إنجيل مرقس – الإصحاح ٦
رفض وآراء ومعجزات
أولاً. الناصرة ترفض يسوع
أ ) الآيات (١-٣): أهل بلدته يعثرون به.
١وَخَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى وَطَنِهِ وَتَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ. ٢وَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ، ابْتَدَأَ يُعَلِّمُ فِي الْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ: «مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟ ٣أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ههُنَا عِنْدَنَا؟» فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ.
- مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟: واجه يسوع في بلدته الناصرة حشداً يتساءل كيف صار يتمتع بسلطان كهذا في القول والفعل. فقد ترك يسوع الناصرة كنجار وعاد إليها كمعلم يهودي يتبعه مجموعة من التلاميذ. فمن السهل أن نفهم لماذا تساءل أهل الناصرة عما حدث ليسوع.
- أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ: هذا ليس إطراءً. ولكنها كانت طريقتهم للإشارة إلى أن يسوع لم يحصل على أي تعليم لاهوتي، وأنه حتى لم يتتلمذ على يد أي معلم يهودي، ناهيك عن معلم معروف.
- اعتقد البعض على مر العصور أن رسالة يسوع فقدت مصداقيتها بسبب مهنته كنجار. فأثناء الاضطهاد الواقع على المؤمنين في روما القديمة تحت حكم الإمبراطور جوليان، استهزأ أحد الفلاسفة بشخص مؤمن حينما سأله: “ماذا يعمل ابن النجار الآن برأيك؟” أجابه المؤمن بحكمة: “إنه يبني تابوتاً للإمبراطور جوليان.”
- النَّجَّارَ: كان لكلمة ’النَّجَّارَ‘ معنى أوسع من مجرد العمل باستخدام الأخشاب، فكانت تحمل فكرة ’البنّاء أو المعماري.‘ فربما عمل يسوع بالحجارة مثلما عمل بالأخشاب، فاستخدام الحجارة في البناء كان منتشراً أكثر في ذلك الزمان والمكان.
- من الرائع أن نفكر كيف اختار ربنا مهنة النَّجَّارَ من بين كل المهن التي كان بإمكانه أن يختارها. فالله هو الباني، وهو يعرف كيف يبني حياتنا ويعرف كيف ينهي العمل على أكمل وجه.
- كونه نجاراً، تعلم يسوع بعض الأمور:
- تعلم أنه يمكن عمل الكثير من الأشياء من قطعة خشب.
- تعلم أن صنع شيء صالح للاستعمال يتطلب جهداً ووقتاً.
- تعلم أن أجود الأشياء مصنوعة من الخشب الصلب.
- ابْنَ مَرْيَمَ: هذه أيضاً لم تكن إطراءً. “وصف ’ابن مريم‘ غالباً ما يستخدم للذم. فلم يستخدم اليهود اسم الأم لوصف شخص آخر، حتى ولو كانت أرملة، إلا بقصد الإهانة. ويبدو أن الشائعات التي تقول بأن يسوع كان ابناً غير شرعي انتشرت في وقته ولهذا أشاروا إليها هنا.” لاين (Lane)
- “كم يا تُرى حجم الشكوك والازدراء وراء هذا الوصف؟” مورغان (Morgan)
- عدم ذكر يوسف هنا قد يعني أنه مات بينما كان يسوع شاباً، وربما دفعه هذا للبقاء مع أسرته حتى يكبر إخوانه الصغار ويتمكنوا من إعالة باقي أفراد الأسرة.
- أَخَوَاتُهُ: نعلم أن ليسوع إخوة (مرقس ١٣:٣)، لكننا نرى الآن أن لديه أَخَوَاتٌ أيضاً. فمريم لم تبقى عذراء بعد أن أنجبت يسوع.
- فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ: اعتقد جيران يسوع أنهم كانوا يعرفونه جيداً، ولكنهم في الواقع لم يعرفوا كل شيء عنه.
ب) الآيات (٤-٦): ردة فعل يسوع على رفض أهل بلدته له
٤فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ». ٥وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ فَشَفَاهُمْ. ٦وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ. وَصَارَ يَطُوفُ الْقُرَى الْمُحِيطَةَ يُعَلِّمُ.
- لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ: قَبِلَ يسوع الرفض باعتباره الثمن الذي ينبغي على النبي الأمين أن يدفعه، وعلى الأغلب تألم يسوع كثيراً من رفض أصدقائه وجيرانه.
- وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً: كان عمله محدوداً وسط هذه البيئة المليئة بالشك. وبهذا المعنى، كان سلطان يسوع محدوداً بسبب عدم إيمان أهل بلدته.
- هذا مبدأ الله بالنسبة للشراكة والعمل مع الإنسان. فالله قد يتعامل مع عدم الإيمان، ولكنه لن يتعامل مع الشك.
- وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ: تعجب يسوع من شكهم فيه ومن عدم إيمانهم. فعدم قدرتنا على تصديق الله والثقة به هي أمر غريب حقاً.
- الشيء الوحيد الذي جعل يسوع يتعَجَّب هو عدم إيمان اليهود وإيمان الأمم (لوقا ٩:٧). فهل سيتعجب يسوع من إيمانك أم من عدم إيمانك؟ “لا بد أن عدم الإيمان خطية عظيمة جعلت يسوع نفسه يتعجب.” تراب (Trapp)
- لم نقرأ أبداً أن يسوع تعجب من الفن أو المباني أو حتى من غرائب الدنيا. ولم يتعجب أيضاً من براعة الإنسان أو اختراعاته. ولم يتعجب من تدين الشعب اليهودي أو هيمنة الإمبراطورية الرومانية. ولكنه تعجب من الإيمان: عندما ظهر في وقت غير متوقع، وعندما لم يظهر في وقت متوقع.
- وَصَارَ يَطُوفُ الْقُرَى الْمُحِيطَةَ يُعَلِّمُ: لم يسمح يسوع لرفض بلدته أن يعيقه، بل استمر في خدمته يعلم ويشفي.
ج) الآيات (٧-١٣): إرسال الاثني عشر
٧وَدَعَا الاثْنَيْ عَشَرَ وَابْتَدَأَ يُرْسِلُهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ، ٨وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصًا فَقَطْ، لاَ مِزْوَدًا وَلاَ خُبْزًا وَلاَ نُحَاسًا فِي الْمِنْطَقَةِ. ٩بَلْ يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَال، وَلاَ يَلْبَسُوا ثَوْبَيْنِ. ١٠وَقَالَ لَهُمْ: «حَيْثُمَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا فَأَقِيمُوا فِيهِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. ١١وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ». ١٢فَخَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوبُوا. ١٣وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُمْ.
- وَابْتَدَأَ يُرْسِلُهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ: قال يسوع في إنجيل يوحنا “كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا” (يوحنا ٢١:٢٠). ونراه هنا يرسل تلاميذه ليفعلوا نفس الأشياء التي فعلها هو: الكرازة، وشفاء الأمراض، وإخراج الأرواح الشريرة.
- وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ: لم يحتج التلاميذ إلى معدات فاخرة للكرازة برسالة الخلاص البسيطة. فالمتاع الكثير قد يعيق رسالتهم المُلحة.
- كان معلمو اليهود يمنعون دخول الهيكل إن كنت تحمل عصاً أو كيساً من النقود أو تلبس نعالاً، فهي أشياء تجعلك تبدو وكأنك هناك للقيام بتجارة ما أكثر من كونك هناك لعبادة الله. كان التلاميذ يقومون بهذا العمل المقدس (الكرازة بالإنجيل وتقديم الشفاء الإلهي) فلا ينبغي أن يعطوا إنطباعاً بأن لديهم دافعاً آخر للخدمة.
- لاَ مِزْوَدًا وَلاَ خُبْزًا وَلاَ نُحَاسًا فِي الْمِنْطَقَةِ: السفر بمتاعٍ خفيف يبقيهم متكلين على الله. فكانوا مضطرين للثقة بالله لتسديد كل احتياج إن لم يحملوا الكثير معهم. فكيف سيعلم الكارز/الواعظ الآخرين أن يثقوا ويتكلوا بالكامل على الله إن لم يفعل هو ذلك؟
- وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ: ليس مهمتهم ككارزين أن يغيروا عقول الناس، بل أن يقدموا الرسالة بصورة مقنعة، وإن لم يقبلها جمهورهم، فالمسؤولية تقع عليهم – فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ.
- كان على اليهودي في تلك الأيام أن ينفض التراب الذي علق على رجليه إن اضطر الذهاب أو المرور في مدينة أممية. وكان هذا إشارة إلى أنه لا يريد أن يحمل حتى الغبار النجس من تلك الأرض الأممية. وكأن يسوع يطلب منهم أن يعاملوا المدينة اليهودية كأنها أممية إن رفضوا الرسالة.
- سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ: المغزى من ذلك هو أن دينونة البعض ستكون أصعب من آخرين يَوْمَ الدِّينِ. لا يعني هذا بالطبع أن البعض سيتمتعون بجحيم أفضل، ولكن ربما عقابهم هناك سيكون أسوأ من آخرين.
- فَخَرَجُوا: وهذا ما فعلوه بالفعل. فبإمكاننا الإصغاء يومياً لكلمات يسوع، ولكن ما المنفعة إن لم نفعل شيئاً إزاءها.
- وَصَارُوا يَكْرِزُونَ: تعني الكرازة ببساطة الإعلان عن شيء، وتوصيل رسالة ما للآخرين. فأفضل طرق الكرازة وأكثرها فعالية لا تحدث عادة داخل الكنيسة، لكن عندما يخرج تلاميذ يسوع ويتكلموا مع الآخرين وجهاً لوجه ويخبروهم عن عمل يسوع لأجلهم.
- كتب مورغان (Morgan) تعليقاً على الآية ’صَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوبُوا‘: “كرزوا أولاً بأهمية التوبة. وهذا إعلان يتطلب دراسة متأنية. لكن هذا لا يعني أنهم طالبوا الناس بأن يتوبوا، لكنهم كرزوا بطريقة تحفز الناس على التوبة.”
- “عندما ذهب التلاميذ للكرازة، لم يبتدعوا رسالة بل قدموا الرسالة.” باركلي (Barclay)
- وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُمْ: توجد إشارة أخرى عن دهن المرضى بالزيت في رسالة يعقوب ١٤:٥-١٥. ونعلم أن هذه صورة لإنسكاب الروح القدس، لكن ربما استخدموا الزيت في تلك الأيام لأغراض طبية.
- “قد يكون الأساس لتلك الممارسة المتبعة هو الزيت (زيت الزيتون). فزيت الزيتون كان أفضل دواء عند القدماء وكان يستخدم داخلياً وخارجياً. ويمكن ترجمة الكلمة (aleipho): دهن الجسد أو تدليكه دون أي طقوس.” روبرتسون (Robertson)
ثانياً. موت يوحنا المعمدان
أ ) الآيات (١٤-١٦): حيرة هيرودس حين سماعه عن خدمة يسوع
١٤فَسَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ، لأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُورًا. وَقَالَ: «إِنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ». ١٥قَالَ آخَرُونَ: «إِنَّهُ إِيلِيَّا». وَقَالَ آخَرُونَ: «إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ». ١٦وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ: «هذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!»
- هِيرُودُسُ الْمَلِكُ: واقع الأمر أن الإمبراطور أوغسطس رفض منح لقب ’الملك‘ لهيرودس. وكانت هيروديا تلح على هيرودس ليطالب بلقب الملك مرة تلو المرة، حتى وصل به الأمر لأن يسيء إلى بلاط الإمبراطور، فاعتبر عندها خائناً. وقد استخدم مرقس لقب هِيرُودُسُ الْمَلِكُ لأنه كان لقبه المحلي، أو على الأرجح كان يستخدم للسخرية. لكن مرقس استخدمه لتذكير القارئ بهوية هذا الرجل.
- «إِنَّهُ إِيلِيَّا»: اعتقد البعض أن يسوع كان إِيلِيَّا، بسبب النبوة التي تتحدث عن مجيء إيليا قبل المسيا (سفر ملاخي ٥:٤). واعتقد البعض الآخر أنه كان النَبِي الذي قال عنه موسى سيأتي بعده (سفر التثنية ١٥:١٨).
- «هذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!»: خشي هيرودس أن يكون يسوع هو يوحنا المعمدان. ويبدو أن مصدر إرتباك هيرودس كان شعوره بالذنب. فمن الصعب أن نرى حقيقة يسوع عندما نكون غارقين في المعصية والخطية.
