إنجيل مرقس – الإصحاح ١٢
يسوع يتحاور مع السلطات
أولاً. قصة الكرامين
أ ) الآيات (١-٨): مَثَل الكرّام والْكَرَّامِينَ
١وَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ بِأَمْثَال: «إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْمًا وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفَرَ حَوْضَ مَعْصَرَةٍ، وَبَنَى بُرْجًا، وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. ٢ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْكَرَّامِينَ فِي الْوَقْتِ عَبْدًا لِيَأْخُذَ مِنَ الْكَرَّامِينَ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ، ٣فَأَخَذُوهُ وَجَلَدُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغًا. ٤ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا عَبْدًا آخَرَ، فَرَجَمُوهُ وَشَجُّوهُ وَأَرْسَلُوهُ مُهَانًا. ٥ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا آخَرَ، فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ آخَرِينَ كَثِيرِينَ، فَجَلَدُوا مِنْهُمْ بَعْضًا وَقَتَلُوا بَعْضًا. ٦فَإِذْ كَانَ لَهُ أَيْضًا ابْنٌ وَاحِدٌ حَبِيبٌ إِلَيْهِ ،أَرْسَلَهُ أَيْضًا إِلَيْهِمْ أَخِيرًا، قَائِلاً: إِنَّهُمْ يَهَابُونَ ابْنِي! ٧وَلكِنَّ أُولئِكَ الْكَرَّامِينَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ فَيَكُونَ لَنَا الْمِيرَاثُ! ٨فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ.
- وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ: كانت هذا الأمر مألوفاً أيام يسوع، خاصة في منطقة الجليل. وقد اكتشف علماء الآثار سجلات لخلافات قامت بين ملاك الأراضي والمزارعين المستأجرين.
- “في زمن كان فيه سند الملكية أحياناً عرضة للشك، فأي شخص استخدم أرضاً لمدة ثلاث سنوات كان يعتبر مالكاً لها إن لم يطالب بها أحد.” موريس (Morris)
- لِيَأْخُذَ مِنَ الْكَرَّامِينَ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ: لأن يسوع تكلم مع جمهور من اليهود، كانوا يعرفون جيداً أن الكرم في العهد القديم كان صورة لأمة إسرائيل (إشعياء ١:٥-٧). فالْكَرَّامِينَ يمثلون حكام إسرائيل والكرم يمثل شعب الله ككل.
- فَأَخَذُوهُ وَجَلَدُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغًا: لم يشترِ الكرامين الكرم، ولم يبنوه. بل سمح لهم كرام سخي بالعمل في الكرم، لكنهم انقلبوا ضده، ويوماً ما سيحاسبهم.
- ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا عَبْدًا آخَرَ… ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا آخَرَ… ثُمَّ آخَرِينَ كَثِيرِينَ: كان الكرّام صبوراً للغاية. فأرسل رسولاً بعد آخر، رغم أنهم جميعاً تعرضوا لسوء المعاملة. فقد شك الكرامون وسخروا من سلطان الكرام لأنه لم يكن حاضراً. ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أن سلطانه كان حقيقياً حتى وإن لم يروه.
- هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ فَيَكُونَ لَنَا الْمِيرَاثُ!: كان الكرامون أغبياء حقاً. فيبدو أنّهم ظنّوا إن قتلوا ابن الكرام، فإن الكرام سيدعهم يأخذون الكرم.
- فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ: يخبرنا هذا المثل أن يسوع عرف أنه الابن – ابن الله – وعرف أنه سيقتل قريباً.
- كان الابن هو آخر رسول من الآب، وبعده لن يأتي آخر. فإما أن يقبلوا رسالة الابن أو يواجهوا الدينونة الأكيدة. “إن لم تقبل ابن الله الحبيب، فأنت قد رفضت رجاءك الأخير. فالمسيح هو إنذار الله الأخير للإنسان. فلا شيء يبقى عندما يرفض المسيح، ولن يأتي آخر، فالسماء لا تملك المزيد لترسلهم. فإن رفضت المسيح، فقد رفضت الرجاء.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٩-١٢): تطبيق المثل
٩فَمَاذَا يَفْعَلُ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟ يَأْتِي وَيُهْلِكُ الْكَرَّامِينَ، وَيُعْطِي الْكَرْمَ إِلَى آخَرِينَ. ١٠أَمَا قَرَأْتُمْ هذَا الْمَكْتُوبَ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ، هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ ١١مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا!» ١٢فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلكِنَّهُمْ خَافُوا مِنَ الْجَمْعِ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ الْمَثَلَ عَلَيْهِمْ. فَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا.
