رسالة أفسس – الإصحاح ٢
سبيل الله للمصالحة
أوَّلًا. الحاجة إلى المصالحة
أ ) الآية (١): المؤمنون أحياء من الأموات.
١وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا…
- وَأَنْتُمْ [أحياكم]: كلمة أحياكم بين قوسين، مِمَّا يدلّ على أنها أضيفت إلى النص ولكنها مفهومة من السياق. كان بولس يكتب للمؤمنين الذين أحياهم الله من موت الذنوب والخطايا.
- أنهى بولس الإصحاح الأخير باستحضار فكرة أنَّ الدليل النهائيّ على قوة الله هي قيامة يسوع. والآن ينظر بولس إلى دلائل قيامة يسوع في حياتنا.
- إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا: على الرغم من أنَّ المؤمنين أحياء الآن، يجب ألَّا ينسوا أبدًا من أين أتوا. لقد كانوا أَمْوَاتًا بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا.
- هناك أنواع عِدّة من الحياة: الحياة النباتية والحياة الحيوانية والحياة العقلية والحياة الأخلاقيّة والحياة الروحيّة. وقد يكون الكائن حيًا بمعنى ما ولكنَّه ميتًا بمعنى آخر. فإنَّ كوننا أمواتًا روحيًّا لا يعني أننا أموات جسديًّا أو اجتماعيًا أو نفسيًا. بَيْدَ أنَّه موت حقيقيّ. “الجزء الأكثر حيوية من شخصيّة الإنسان – أي الروح – ميت نحو أهم عامل في الحياة – الله.” وود (Wood).” البشريّة البائسة ميتة، ليس بالمعنى الأخلاقيّ ولا بالمعنى العقلي، ولكن بالمعنى الروحيّ. وهكذا تصفها كلمة الله مرارًا وتكرارًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- يمسّ هذا أحد المجالات المثيرة جدًّا للجدل في علم اللاهوت: بأي طريقة وإلى أي مدى يكون الشخص ميتًا قبل تجديده؟ وهل يجب تجديد الشخص قبل أن يؤمن، أم أنَّه يمكن أن يكون هناك عمل سابق لله يغرس بمقتضاه الإيمان فيه لكنه ليس كافيًا للتجديد؟ أولئك الذين يجادلون بأن الإنسان يجب أن يُجدَّد قبل أن يؤمن، يروقهم أنْ يقولوا إنَّ الإنسان الميت عاجز عن أنْ يؤمن. وهذه مبالغة في تفسير هذا الوصف المحدَّد إذا قلنا إنَّ الإنسان غير المخلَّص يشبه الإنسان الميت، لأنَّ الإنسان الميت لا يستطيع أن يخطئ!
- نحن نخطئ إذا اعتقدنا أنَّ أَمْوَاتًا بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا تصف حالة الإنسان الضال بالكامل. ويكمن الخطأ في أنَّ الكتاب المُقَدَّس يستخدم العديد من الصور لوصف حالة الإنسان غير المخلَّص، قائلًا إنَّه:
- أعمى (كورنثوس الثانية ٣:٤-٤).
- عبد للخطيّة (رومية ١٧:٦).
- محبّ للظلمة (يوحنا ١٩:٣-٢٠).
- مريض (مرقس ١٧:٢).
- هالك (لوقا ١٥).
- أجنبي، غريب (أفسس ١٢:٢، ١٩:٢).
- ابن الغضب (أفسس ٣:٢).
- تحت سلطان الظلمة (كولوسي ١٣:١).
- لذلك فإنَّ الإنسان غير المجدَّد ميت من بعض النواحي، ولكنه ليس ميتًا من نواحٍ أخرى. لذلك من المناسب أن ندعو جميع الناس أن يؤمنوا. فلا نحتاج إلى البحث عن دليل على التجديد قبل أن نخبر الناس بأن يؤمنوا وأن يخلصوا. وعلى حدّ قول البيوريتانيّ جون تراب (John Trapp): “إلاَّ أنَّ الإنسان الطبيعيّ، على الرغم من أنَّه ميت من الناحية اللاهوتيّة، إلَّا أنَّه لا يزال حيًا أخلاقيّا، ويمكن أنْ يتأثّر بالحجج والإقناع. وكما قيل في هوشع ٤:١١ ’كُنْتُ أَجْذِبُهُمْ بِحِبَالِ ٱلْبَشَرِ‘ أي بالعقل ودوافع المحبّة، مِمَّا يليق بطبيعة البشر. لذلك فإنَّ الروح والكلمة لا يزالان يؤثّران علينا نحن البشر بالدوافع العقلانية، فيخيّراننا بين الحياة والخير، بين الموت والشر.”
- بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا: الفكرة وراء كلمة ٱلذُّنُوبِ هي تجاوز الخطّ وتحدِّي حدود الله. أمَّا الفكرة وراء كلمة ٱلْخَطَايَا فهي إخطاء الهدف، أي معايير الله المثالية.
- تشير ٱلذُّنُوبِ إلى تمرّد الإنسان، أمَّا ٱلْخَطَايَا فإلى فشله. “في نظر الله نحن متمرّدون وفاشلون.” ستوت (Stott)
ب) الآيات (٢-٣): حياة الموت.
٢الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ، ٣الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا.
- ٱلَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلًا: في وقت من الأوقات، كنا نحيا في الذنوب والخطايا، حَسَبَ دَهْرِ (أو مسار) هَذَا ٱلْعَالَمِ، الذي دبّره الشيطان. والشيطان (رَئِيسِ سُلْطَانِ ٱلْهَوَاءِ) لا يزال نشطًا جدًّا بين أولئك الذين يتمرّدون على الله – أي أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ.
- سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلًا: النفس التي سلكت ذلك السلوك ذات يوم كانت هي الإنسان العتيق المصلوب الآن مع يسوع وقت التجديد. فطبيعة الخطيّة الموروثة من آدم كانت تؤثّر على الإنسان العتيق، وكذلك نظام العالم والشيطان أيضًا. فيجوز القول بأنّ تأثير الإنسان العتيق لا يزال حيًّا فيما يسميه العهد الجديد بالجسد.
- معنى سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلًا أنَّ وضع أولئك الذين أحياهم يسوع المسيح لا بُدّ أنْ يكون مختلفًا عن الأموات. فالإنسان الميّت يشعر بالراحة في نعشه. ولكن إذا بُعِث حيًّا من جديد، شعر بالاختناق وعدم الراحة على الفور، وستستولي عليه رغبة قويّة في الهروب من النعش وتركه وراءه. وبالطريقة نفسها، عندما كنا ميّتين روحيًّا، كنا نشعر بالراحة في الذنوب والخطايا؛ لكن بعد أن حصلنا على حياة جديدة، صرنا نشعر بضرورة الهروب من هذا النعش وتركه وراءنا.
- ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلْآنَ فِي أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ: نحن نتجاوب مع ’إرشاد الشيطان‘ بالخطيّة. نفس الفعل اليونانيّ القديم الذي يُستخدَم في أفسس ٢:٢ للدلالة على عمل الشيطان في غير المؤمنين يُستخدَم في أفسس ٢٠:٣ للدلالة على قوة الله التي تعمل في المؤمنين.
- رَئِيسِ سُلْطَانِ ٱلْهَوَاءِ: يدلّ هذا اللقب الفريد من ألقاب الشيطان على سلطته (رَئِيس) ومجاله (ٱلْهَوَاء، كوسيلة للتعبير عن ’بيئة‘ الشيطان).
- “إنَّ سلطان الهواء، في الواقع، هو وسيلة أخرى للتعبير عن العالم السماويّ، الذي هو – بحسب أفسس ١٢:٦ – مقرّ تلك الرياسات والسلاطين، الحكّام العالميّين لهذه الظلمة والقوى الروحيّة للشر، التي يشن عليهم شعب المسيح الحربَ.” بروس (Bruce)
- الشيطان ليس هو الحاكم النهائيّ، لكنَّه رئيس، بمعنى أنَّ “أهل الشر قد أقاموه سيّدًا عليهم، وهم جميعًا طوع أمره.” تراب (Trapp)
- ٱلَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلًا بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا: كنا قبلاً من «أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ»، وذلك ثابت من سلوكنا. فكنا نحتضن شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، التي هي في المقام الأول انحراف عن الرغبات المشروعة للطبيعة البشريّة.
- “يجب تذكير المؤمنين بما قد تحرّروا منه، وبالمكانة التي رُفِعوا إليها. ويجب اقتيادهم إلى النظر مرَّة أخرى إلى الحفرة، إلى القبر، الذي دعتهم منه النعمة وأطلقت سراحهم.” موول (Moule)
- وَكُنَّا بِٱلطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ ٱلْغَضَبِ: بسبب استسلامنا للإنسان العتيق والعالم والشيطان، كنا بطبيعتنا أَبْنَاءَ ٱلْغَضَبِ. فاستحققنا غضب الله، واستحققناه بسبب الميراث الذي ورثناه.
- لا يعرف الكتاب المُقدَّس شيئًا عن فكرة أنَّ جميع البشر هم ’أبناء لله‘ باستثناء أنَّه هو خالقنا أجمعين (أعمال الرسل ٢٨:١٧). فيقول بولس هنا إنَّ هناك أبناءً ينتمون إلى ’عائلة‘ الغضب، وقد دعا يسوع الفريسيّين ’عائلة الأفاعي‘ (أولاد الأفاعي فيمتى ٧:٣،٣٤:١٢،٣٣:٢٣) وقال إنَّ أباهم هو الشيطان (يوحنا ٤٤:٨).
ثانيًا. عملية المصالحة الشخصيّة مع الله
أ ) الآية (٤): دَافِع الله للمصالحة.
٤ٱللهُ ٱلَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي ٱلرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ ٱلَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا.
- ٱللهُ … مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ: بولس يوضّح بهذه العبارة سبب مصالحة الله الإنسان مع نفسه، والمبادرة تأتي بالكامل من الله. والسبب هو رَحْمَة الله الغنية ومَحَبَّته ٱلْكَثِيرَة التي أَحَبَّنَا بِهَا.
- “حيث أنَّهم كانوا فاسدين بطبيعتهم وأشرارًا بممارستهم، لم يملكوا أي استحقاق ولا الحق في مطالبة الله بشيء. إنَّما تطلّب الأمر الكثير من الرحمة لإزالة الكثير من البؤس، والعفو عن هذه الذنوب.” كلارك (Clark)
- ٱلَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا: ربَّما نتخيّل إلهًا غَنِيًّا فِي ٱلرَّحْمَةِ والمحبّة، لكنَّه لا يوَجِّه هذه الرحمة والمحبّة نحونا. ولكن وراء البشرى السارة عن خلاص الله، الذي قدّمه في يسوع، تكمن حقيقة أنَّ هذه الرحمة والمحبة مُقدَّمة لنا.
- مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ ٱلَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا: يغلّف البعض فكرة رحمة الله ومحبّته العظيمة في غلاف يبرّر كبرياءنا. فيتخيّلون أنَّ الله يحبّنا لأننا نستحقّ المحبة للغاية. والأصحّ أنَّ محبّة الله كبيرة إلى درجة أنَّها تمتد حتّى إلى من لا يستحقّون المحبّة – إلى أبناء الغضب المذكورين في الآية السابقة.
- كل سبب من أسباب رحمة الله ومحبّته متوقّفة عليه. فليس فينا أي شيء يجعله يحبّنا، ولكن في عظمة محبته، يحبّنا بهذه المحبّة الكبيرة رغم ما نحن عليه من حال.
- لذلك يجب أن نتوقّف عن محاولة جعل أنفسنا محبوبين لله، وأن نتلقّى ببساطة محبته الكبيرة، مدركين أننا لا نستحقّها. هذا هو سرّ نعمة الحياة المسيحيّة.
ب) الآيات (٥-٧): ماضي وحاضر ومستقبل عمل مصالحة الله الفرديّة.
٥وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ ٦وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٧لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ، بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.
- وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِٱلْخَطَايَا: ونحن في هذه الحالة بدأ الله يحبّنا، فلم ينتظر حتّى نصير محبوبين. لقد أحبّنا حتّى عندما كنا أَمْوَاتًا بِٱلْخَطَايَا، ولا نملك شيئًا يجعلنا محبوبين.
- هذا هو شرط حصولنا على الخلاص. يجب أن تكون ميتًا أوّلًا، ميتًا عن تبرير نفسك أمام الله. «إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي… قَدِ ٱنْتَقَلَ مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا ٢٤:٥).
- أَحْيَانَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ: هذا ما فعله الله لمن كانوا أمواتًا في الخطيّة. إذ شاركنا في موتنا حتّى نتمكن من المشاركة في حياة قيامته. فالإنسان العتيق مصلوب ونحن خلائق جديدة في يسوع، فالأشياء العتيقة قد مضت وكل شيء قد صار جديدًا.
- بِٱلنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ: بولس مُرغَم هنا على إضافة أنَّ هذا عمل نِعْمَة الله، ولا يعتمد بأي حال على استحقاق الإنسان. فخلاصنا – أي إنقاذنا – من الموت الروحيّ هو عمل الله من أجل غير المستحقّين.
- وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ: هذا هو الوضع الراهن للمؤمن. لدينا مكان جديد نحيا فيه، ومجال جديد للوجود – ولسنا من «ٱلسَّاكِنِينَ عَلَى ٱلْأَرْضِ» (كما يصفهم سفر الرؤيا)، بل وطنيّتنا في السماء (فيلبّي ٢٠:٣).
- نحن لا نجلس في السماويّات مع المسيح يسوع، أو على الأقل ليس بعد. وإنما نجلس في السماويّات فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، حيث أنَّ حياتنا وهويّتنا هما فِي ٱلْمَسِيحِ، فكما يجلس هو في السماويّات، هكذا نحن أيضًا.
- “وطالما أننا نجلس في السماويّات، فلنا الحق في ملكوت الله، ونتوقّع هذا المجد، ونشعر بسعادة لا توصَف بامتلاكنا هذا الخلاص، وبشركتنا مع المسيح يسوع.” كلارك (Clark)
- لِيُظْهِرَ فِي ٱلدُّهُورِ ٱلْآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ ٱلْفَائِقَ: في المستقبل، سيظلّ الله يُظْهِرَ غِنَى نِعْمَتِهِ ٱلْفَائِقَ لنا. ولن يتوقّف أبدًا عن التعامل معنا على أساس النعمة، بل سيواصل إلى الأبد إظهار غناه لنا على مدى الأبديّة.
- لِيُظْهِرَ: “يدلّ الأصل ضمنيًّا على أن الإظهار يحدث لقصده الخاصّ، لمجده.” آلفورد (Alford). فهذا العمل الجاري فينا يعكس مجد الله أكثر من مجدنا بما لا يُقَاس، والله سيستخدم عمله في الكنيسة لإظهار مجده على مرّ الأزمنة.
- “يتّضح من هذه الآية أنَّ بولس كان يتوقّع تمامًا أن يتم التبشير بإنجيل نعمة الله في الأزمنة القادمة. ولم تكن فكرته أنَّ الإنجيل مؤقت وسيتطوّر إلى الأفضل، بل كان واثقًا من أنَّ هذا الإنجيل نفسه سيتم التبشير به حتّى نهاية تدبير النعمة. وليس هذا فقط، لأنّ استمرار الإنجيل، في رأيي، ليس فقط عبر الأزمنة المنقضية بالفعل منذ المجيء الأوَّل لربنا المبارك، ولكن على مرّ الأزمنة بعد أنْ يأتي للمرة الثانية. إنَّ الأبدية نفسها لن تعدّل في الإنجيل أو تحسّنه.” سبيرجن (Spurgeon)
- “عندما يجتمع جميع القِدّيسين في وطنهم، لن ينقطعوا عن الحديث عن عجائب محبّة يهوه في المسيح يسوع، وفي الشوارع الذهبية سيقفون ويخبرون بما فعله الربّ من أجلهم في مسامع طُغمات الملائكة والرياسات والسلاطين.” سبيرجن (Spurgeon)
- غِنَى نِعْمَتِهِ ٱلْفَائِقَ: “هكذا الأمر بالنسبة إلى نعمة الله: أنَّه يملك أكبر قدر من النعمة تريده، ويملك أكثر من ذلك بكثير. الربّ يملك قدرًا من النعمة يكفي الكون كله، بل وأكثر. إنَّه يفيض بالنعمة: كل المطالب التي يمكن أن تُطلَب من نعمة الله لن تُفقِره أبدًا، بل ولن تقلّل من مخزون رحمته؛ بل سيبقى منجم رحمته وافرًا بما لا يُقاس، تمامًا كما كان عندما بدأ يبارك بني البشر.” سبيرجن (Spurgeon)
- من الوسائل التي يمكن بها رؤية عظمة نعمة الله أنْ نرى كيف يتوسّل إلى الإنسان كي يقبلها. فعندما نقدّم هدية لشخص ما ويرفضها، فإننا على الأرجح نسمح لهم برفضها ونتركهم وشأنهم. أمَّا الله فلا يفعل هذا معنا. فحتّى عندما نرفض رحمته، يفتح خزائن نعمته ويواصل التوسّل إلينا لقبول عطيّته المجانية.
