رسالة كورنثوس الأولى – الإصحاح ١٣
المحبة غير المشروطة
كتب ج. كامبل مورغان (G. Campbell Morgan) أن فحص هذا الأصحاح يشبه عملية تشريح زهرة بغرض فهمها. فإذا قمت بتمزيقها أكثر من اللازم، سوف تفقد عنصر الجمال فيها. قال آلان ريدباث (Alan Redpath) إنه يمكن للمرء الحصول على لون روحي من دفء هذا الأصحاح.
أولاً. سيادة المحبة
أ ) الآيات (١-٢): المحبة أسمى من المواهب الروحية.
١إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَقَدْ صِرْتُ نُحَاسًا يَطِنُّ أَوْ صَنْجًا يَرِنُّ. ٢وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ، وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ، وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَسْتُ شَيْئًا.
- إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ: كان أهل كورنثوس عاشقون للمواهب الروحية ولا سيما موهبة التكلم بالألسنة، لكن بولس يذكّرهم أن هذه الموهبة تُصبح بلا معنى ما لم تقترن بالمحبة، بل أنها تكون مثل نُحَاسًا يَطِنُّ أَوْ صَنْجًا يَرِنُّ، أي ضوضاء مزعجة، ليس إلا.
- “قليلي التدين هم دائمًا من يحدثون الضجيج؛ الشخص الذي لا يمتلئ قلبه بمحبة الله يشبه عربة فارغة تنحدر بشدة أسفل تل، مُحدثة ضجة عالية، لكنها فارغة.” كلارك (Clarke) مُقتبس من يوشيا جريجوري (Josiah Gregory)
- أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ: في بعض المواضع، تحمل الكلمة اليونانية القديمة المترجمة ’أَلْسِنَةِ‘ فكرة ’اللغات‘ (أعمال الرسل ١١:٢، و رؤيا يوحنا ٩:٥). وقد قاد هذا البعض إلى القول بأن موهبة الألسنة هي ببساطة القدرة على توصيل الإنجيل بلغات أخرى أو هي القدرة على تعلم اللغات بسرعة. ولكن الطريقة التي استُخدمت بها كلمة الألسنة هنا توض أنها ربما، أو عادةً، تشير إلى لغة فائقة للطبيعة يتواصل بها المؤمن مع الله. وهذه هي الوسيلة الوحيدة لفهم جملة أَلْسِنَةِ… الْمَلاَئِكَةِ.
- في أيام بولس، اعتقد الكثير من اليهود أن الملائكة لها لغتها الخاصة، وبواسطة الروح، يمكن للمرء أن يتكلم بها. توضح الإشارة إلى أَلْسِنَةِ… الْمَلاَئِكَةِ أنه على الرغم من أن الموهبة الحقيقية للتكلم بالألسنة هي لغة شرعية، فقد لا تكون لغة بشرية على الإطلاق. وعلى ما يبدو، هناك لغات ملائكية يمكن للإنسان أن يتحدث بها بوحي من الروح القدس.
- يعلق بووله (Poole) تعليقًا رائعًا حينما يشير إلى أن أَلْسِنَةِ… الْمَلاَئِكَةِ تصف كيف يُمكن أن يتحدث الله إلينا بطريقة غير شفهية: “ليس للملائكة ألسنة، وهي لا تُصدر أي أصوات مسموعة تُمكنها من فهم بعضها البعض؛ ومع ذلك، هناك بالتأكيد تواصل بين الملائكة، وهذا التواصل لا يمكن أن يكون أو يستمر دون وسيلة ما لتوصيل أفكارها وإرادتها بعضها للبعض. كيف؟ لا يمكننا أن نعرف على وجه التحديد: يقول بعض المُعلمين أن الملائكة تتواصل عن طريق الأفكار: وأحيانًا يستخدم الله هذه الطريقة لينقل ما في فكره لشعبه، أي بوضع أفكار سرية عن مشيئته في عقولهم ويجعلهم يفهمونها.”
- النُبُوَّةٌ والعِلْمٍ والإِيمَانِ: ليس هناك أي أهمية للمعجزات إذا كانت بدون محبة. لقد أضاع مؤمنو كورنثوس الدافع والهدف من وراء تلك المواهب، وجعلوها هي نفسها الهدف. يلفت بولس الانتباه من جديد إلى المحبة.
- يشير بولس، مستشهداً بكلام يسوع، إلى الإيمان حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ (متى ٢٠:١٧). يا له من أمر مدهش أن يكون لك مثل هذا الإيمان الذي يصنع المُستحيل! ومع ذلك، حتى مع وجود هذا النوع من الإيمان، لسنا شيئًا بدون مَحَبَّة.
- يمكن للشخص الذي لديه هذا النوع من الإيمان أن ينقل الجبال العظيمة، لكنه سيضعها في مسار شخص آخر – أو حتى فوق رأسه – إذا لم تكن لديه محبة.
- إنها ليست مسألة مقارنة بين المحبة والمواهب. لا ينبغي إجبار الكنيسة على الاختيار بين المحبة ومواهب الروح القدس. يؤكد بولس على أن هدف المواهب هو المحبة، وليس المواهب في حد ذاتها.