- فَمَاذَا يَفْعَلُ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟: كان الكرامون أغبياء ليعتقدوا أنهم إن قتلوا ابن الكرام فسيملكون الكرم. ولكن يسوع وضع يده على النقطة الأساسية – رفضوا رسولاً بعد الآخر، وأخيراً رفضوا الابن، إذاً يوم دينوتهم حتماً سيأتي (يَأْتِي وَيُهْلِكُ الْكَرَّامِينَ).
- أَمَا قَرَأْتُمْ هذَا الْمَكْتُوبَ: علمهم يسوع من مزمور ٢٢:١١٨-٢٨ الذي يحمل عنوان ’أوصنا‘ (أو يَا رَبُّ خَلِّصْ) لأن المسيح قدم رسمياً من خلاله إلى شعب إسرائيل. ولكن أظهر عداء السلطات الدينية أنهم رفضوه، حتى لو أنهم استقبلوه بهتافات من المزمور ١١٨.
- الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ: شبه الكتاب المقدس يسوع بالحجر أو الصخرة العديد من المرات. إنه الصَخْرَة الرُوحِيَّةٍ التي تبعت إسرائيل في البرية (كورنثوس الأولى ٤:١٠). إنه حَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ (بطرس الأولى ٨:٢). إنه الْحَجَرَ الْمُنْقَضَّ الَّذِي لَمْ يُقْطَعْ مِنَ الْجَبَلِ بِيَدَيْنِ الذي سحق هذا العالم (سفر دانيال ٤٥:٢).
- لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ الْمَثَلَ عَلَيْهِمْ: شعروا بتأنيب الروح القدس. ولكن ردهم كان المزيد من الرفض وليس القبول. وابتدأوا يخططون لقتل يسوع بدلاً من التوبة أمامه.
ثانياً. الله وقيصر
أ ) الآيات (١٣-١٤): حاول الفريسيين أن يجربوا يسوع بسؤال عن الجزية
١٣ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْمًا مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكِلْمَةٍ. ١٤فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ نُعْطِي أَمْ لاَ نُعْطِي؟»
- أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْمًا مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكِلْمَةٍ: منعهم الرأي العام من الإمساك بيسوع، لذا حاولوا قلب الرأي العام ضده. فطرحوا سؤالاً بصيغة ذكية ليظهروا أن يسوع كان يؤيد الحكومة الرومانية ضد اليهود.
- ومرة أخرى نرى الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ يعملون معاً (آخر مرة رأيناهم معاً، كان في مرقس ٦:٣). كان الأعداء يتفقون معاً بسبب يسوع، ولكن كان ذلك لأنهم عارضوه وأرادوا تدميره.
- يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ: لم يهتم يسوع بهذا الإطراء من أعدائه لأنه عرفهم جيداً. فأحياناً، يتملقنا أعداؤنا لأنهم يريدون إيذائنا. وأحياناً أخرى، يتملقنا أصدقاؤنا لأنهم يريدون أن يكونوا طيبين وداعمين لنا. وفي كلتا الحالتين، من الخطأ أن نعتمد على رأي الناس بنا، سواء كان رأياً جيداً أم سيئاً.
- قال تشارلز سبيرجن للقساوسة: “من الأفضل دائمًا ألا تعرف، ولا أن ترغب في أن تعرف، ما يقال عنك، سواء من الأصدقاء أو من الأعداء. فربما أولئك فالذين يمدحوننا مخطئون تماماً كالذين يسيئون إلينا.”
- “ها هو قفاز جميل ترتديه يد كريهة … فهناك من يبتسم لك، وفي نفس الوقت يقطع عنقك.” تراب (Trapp)
- أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟: منذ العام ٦م، كان اليهود مجبرين على دفع الضرائب (الجزية) مباشرة إلى خزانة الإمبراطور. وقد رفض بعض الوطنيين اليهود (مثل الغيورين) دفع هذه الضريبة لأنهم لم يرغبوا بالاعتراف بالحكم الروماني. ولكن معظم الناس دفعوها على مضض، وكرهوا ذلك كثيراً. فالأمر لا يتعلق بالمال فقط، بل بمبدأ دفعه للحكومة الرومانية المحتلة أيضاً.