ج) الآيات (٨-١٠): تلخيص لعمل المصالحة الفردية الذي يقوم به الربّ.
٨لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. ٩لَيْسَ مِنْ أَعْمَال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. ١٠لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا.
- لِأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ: لا يستطيع بولس أن يتحدّث عن هذا العمل المجيد الذي يفعله الله دون تذكيرنا بأنه عطية مجّانية (بِٱلنِّعْمَةِ)، تُمنح لغير المستحقّين. بل إننا لا ننال الخلاص بإيماننا (مع أنَّ الإيمان في حدّ ذاته ليس عملًا)، بل بِٱلنِّعْمَةِ بواسطة ٱلْإِيمَانِ.
- يمكننا أنْ نتصوّر تدفق الماء عبر خرطوم المياه. فالماء هو الجزء المهمّ، ولكنّ الماء يصلنا عبر الخرطوم. فالخرطوم لا يروي عطشك، بل الماء. لكنَّ الخرطوم يجلب الماء إلى المكان الذي يمكنك الاستفادة منه.
- “الشكل الدقيق للكلمات هنا يؤكد شيئين. كما أكّد بولس باستمرار، الأمر كله متوقّف على نعمته، على إنعامه الاختياري غير المستحقّ للبشريّة. فضلاً عن ذلك فإنَّ هذا الخلاص مُقدَّم كحقيقة واقعيّة.” فولكس (Foulkes)
- وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللهِ: عمل الخلاص هو عطية الله. يشير ترتيب جملة بولس هنا إلى أن الكلمات تنطبق على عطية الخلاص المذكورة في أفسس ٤:٢-٨، وليس مباشرة على ٱلْإِيمَانِ المذكور في هذه الآية.
- يقول كلارك (Clarke) بصراحة إنَّ اليوناني الأصليّ واضح عند الإشارة إلى عَطِيَّةُ ٱللهِ، أنَّ المقصود بذلك هو الخلاص، لا الإيمان. كما أشار العالم اليونانيّ الكبير دين آلفورد (Dean Alford) بوضوح إلى أنْ عبارة ذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ تشير إلى الخلاص، لا إلى الإيمان في هذا المقطع.
- ومع ذلك، حتّى إيماننا هو عَطِيَّةُ ٱللهِ. فلا يمكننا أن نؤمن بيسوع ما لم يقم الله بعمل مسبق فينا، لأنّ موتنا وإله هذا الدهر قد أعميانا (كورنثوس الثانية ٤:٤).
- “ولكن قد يُثار السؤال التالي: أليس الإيمان عطية الله؟ نعم، فيما يتعلّق بالنعمة التي تُنتجه؛ لكنَّ النعمة أو القدرة على الإيمان وعمل الإيمان، هما شيئان مختلفان. فمن دون النعمة أو القدرة على الإيمان لا يستطيع – ولم يستطع – أحد أن يؤمن؛ ولكن بهذه القوّة يصير عمل الإيمان ملكًا للإنسان. فالله لا يؤمن أبدًا بالنيابة عن أي إنسان، ولا يتوب عنه؛ إنَّما التائب هو الذي يؤمن بنفسه، بواسطة هذه النعمة التي تمكّنه.” كلارك (Clark)
- هذا يبيّن لنا المكانة الأساسيّة للصلاة في الكرازة. فبما أنَّ الله يستهلّ الخلاص، فيجب أن نبدأ كرازتنا بالطلب من الله أنْ يأخذ زمام المبادرة، ويمنح أولئك الذين نريدهم أن يخلصوا القدرة على الإيمان.
- لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلَا يَفْتَخِرَ أَحَدٌ: الله لم يفعل ذلك مِنْ أَعْمَالٍ، كي لا يمكن لأحد أن يَفْتَخِرَ. فإنَّ الخلاص إذا كان من إنجازات البشر بأي شكل من الأشكال، لأمكننا التباهي بذلك. ولكن في ظل خطّة الله للخلاص، يحصل الله وحده على المجد.
- “كنت أظنّ أنَّ نابليون قام بعمل جيد، عندما أخذ تاجه ووضعه على رأسه في يوم تتويجه. فلماذا لا يأخذ الرمز الذي من حقّه؟ فإذا وصلت إلى السماء، مناصفةً بالنعمة وبالأعمال، فستقول: ’الكفّارة أفادتني قليلًا، لكنَّ استقامتي أفادتني أكثر.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- لِأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ: الله لا يخلّصنا لمجرد إنقاذنا من الغضب الذي نستحقّه بعدل، ولكن ليصنع منا شيئًا جميلًا أيضًا. فعبارة عَمَلُهُ هي ترجمة لكلمة ’پويئيما‘ (poiema) اليونانيّة القديمة. وكأننا قصيدته الجميلة. فترجمة Jerusalem Bible تترجم عَمَلُهُ بعبارة: ’تحفة فنّيّة.‘
- محبّة الله هي محبّة مُغيِّرة. إنها تقابلنا في المكان الذي نحن فيه، لكن عندما نقبل هذه المحبّة، فإنها تأخذنا دائمًا إلى حيث يجب أن نذهب. فمحبّة الله التي تخلّص روحيّ تغيّر حياتي أيضًا.
