشرّ): بعد إجراء الامتحان، يجب رفض أي جانب من جوانب الشر. وهذا يشمل الشر الذي قد يظهر في صورة روحيّة.
- “كلمة ’شِبْهِ‘ eidous (إيدوُس) تعني حرفيًّا «المظهر أو الشكل الظاهري»، أي المظهر الخارجيّ. ويدلّ على الشكل الخارجيّ الذي يظهر به الشرّ. فيجب علينا أن نتجنب الشر بأي شكل أو مظهر يظهر به.” هيبرت (Hiebert)
- “فيكون المعنى «الشر الذي يمكن رؤيته» وليس «ما يبدو أنَّه شرّ».” موريس (Morris)
ثالثًا. الخلاصة
أ ) الآيات (٢٣-٢٤): التقِدّيس الكامل بالتوازي مع عمل الله فينا.
٢٣وَإِلهُ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِالتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. ٢٤أَمِينٌ هُوَ الَّذِي يَدْعُوكُمُ الَّذِي سَيَفْعَلُ أَيْضًا.
- وَإِلَهُ ٱلسَّلَامِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِٱلتَّمَامِ: المقصود بكلمة تقِدّيس هو ’التخصيص‘ لعمل شيء مختلف ومميّز، وتحطيم الروابط القديمة وتشكيل روابط جديدة. مثلًا، الفستان فستان، ولكنّ فستان الزفاف فستان تم تقِدّيسه – أي تخصيصه لغرض خاصّ ومجيد. الله يريدنا أن نكون مخصّصين له.
- يقع التركيز هنا على كلمة ’بِٱلتَّمَامِ‘: “الصفة holoteleis (هولويسِس)، التي لا ترد في العهد الجديد إلاَّ هنا فقط، مركَّبة من holos «تام، كامل»، وtelos «نهاية، غاية». أمَّا دلالاتها الأساسيّة فهي «بلوغ الغاية بالكامل»، أي الوصول إلى الهدف المقصود أي الغاية المنشودة، وبالتالي فالمعنى أنَّه لا يوجد جزء لم يتمّ الوصول إليه.” هيبرت (Hiebert)
- نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ: أوضح بولس أن التقِدّيس هو عمل الله فينا. فقد وضع هذا التأكيد على الكلمات: ’نَفْسُهُ‘ و’تُحْفَظ‘ و’أَمِينٌ هُوَ ٱلَّذِي يَدْعُوكُمُ‘ و’سَيَفْعَلُ أَيْضًا.‘ وهذا التأكيد يُنهي إرشادات بولس السابقة. ففي كل ما أمر المؤمن أن يفعله في تسالونيكي الأولى ١:٤ إلى ٢٢:٥، لم يقصد أبدًا أن يعملوا تلك الأشياء بقوتهم الخاصّة. إذ يُهزَم عدد أكبر من المؤمنين بسبب الاعتماد على الذات أكثر من هزيمتهم بسبب هجوم الشيطان.
- “تدلّ الطريقة التي استخدمها في حضّه إياهم أنهم لن يأتوا بثمر إلاَّ بقدرة الله. “كنت أحثّك على عمل أشياء معينة، ولكن لن تتمكنوا من عملها إلاَّ بقدرة الله.” موريس (Morris)
- وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلَا لَوْمٍ: إنَّ استخدام بولس للروح والنفس والجسد في هذا المقطع دفع الكثيرين إلى تبنّي ما يُسمَّى بالنظرة الثلاثية للإنسان (trichotimist view)، فظنّوا أنَّ الإنسان يتكوّن من ثلاثة أجزاء مميزة: الروح، والنفس، والجسد.
- هذا رأي وجيه، ولكنه لا يخلو من المشاكل. فيمكن لنا أنْ نقول إنَّ إنجيل مرقس ٣٠:١٢ يقسّم طبيعة الإنسان إلى أربعة أجزاء (القلب والروح والفكر والقدرة)، وأنَّ كورنثوس الأولى ٣٤:٧ تقسّم طبيعة الإنسان إلى جزأين (الجسد والروح). وفي نصوص أخرى، يبدو أنَّ الروح والنفس مترادفتان، وفي أحيان أخرى يبدو أنهما متميّزان ويصعب تحديدهما بدقّة. ولكن يبدو أنَّ هذه الجوانب الثلاثة المختلفة للإنسان موجودة بالفعل، ولكن يجب تحديد المعنى المحدَّد للروح أو النفس حسب السياق.