- فرض الرومان ثلاث ضرائب على اليهودية. الأولى كانت ضريبة الأرض، وهي ١٠٪ من الحبوب و٢٠٪ من النبيذ والفاكهة. والثانية كانت ضريبة الدخل، التي بلغت ١٪ من دخل الشخص. والثالثة ضريبة الاقتراع، يدفعها الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين ١٢ إلى ٦٥ سنة والنساء من ١٤ إلى ٦٥ سنة. وكان هذا يوازي ديناراً واحداً في السنة، أي ما يعادل أجر يوم لعامل بسيط.
- نُعْطِي أَمْ لاَ نُعْطِي؟: يبدو أنهم نصبوا ليسوع فخاً. فإن وافق على دفع الضريبة، فهذا يعني أنه ينكر سيادة الله على إسرائيل، وبالتالي سيفقد شعبيته. وإن وافق على عدم دفع الضريبة، فإنه يعلن صراحة عدائه لروما وسيعامل كثائر.
- يمكننا تقريباً أن نرى الابتسامة المتعجرفة على وجوه الفريسيين والهيرودسيين حينما سألوا يسوع هذا السؤال بمهارة. وظنوا أنه وقع في مصيدتهم ولن يستطيع الخروج منها، لكنك لا تستطيع وضع يسوع في المصيدة.
ب) الآيات (١٥-١٧): جواب يسوع عن سؤال الضرائب
١٥فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ اِيتُونِي بِدِينَارٍ لأَنْظُرَهُ.» ١٦فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَقَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». ١٧فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ». فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ.
- لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟: لا ينبغي أن نقول أن يسوع سخر من خصومه بطريقة شريرة، لكنه عرّفهم أنه لا يمكنهم التغلب عليه أبداً.
- اِيتُونِي بِدِينَارٍ لأَنْظُرَهُ: “كان على الدينار الذي أعطوه ليسوع صورة لرأس طيبريوس، الإمبراطور الروماني الحاكم. وحول رأسه كتب اختصار الجملة: ’طيبريوس القيصر، أغسطينوس الإله.‘ وعلى الوجه الآخر كتب: ’فونتيكوس ماكسيموس‘ معلناً أن قيصر هو رئيس الكهنة للأمة الرومانية.
- عندما حمل يسوع العملة، كان يعلم أن حكومة قيصر ستثقب يديه قريباً وتصلبه. ومع ذلك، قال: “إدفعوا ضرائبكم للحكومة الرومانية.”
- لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟: قال يسوع في الأساس: “أنتم تعترفون بسلطة قيصر عندما تستخدمون عملته؛ إذاً عليكم أن تدفعوا له الضريبة التي يطلبها.”
- أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ: إن كنا نستفيد من الامتيازات التي تمنحها الحكومة، فلا ينبغي التهرب من المسؤولية وعلينا الإلتزام بالقوانين طالما لا يتعارض هذا مع خدمتنا لله. وبعبارة أبسط، يطلب منا يسوع أن ندفع ضرائبنا. وكرر الرسول بولس نفس فكرة في رومية ٦:١٣-٧.
- “قصد يسوع أننا مواطنون سماويون وأرضيون في آن واحد.” موريس (Morris)
- في ضوء وعود البركة واللعنة للشعب في العهد القديم، لو أعطى الشعب اليهودي لله ما يستحقه، لما اضطروا أن يعطوا لقيصر أي شيء. فحقيقة أنهم كانوا تحت الهيمنة الرومانية يعود إلى أنهم تركوا الله.
- وَمَا للهِ للهِ: وبقدر أهمية أن نعطي مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ، علينا أيضاً أن نعطي مَا للهِ للهِ. فالعملة كانت لقيصر لأن صورته منقوشة عليها. وهكذا نحن ينبغي أن نعطي أنفسنا لله لأن صورته منقوشة علينا.
- أعطِ العملة لقيصر ولكن أعطِ حياتك لله. وقد يكون مناسباً أن تضحي من أجل بلدك، ولكن وحده الله من يستحق أن تعيش لأجله.
