تفسير رسالة تسالونيكي الأولى – الإصحاح ١
المُرسَل إليهم والمستجيبون
“هذه الرسالة مثيرة للاهتمام؛ لأنَّها بكل تأكيد واحدة من أوَّل الرسائل المحفوظة لنا، التي خطّها الرسول بولس. وقد كانت أوَّل رسالة كتبها إلى المؤمنين الأوروبيين، وفيها حدَّد بوضوح شديد أساسيّات الحياة المسيحيّة.” غ. كامبل مورجان (G. Campbell Morgan)
أوَّلًا. تحية وشكر.
أ ) الآية (١): بولس يُحيِّي مؤمني تسالونيكي.
١بُولُسُ وَسِلْوَانُسُ وَتِيمُوثَاوُسُ، إِلَى كَنِيسَةِ ٱلتَّسَالُونِيكِيِّينَ، فِي ٱللهِ ٱلْآبِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلَامٌ مِنَ ٱللهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.
- بُولُسُ وَسِلْوَانُسُ وَتِيمُوثَاوُسُ: كان بولس من رجال الله ورسله المُميَّزين، لكنَّه عادةً لم يكن يعمل وحده. فكلّما استطاع، كان بولس يعمل مع فريق. وبولس يذكر هنا الرجال الذين كان يعمل معهم. كان سِلْوَانُس (المعروف أيضًا باسم سيلا) رفيقًا لبولس منذ زمان بعيد وصاحب خبرة عريضة. فقد رافق بولس في رحلته التبشيريّة الثانية وسُجِن وأُطلق سراحه من السجن في فيلبي مع بولس (أعمال الرسل ١٩:١٦-٣٠). وعندما قَدِم بولس إلى تسالونيكي لأول مرَّة، جاء سيلا معه (أعمال الرسل ١:١٧-٩). لذلك كان أهل تسالونيكي يعرفون سِلْوَانُس جيدًا. كان تِيمُوثَاوُس من سكان لِسترَة، وهي مدينة في مقاطعة غلاطية (أعمال الرسل ١:١٦-٣). وكان ابنًا لأبٍ يونانيّ (أعمال الرسل ١:١٦) وأمٍّ يهوديّة اسمها أفنيكي (تيموثاوس الثانية ٥:١). وكان قد تعلّم الكتاب المُقَدَّس منذ نعومة أظافره من والدته وجدته (تيموثاوس الثانية ٥:١، ١٥:٣). وكان تيموثاوس رفيقًا وزميلًا لبولس جديرًا بالثقة، وهو قد رافق بولس في رحلاته التبشيريّة العديدة. وكان بولس قد سبق وأرسل تيموثاوس إلى تسالونيكي قبل هذه المَرَّة (تسالونيكي الأولى ٢:٣).
- إِلَى كَنِيسَةِ ٱلتَّسَالُونِيكِيِّينَ: أسّس بولس بنفسه الكنيسة في تسالونيكي في رحلته التبشيريّة الثانية (أعمال الرسل ١:١٧-٩). وكان قد قضى في المدينة فترة قصيرة فقط لأنَّ أعداء الإنجيل أجبروه على المغادرة. ومع ذلك بقيت كَنِيسَة ٱلتَّسَالُونِيكِيِّينَ حيّة ونشطة. وعلى الرغم من اضطرار بولس إلى ترك هذه الكنيسة الصغيرة فجأةً، إلَّا أنَّ اهتمامه العميق بهم دفعه إلى كتابة هذه الرسالة. في رحلته التبشيريّة الثانية، سُجِن بولس في فيلبّي ثُمَّ أُطلق سراحه من السجن بمعجزة – ليُطرَد من المدينة. ثُمَّ جاء إلى تسالونيكي، العاصمة المزدهرة لمقاطعة مكدونية (شمال اليونان)، الواقعة على الطريق الإغناطي الشهير. وبعد ثلاثة سبوت فقط من الخدمة المزدهرة (أعمال الرسل ٢:١٧)، اضطرّ إلى الفرار من الغوغاء الغاضبين. فانتقل إلى بيريّة – حيث تمتّع مرَّة أخرى بعدة أسابيع من الخدمة، لكن سرعان ما طرده نفس الغوغاء التسالونيكيّون. كانت محطّته التالية هي أثينا، حيث وعظ عظة جيّدة، لكنَّها جاءت بخليط من النتائج. وبحلول الوقت الذي وصل فيه إلى كورنثوس، كان «فِي ضَعْفٍ، وَخَوْفٍ، وَرِعْدَةٍ كَثِيرَةٍ» (كورنثوس الأولى ٣:٢). وفي هذه المرحلة من الرحلة التبشيريّة الثانية، يبدو أنَّ بولس كان مُحبَطًا جدًّا كمبشّر. من المحتمل أنَّ بولس، أثناء تواجده في كورنثوس، كان قلقًا جدًّا على الكنائس التي سبق وأسّسها، وكان يتساءل عن حالها. وأثناء إقامته في كورنثوس، جاء إليه سيلا وتيموثاوس من تسالونيكي ببشرى