- “امتلاك الكاريزما ليس علامة الروح؛ أما المحبة المسيحية فهي كذلك.” فيي (Fee)
- لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ: يستخدم بولس الكلمة اليونانية القديمة (agape)، وهي واحدة من أربعة كلمات مختلقة استخدمها اليونانيون القدماء لترجمة كلمة مَحَبَّة. ومن المهم أن نفهم الفرق بين الكلمات، ولماذا اختار الرسول بولس كلمة أغابي agape (المحبة غير المشروطة) في هذا السياق.
- الكلمة الأولى للمحبة هي أيروس (Eros). وهي تصف المحبة الأنانية الشهوانية، مشيرة إلى الحب الجنسي.
- الكلمة الثانية للمحبة هي ستورج (Storge)، والتي تشير إلى المحبة الأُسرية، نوع المحبة بين الوالد والطفل أو بين أفراد الأسرة بشكل عام.
- الكلمة الثالثة للمحبة هي فيليا (Philia). وهي تتحدث عن العاطفة والمودة الأخوية. إنها محبة الصداقة والشركة العميقة. قد توصف بأنها أعلى درجة من درجات المحبة يستطيع الإنسان أن يصل إليها دون مساعدة من الله.
- الكلمة الرابعة للمحبة هي أغابي (Agape). إنها المحبة الثابتة التي لا تتغير، وتُعطى دون طلب أو توقع مجازاة. إنها محبة عظيمة تمنح حتى لمن هو غير جدير بالحب أو غير جذَّاب. إنها المحبة التي تستمر حتى عندما يتم رفضها. محبة تُعطى لأن هذه هي رغبة المُحِب؛ فهي محبة لا تطلب أو تتوقع مقابل. هي محبة تعطي لأنها تحب؛ ولا تُحب حتى تأخذ. وفقًا لآلن ريدباث (Alan Redpath)، أصل الكلمة الإنجليزية agony (أي لوعة) يأتي من كلمة agape. “هذا يعني سيطرة العاطفة على الكيان كله” ريدباث (Redpath). ولا يمكن تعريف كلمة المحبة أغابي (agape) بشكل دقيق على أنها “محبة الله”، لأنه قيل إن الناس أحبوا (agape) الخطية والعالم (يوحنا ١٩:٣ و
يوحنا الأولى ١٥:٢). ولكن يمكن تعريفها على أنها محبة غير مشروطة، محبة مُضحية باذلة تبتلع الكيان. لا تتعلق الكلمة كثيرًا بالعاطفة؛ لكنها تتعلق بشكل خاص بإنكار الذات من أجل الآخر. - يمكننا أن نقرأ هذا الإصحاح ونعتقد أن بولس يعني أنه يجب علينا أن نكون ودودين، وإلا تُصبح حياتنا بلا معنى. ولكن المحبة أغابي (agape) لا تعني المودة؛ بل هي إنكار الذات من أجل الآخر.
ب) الآية (٣): حتى أعظم التضحيات بالذات، بدون محبة، تكون عديمة الفائدة.
٣وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئًا.
- وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي: هذا ما طلبه يسوع من الشاب الغني (متى ١٦:١٩-٣٠)، ولكنه رفض. حتى ولو كان الشاب الغني قد فعل ما قاله يسوع، ولكنه لم يحب، لما كان لذلك أي نفع.
- وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ: حتى لو أصبحت شهيدًا، ولكن بدون محبة، فلن يكون لذلك نفع. فمن الصعب أن يشك أحد في المؤهلات الروحية للشخص الذي تخلى عن كل ما لديه، حتى عن حياته. ولكن ليست هذه هي أفضل مقاييس للمؤهلات الروحية الحقيقية لشخص ما، بل إن المحبة هي أفضل مقياس على الإطلاق.
- كان بعض المسيحيين الأوائل المتعجرفين يعتقدون أن دماء الاستشهاد تمحو أي خطية. لقد كانوا متفاخرين جدًا بقدرتهم على تحمل الألم من أجل يسوع، وكانوا يعتقدون أن هذا هو أهم شيء في الحياة المسيحية. وهذا أمر مُهم، ولكنه ليس الأهم. فبدون محبة، لاَ أَنْتَفِعُ شَيْئًا. يقول بووله (Poole): “حتى لو قدمت حياتك للموت طوعاً، ولم تُجَر للقتل.” وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئًا.
- يعتقد البعض أن الاحتراق المشار إليه هنا ليس إعدامًا، بل هو وضع علامة على الشخص كمجرم أو عبد من أجل الإنجيل. ومع أن الاحتمال الأكثر ترجيحًا هو الإعدام، إلا أن هذا لا يهم كثيرًا حقًا، لأن المعنى الأساسي واحد، وهو التضحية الشخصية.
- ونجد في بعض المخطوطات اليونانية القديمة هذه الكلمات بطريقة أخرى: إن سلّمتُ جسدي حتى أتمجد بدلًا من إِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ. مرة أخرى، إنه نفس المعنى، والفرق بسيط جدًا.
- يعتقد الكثير من المؤمنين أن محور الحياة المسيحية هو التضحية – التضحية بأموالك وبحياتك من أجل قضية يسوع المسيح. فالتضحية مهمة، لكن بدون محبة لا فائدة منها، لاَ أَنْتَفِعُ شَيْئًا.
- إن كل ما تم وصفه في
كورنثوس الأولى ١:١٣-٣ جيد. الألسنة جيدة، والنبوة والعلم والإيمان أشياء جيدة، والتضحية جيدة. ولكن المحبة قيّمة للغاية، كل الأشياء الأخرى الجيدة لا نفع منها. أحيانًا نرتكب خطأ التخلي عن الأفضل من أجل الجيد.