- نحن عَمَلُهُ، خليقته – شيء جديد صنعه في يسوع المسيح. “الحياة الروحيّة لا يمكن أن تأتي إلينا بالتطوّر من طبيعتنا القديمة. لقد سمعت الكثير عن التطور والارتقاء، لكني أخشى أنَّه إذا تم تطويرنا إلى أقصى درجات تطوّرنا، بمعزل عن نعمة الله، لخرجنا أسوأ مِمَّا كنا عليه قبل بدء التطوّر.” سبيرجن (Spurgeon)
- “حياتنا الجديدة مخلوقة فعلاً من العدم تمامًا مثل خلق السماوات الأولى والأرض الأولى. يجدر ذكر هذه الحقيقة بشكل خاصّ، لأنَّ هناك من يعتقد أنَّ نعمة الله تعمل على تحسين الطبيعة القديمة لتصير جديدة. إنها لا تفعل شيئًا من هذا القبيل.” سبيرجن (Spurgeon)
- مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ: هذا الشيء الجميل الذي يصنعه الله منا ينشط في الأَعْمَال الصَالِحَة. وهذه الأعمال جزء لا يتجزّأ من خطّة الله المُعيّنة مُسبقًا. وهذه الأعمال الصالحة دليل أصيل على أنَّ الفرد يسلك كأحد مختاري الله.
- “الأعمال لا تقوم بأي دور على الإطلاق في ضمان الخلاص. لكن بعد ذلك، يثبت المؤمنون إيمانهم بأعمالهم. وفي هذا يتّفق بولس مع يعقوب.” وود (Wood)
ثالثًا. المصالحة بين اليهود والأمم في يسوع
أ ) الآيات (١١-١٢): الحاجة إلى المصالحة بين الأُمَم واليهود.
١١لِذلِكَ اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَانًا مَصْنُوعًا بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ، ١٢أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ، وَبِلاَ إِلهٍ فِي الْعَالَمِ.
- أَنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلْأُمَمُ قَبْلًا فِي ٱلْجَسَدِ: عمل المصالحة الإلهيّة ليس بين الله والفرد فقط، رغم أنَّه يجب أن يبدأ هناك. إنَّه أيضًا بين الجماعات البشرية التي على خلاف، مثل اليهود والأمم في أيام بولس.
- ٱلْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ ٱلْمَدْعُوِّ خِتَانًا: كان الأُمَم في موقف يائس، لكونهم أَجْنَبِيِّينَ، وَغُرَبَاءَ، لَا رَجَاءَ لَهم وبدون إِلَهٍ. وهذا يدلّ على أنَّهم لم يكونوا أمواتًا روحيًّا فقط، بل كانوا عاجزين أيضًا عن الوصول إلى الله الذي يتمتّع به اليهود.
- قبل مجيئهم إلى يسوع، كان الأُمَم “بلا مسيح، بلا رعوية، بلا أصدقاء، وبلا رجاء، وبدون الله.” ستوت (Stott) مستشهدًا بكلام هيندركسن (Hendriksen)
- لَا رَجَاءَ لَكُمْ: “الدلائل عديدة على غياب الرجاء في مواجهة الموت في الأدب والنقوش الإغريقية – الرومانية في ذلك الزمن.” بروس (Bruce)
- بِلَا إِلَهٍ فِي ٱلْعَالَمِ: بعض الناس يؤمنون بالله، لكنهم يؤمنون أنَّه يعيش في السماء ولا علاقة له بهذا ٱلْعَالَمِ. وبهذه الطريقة، يمكن للشخص أن يؤمن بالله وأن يكون بِلَا إِلَهٍ فِي ٱلْعَالَمِ.
- بِدُونِ مَسِيحٍ: هذه كلمات فظيعة، وآثارها هي تلخيص للحالة المحزنة للبشر الهالكين. فكونك بِدُونِ مَسِيحٍ يعني أن تكون:
- بلا بركات روحيّة.
- بلا نور.
- بلا سلام.
- بلا راحة.
- بلا أمان.
- بلا رجاء.
- بلا نبي، كاهن، أو ملك.
- “بِدُونِ مَسِيحٍ! إن انطبق هذا الوصف على بعضكم، لمَا احتجنا أن نكلّمكم عن نيران الجحيم؛ فليكفي هذا لإفزاعكم: أنكم في حالة ميؤوس منها إلى درجة أنكم بدون مسيح. يا للهول! ما أفظع الشرور التي تتجسّم في هاتين الكلمتين!” سبيرجن (Spurgeon)
- أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ: يشتمل ذلك غالبًا على اليهود المنفصلين عن الله وعلى الأمم. “لأنَّه كان هناك قوم من بني إسرائيل خارج الرعوية، وليس الأجانب فقط، أي اليهود المتهاونون، الذين خسروا انضمامهم إلى العهود، ليس كأجانب، ولكن باعتبارهم غير مستحقّين.” آلفورد (Alford)
ب) الآية (١٣): تقريب الأُمَم إلى الله.
١٣وَلَكِنِ ٱلْآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلًا بَعِيدِينَ، صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ.
- وَلَكِنِ ٱلْآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ: هؤلاء الأُمَم الذين هم ٱلْآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لم يعودوا بَعِيدِينَ. لقد صاروا قَرِيبِينَ من أمور الله، ودَم ٱلْمَسِيحِ هو الذي يحقّق ذلك بموته الكفّاريّ.