ب) الآيات (١٧-٢٩): الخطة الدنيئة لقتل يوحنا المعمدان
١٧لأَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا. ١٨لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ: «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ» ١٩فَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ، ٢٠لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِمًا أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ، فَعَلَ كَثِيرًا، وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ. ٢١وَإِذْ كَانَ يَوْمٌ مُوافِقٌ، لَمَّا صَنَعَ هِيرُودُسُ فِي مَوْلِدِهِ عَشَاءً لِعُظَمَائِهِ وَقُوَّادِ الأُلُوفِ وَوُجُوهِ الْجَلِيلِ، ٢٢دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ، فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ: «مَهْمَا أَرَدْتِ اطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَكِ». ٢٣وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ «مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّكِ حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي». ٢٤فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا: «مَاذَا أَطْلُبُ؟» فَقَالَتْ: «رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ». ٢٥فَدَخَلَتْ لِلْوَقْتِ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْمَلِكِ وَطَلَبَتْ قَائِلَةً: «أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي حَالاً رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَق». ٢٦فَحَزِنَ الْمَلِكُ جِدًّا. وَلأَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّهَا. ٢٧فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ سَيَّافًا وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ. ٢٨فَمَضَى وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي السِّجْنِ. وَأَتَى بِرَأْسِهِ عَلَى طَبَق وَأَعْطَاهُ لِلصَّبِيَّةِ، وَالصَّبِيَّةُ أَعْطَتْهُ لأُمِّهَا. ٢٩وَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ، جَاءُوا وَرَفَعُوا جُثَّتَهُ وَوَضَعُوهَا فِي قَبْرٍ.
- هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ: قام هيرودس بسجن يوحنا لأنه وبخ على خطيته. وفي الوقت ذاته، لم يرغب بقتل يوحنا خوفاً من الناس – عَالِمًا أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ.
- “أصغى هيرودس بانبهار إلى كلمات يوحنا، إذ كان في مركز ضعف لا في مركز قوة أمام توبيخ يوحنا الذي أربكه وأزعجه. فقد أصغى لذلك الرجل البار الذي يتكلم بسلطان والذي أضفى مظهره الخشن مزيداً من القوة لكلماته. وإذ كان هيرودس أضعف من أن يمتثل لنصيحة يوحنا فما كان بيده إلا أن يصغي.” لاين (Lane)
- لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ: «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ»: عندما كرز يوحنا عن التوبة، كرز للجميع ولم يستثنِ الأثرياء والأقوياء. فقد دعا يوحنا كل من هيرودس وزوجته هيروديا إلى التوبة. وكانت هيروديا قبلاً زوجة فيليبس أخو هيرودس.
- يخبرنا جون تراب (John Trapp) عن توبيخ تعرض له ملك آخر: “قدم لاتيمر (Latimer) العهد الجديد كهدية للملك هنري الثامن بمناسبة الاحتفال برأس السنة الجديدة، ملفوفاً بمنديل مرسوماً عليه صورة للزناة ومن يحرضون على الزنى الذين سيدينهم الله في الأيام الأخيرة.”
- دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ، فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ: رقصت ابنة هيروديا بطريقة مخزية أمام هيرودس وأصدقائه، وهذا منحها استحسان هيرودس والحق في أن تطلب منه ما تريد.
- “رقصت هيروديا بطريقة فاجرة أثارت ذلك الملك الشهواني حتى أنه أقسم أن يعطيها ما تريد منه.” تراب (Trapp)
- “كان ذلك النوع من الرقص أمراً غير معهود أو مقبول لإمرأة في مكانتها. إذ هذا النوع من الرقص الفاجر محصوراً بالراقصين المأجورين.” روبرتسون (Robertson)
- فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا: «مَاذَا أَطْلُبُ؟» فَقَالَتْ: «رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ»: أظهر رد هيروديا الفوري أنها كانت تخطط لهذا منذ فترة طويلة. فقد عرفت زوجها جيداً واستغلت الموقف وكانت متأكدة أنها ستحصل على ما تريد بهذه الطريقة.
- “تشير طريقة سؤال الفتاة إلى أنها كانت تريد شيئاً لنفسها، وأنها بلا شك فوجئت بطلب والدتها المريع.” روبرتسون (Robertson)
- فَحَزِنَ الْمَلِكُ جِدًّا. وَلأَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّهَا: خشية هيرودس من غضب زوجته أو خوفه من أن يفقد احترام أصدقائه، جعلاه يقوم بشيء يعرف أنه خطأ.