ثانيًا. وصف المحبة.
“لئلا يقول أهل كورنثوس للرسول، ما هي هذه المحبة التي تتحدث عنها؟ أو كيف نعرف إذا كانت لدينا؟ يقدم الرسول ثلاث عشرة ملاحظة للشخص المُترفق.” بووله (Poole)
أ ) الآية (٤أ): المحبة شيئان: متأنية ومترفقة.
٤الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ.
- الْمَحَبَّةُ: في البداية، نرى الْمَحَبَّة موصوفة بكلمات أفعال وليس بالمفاهيم السامية. فلا يكتب بولس عن شعور المحبة بل عن المحبة العاملة.
- الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى: المحبة تصبر كثيرًا. إنه قلب الله الذي يظهر عندما يقال عن الرب: لاَ يَتَبَاطَأُ الرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ التَّبَاطُؤَ، لكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ (بطرس الثانية ٩:٣). إذا كانت محبة الله فينا، فسنُظهر أناة تجاه من يزعجوننا ويجرحوننا.
- قال الواعظ القديم يوحنا الذهبي الفم إن هذه هي الكلمة التي تستخدم للشخص الذي ظُلم، ولديه الرغبة والقدرة على الانتقام، لكنه لا يفعل ذلك بدافع الرحمة والصبر. هل تنتقم لنفسك بمجرد أن تُتَاح لك الفرصة؟
- الْمَحَبَّةُ… تَرْفُقُ (تُشفِقُ): عندما تكون لدينا محبة الله، فهي تظهر في أعمال شفقة أو رأفة بسيطة. ومقياس رائع للمحبة المترفقة هو رؤية كيفية استقبال الأطفال لنا. فالأطفال لا يستقبلون أو يتجاوبون مع الأشخاص غير اللُطفاء.
ب) الآيات (٤ب-٦): ثمانية أشياء لا تتصف بها المحبة: لا تحسد، لا تتفاخر، لا تنتفخ، لا تُقبح، لا تطلب ما لنفسها، لا تحتد، لا تظن السوء، لا تفرح بالإثم.
٤… الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، ٥وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّؤَ، ٦وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ.
- الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ: الحسد هو الأقل إثمارًا وأكثر الخطايا ضررًا. إنه لا يحقق شيئًا سوى الأذى. المحبة لا تحسد عندما يرتفع شأن الشخص أو ينال بركة. ويصف كلارك (Clarke) القلب الذي لا يحسد قائلًا: “إنه يرغب دائمًا في تفضيل الآخرين على نفسه.”
- هل الحسد خطية صغيرة؟ لقد قتل الحسد هابيل (تكوين ٣:٤-٨)، واستعبد الحسد يوسف (تكوين ١١:٣٧،
٢٨)، ووَضَع الحسد يسوع على الصليب: لأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوهُ حَسَدًا. (متى ١٨:٢٧). - “يضع الكثير من الناس روح الحسد وعدم التسامح تحت ستار ما يُسمى بالحماسة الإلهية والاهتمام الشديد بخلاص الآخرين؛ لذلك فإنهم يرون الجميع مُخطئون، وتتسم روحهم بالنقد واللوم؛ لا أحد يستطيع إرضائهم، والجميع يُعانون منهم. وهؤلاء يُدمرون المزيد من النفوس بتعشير النعنع والكمون، أكثر مما يفعل آخرون بتجاهل الأمور الأثقل في الناموس. فمثل هؤلاء الأشخاص، لهم عن حق ما يُسمى بالتقوى اللاذعة.” كلارك (Clarke)
- هل الحسد خطية صغيرة؟ لقد قتل الحسد هابيل (تكوين ٣:٤-٨)، واستعبد الحسد يوسف (تكوين ١١:٣٧،
- الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ: المحبة العاملة تستطيع أن تعمل في الخفاء. فهي لا تحتاج إلى اهتمام أو تسليط الضوء عليها لكي تقوم بعملها أو للرضا عن النتيجة. المحبة تعطي لأنها تحب، لا لكي تتفاخر بالمدح والثناء على ما تفعله.
- أحيانًا أكثر الناس الذين يعملون بجد في تقديم المحبة هم أبعدهم عنها. فهُم يفعلون أشياء يراها الكثيرون على أنها محبة، لكنها ليست كذلك؛ بل هو تفاخُر يبحث عن مجد في مظهر المحبة.
- المحبة… لاَ تَنْتَفِخُ: أن تَنْتَفِخُ هو أن تكون متغطرسًا ومتمركزًا حول ذاتك. إنها تتحدث عن شخص متعالي، لا يبالي باحتياجات الآخرين.
- أن تتفاخُر وأن تنتفخ كلاهما ببساطة متأصل في الكبرياء. أسوأ كبرياء بين المؤمنين هو الكبرياء الروحي. فكبرياء المظهر بغيض وكبرياء العِرق مبتذل، لكن أسوأ كبرياء هو كبرياء النعمة!