- هذا الاقتراب لا يحدث إلاَّ بدم المسيح. فالأُمَم الذين ليسوا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ بَعِيدُونَ تمامًا كما كان هؤلاء. فهذه المصالحة لا تحدث إلاَّ في يسوع.
- من المهمّ أنَّ بولس يربط فكرتي محبّة يسوع العظيمة وموته الكفّاريّ. فيعتقد الكثيرون من الناس أنَّ الوعظ بالمسيح المصلوب هو مُجَرَّد حديث عن يسوع دامٍ ودمويّ. ولكنَّ المغزى من صلب المسيح ليس إظهار دموية الصلب، بل محبّة المصلوب. فالوعظ بالمسيح المصلوب يعني أنْ نكرز بالمسيح المفعَم بالمحبّة – المحبّة الكفّاريّة، العطّاءة، المخلّصة.
- بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ: يقترح الكثيرون من الناس طرقًا مختلفة للتقرّب إلى الله. فالبعض يعتقدون أنك يمكن أن تدنو منه عن طريق حفظ الناموس أو بالانتماء إلى جماعة (مثل إسرائيل أو حتّى الكنيسة). ولكنَّ الطريقة الوحيدة للتقرّب إلى الله هي بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ. فما فعله يسوع على الصليب، أي تألّمه كخاطئ مذنب بدلًا من الخطاة المذنبين، يجعلنا قَرِيبِينَ من الله.
ج) الآيات (١٤-١٦): جمع اليهود والأُمَم في الكنيسة.
١٤لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ ١٥أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، ١٦وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ.
- لِأَنَّهُ هُوَ سَلَامُنَا: يسوع هو نفسه سَلَامُنَا. فهو لم يصنع سلامًا ببساطة بين الله والبشر، واليهود والأمم؛ بل هُوَ نفسه سَلَامُنَا.
- ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلِٱثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ: عمل يسوع على الصليب هو الأساس المشترك لخلاص كلٍّ من اليهود والأمم. لذلك فلم يعد هناك جدار فاصل بينهما. لقد هدم يسوع هذا الجدار.
- في الهيكل، بين فناء الأُمَم وفناء النساء، كان هناك حاجز ماديّ، وحَائِط سِيَاج مُتَوَسِّط بين اليهود والأمم.
- كان بولس، وقت كتابة هذه الرسالة، رهن الإقامة الجبرية في روما، وكان ينتظر المحاكمة لأنَّ اليهود اتّهموه كذبًا بأخذ غير اليهود إلى الهيكل، خلف حَائِط ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ بين اليهود والأمم. وبولس يوضّح هنا أنَّ هذا الجدار قد زال في يسوع.
- لقد زال حَائِط ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ لأنَّ انتماءهما المشترك لربّ واحد أكبر من أي تقسيم سابق. وإذا كانت ربوبيّة يسوع المسيح ليست أكبر من أي اختلاف لديك مع الآخرين – سواء كان ذلك سياسيًا أو عنصريًا أو اقتصاديًا أو لغويًا أو جغرافيًا أو أي شيء آخر، فأنت لا تفهم تمامًا ما يعنيه كونك خاضعًا لربوبيّة يسوع.
- مُبْطِلًا بِجَسَدِهِ نَامُوسَ ٱلْوَصَايَا [المنصوص عليه] فِي فَرَائِضَ: كان مصدر الخلاف بين اليهود والأُمَم عدم حفظ الأُمَم الناموس. ولكن بما أنَّ يسوع قد تمّم الناموس نيابةً عنا وتحمّل عقوبة إخفاقنا في حفظ الناموس، فإننا نتصالح بواسطة عمله على الصليب – الذي أمات مصدر الخلاف.
- “كانت العداوة التي يتحدّث عنها الرسول متبادلة بين اليهود والأمم. فاليهود يكرهون الأُمَم، ويكادون لا يعتبرونهم بشرًا. أمَّا الأمم فكانوا يحتقرون اليهود أشد الاحتقار، وذلك بسبب غرابة طقوسهم واحتفالاتهم الدينيّة، التي كانت مختلفة عن المعهود في جميع دول العالم الأخرى.” كلارك (Clark)
- “ولقد تأصّل الانفصال وتأكّد بواسطة تلك التشريعات التي صُمِّمت جزئيًا لعزل إسرائيل عن العالم حتّى يحين الوقت المناسب للبركة الأعمّ. وهو قد «أبطلها» عن طريق تحقيقها في عمله الكفّاريّ. وهكذا صالح – في آن واحد – الإنسان مع الله والإنسان مع الإنسان.” موول (Moule)
- الناموس كمصدر للبرّ لم يعد هو القضية. فهذا المصدر لـلْعَدَاوَة بين اليهود والأمم قد مات.
- يُصَالِحَ ٱلِٱثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ ٱللهِ بِٱلصَّلِيبِ: يتم جمع الأُمَم واليهود فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، أي الكنيسة، حيث وحدتنا في يسوع أكبر بكثير من اختلافاتنا السابقة.
- لِكَيْ يَخْلُقَ ٱلِٱثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا: أطلق المسيحيّون الأوائل على أنفسهم ’الجنس الثالث‘ أو ’الجنس الجديد.‘ لقد أدرك المسيحيّون الأوائل أنَّهم ليسوا يهودًا ولا أممًا، بل إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا يشتمل على كل من هم في يسوع.