- تخبرنا إجابة يسوع أن قيصر ليس له كل السلطة؛ فهناك بعض الأمور التي ينبغي أن تعطى لله وحده. فعندما تطلب الدولة شيئاً منا يخص الله وحده، فنحن ملزمون بأن نطيع الله أولاً قبل الدولة.
- “يا له من ردٍ حكيم: يرسم الحدود بين الإمبراطوريتين، السماوية والأرضية، وينظم الحقوق ويميز الصلاحيات.” كلارك (Clarke)
- فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ: تعجبوا صحيح، لكنهم لم يتغيروا. بل في الواقع أخذوا كلام يسوع المليء بالحكمة وحرفوه ضده. فنرى في لوقا ٢:٢٣، كيف منعهم يسوع أن يعطوا الجزية لقيصر – مع أنه قال العكس تماماً.
- لا يهم أحياناً مدى براعة إجابتك، فهناك من سيقوم دائماً بتحريف كلامك. فهذا ما فعلوه مع يسوع، مع ذلك ساد حق الله في النهاية. فإجابة يسوع مجدت الله، وأرضت قيصر، وعلمت الناس، وأسكتت منتقديه.
ثالثاً. سؤال عن القيامة
أ ) الآيات (١٨-٢٣): سأل الصَّدُّوقِيِّين يسوع سؤالاً سخيفاً
١٨وَجَاءَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الصَّدُّوقِيِّينَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ، وَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: ١٩«يَا مُعَلِّمُ، كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ، وَتَرَكَ امْرَأَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ أَوْلاَدًا، أَنْ يَأْخُذَ أَخُوهُ امْرَأَتَهُ، وَيُقِيمَ نَسْلاً لأَخِيهِ. ٢٠فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. أَخَذَ الأَوَّلُ امْرَأَةً وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ نَسْلاً. ٢١فَأَخَذَهَا الثَّانِي وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ هُوَ أَيْضًا نَسْلاً. وَهكَذَا الثَّالِثُ. ٢٢فَأَخَذَهَا السَّبْعَةُ، وَلَمْ يَتْرُكُوا نَسْلاً. وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضًا. ٢٣فَفِي الْقِيَامَةِ، مَتَى قَامُوا، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ».
- فَفِي الْقِيَامَةِ، مَتَى قَامُوا، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟: كان الصدوقيين يشكلون الطبقة المثقفة والارستقرطية والمؤثرة والثرية من الشعب. ولم يؤمنوا بالخلود أو الأرواح أو الملائكة. وكان الهدف من سؤالهم جعل فكرة القيامة تبدو سخيفة.
- كتب موريس (Morris) عن الصدوقيين: “هم الحزب المحافظ والاستقراطي وأغلبية الكهنة ينتمون إليهم ويملكون عقلاً منفتحاً ومستعدين للتعاون مع الرومان، وهذا بالطبع مكنهم من الحفاظ على مكانتهم المميزة.
- سَنَّ موسى قانوناً (في سفر التثنية ٥:٢٥-٦) دُعيَّ لاحقاً ’بزواج الصهر،‘ وأخذت كلمة ’صهر‘ من اللغة اللاتينية (levir). والهدف من وراء القانون هو الحفاظ على ميراث واسم الشخص الذي توفى دون أن ينجب ابناً. فعندما يموت الشخص ينبغي على أخيه الزواج من أرملته كي ينجب الوريث ليحافظ على اسم وميراث المتوفي.
- فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ: كان سؤالهم سخيفاً، وكأنهم يسألون من خلاله عن: “عدد الملائكة الذين يستطيعون الرقص على رأس دبوس؟” أو “هل كان لآدم سرة بطن؟” فالسؤال السخيف يبقى سخيفاً حتى لو وجهناه إلى الله.
- اعتقد الصدوقيون أنه عندما يموت الجسد تموت الروح أيضاً. ولكن الكتاب المقدس لا يخبرنا أن الروح تعيش عندما يموت الجسد فحسب، ولكنها تأخذ جسداً جديداً أيضاً، جسد يليق بالأبدية، جَسَدُ القِيَامَة.
ب) الآيات (٢٤-٢٥): صحح يسوع أفكارهم عن حياة القيامة
٢٤فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُمْ: «أَلَيْسَ لِهذَا تَضِلُّونَ، إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللهِ؟ ٢٥لأَنَّهُمْ مَتَى قَامُوا مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ.