- يعتقد الكثيرون أن وليام كاري (William Carey) هو مؤسس حركة التبشير الحديثة، وهو شخص يعرفه ويحترمه المؤمنين في جميع أنحاء العالم. لقد جاء من خلفية متواضعة؛ فقد كان يُصلح أحذية عندما دعاه الله ليصل إلى العالم. ذات مرة عندما كان كاري في حفل عشاء، حاول سيد مُتكبر أن يهينه فقال له بصوتٍ مرتفع جدًا: “سيد كاري، سمعت أنك كنت صانع أحذية!” فرد كاري قائلًا: “كلا سيدي، لم أكن صانع أحذية، بل إسكافي!” اليوم، يتذكر الكثيرون اسم وليام كاري، لكن لا أحد يتذكر من كان هذا السيد المُتكبر. لقد ظهرت محبته في تواضعه.
- الْمَحَبَّةُ… لاَ تُقَبِّحُ: حيث المحبة، يكون هناك لطف ودماثة خلق. وربما ليس في أولئك الذين يشعرون بأنهم أفضل من الآخرين، لكن في الناس التي لاَ تُقَبِّحُ أي التي لَا تَتَصَرَّفُ دُونَ لَيَاقَةٍ.
- الْمَحَبَّةُ… لاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا: يشير بولس إلى نفس الفكرة في
رومية ١٠:١٢ مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْكَرَامَةِ. وكذلك نجد نفس الفكرة في
فيلبي ٤:٢ لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا. وهذا يعني أن تكون شبه يسوع في أمر أساسي، وهو أن تهتم بالآخرين بدلًا من أن تتمركز حول ذاتك.- “المحبة لا تشعر بالرضا إلا في سعادة وراحة وخلاص الجميع. لا يُعد مؤمنًا من اهتم بسعادته وراحته الشخصية فقط وتجاهل العالم من حوله.” كلارك (Clarke)
- الْمَحَبَّةُ… لاَ تَحْتَدُّ: من السهل أن نَحْتَدُّ أو أن نُثار من أولئك الذين يزعجوننا. ولكن هذه خطية، وليست محبة. لقد مُنع موسى من دخول أرض الموعد لأنه احْتَدُّ على شعب إسرائيل
(سفر العدد ٢:٢٠-١١). - الْمَحَبَّةُ… لاَ تَظُنُّ السُّؤَ: يعني هذا حرفيًا أن “المحبة لا تختزن أي أخطاء” بل أنها تتخلص من جروح الماضي بدلًا من التشبث بها.
- يروي أحد الكُتّاب عن قبيلة في بولينيزيا الذين احتفظ فيها كل رجل بشيء يُذكره بكراهيته للآخرين. وكانت هذه الأشياء توضع على أسطح أكواخهم حتى لا تُنسى الإساءات سواء كانت حقيقية أو مُتوهمة. ومعظمنا يفعل نفس الشيء.
- المحبة الحقيقية “لا تفترض أبدًا أن أي فعل جيد قد يكون له دافع سيء… والمحبة الحقيقية لا تخترع أو تختلق أي شر.” كلارك (Clarke)
- الْمَحَبَّةُ… لاَ تَفْرَحُ بِالإِثْم: إنها تريد الأفضل للآخرين، وترفض أن تُنسب الإساءة الباطلة لهم، بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ. تستطيع المحبة دائمًا أن تقف مع وعلى الحق، لأنها نقية وفاضلة مثل الحق.
ج ) الآية (٧): أربعة أشياء أخرى تتسم بها المحبة: القوة، الإيمان، الرجاء، الصبر. يُطلق سبيرجن (Spurgeon) على هذه الفضائل الأربعة اسم “رفقاء المحبة الأربعة.”
٧وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
- كُلَّ شَيْءٍ: ربما كنا نأمل أن يختار بولس أي تعبير آخر إلا هذا! لأن كُلَّ شَيْءٍ يشمل كل الأشياء! يمكننا جميعًا أن نحتمل بعض الأشياء وأن نصدّق بعض الأشياء وأن نرجو بعض الأشياء وأن نصبر على بعض الأشياء، لكن الله يدعونا إلى محبة أبعد وأعمق له ولبضعنا البعض وللعالم الهالك.
- “يجب أن تكون لطيفًا جدًا تجاه القديسين، لكنك ستجد أن أفضلهم سوف يتحدى صبرك لأنهم ليسوا كاملين، تمامًا مثلك، فهُم لن يُظهروا لك دائمًا الجانب الأفضل فيهم، بل في بعض الأحيان يُظهرون عيوبهم. لذلك كن مستعدًا للتعامل مع ’كل شيء فيهم.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- “المحبة لا تطلب أن تكون الحياة سهلة: فهذا هو هدف محبة الذات. ولكن المحبة تُنكر نفسها وتضحي بنفسها حتى تنتصر لله، ولن يكون تاجُها مُبهرجًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- المحبة… تَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ: كلمة تَحْتَمِلُ يمكن أن تُترجم أيضًا تَستُر. وفي كلتا الحالتين، يأتي بولس بحق هام مع ما جاء في
بطرس الأولى ٨:٤ وَلكِنْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، لِتَكُنْ مَحَبَّتُكُمْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ شَدِيدَةً، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا.- “المحبة تستُر؛ أي أنها لا تعلن أبداً أخطاء الأشخاص الصالحين. فهناك بعض الفضوليين في الخارج الذين لا يتفحصون أبدًا أخطاء الإخوة، لكنهم يهرعوا نحو جيرانهم ليعلموهم بالأخبار اللذيذة، ثم ينطلقوا في الشارع صعودًا وهبوطًا كما لو أنهم قد انتُخبوا ليكونوا أبواق المدينة. ليس جيدًا بأي حال من الأحوال للرجال والنساء أن يكونوا ناقلين للإشاعات. ومع ذلك، فأنا أعرف أن البعض ليسوا مُتلهفين لنشر الإنجيل بقدر تلهفهم للتشهير بالآخرين. المحبة تقف في محضر الخطأ بإصبع موضوع على شفتيها.” سبيرجن (Spurgeon)
- “إخوتي وأخواتي، أتمنى لو نتمكن جميعًا من محاكاة محار اللؤلؤ. فعندما يتطفل جسيم مؤذٍ على المحار ويثيره ويحزنه، لا يفعل شيئًا سوى أنه يغطيه بمادة ثمينة مستخرجة من حياته، وبهذا يتحول هذا الدخيل إلى لؤلؤة. يا للعجب، يمكننا أن نفعل ذلك مع الاستفزازات التي نتلقاها من إخوتنا المؤمنين، حتى تتولد بداخلنا لآلئ الصبر واللُطف والترفُّق والتسامح من خلال الأشياء التي جرحتنا.” سبيرجن (Spurgeon)
- المحبة… تُصَدِّقُ كُلَّ شَيْء: نحن لا نُصدق الأكاذيب أبدًا، لكننا لا نُصدّق الشر ما لم يُثبت بالدليل القاطع. نحن نختار أن نصدق أفضل ما في الآخرين.