- وصف العالِم اليونانيّ الكبير دين آلفورد (Dean Alford) الروح والنفس على النحو التالي:
- “الروح pneuma (پنويما) هي الجزء الأسمى والمميَّز من الإنسان، الجزء الخالد.”
- “النفس psyche (پسيخي) هي النفس السفلية أو الحيوانية، التي تشتمل على العواطف والرغبات التي نشترك فيها مع الوحوش، ولكنها تتسامى وترتفع فينا بواسطة الروح.”
- نظرًا لكونها الجزء الداخليّ غير المادي من الإنسان، الذي يمكن أنْ يوجد بمعزل عن الحياة الروحيّة، فإنَّ النفس تتصل بالعالم بواسطة حواس الجسد المادي. وتتصل بالله بواسطة الإيمان، الذي قد يُطلَق عليه ’الإحساس‘ الروحي. ونحن نميل إلى الاعتقاد بأنّ النفس تشبه الروح، لكن يمكن أنْ نتصوّر أيضًا أنَّها أشبه بالجسد، أي وعاء تفاعلنا مع العالم الروحيّ.
- نظرًا لأنَّ الروح والنفس كليهما يشيران إلى الجزء غير المادي من الإنسان، فمن السهل الخلط بينهما. فكثيرًا ما يسبّب الاختبار الذي يهدف إلى بنيان الروح إلى مباركة النفس فقط. ولا عيب طبعًا في الإثارة والبركة النفسية، ولكن لا شيءَ فيهما يبنينا روحيًّا. وهذا هو السبب في أن العديد من المؤمنين ينتقلون من اختبار مثيرة إلى آخر، ولكنهم لا ينمون روحيًّا بالفعل – فالخدمة التي يتلقَّونها نفسانية.
- وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً: يمكننا قبول هذا الطلب على أنَّه موحى به. فالله قصد أن يكون هناك تدرج هرمي داخل الإنسان، حيث تأتي الروح في المرتبة الأولى، ثُمَّ النفس، وأخيرًا الجسد.
- هذا لا يعني أن الجسد شرير بطبيعته؛ فذلك يتناقض مع فكر بولس الرئيسيّ هنا، الذي مفاده أنَّ الشخص كله مُخصَّص ومحفوظ بواسطة الله، كامل في الروح والنفس والجسد. فإنَّ الله يخلّص أجسادنا بقدر ما يخلّص أرواحنا أو نفوسنا، وللجسد دور محدَّد ومهمّ في خطّة الخلاص بأكملها – حيث يُقام في جسد جديد.
- ومع ذلك، فقد صمم الله الإنسان ليحيا بحسب ترتيب الروح والنفس والجسد، لا بحسب الجسد والروح والنفس. إذ علينا أن نسمو باحتياجات الجسد إلى النفس، واحتياجات كلٍّ من الجسد والنفس إلى احتياجات الروح.
- والله يعمل فينا بهذه الطريقة أيضًا. “لاحظوا الترتيب – الروح، النفس، الجسد. إن شكينة حضوره تُشرِق في قدس الأقداس، ومن ثُمَّ تتدفق إلى القدس، وهكذا إلى الدار الخارجيّة، إلى أنَّ تتألّق ستائر الجسد بنورها.” ماير (Meyer)
ب) الآيات (٢٥-٢٦): طلب الصلاة والتحية الختامية.
٢٥أَيُّهَا الإِخْوَةُ صَلُّوا لأَجْلِنَا. ٢٦سَلِّمُوا عَلَى الإِخْوَةِ جَمِيعًا بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَةٍ.
- أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ، صَلُّوا لِأَجْلِنَا: كان بولس رسولًا، وكانت كنيسة تسالونيكي تتألَّف من مؤمنين جدد. إلاَّ أنَّ بولس يؤمن أنَّه يحتاج إلى صلواتهم، لذلك طلب ببساطة: ’صَلُّوا لِأَجْلِنَا.‘
- “يطلب الله من شعبه أن يصلّي من أجل الخدام؛ ولا عجبَ في ذلك، فإنَّ الذين لا يصلّون لأجل وعّاظهم لا يتلقّون أي فائدة من التعليم.” كلارك (Clarke)
- سَلِّمُوا عَلَى ٱلْإِخْوَةِ جَمِيعًا بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَةٍ: المقصود أنَّ بولس يريد مِمَّن يقرأون الرسالة أن يسلّموا على جميع المؤمنين في تسالونيكي نيابةً عنه. فلو كان هناك شخصيّا، لَسلّم على جميع الإخوة بقبلة مقدسة بنفسه، ولكن بما أنَّه لم يكن حاضرًا، أرسل لهم التحية عن طريق هذه الرسالة.