- “كما أوضح يوحنا فم الذهب، ليست المسألة أنَّ المسيح قد رفع الواحد إلى مستوى الآخر، بل أنتج ما هو أعظم: ’كما لو أنَّ واحدًا صهر تمثالًا من الفضة وآخر من الرصاص، فخرج الاثنان معًا ذهبًا.‘” وود (Wood)
- بِٱلصَّلِيبِ: نرى أنَّ بولس يركّز على عمل يسوع على الصليب. لقد كـرّر الفكرة مرارًا عدّة: صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ… وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ، أَيِ ٱلْعَدَاوَةَ… فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ… بِٱلصَّلِيبِ. فهذه الوحدة لم تحدث تلقائيًا، بل هي إنجاز حقّقه يسوع بعد كفاح مرير.
- هذا يعني أنَّ صلاة يسوع في يوحنا ١٧ (لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِدًا) لم تكن «مُجرَّد» صلاة. لقد كانت صلاة يصلّيها يسوع مع العلم بأنّ عمله على الصليب سيكون هو تحقيقها، وصلاة كان على استعداد أنْ يصلّيها مع العلم بأن آلامه ستكون وسيلة لاستجابتها.
- هذا الجمع بين اليهود والأُمَم في يسوع هو إنجاز جزئيّ لقصد الله الأبديّ كما ورد في أفسس ١٠:١ «لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ.» يستخدم الله الجمع بين اليهود والأُمَم في الكنيسة كمعرض مُسبَق لعمله النهائيّ المتمثّل في توحيد كل شيء في يسوع المسيح. وبما أنَّه يستطيع عمل هذا، فهو قادر أيضًا أنْ يعمل ذاك.
د ) الآيات (١٧-١٨): كيف يتم الجمع بين اليهود والأمم.
١٧فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ. ١٨لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُومًا فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ. ١٩فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ.
- فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلَامٍ، أَنْتُمُ ٱلْبَعِيدِينَ وَٱلْقَرِيبِينَ: حين يستجيبون لنفس الإنجيل، ينالون نفس السلام الذي بَشَّر به أولئك ٱلْبَعِيدِينَ (الأمم) وٱلْقَرِيبِينَ (اليهود).
- لِأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُومًا فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلْآبِ (فَفِي المَسِيحِ نَقدِرُ كِلَانَا أنْ نَقتَرِبَ مِنَ الآبِ بِالرُّوحِ الوَاحِدِ): يتمتّعون بنفس القدوم برُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلْآبِ. فاليهود والأُمَم لم ينالوا الخلاص بنفس الإنجيل فقط، بل ويتمتّعون أيضًا بنفس الشركة مع الله ونفس الحق في التواجد في محضر الله. فليس لفريقٍ أحقّية الوصول أكثر من الآخر.
- “كلمة ’قُدُومًا‘ هي على الأرجح أفضل ترجمة لپروساغوغيه (prosagoge)، رغم إمكانية ترجمتها بكلمة ’مقدّمة.‘ ففي المحاكم الشرقية، كان هناك پروساغوغيس، أي حاجب يُدخِل الشخص إلى محضر الملك.” فولكس (Foulkes)
- عندما ينشب صراع بين الجماعات المسيحيّة ذات الخلفيّات المختلفة، ثق يقينًا أنَّهم قد نسوا أنهم نالوا الخلاص بنفس الإنجيل وأنَّ لهم نفس الإمكانية للوصول إلى الله. إذ تشعر إحدى الجماعتين أو كلتيهما عادةً بأنها تتمتّع بأحقية متميّزة في الوصول إلى الله.
- “هذا النصّ دليل واضح على الثالوث المُقَدَّس. فاليهود والأُمَم يُعرَضون على الله الآب. وروح الله يعمل في قلوبهم، ويعدّهم لهذا العرض؛ ويسوع المسيح يقدّمهم.” كلارك (Clark)
هـ) الآيات (١٩-٢٢): صورة عن المصالحة التي يُجريها الله، بين الأفراد والجماعات على حدّ سواء.
١٩فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ، ٢٠مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، ٢١الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّبًا مَعًا، يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّسًا فِي الرَّبِّ. ٢٢الَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيُّونَ مَعًا، مَسْكَنًا للهِ فِي الرُّوحِ.
- فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلًا: يقصد بولس المؤمنين القادمين من خلفيّة أُممية. إذ لا ينبغي أن يعتبروا أنفسهم ’مواطنين من الدرجة الثانية‘ في ملكوت الله في أي مجال. إنهم ليسوا رَعِيَّة (مواطنين) كاملين فحسب، بل هم أيضًا أعضاء كاملون ومتساوون في بَيْتِ ٱللهِ.
- مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلْأَنْبِيَاءِ: نظرًا لأننا جسد واحد ولنا نفس القدرة على الوصول إلى الله، يترتّب على ذلك أيضًا أننا جميعًا مبنيون على أَسَاسِ مشترك. وهذا الأساس هو ٱلرُّسُل وَٱلْأَنْبِيَاء الأصليّون، والوحي الدائم الممنوح لهم، المسجَّل في العهد الجديد. ولا يجوز لأحد أن يضع أي أساس آخر.
- على الرغم من أنَّ يوحنا فم الذهب وإيرونيمس وكالفن وغيرهم فسّروا ٱلْأَنْبِيَاء الذين ورد ذكرهم على أنَّهم أنبياء العهد القديم، إلَّا أنَّه من الأفضل أن نراهم أنبياء العهد الجديد، وربما كُتّاب العهد الجديد الذين لم يكونوا أعضاءً في مجموعة الرسل الأساسيّة بالمعنى الصارم.