- “تم التعبير عن عمق الألم الذي شعر به هيرودس من طلب سالومي لرأس يوحنا المعمدان بصورة جلية في الكلمة اليونانية perilypos أي: ’بالغ الأسى.‘ وهي ذات الكلمة المستخدمة لوصف آلام يسوع في جثسيماني (مرقس ٣٤:١٤).” ويزل (Wessell)
- “قريباً جداً سيجني هيرودس المستبد ثمن فعلته في السماء” تراب (Trapp). فلكي يتمكن هيرودس من الزواج من زوجة أخيه هيروديا، كان عليه التخلص من زوجته الأولى، وهي أميرة من المملكة المجاورة التي تقع شرقاً. ولقد أساء بتصرفه هذا والدها، فجاء لمحاربة هيرودس وهزمه في المعركة. ثم اتهمه شقيقه أَغْرِيبَاس بالخيانة ضد روما، وتم نفيه إلى إقليم غول الروماني البعيد، حيث أقدم هو وزوجته هيروديا على الانتحار هناك.
ثالثاً. يسوع يظهر سلطانه على الطبيعة
أ ) الآيات (٣٠-٣٤): رأى يسوع الجمع الكثير وَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ
٣٠وَاجْتَمَعَ الرُّسُلُ إِلَى يَسُوعَ وَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كُلِّ مَا فَعَلُوا وَكُلِّ مَا عَلَّمُوا. ٣١فَقَالَ لَهُمْ: «تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً». لأَنَّ الْقَادِمِينَ وَالذَّاهِبِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ، وَلَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلأَكْلِ. ٣٢فَمَضَوْا فِي السَّفِينَةِ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِدِينَ. ٣٣فَرَآهُمُ الْجُمُوعُ مُنْطَلِقِينَ، وَعَرَفَهُ كَثِيرُونَ. فَتَرَاكَضُوا إِلَى هُنَاكَ مِنْ جَمِيعِ الْمُدُنِ مُشَاةً، وَسَبَقُوهُمْ وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ. ٣٤فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا، فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا، فَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيرًا.
- «تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً»: عرف يسوع بعد عودة التلاميذ من خدمة ناجحة في منطقة الجليل (مرقس ٧:٦-١٢) حاجتهم إلى الراحة. فقد عرف يسوع أن هناك وقت للعمل ووقت للراحة.
- عَلِمَ يسوع أهمية العمل الدؤوب أكثر من أي شخص آخر. قال: يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ (يوحنا ٤:٩). وفي ذات الوقت، عَلِمَ يسوع أننا لن نكون فعالين في خدمتنا إن لم نسترح قليلاً. ولأن يسوع والتلاميذ كانوا منشغلين كثيراً حتى أنه لَمْ يتَيَسَّرْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلأَكْلِ، أخذهم إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ ليستريحوا قَلِيلاً.
- “أخذ فترة من الراحة ضروري لمن يعملون بجد، والكارز/الواعظ الغيور يحتاج باستمرار لها مثل العبد بعد التجديف.” كلارك (Clarke)
- فَرَآهُمُ الْجُمُوعُ مُنْطَلِقِينَ، وَعَرَفَهُ كَثِيرُونَ. فَتَرَاكَضُوا إِلَى هُنَاكَ مِنْ جَمِيعِ الْمُدُنِ مُشَاةً: ربما كان الحشد فظاً ومتطلباً، وقد أراد التلاميذ أن يصرفوهم (مرقس ٣٦:٦) أما يسوع فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ.
- غالباً ما كان وجود الحشد بالنسبة للتلاميذ يعني المزيد من العمل والمزيد من الطلبات، وبالذات الآن فوجودهم يعني أن فرصتهم للراحة قد انتهت. ولكن يسوع حينما رآهم تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ. فكل وجه منهم عكس احتياج ما أو جوع أو ألم. ولأن تركيز يسوع كان منصباً على الآخرين باستمرار، وضع احتياجاتهم دائماً فوق احتياجاته.
- إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا: عرف يسوع أن الخراف ستكون في ورطة كبيرة دون الراعي. فهي لا تستطيع الدفاع عن نفسها ضد الحيوانات المفترسة وسيجدون صعوبة في العثور على مرعى وماء. لهذا تَحَنَّنَ يسوع عليهم لأنه عرف أن مطالبهم الملحة كان منبعها حاجتهم الأساسية.
- فَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيرًا: ولأن يسوع هو الراعي الصالح والأمين، اهتم بأهم احتياج لديهم… أطعمهم كلمة الله الحية.