- أَلَيْسَ لِهذَا تَضِلُّونَ: اعتقد الصدوقيون أنه إن كان هناك قيامة، فستكون مجرد تكرار لنفس الحياة تعاش مرات لانهائية. فبهذا المبدأ: لأَنَّهُمْ مَتَى قَامُوا مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ، بين يسوع أنه في السماء سنعيش وفقاً لمبدأ مختلف تماماً وفي بُعد لا يمكننا تخيله.
- كثيرين يرتكبون نفس خطأ الصدوقيين فيما يتعلق بالسماء، ويعتقدون أن السماء مجرد نسخة رائعة عن الأرض. فمثلاً اعتقد سكان أمريكا الأصليين أن السماء أرض رائعة للصيد. واعتقد الاسكندنافيون القدامى أن السماء هي فالهالا (Valhalla) حيث كانوا يقاتلون طوال اليوم في ساحة المعركة وعند المساء يقوم الموتى والجرحى ثانية وكأن شيئاً لم يحدث ويحتفلون معاً طوال الليل ويشربون الخمر في جماجم أعدائهم. ولكن هذه جميعها أفكار غير صحيحة عن السماء فهي ليست ببساطة أفضل من الأرض. فحياة السماء أمر مختلف تماماً.
- أَلَيْسَ لِهذَا تَضِلُّونَ، إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللهِ؟: شرح يسوع السبب في ضلالهم: جهلهم (لاَ تَعْرِفُونَ) لكل من الْكُتُبَ وقُوَّةَ اللهِ.
- إن لم نعرف الْكُتُبَ (الكتاب المقدس)، فلن يكون لدينا مِرْسَاة للحق وللإيمان. وإن لم نعرف قُوَّةَ الله، فسنشك في قدرة الله على تحقيق الوعود التي أعطاها لنا في كلمته.
- “ادعى الصدوقيون دائماً أنهم أكثر ذكاء ومعرفة من الفريسيين التقليديين، ولكن في هذه النقطة بالذات كانوا يجهلون الكُتب” روبرتسون (Robertson). وكثيرين اليوم ممن يعتبرن من الأذكياء يصبحون أغبياء حينما يتعلق الأمر بيسوع.
- لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ: لا يمكننا أن نعتقد بأن علاقاتنا الحالية ستظل كما هي في السماء. فالعلاقات الإنسانية على الأرض هي مسألة وقت ومكان، أي يمكن للرجل أن يكون ابناً ثم يكبر ويصبح زوجاً ثم أباً… وهكذا. ولكن كل هذا يتغير في السماء.
- نحن نعلم أن الملائكة لا ينجبون الأطفال. فالله هو من خلق الملائكة. وفي القيامة لن ننجب الأطفال ثانية. ومن هذه الناحية سنكون مثل الملائكة. “ففي السماء، لا يعود الجنس من عناصر الزواج.” كولي (Cole)
- نعلم أن الأمور ستختلف تماماً عما نعرفه على الأرض، ولكننا لا نستطيع أن نجزم بما سيكون عليه الأمر في السماء، كل ما نعرفه هو أن أملنا لن يخيب.
- لن نعرف كل الإجابات عن أسئلتنا حتى لو كنا متأكدين من حقيقية القيامة. فسيبقى هناك الكثير من الأمور الغامضة، ولكن هذا لا يؤثر على الحقيقة الثابتة للقيامة.
ج) الآيات (٢٦-٢٧): أثبت يسوع القيامة من الكُتب
٢٦وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأَمْوَاتِ إِنَّهُمْ يَقُومُونَ: أَفَمَا قَرَأْتُمْ فِي كِتَابِ مُوسَى، فِي أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ، كَيْفَ كَلَّمَهُ اللهُ قَائِلاً: أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ؟ ٢٧لَيْسَ هُوَ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنْتُمْ إِذًا تَضِلُّونَ كَثِيرًا!».
- وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأَمْوَاتِ إِنَّهُمْ يَقُومُونَ، أَفَمَا قَرَأْتُمْ: طمأن يسوع الصدوقيين الشَكّاكين بأن هناك قيامة للأموات فعلاً، وأن هذا موضح في الكُتب.