- “كما هو معلوم، كان هناك فصل بين الجنسين في ذلك الزمان أثناء الاجتماعات، فكان الرجال يقبّلون الرجال والنساء يقبّلن النساء… وعندما بدأ الرجال والنساء يتبادلون القبلات، كان ذلك فرصة لمنتقدي المؤمنين لتوجيه تهمة النجاسة إليهم. وقد أدّى الحرج الناتج عن ذلك إلى إصدار المجامع الكنسيّة المبكّرة العديد من اللوائح المتعلّقة بهذه الممارسة.” هيبرت (Hiebert)
ج) الآيات (٢٧-٢٨): خاتمة الرسالة.
٢٧أُنَاشِدُكُمْ بِالرَّبِّ أَنْ تُقْرَأَ هذِهِ الرِّسَالَةُ عَلَى جَمِيعِ الإِخْوَةِ الْقِدِّيسِينَ. ٢٨نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَكُمْ. آمِينَ.
- أُنَاشِدُكُمْ بِٱلرَّبِّ: استعمل بولس عبارة قويّة هنا. فكان من المهمّ أَنْ تُقْرَأَ هَذِهِ ٱلرِّسَالَةُ بين المؤمنين. وهذا تصريح غير عادي وفريد في رسائل بولس. وقد اقترح الدارسون العديد من الأسباب المختلفة لإضافة بولس هذه العبارة في خاتمة رسالته.
- نظرًا لأنَّ هذه كانت رسالته الأولى، فلم تكن القراءة العامة لرسائله حتّى الآن عُرفًا متَّبعًا، فأراد التأكّد من إقرار هذه الممارسة.
- نظرًا لأنَّ الرسالة كانت بديلًا عن حضوره الشخصيّ، لم يرغب بولس أنْ تؤدّي خيبة أملهم بسبب غيابه إلى تعطيل انتشار الرسالة.
- أراد بولس التأكّد من أنَّ الكنيسة سمعت الرسالة مباشرةً، وليس عن طريق وسطاء من شأنهم أنْ يشوّهوا رسالته.
- ربما خشي بولس أن يبحث الناس عن مقاطع في الرسالة تتناول القضايا التي تهمّهم فقط ويتجاهلوا الأجزاء الأخرى.
- “وبالتالي، نحن نحتج على البابويين، فيجب على كل الإخوة القديسين أن يعرفوا الرسالة، فالأمر ليس محصورًا في الإكليروس. وينبغي قراءتها بلغتهم الخاصّة، لأنّ هذه الرسالة، دون شك، لا بُدّ أنَّها قُرِئت بلغة يفهمها الناس.” بوله (Poole)
- نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَعَكُمْ: كل رسائل بولس تقريبًا تبدأ وتنتهي بفكرة النعمة. يصحّ هذا أيضًا في حالة كل شيء يقوله الله لشعبه.
- النعمة هي فضل الله غير المُستَحقّ، والمحبّة والقبول اللذان يمنحهما لنا بسبب من هو وما فعله يسوع. النعمة تعني أنَّه يحبنا، وكل أسباب محبتنا توجد فيه هو. النعمة تعني أنَّنا نستطيع التوقّف عن العمل لكسب محبته والبدء في استقبالها.
- من المناسب أن تنتهي هذه الرسالة – وهي الأولى من مراسلات بولس المحفوظة للكنائس – المُفعَمة بالمحبّة والتشجيع والتعليم، بذكر النعمة.
- “كل ما يقوله الله لنا – وفي جميع رسائل العهد الجديد هناك أشياء تمحّص القلب وتجعله يهتزّ – يبدأ وتنتهي بالنعمة… فكل ما مثّله الله للإنسان في يسوع المسيح يتلخّص فيها: كل لطفه وجماله، كل حنانه وصبره، كل عواطف محبّته المُقَدَّسة، تتلخّص في النعمة. ماذا تطلب النفس أكثر من أن تكون نعمة الربّ يسوع المسيح معها؟” ديني (Denney) ورد في موريس (Morris)