- “المحبة تصدق الآخرين تماماً. أعرف بعض الأشخاص الذين اعتادوا تصديق كل ما هو سيء، لكنهم ليسوا أولاد المحبة… أتمنى أن يتحول الثرثارون إلى المبالغة في الحديث عن فضائل الآخرين والانتقال من منزل إلى آخر مُختلقين قصصًا جميلة عن معارفهم.” سبيرجن (Spurgeon)
- المحبة… تَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ: المحبة لديها ثقة في المستقبل، وهي ليست متشائمة. فعندما تتأذى، فإنها لا تقول “سيظل الأمر هكذا إلى الأبد، بل وسيزداد سوء.” لكنها ترجو الأفضل وترجوه في الله.
- المحبة… تَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ: قد يستطيع معظمنا أن يتحمل كل شيء ويُصدق كل شيء ويرجو كل شيء، ولكن لفترة قصيرة! إن عظمة المحبة أغابي (agape) هو أنها تصبر على كل شيء وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء. إنها لا تستسلم، بل تُدمّر الأعداء بتحويلهم إلى أصدقاء.
- “إذا غضب إخوتك بلا سبب، فلتأسف عليهم، لكن لا تدعهم يغلبونك بدفعك نحو الغضب. كن ثابتًا في المحبة؛ اصبر على كل شيء، وليس على بعض الأشياء فقط، وذلك من أجل المسيح؛ حتى تُثبت أنك مؤمن حقيقي.” سبيرجن (Spurgeon)
د ) أفضل طريقة لفهم كلٍ من هذه هو أن تراها من خلال حياة يسوع.
- إن استبدالنا كلمة ’محبة‘ بجملة ’اسم يسوع‘ يبقى الوصف منطقيّاً للغاية. فيمكننا أن نقول بسهولة: يسوع يتأنى ويرفق؛ يسوع لا يحسد… ونستكمل هكذا حتى آخر الأصحاح.
- يمكننا قياس مدى نضجنا الروحي من خلال رؤية كيف يبدو الأمر عندما نضع اسمنا مكان كلمة ’المحبة.‘ هل يبدو الأمر سخيفًا تمامًا أم صعب التحقيق إلى حد ما؟
- هناك سبب جعل بولس يضع هذا الأصحاح وسط حديثه عن المواهب الروحية. فبولس يريد أن يُذكر مؤمنو كورنثوس بأن المواهب ليست هي مقياس النضج، بل المحبة الظاهرة.
ثالثًا. دوام المحبة
أ ) الآيات (٨-١٠): تصمد المحبة أكثر من جميع المواهب.
٨اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا. وَأَمَّا النُّبُوَّاتُ فَسَتُبْطَلُ، وَالأَلْسِنَةُ فَسَتَنْتَهِي، وَالْعِلْمُ فَسَيُبْطَلُ. ٩لأَنَّنَا نَعْلَمُ بَعْضَ الْعِلْمِ وَنَتَنَبَّأُ بَعْضَ التَّنَبُّؤِ. ١٠وَلكِنْ مَتَى جَاءَ الْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ.
- اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا: يناقش بولس التركيز المفرط الذي كان لدى مؤمني كورنثوس على مواهب الروح القدس. فيُبرهن لهم أن عليهم التركيز على المحبة أكثر من المواهب، لأن المواهب هي “حاويات” مؤقتة لعمل الله؛ أما المحبة فهي العمل نفسه.
- لذلك، فإن مواهب الروح القدس ملائمة للوقت الحاضر، لكنها ليست دائمة. إنها عطايا غير كاملة لزمن غير كامل.
- الْكَامِلُ: يقول بولس مَتَى جَاءَ الْكَامِلُ، عندئذٍ “ستتوقف” المواهب. لكن ما هو الكامل؟ بعض الذين يعتقدون أن المواهب المعجزية قد توقفت بعد الرسل يقولون إن الكامل يشير إلى انتهاء العهد الجديد، لكن هؤلاء مُخطئون. فجميع المُفسرين متفقون فعليًا على أن عبارة مَتَى جَاءَ الْكَامِلُ تتحقق عندما نكون في الحضور الأبدي مع الكامل، أي عندما نكون مع الرب إلى الأبد، إما من خلال المجيء الثاني للمسيح أو بانتهاء حياتنا على الأرض.