ب) الآيات (٣٥-٤٤): يسوع يُطعم الْجُمُوع
٣٥وَبَعْدَ سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ مَضَى. ٣٦اِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الضِّيَاعِ وَالْقُرَى حَوَالَيْنَا وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزًا، لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ». ٣٧فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا لَهُ: «أَنَمْضِي وَنَبْتَاعُ خُبْزًا بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيَهُمْ لِيَأْكُلُوا؟» ٣٨فَقَالَ لَهُمْ: «كَمْ رَغِيفًا عِنْدَكُمُ؟ اذْهَبُوا وَانْظُرُوا». وَلَمَّا عَلِمُوا قَالُوا: «خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَانِ». ٣٩فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ رِفَاقًا رِفَاقًا عَلَى الْعُشْبِ الأَخْضَرِ. ٤٠فَاتَّكَأُوا صُفُوفًا صُفُوفًا: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ. ٤١فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ الأَرْغِفَةَ، وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا إِلَيْهِمْ، وَقَسَّمَ السَّمَكَتَيْنِ لِلْجَمِيعِ، ٤٢فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ٤٣ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً، وَمِنَ السَّمَكِ. ٤٤وَكَانَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ.
- اِصْرِفْهُمْ … لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ: رأى يسوع والتلاميذ نفس الاحتياج، ولكن كان حل التلاميذ هو تجاهل الاحتياج عن طريق صرف المحتاجين. أما يسوع فرآى حلاً مختلفاً وأراد للتلاميذ رؤيته أيضاً: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا».
- «أَنَمْضِي وَنَبْتَاعُ خُبْزًا بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيَهُمْ لِيَأْكُلُوا؟»: من الصعب معرفة ما إذا كان التلاميذ غاضبين عندما قالوا هذا أم أنهم لم يصدقوا ما قاله يسوع. ولكن صرف ما يساوي أجرة سنة لعامل بسيط لإطعام الجُمُوع وجبة واحدة لم يكن برأي التلاميذ مستحيلاً فحسب، بل مضيعة للوقت أيضاً.
- من الواضح أن التلاميذ لم يخطر ببالهم أبداً إمكانية أن يُطعم يسوع الجُمُوع بطريقة معجزية. فالله غني ويملك الكثير الذي لا نعرف عنه، لذا علينا أن نثق به ونطمئن حتى عندما لا نفهم كيف سيسدد الاحتياج.
- لا بد أن اقتراح يسوع بدا متهوراً/مبالغاً فيه بالنسبة للتلاميذ. “يسوع، حتى لو كان معنا مثل هذا المبلغ، فلن ننفقه أبداً على وجبة واحدة لهذا الحشد. فهم مزعجون، وسوف يجوعون ثانية في غضون ساعات قليلة. ألا ينبغي صرف هذا المبلغ على شيء آخر؟” لكن يسوع سيصنع معجزة تبدو متهورة وربما مبالغ فيها لأنه أراد تناول العشاء مع الجُمُوع لأنه أحبهم.
- «كَمْ رَغِيفًا عِنْدَكُمُ؟ اذْهَبُوا وَانْظُرُوا»: طريقة الله لتسديد أي احتياج تبدأ عادة بما عندنا سلفاً. فهو يريدنا أن نستخدم ما لدينا بحكمة. فلا تصلي طالباً المزيد من الله إن كنت لا تستخدم ما أعطاك قبلاً بطريقة معجزية.
- ما فعلوه كان مثيراً للضحك. فالأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ تكفي شخص أو اثنين، لأن حجم الأرغفة والسمك كان صغيراً جداً. وعلى الرغم من تلك الكمية الضئيلة، إلا أن يسوع بدأ بما كانوا يملكون.
- فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ رِفَاقًا رِفَاقًا عَلَى الْعُشْبِ الأَخْضَرِ: تصرف يسوع هكذا لأنه هو الراعي ولأنه رأى هؤلاء الناس كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا. فالراعي الصالح وفِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي (مزمور ٢:٢٣).
- فَاتَّكَأُوا صُفُوفًا صُفُوفًا: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ: قام يسوع بتنظيم الجُمُوع، فلا يريد فوضى، بل يريد أن يتناول عشاءً لطيفاً وهادئاً مع هؤلاء الناس. فالله يحب النظام، خاصة عندما يتعلق الأمر بإدارة العطايا والمواهب التي منحنا إياها.