- “لقد سبق يسوع وشرح لهم ما قصده عن جهلهم بقوة الله، والآن سيشرح لهم ما قصده عن جهلهم بالكُتب.” كولي (Cole)
- قال الصدوقيون إنهم يؤمنون بالكتاب المقدس، لكن الكتاب المقدس برأيهم هو أسفار موسى الخمسة فقط. لهذا السبب استخدم يسوع سفر الخروج ٣ ليثبت لهم القيامة، وهو أحد الأسفار التي يؤمنون بأصالتها.
- أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ: إن لم يكن إبراهيم وإسحق ويعقوب أحياء، فلن يقول الله أنه إلههم مستخدماً صيغة المضارع، بل كان سيقول إنه كان إلههم. وبالتالي، أثبت الكتاب المقدس أن هناك قيامة للأموات فعلاً.
د ) الآيات (٢٨-٣٤): ما هي الوصية العُظمى؟
٢٨فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَنًا، سَأَلَهُ: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟» ٢٩فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. ٣٠وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. ٣١وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ». ٣٢فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ: «جَيِّدًا يَا مُعَلِّمُ. بِالْحَقِّ قُلْتَ، لأَنَّهُ اللهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ. ٣٣وَمَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ الْقَلْبِ، وَمِنْ كُلِّ الْفَهْمِ، وَمِنْ كُلِّ النَّفْسِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُدْرَةِ، وَمَحَبَّةُ الْقَرِيبِ كَالنَّفْسِ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ». ٣٤فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْل، قَالَ لَهُ: «لَسْتَ بَعِيدًا عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ». وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ بَعْدَ ذلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ!
- «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟»: أرادوا بهذا السؤال أن يختبروا يسوع ليروا إن كان سيتجاهل أو يهمل بعض الأمور من ناموس موسى. لكنه بدلاً من أن يرفع وصية فوق أخرى، عرّف يسوع جوهر الناموس بقوله: تحب الله بكل ما لديك وتحب قريبك كنفسك.
- تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ… تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ: وفي هذا نرى أن كل ما يريده الله من الإنسان حقاً هو المحبة. فيمكننا أن نطيع الله دون أن نحبه، ولكن الطاعة تتبع إن أحببناه.
- قال يسوع أن هذه أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا.
- أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا زمنياً. أول وصية أعطيت لأدم وحواء هي أن يُحبا الرب إلههما الذي خلقهما.
- أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا من حيث الأولوية. إن كنا لا نحب الله أولاً، فما المنفعة من أعمالنا.
- وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ… وَمَحَبَّةُ الْقَرِيبِ كَالنَّفْسِ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ: كان رد الكتبة صائباً تماماً. فمن السهل الاعتقاد بأن الطقوس الدينية والتفاني أكثر أهمية من محبتنا لله وللقريب، لكن الأمر لا يتعلق بهذا. فألف ذبيحة ليست في عيني الله أثمن من عمل بسيط يدل على المحبة التي نقدمه باسمه.
ثالثاً. اسئلة وتحذيرات ووصايا يسوع
أ ) الآيات (٣٥-٣٧): سأل يسوع سؤالاً: كيف يمكن للمسيح أن يكون ابن داود وربه في آن واحد؟
٣٥ثُمَّ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ: «كَيْفَ يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ؟ ٣٦لأَنَّ دَاوُدَ نَفْسَهُ قَالَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. ٣٧فَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ رَبًّا. فَمِنْ أَيْنَ هُوَ ابْنُهُ؟» وَكَانَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ.
- كَيْفَ يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ؟: بما أن يسوع هو المسيح، فقد تكلم عن نفسه هنا. حاول كل من الكتبة والفريسيين والصدوقيين أن يوقعوا يسوع باسئلتهم. لكن يسوع لم يفعل ذلك معهم، بل دخل في صلب الموضوع: “هل تعرفون حقاً من أكون؟”
- ظن هؤلاء القادة أنهم يعرفون كل شيء عن المسيا الموعود. لكن يسوع تحدى هذه الفكرة، وطلب منهم أن يكونوا منفتحين على تعلم شيء جديد.
- فَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ رَبًّا. فَمِنْ أَيْنَ هُوَ ابْنُهُ؟: لم يكن يسوع ابن داود وحسب، بل رب داود أيضاً، كما تقول الآية في رؤيا يوحنا ١٦:٢٢«أَنَا أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ». تحدى يسوع بهذا السؤال القادة الدينيين: “هل تعرفون هذه الحقيقة عن المسيح؟”
ب) الآيات (٣٨-٤٠): حذرهم يسوع من رياء الكتبة
٣٨وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ، الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، ٣٩وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. ٤٠الَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. هؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ».
- تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ: كان الْكَتَبَةِ هم ’علماء الكتاب المقدس‘ في زمن يسوع، وقد كُلفوا بالحفاظ على كلمة الله وتعلمها وتعليمها للناس. وكان هؤلاء من يثق بهم شعب الله، لكن يسوع حذرهم منهم. فالكتبة لا يمثلون أبداً الصورة التي ينبغي أن يكون عليها التلميذ، فعلى التلاميذ أن يكون خادماً وبريئاً كالأطفال وأن يحمل صليبه. وقال يسوع أن علينا أن نفحص أعمالهم وأيضاً أقوالهم.
- تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ، لأنهم يحبون ارتداء الطَّيَالِسَةِ (الثياب الطويلة). كان الكتبة يحبون الحياة السهلة والراحة، فيراقبون الآخرين وهم يعملون.
- تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ، لأنهم يحبون التَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ. يأمرون أن يمدح الآخرين تقواهم، ويحبون صورة التقوى.
- تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ، لأنهم يحبون الْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ وفِي الْوَلاَئِمِ، وهذا يظهر اهتمامهم بالمركز والامتيازات.
- تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ، لأنهم يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ. كانوا يخطئون إلى الضعفاء والمساكين، لكنهم سمحوا لأنفسهم بهذا لأنهم رجال الدين الأتقياء. ففي ذلك اليوم، لم يكن مسموحاً للمعلم أن يتلقى أي أجر – لكنه كان مسموحاً له أن يأخذ الهدايا. ويبدو أن الكتبة استخدموا الطرق الملتوية للحصول على تقدمات ثمينة ممن لا يملكون الكثير، مثل الأرامل. وقد علم اليهود بأهمية أن يحترم الشعب المعلمين بقدر احترامهم لله؛ وأن احترامهم ينبغي أن يفوق احترام أي شخص آخر في الحياة. كما علموا أن أعظم عمل يمكن أن يقوم به شخص ما هو تقديم المال للمعلم. وبالطبع كان المعلمون أنفسهم يعلمون ذلك.
- تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ، لأنهم يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. كانت علاقتهم بالله مجرد استعراض للتقوى. فكانوا يطيلون الصلاة معتقدين أن هذا دليل على الروحانية. لكن كتب ج. كامبل مورغان ( Campbell Morgan) أنه عندما يكون الرجل بعيداً عن زوجته في رحلة قصيرة، تكون رسائله قصيرة. وكلما طالت المدة التي يقضيها بعيداً عن زوجته كلما طالت الرسائل. وكأنه يقول: لا بد أن بعض الناس بعيدين جداً عن يسوع لأن صلواتهم طويلة جداً.
- هؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ: وكما في مرقس ١١:٦، قدم يسوع فكرة الدينونة الأعظم، أي أن البعض ستكون دينونتهم اسوأ من آخرين.
ج) الآيات (٤١-٤٢): راقب يسوع عطاء الأرملة
٤١وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيرًا. ٤٢فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ.
- وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ: لا بد أن رؤية هذه الأرملة الفقيرة كانت أمراً رحب به يسوع المتعب بعد أن خاض في موجة من الأسئلة ممن يعادونه.
- يظهر لنا عدد الذين اصطفوا عند صندوق التقدمة والكبرياء الذي أظهره الأغنياء هناك أنه ليس بالضرورة أن يكون استخدام صندوق للتقدمة أمراً أكثر روحية أو خصوصية من تمرير كيس العطاء. فليست الوسيلة هي المهمة بقدر أهمية تقديم الناس لعطاياهم بطريقة لا تلفت الانتباه.
- وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ: ينظر يسوع إلينا عندما نعطي ويلاحظ كيف نعطي. فعندما ينظر يسوع إلينا، كل ما يهمه هو ’كيف‘ نعطي لا ’كم‘ نعطي. وعندما نظر يسوع إلى ’كيف‘ يعطي الناس، لم يكن ينظر إلى الطريقة التي أعطوا بها لكنه كان ينظر إلى الدافع والقلب.
- وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيرًا. فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ: لاحظ يسوع صفاً طويلاً من الأغنياء يلقون الكثير من المال في الخزنة ربما في محاولة للفت الانتباه لعطاياهم. ولكن أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ كانت تختلف عنهم لأنها أَلْقَتْ فَلْسَيْنِ.
- يخبرنا مرقس أن الفَلْسَيْنِ قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. وقال ماثيو بوله (Matthew Poole) أنه بإمكاننا حساب قيمة الفلس على أساس قيمة الدينار، إذ كان الدينار أجر العامل يومياً. ووفقاً لحسابات بوله، الدينار يعادل ٦ ميا (عُملة محلية)؛ والميا تساوي اثنين من البونديون؛ والبونديون يساوي إثنين من الأساريون؛ والأساريون يساوي ٨ فلسات. مما يعني أن الفلسين يساويان ١% من الدينار، أي أن قيمة الفلسين لا تساوي شيئاً، وتشبه في يومنا هذا من يلقي بدولار في صندوق التقدمات.
- الرُبْعٌ هو أصغر عملة رومانية متداولة. واستخدمها مرقس كي يفهم قراؤه الرومان قيمة ما ألقت. فكانت قيمة الفلسين ضئيلة للغاية.
- تعني الكلمة اليونانية القديمة لبتون (lepton) حرفياً ’ضئيل جداً‘ ولهذا ترجمت في اللغة الإنجليزية mite (أي شيء صغير جداً)، ومنها تأتي كلمة ’كسرة خبز‘ أو ’لقمة صغيرة جداً.‘
- فَلْسَيْنِ: الأمر الرائع في تقديم الأرملة هو أنها قدمت كل ما تملك: فَلْسَيْنِ. كان بإمكانها الاحتفاظ بفلس لنفسها، وإن فعلت ذلك لن يلومها أحد بكل تأكيد. لكنها أعطت بسخاء مدهش.
د ) الآيات (٤٣-٤٤): يسوع يقيّم عطية الأرملة
٤٣فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ، ٤٤لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا».
- إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ: لم يقل يسوع أنها وضعت في الصندوق أكثر من أي واحد منهم، بل أنها وضعت في الصندوق أكثر من جَمِيعِ الذين ألقوا في الصندوق، أي كلهم مجتمعين.
- لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا: هذا يفسر لماذا قال يسوع أن هذه الأرملة قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ. لأن الجميع مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا أما هي فضحت بكل ما تملك.
- يبين مبدأ يسوع هنا أن ما يحدد قيمة التقدمة بالنسبة للرب ليس كميتها بل حالة القلب. فالله لا يريد المال الذي نقدمه على مضض أو بدافع الشعور بالذنب. فالله يحب المُعطي المسرور.
- إن عطية الأرملة وتعليق يسوع عليها يبين لنا أيضاً أن قيمة العطية تحدد بثمنها/تكلفتها بالنسبة للمُعطي. وهذا ما جعل عطية هذه الأرملة قيمة للغاية. فمثلاً، رفض داود أن يُصعد للرب محرقات مجانية لم تكلفه شيئاً (صموئيل الثاني ٢٤:٢٤).
- يبين مبدأ يسوع هنا أن الله لا يحتاج لأموالنا، وإن كان هذا ما يريده، فسوف يهتم بالكمية لا بالنوعية. ولكن الله لا يريد أموالنا ولا يحتاجها، فالعطاء هو امتياز لنا ولخيرنا نحن.
- فَمِنْ إِعْوَازِهَا: أصبحت المرأة فقيرة لأنها أرملة، دون زوج يسدد احتياجاتها. وقد يكون هذا مهماً أيضاً لأن يسوع قد سبق وانتقد الكتبة وقال أنهم يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ. ثم أتت هذه الأرملة وقدمت بطريقة مدهشة. وربما أكل الكتبة بيتها هي أيضاً.
- تحدت الأرملة نمط التفكير القائل: ’سأعطي عندما أملك المزيد.‘ ومع أن الأرملة لم تملك شيئاً يذكر إلا أنها كانت معطاءة. مما يعني أننا نستطيع إرضاء الله بتقدماتنا تماماً كعطية الرجل الغني. فالله يرى ويُسر بكل ما نضحي به لأجله.