- بالنظر إلى الطريقة التي يستخدم بها العهد الجديد الكلمة اليونانية القديمة telos (للكامل) في فقرات أخرى، يتضح أنها تتحدث عن المجيء الثاني ليسوع (كورنثوس الأولى ٨:١، ٢٤:١٥، يعقوب ١١:٥، رؤيا يوحنا ٥:٢٠، ٧:٢٠، ٦:٢١ و ١٣:٢٢).
- الأَلْسِنَةُ سَتَنْتَهِي: كثير من الذين يعتقدون أن المواهب المعجزية انتهت مع الرُسُل (مثل جون ماكآرثر John MacArthur) يقولون أنه بما أن الفعل ’سَتَنْتَهِي‘ ليس مبنيًا للمجهول، فيمكن ترجمتها، ستنتهي الألسنة من تلقاء نفسها. ويبدو تحليلهم علميًا، ولكن جميع علماء اللغة اليونانية القديمة يتجاهلونه.
- حتى إن كانت هذه الترجمة صحيحة، فهي لا تشير إلى وقت انتهاء الألسنة. يقول جون ماكآرثر (John MacArthur) أن الألسنة قد انتهت إلى الأبد في العصر الرسولي. ولكن هذه الآيات لا تخبرنا أن “الألسنة ستتوقف من تلقاء نفسها،” بل تُخبرنا بأن الألسنة سَتَنْتَهِي فقط مَتَى جَاءَ الْكَامِلُ.
- اعتقد جون كالفن (John Calvin) أن كلمة سَتَنْتَهِي تتحدث عن الحالة الأبدية. “لكن متى يأتي ذاك الكمال؟ إنه يبدأ حقًا عند الموت، لأننا حينئذٍ نخلع العديد من الضعفات مع الجسد.” كالفن (Calvin)
- الأَلْسِنَةُ فَسَتَنْتَهِي: في استخدامه لفعلي سَتُبْطَلُ وسَتَنْتَهِي، بوحي من الروح القدس، لا يحاول بولس إن يقول إن النُّبُوَّاتُ والأَلْسِنَةُ والْعِلْمُ لها نهايات مختلفة. إنه ببساطة ماهر في الكتابة، ويقول الشيء نفسه بطريقتين مختلفتين. سينتهون، ولكن اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا.
- “لا يوجد في اللغة اليونانية أي اختلاف بين الفعلين اللذين يصفان انتهاء كل من النبوءات والألسنة. صحيح أن الفعل مع النبوَّات مبنى للمجهول (المؤمنون هم الأداة الضمنية)، بينما تُرجم الفعل مع الألسنة في صيغة المبني للمعلوم، لكن الاختلاف هو مجرد تغيير في الأسلوب ليس أكثر.” كيستميكر (Kistemaker)
- نَتَنَبَّأُ بَعْضَ التَّنَبُّؤِ: هذا دليل مُحكَم على أن النبوَّة ليست الوعظ، حتى الوعظ “بالوحي.” فمن يمكنه الاستماع إلى واعظ يعظ بطريقة مملة، ويسمي هذا بَعْضَ التَّنَبُّؤِ؟ يبدو أن الأمر أكثر من مجرد بَعْض!
- “الوعظ هو في الأساس دمج لمواهب التعليم والنصح، أما النبوَّة فلديها العناصر الأساسية للتنبؤ والإعلان.” فارنيل (Farnell) مُقتبس من كيستميكر (Kistemaker)
ب) الآيات (١١-١٢): أمثلة توضيحية للطبيعة المؤقتة للمواهب ولاستمرار المحبة.
١١لَمَّا كُنْتُ طِفْلاً كَطِفْل كُنْتُ أَتَكَلَّمُ، وَكَطِفْل كُنْتُ أَفْطَنُ، وَكَطِفْل كُنْتُ أَفْتَكِرُ. وَلكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلاً أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ. ١٢فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ. الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ، لكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ.
- لَمَّا كُنْتُ طِفْلًا: الأشياء الصبيانية تكون مناسبة للأطفال، والمواهب مناسبة لوقتنا الحالي، لكنها لن تكون مناسبة إلى الأبد.
- لا يحاول بولس أن يقول إننا إذا كنا ناضجين روحيًا، فلن نحتاج إلى مواهب روحية. لكنه يقول إننا إذا كنا ناضجين روحيًا، فلن نفرط في الاهتمام بالمواهب الروحية، خاصة على حساب المحبة.
- فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ: عندما نتمكن من رؤية يسوع وجهًا لوجه (ليس صورة مشوشة له)، ستختفي الحاجة إلى المواهب، وبالتالي ستزول. سوف يحجب حضور يسوع المُباشر مواهب الروح القدس. فعندما تُشرق الشمس، لا يكون هناك حاجة للأنوار الأضعف تأثيرًا.