- الكلمة اليونانية القديمة ’صُفُوفًا‘ معبرة للغاية. “إنها الكلمة التي كانت تستخدم عادة لوصف صفوف الخضروات التي كانت تزرع في الحدائق. فشكل الناس الذي اتكأوا في صفوف صغيرة منظمة كان يشبه صفوف الخضروات التي كانت تزرع في المزارع.” باركلي (Barclay)
- وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ الأَرْغِفَةَ: عندما صلى يسوع قبل الوجبة، لم يبارك الطعام، بل بارك الله لأنه وفر الطعام. ففكرة رفع الصلاة قبل تناول أي وجبة ليس لمباركة الطعام بل لشكر الله وتمجيده لأنه باركنا بهذه الوجبة.
- “اتبع يسوع الممارسة الطبيعية قبل تناول الطعام: أخذ الخبز في يديه وصلى وكسر ثم أعطى. وكان الفرق الوحيد أنه رفع نظره نحو السماء بدلاً من النظر للأسفل.” لاين (Lane)
- فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا: ضاعف يسوع الأرغفة والسمكتين بأعجوبة حتى أكل الخمسة آلاف وشبعوا. ويبدو أن المعجزة حدثت بينما الطعام في أيدي يسوع.
- يبدو حقاً أن هذا مبالغ فيه جداً. لماذا تطعم الجُمُوع حتى الشبع؟ لماذا لا تعطيهم وجبة صغيرة؟ ألن يكون هذا كافياً؟ كلا… فقد كان على العشاء مع يسوع أناساً أحبهم كثيراً، فبالطبع سيكون هناك وفرة من الطعام. فبهذا القدر أحبهم يسوع وهكذا يحبنا أيضاً.
- صحيح أن يسوع قدم بوفرة، ولكن ما قدمه كان بسيطاً جداً. فكان بإمكانه أن يقدم لهم شرائح اللحم أو سرطان البحر أو أي شيء رائع آخر بما أنه كان سيصنع معجزة على أية حال، إلا أنه قدم للناس ببساطة خبز وسمك. فعندما يسدد يسوع احتياجك، لا تتفاجأ إن سدده بطريقة بسيطة.
- إن ترك أحدهم المكان جائعاً، فالسبب إما لأنه رفض الخبز الذي قدمه يسوع أو لأن الرسل لم يوزعوا الطعام على الجميع. فيسوع قدم ما يكفي للجميع. ولكن كان على كل واحد أن يأكل بنفسه. فكثيراً عندما نحضر اجتماعاً روحياً، نقوم بجمع الطعام الروحي لأي شخص آخر باستثناء أنفسنا.
- اليقين بأن يسوع قادر على تسديد كل احتياجاتنا – حتى ولو بمعجزة – يجب أن يكون ذو قيمة بالنسبة لنا؛ هكذا كان الأمر بالنسبة للمؤمنين الأوائل. كانت منحوتات الأرغفة والأسماك شائعة جداً على القبور وعلى أماكن أخرى في القديم.
- ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً، وَمِنَ السَّمَكِ: كان بإمكان يسوع أن يترك كل هذا وراءه، لكنه لم يفعل. صحيح أن يسوع وفر بسخاء، لكنه لا يحب إهدار شيء. ولا يعني هذا أن يسوع كان بخيلاً أو أنه لم يثق بالعناية الإلهية، بل عرف ببساطة أن الإهدار/التبذير لا يمجد الله الذي أعطى.
ج) الآيات (٤٥-٤٦): تركهم يسوع لِيُصَلِّيَ
٤٥وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إِلَى الْعَبْرِ، إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، حَتَّى يَكُونَ قَدْ صَرَفَ الْجَمْعَ. ٤٦وَبَعْدَمَا وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ.
- صَرَفَ الْجَمْعَ: أحب يسوع الْجَمْعَ كثيراً، لكنه لم يكن مهووساً بهم. وكان يعرف متى يطلب منهم أن ينصرفوا إلى بيوتهم.
- وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ: بعد يوم طويل وشاق قضاه يخدم الْجَمْعَ ويسدد احتياجاتهم الروحية والمادية، شعر يسوع بالتعب. ولكن هذا اليوم الصعب دفع يسوع إلى الصلاة وليس بعيداً عنها.