- “أولئك الذين احتلوا مكانًا بجانب الرسل في حكم الكنيسة… لم يكونوا في كل حالة متميّزين عن الرسل: فرُبَّما كانت الرسولية تشتمل دائمًا على موهبة النبوة، بحيث أنَّ جميع الرسل هم أنفسهم أنبياء.” آلفورد (Alford)
- من حيث تأسيس الوحي الرسمي الأسمى لشعب الله كله، لم يعد هناك رسل أو أنبياء اليوم. لقد تمّ بالفعل وضع الأساس. ولكن قد يكون هناك رسل وأنبياء اليوم، ولكن ليس بالمعنى الذي يقصده بولس هنا.
- وَيَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ: حَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ هذا “يعني حرفيًّا عند طرف الزاوية. والمقصود به الحجر العلويّ أو حجر العقد الذي يربط المبنى كله معًا… وغالبا ما كان اسم الملك يُنقَش عليه. وكان يعتبر في الشرق أكثر أهمّيّة من حجر الأساس.” وود (Wood)
- كتب سالموند (Salmond) بخصوص حَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ: “المقصود بذلك الحجر الموضوع في الزاوية القصوى، وذلك لربط الأحجار الأخرى في المبنى معًا – وهو أهم حجر في المبنى، إذ أنَّه الحجر الذي يعتمد عليه استقراره.”
- “هذا المبنى وتماسكه يشبه النظام المُقَدَّس للكنيسة المرئية. أمَّا الأسمنت فلا ينتمي إلى فئة المرئيّات. إنه إلهيّ بالكامل. إنه الروح الذي يمتلك كل قِدّيس من قدّيسي الله، ويربطهم جميعًا معًا بتركيبهم جميعًا في رأسهم.” موول (Moule)
- ٱلَّذِي فِيهِ كُلُّ ٱلْبِنَاءِ مُرَكَّبًا مَعًا، يَنْمُو هَيْكَلًا مُقَدَّسًا فِي ٱلرَّبِّ: متى التزمنا بأساسنا المشترك، نمى كُلُّ بِنَاءِ شعب الله معًا بطريقة جميلة، كـهَيْكَل مُقَدَّس، حيث يسكن الله في الجمال والمجد.
- نفهم من هذا أنَّ الكنيسة هي بِنَاء، صمّمه المهندس المعماري الأعظم. إنَّها ليست كومة عشوائيّة من الحجارة ملقاة في حقل دون ترتيب. بل قد رتّب الله الكنيسة لمجده ومقاصده.
- نفهم من هذا أنَّ الكنيسة مَسْكَن، أي مكان يعيش فيه الله. ولا ينبغي أبدًا أنْ تكون منزلاً خاليًا أو متحفًا لا يعيش فيه أحد. الكنيسة ينبغي أن تكون مكان حياة لله وشعبه.
- نفهم من هذا أنَّ الكنيسة هي هَيْكَل مُقَدَّس ومُكرَّس لله. ونحن نخدم فيها ككهنة، نقدّم ذبائح شفاهنا وقلوبنا الروحيّة، أي تسبيحاتنا لله (عبرانيين ١٥:١٣).
- ٱلَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيُّونَ مَعًا، مَسْكَنًا لِلهِ فِي ٱلرُّوحِ: عندما شُيِّد هيكل سليمان، كان إعداد الأحجار يتمّ في مكان بعيد عن موقع بناء الهيكل. فقد قيل إنَّه لا يجوز سماع صوت مطرقة أو فأس أو أدوات الحديد الأخرى في الموقع (ملوك الأول ٧:٦). وبالطريقة نفسها، يهيئنا الله أوّلًا، ثُمَّ يؤهّلنا لبنائه.
- “الآب يختار هذا البيت، والابن يشتريه، والروح القُدُس يمتلكه.” تراب (Trapp)
- “وسيعلن الآب الأبديّ عن نفسه بالكامل لجميع العالم، ولكن ليس بأي طريقة كانت، بل بهذه الطريقة – في كنيسته الممجَّدة، في الجنس والطبيعة البشريين، اللذين سبق وفسدا، ولكن أعيد بناؤهما بهذه الروعة بنعمته.” موول (Moule)
- شرح آدم كلارك (Adam Clark) كيف أعطى عمل الله في الكنيسة المجد لحكمة الله وقوته ومحبته. وما أنْ نرى هذا كله، حتّى نحمد الله على كنيسته المجيدة.
- لا يوجد شيء أنبل من الكنيسة، نظرًا إلى أنَّها هيكل الله.
- لا يوجد شيء أحقّ بالتبجيل، نظرًا إلى الله الذي يسكن فيها.
- لا يوجد شيء أقدم، نظرًا إلى الآباء والأنبياء الذي عملوا على بنائها.
- لا يوجد شيء أقوى، نظرًا إلى يسوع المسيح الذي هو أساسها.
- لا يوجد شيء أسمى، حيث أنَّها تصل إلى السماويّات في المسيح يسوع.
- لا يوجد شيء مثالي ومتناسق مثلها، لأنَّ الروح القُدُس هو مهندسها المعماري.
- لا يوجد شيء أكثر جمالًا، لأنَّها مزيَّنة بحجارة بناء من كل الأزمنة والأماكن والشعوب؛ من أعلى الملوك إلى أقل الفلاحين؛ من أذكى العلماء إلى أبسط المؤمنين.
- لا يوجد شيء أكثر اتّساعًا، لأنَّها منتشرة في المسكونة كلها وتستوعب كل من غسلوا ثيابهم وبيّضوها في دم الخروف.
- لا يوجد شيء إلهيّ مثلها، لأنَّه بناء حيّ يحرّكه ويسكنه الروح القُدُس.