- وَجْهًا لِوَجْهٍ: يستخدم بولس هذا المصطلح لوصف الشَرِكة الكاملة مع الله. يخبرنا الكتاب المقدس في
يوحنا الأولى ٢:٣ أننا عندما نصل إلى السماء، سنراه كما هو. فلن تكون هناك عوائق تحول دون علاقتنا بالله.- يقول سفر الخروج ١١:٣٣ أن الرب تكلم مع موسى وَجْهًا لِوَجْهٍ، كَمَا يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ. فتعبير وَجْهًا لِوَجْه هنا هو تعبير مجازي، يعني الشَرِكة الحرَّة المُنفتِحة. فلم ير موسى، ولما استطاع أن يرى وجه الله الآب في مجده. وهذا ما يعنيه يوحنا عندما يقول أن الله لم ينظُرُه أحد قط (يوحنا الأولى ١٢:٤). وبنفس المعنى الروحي الذي أتاح لموسى علاقة مع الله وَجْهًا لِوَجْه، يمكن أن يكون لنا نحن أيضًا علاقة حرة ومُنفتحة مع الله. ولكن بالمعنى المُطلق، سوف ننتظر حتى ذلك الحين، عندما نتحد مع يسوع في المجد.
- في سفر العدد ٨:١٢، يقول الرب عن موسى: ’عَيَانًا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ‘ وهذه العبارة هي مجرد أسلوب بلاغي، يخبر بعظمة العلاقة الحميمة الخالية من العوائق. فموسى لم يتكلم حرفيًا مع الله وجهاً لوجه، لكنه كان يستمتع بالحديث المباشر والحميم مع الرب. ولكن تعبير وَجْهًا لِوَجْه الذي يتحدث عنه بولس هنا هو الرؤية الحرفية وَجْهًا لِوَجْه.
- فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ: يتحدث بولس هنا مرة أخرى عن الشَرِكة الكاملة مع الله التي ستكون لنا يومًا ما. فعندما ننظر اليوم في مرآة، نرى الصورة واضحة تماماً، ولكن الوضع لم يكن كذلك في القديم، فالمرآة قديماً كانت تُصنع من معدن مصقول يُظهر صورة مشوشة بعض الشيء. ونحن نرى يسوع الآن بطريقة غير واضحة، ولكن في يومٍ ما سنراه بوضوح تام. سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ.
- اشتهرت مدينة كورنثوس بإنتاج بعض أفضل المرايا البرونزية في العصور القديمة، ولكن حتى أفضلها لم تقدم رؤية واضحة حقًا. فعندما نصل إلى السماء، سنرى الرب بكل وضوح.
- لا نستطيع أن نتعامل مع هذه المعرفة العظيمة ونحن في هذا الجانب من الأبدية. “إذا عرفنا أكثر عن طبيعتنا الخاطئة، قد نشعر باليأس؛ وإذا عرفنا أكثر عن مجد الله، قد نموت رُعبًا؛ إذا كان لدينا المزيد من المعرفة، بشرط أن يكون لدينا قدرة مماثلة على توظيفه، فقد نمتلئ بالغرور ونُعذَّب بالطموح. ولكن هناك في السماء، سوف تتقوى أذهاننا وأنظمتنا الداخلية لتلقي المزيد، دون الضرر الذي قد يصيبنا هنا بسبب تعدي حدود النظام الذي عينه الله بطريقة رائعة.” سبيرجن (Spurgeon)
- سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ: تعني هذه الجملة أن الله يعلم كل شيء عني، فمعرفتي عن الله جزئية الآن. ولكن في السماء، سأعرف الله كما يعرفني هو تماماً؛ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ. وهذا لا يعني أنني سأكون كُلِي المعرفة مثل الله، لكنه يعني أنني سوف أعرفه حسب قدرتي على الفهم.
- تُعد السماء ثمينة بالنسبة لنا لأسباب كثيرة. فنحن نتوق إلى أن نكون مع أحبائنا الذين انتقلوا قبلنا والذين نفتقدهم كثيرًا، ونتوق إلى أن نكون مع رجال ونساء الله العظماء الذين انتقلوا قبلنا في القرون الماضية. ونريد أن نسير في شوارع الذهب وأن نرى البوابات اللؤلؤية ونرى الملائكة حول عرش الله تعبده نهارًا وليلًا. ومع ذلك، فإن كل هذه الأشياء الثمينة ليست هي التي تجعل السماء “جنَّةً” حقًا. فما يجعل السماء جنَّةً حقًا هو حضور الرب الذي سيكون بلا عوائق وبلا قيود، وستكون عبارة “سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ” هي أعظم اختبار لوجودنا الأبدي.
- “لن تجذبنا كثيرًا شوارع الذهب ولن تُبهِرنا كثيرًا قيثارات الملائكة مقارنةً بالملك وسط العرش. إنه هو الذي سيجذب أنظارنا ويستحوذ على أفكارنا ويستأسر شعورنا وينقل كل عواطفنا المقدسة إلى أعلى درجات الحماسة السماوية. سوف نرى يسوع.” سبيرجن (Spurgeon)
- الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ: مواهب الروح القدس ضرورية ومناسبة لعصرنا الحاضر، مع أننا لم نصل بعد إلى النُضج التام ونعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ فقط. سيأتي يوم لا تكون فيه المواهب ضرورية، لكن ذلك اليوم لم يحن بعد.
- من الواضح إن وقت تحقيق هذا (حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ وسَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ) الذي يشير إليه بولس سيكون عند التواجد في مجد السماء مع يسوع. بالتأكيد، هذا هو الْكَامِلُ الذي تحدث عنه أيضًا في
كورنثوس الأولى ١٠:١٣. ووفقًا للسياق، لا يمكن أن يكون أي شيء آخر.