د ) الآيات (٤٧-٥٢): يسوع يمشي على الماء
٤٧وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسْطِ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ. ٤٨وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ، لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. وَنَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ أَتَاهُمْ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ. ٤٩فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ ظَنُّوهُ خَيَالاً، فَصَرَخُوا. ٥٠لأَنَّ الْجَمِيعَ رَأَوْهُ وَاضْطَرَبُوا. فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: «ثِقُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا». ٥١فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى السَّفِينَةِ فَسَكَنَتِ الرِّيحُ، فَبُهِتُوا وَتَعَجَّبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ جِدًّا إِلَى الْغَايَةِ، ٥٢لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِالأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً.
- كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسْطِ الْبَحْرِ: أرسل يسوع تلاميذه عبر بحر الجليل (مرقس ٤٥:٦). وبينما كان يسوع يصلي على تلة تطل على بحر الجليل، رَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ وهم يحاولون عبور البحر لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. ودون علم التلاميذ، رأى يسوع معاناتهم واهتم بهم.
- كان من الصعب عليهم عبور البحر لأن الريح كانت ضدهم (يوحنا ١٨:٦). جدفوا معظم الليل، لكنهم قطعوا نصف المسافة فقط (يوحنا ١٩:٦).
- “جدف الرسل وجدفوا وجدفوا ولكنهم لم يحرزوا أي تقدم وذلك ليس خطأهم بل لأن الريح كانت ضدهم. وهكذا الحال مع المؤمن، قد لا يتقدم أو ربما يتقدم قليلاً، ولكن الذنب ليس ذنبه، بل لأن الريح ضده. وإلهنا الصالح ينظر إلى خدمتنا ولكنه لا ينظر إلى النتائج بل ينظر إلى النوايا التي كنا نجدف بها.” سبيرجن (Spurgeon)
- نَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ أي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل.
- أَتَاهُمْ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ: بدا يسوع وكأنه يتنزه لأنه أَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ. لكنه اتجه نحوهم عندما اضطربوا وصَرَخُوا.
- فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى السَّفِينَةِ: عندما صعد يسوع إلى السفينة معهم، فجأة وبطريقة معجزية صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا (يوحنا ٢١:٦). خلص يسوع تلاميذه من العمل دون جدوى. فالمقصود من المعجزة أن تؤكد لهم أنه صاحب السلطان وأنه سيساعدهم دائماً على تتميم ما أوصاهم به.
- “جاء ماشياً على الأمواج؛ وهكذا يضع كل عواصف الحياة تحت قدميه. فلماذا تخاف أيها المؤمن؟” أوغسطينوس
- نحن نعلم من إنجيل متى ٢٨:١٤-٣١ أنه في هذه المناسبة مشى بطرس عَلَى الْمَاءِ أيضاً. ولهذا السبب نعتقد – من التاريخ ومن بعض الأدلة، وليس من الكتاب المقدس – أن بطرس كان المصدر الرئيسي للمعلومات في إنجيل مرقس. وإذا كان الأمر كذلك، فقد تعمد بطرس أن يستبعد هذه القصة لأنه لم يرغب أن يُعبد لأنه مشى على الماء، أو ربما فعل ذلك تجنباً للإحراج لأنه غرق في النهاية.
- “لا يروي مرقس حادثة سير بطرس على الماء ولا غرقه. ربما لم يكن بطرس معجباً بسرد هذه القصة.” روبرتسون (Robertson)
هـ) الآيات (٥٣-٥٦): شفى يسوع كثيرين بطرق غير اعتيادية
٥٣فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ وَأَرْسَوْا. ٥٤وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ عَرَفُوهُ. ٥٥فَطَافُوا جَمِيعَ تِلْكَ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ، وَابْتَدَأُوا يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى عَلَى أَسِرَّةٍ إِلَى حَيْثُ سَمِعُوا أَنَّهُ هُنَاكَ. ٥٦وَحَيْثُمَا دَخَلَ إِلَى قُرىً أَوْ مُدُنٍ أَوْ ضِيَاعٍ، وَضَعُوا الْمَرْضَى فِي الأَسْوَاقِ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ.
- وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ: اختتم مرقس هذا الجزء البسيط بوصف خدمة يسوع في الشفاء وسلطانه على الطبيعة. فليس من الطبيعي إشباع خمسة آلاف بوجبة صغيرة كهذه. وليس من الطبيعي أن يمشي الناس على الماء. وليس من الطبيعي شفاء المرضى في الحال. فكل هذا غير طبيعي إلا بسلطان الله.