- من الواضح إن وقت تحقيق هذا (حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ وسَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ) الذي يشير إليه بولس سيكون عند التواجد في مجد السماء مع يسوع. بالتأكيد، هذا هو الْكَامِلُ الذي تحدث عنه أيضًا في
ج ) الآية (١٣): مُلخص دوام المحبة: المحبة ستثبُت إلى الأبد.
١٣أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ: الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ، هذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ.
- أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ: الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ، هذِهِ الثَّلاَثَةُ: ليست المساعي الثلاثة العظيمة للحياة المسيحية هي “المعجزات والقوة والمواهب” بل “الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ.” وعلى الرغم من أن المواهب ثمينة، وهي تُعطى من الروح القدس في هذه الأيام، إلا أنها لم تكن أبدًا تهدف إلى أن تكون محور أو هدف حياتنا المسيحية. فالهدف هو السعي وراء الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ.
- ما هو محور حياتك المسيحية؟ ما الذي تريده منها حقًا؟ يجب أن يرجع كل شيء إلى الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ. إذا لم يكن الأمر كذلك، فأنت بحاجة إلى إعادة ترتيب لأولوياتك بحسب مقاييس الله، وأن تضع تركيزك في مكانه المناسب.
- نظرًا لأن الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ مهمين للغاية، فمن الطبيعي أن نراها في العهد الجديد كله:
- مُتَذَكِّرِينَ بِلاَ انْقِطَاعٍ عَمَلَ إِيمَانِكُمْ، وَتَعَبَ مَحَبَّتِكُمْ، وَصَبْرَ رَجَائِكُمْ، رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ، أَمَامَ اللهِ وَأَبِينَا.
(تسالونيكي الأولى ٣:١) - وَأَمَّا نَحْنُ الَّذِينَ مِنْ نَهَارٍ، فَلْنَصْحُ لاَبِسِينَ دِرْعَ الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ، وَخُوذَةً هِيَ رَجَاءُ الْخَلاَصِ.
(تسالونيكي الأولى ٨:٥) - وَأَمَّا نَحْنُ الَّذِينَ مِنْ نَهَارٍ، فَلْنَصْحُ لاَبِسِينَ دِرْعَ الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ، وَخُوذَةً هِيَ رَجَاءُ الْخَلاَصِ
(غلاطية ٥:٥-٦) - أَنْتُمُ الَّذِينَ بِهِ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَأَعْطَاهُ مَجْدًا، حَتَّى إِنَّ إِيمَانَكُمْ وَرَجَاءَكُمْ هُمَا فِي اللهِ. طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ الْحَقِّ بِالرُّوحِ لِلْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ الْعَدِيمَةِ الرِّيَاءِ، فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ.
(بطرس الأولى ٢١:١-٢٢) - إِذْ سَمِعْنَا إِيمَانَكُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتَكُمْ لِجَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، مِنْ أَجْلِ الرَّجَاءِ الْمَوْضُوعِ لَكُمْ فِي السَّمَاوَاتِ، الَّذِي سَمِعْتُمْ بِهِ قَبْلًا فِي كَلِمَةِ حَقِّ الإِنْجِيلِ.
(كولوسي ١: ٤-٥) - لِهذَا السَّبَبِ أَحْتَمِلُ هذِهِ الأُمُورَ أَيْضًا. لكِنَّنِي لَسْتُ أَخْجَلُ، لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ. تَمَسَّكْ بِصُورَةِ الْكَلاَمِ الصَّحِيحِ الَّذِي سَمِعْتَهُ مِنِّي، فِي الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.
(تيموثاوس الثانية ١٢:١-١٣)
- مُتَذَكِّرِينَ بِلاَ انْقِطَاعٍ عَمَلَ إِيمَانِكُمْ، وَتَعَبَ مَحَبَّتِكُمْ، وَصَبْرَ رَجَائِكُمْ، رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ، أَمَامَ اللهِ وَأَبِينَا.
- وَلكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ: المحبة أعظمهن لأنها سوف تستمر، بل وستنمو، في الأبدية. عندما نكون في السماء، سيكون كل من الإِيمَانُ والرَّجَاءُ قد حققا غرضهما. فلن نحتاج إلى الإِيمَانُ عندما نرى الله وجهاً لوجه. ولن نحتاج إلى الرَّجَاءُ لمجيء يسوع بعد مجيئه. ولكننا سنظل نُحب الرب دائمًا وكذلك بعضنا البعض، وسننمو في هذه الْمَحَبَّة في الأبدية.
- الْمَحَبَّةُ هي أيضًا أعظمهن لأنها صفة الله (يوحنا الأولى ٨:٤)، أما الإيمان والرجاء ليسا جزءًا من طبيعة الله وشخصيته. فليس لله إِيمَانُ مثل إيماننا، لأنه لا “يضع ثقته” أبدًا في أي شخص خارج ذاته. وليس لدى الله رجَاءُ مثل رجاؤنا، لأنه يعرف كل شيء وهو يتحكم في كل شيء. ولكن الله محبة، وسيظل دائمًا هكذا.
- لحسن الحظ، نحن لسنا بحاجة إلى الاختيار بين الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ. فلا يحاول بولس أن يجعلنا نختار، لكنه يريد أن يؤكد لمؤمني كورنثوس أنه بدون الْمَحَبَّةُ كدافع وهدف، تكون المواهب مجرد أشياء تُشتتنا بلا معنى. إذا فقدت المحبة، فقدت كل شيء.