عظيمة: أنَّ الكنيسة هناك قويّة. استولى الحماس على بولس إلى درجة أنَّه عجَّل بإرسال هذه الرسالة إلى تسالونيكي، التي ربّما كانت أوَّل رسالة يكتبها إلى أيّة كنيسة. ولقد كتبها بعد بضعة أشهر فقط من تأسيس الكنيسة في تسالونيكي. وبعد كتابة هذه الرسالة وإرسالها، تمتّع بولس بخدمة مستديمة ومثمرة في كورنثوس – ثُمَّ عاد في نهاية الأمر إلى تسالونيكي. تفترض هذه الرسالة حقيقة أساسيّة: رأى بولس أنَّه من المهم (بل ومن الضروريّ) تنظيم هؤلاء المؤمنين الجدد في جماعة تتبادل الاهتمام، والرعاية، والشركة. كان بولس “يدرك خطر ترك كنائسه الوليدة تتغذّى على ذكرى خافتة لوعظه التقيّ. كان التنظيم المحلي، حتّى ذلك الحين، بدائيًا، لكن من الواضح أنَّه كان كافيًا للحفاظ على نفسه وعلى استمرار قيام الكنيسة بعملها، وذلك في غياب بولس وانقطاع توجيهاته عنهم.” موفات (Moffatt)
- نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلَامٌ مِنَ ٱللهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: حيَّى بولس مؤمنين تسالونيكي بهذه التحية المعتادة، وأشاد بهم في نعمة الله الآب وسلامه. كتب موريس (Morris) بخصوص الكلمات ’نِعْمَةٌ لَكُمْ‘: “إنّ تغيير الصيغة اليونانيّة، وإن كان طفيفًا، [من «خارين» إلى «خاريس»]، يؤثّر على المعنى جدًّا. فالفرق في المعنى كبير بين ’تحية‘ و’نعمة.‘ فالنعمة تعني في الأساس ’ما يسبّب الفرح أو المتعة،‘ وهو ظلّ من ظلال المعنى قد لا نزال نشعر به عندما نتحدّث عن النعيم أو التنعُّم. والنعمة تتعلّق بـ’الإنعام‘ أيضًا، وكذلك ’الفضل،‘ وبالذات فضل الله على الإنسان في تسديد احتياجاته الروحيّة في المسيح.” كتب هيبرت (Hiebert) بخصوص ٱللهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: “إنَّ عبارة بولس، التي تُخضِع الاثنين (الله والرب يسوع) لعمل حرف الجر «من» (en)، تضع الاسمين جنبًا إلى جنب على قدم المساواة. إنَّها دليل واضح على إيمانه بألوهيّة يسوع المسيح.” “من المهمّ أنْ نلاحظ أنَّ الكلمات الأولى من تسالونيكي الأولى هي في الشكل المعتاد استخدامه في بداية الخطابات في تلك الفترة. وما يلي ليس أطروحة لاهوتيّة، بل خطاب حقيقيّ ناشئ عن الموقف الذي تعرّض له الرسول وأصدقاؤه.” موريس (Morris)
ب) الآية (٢): شُكر بولس لله.
٢نَشْكُرُ ٱللهَ كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، ذَاكِرِينَ إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِنَا.
- نَشْكُرُ ٱللهَ كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ: عندما فكّر بولس في مؤمني تسالونيكي، امتلأ قلبه بالشكر. فبولس هو الذي أنشأ الكنيسة هناك في ظروف غير مثالية، حيث أُجبِر على ترك المدينة بعد ثلاثة أسابيع معهم فقط (أعمال الرسل ١:١٧-١٠). رغم ذلك، كانت الكنيسة قويّة ومُفعَمة بالحياة. وكان بولس يعلم أنَّ هذا العمل يفوق قدراته وأنّه عمل يخصّ الله.
“الطبيعة المتكرّرة للشكر مُتضمَّنة أيضًا في استخدام الفعل المضارع. فقد كانوا يمارسون شكر الله “باستمرار، دون تفويت يوم واحد.” هيبرت (Hiebert) - ذَاكِرِينَ إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِنَا: عندما كان بولس يصلّي من أجل الأفراد والكنائس، لم يكن يقضي بالضرورة وقتًا طويلًا في الشفاعة. بل غالبًا ما كان يذكر الكنيسة أو الشخص في الصلاة (رسالة رومية ٩:١، رسالة أفسس ١٦:١، رسالة فليمون ٤:١).
“وليس بولس وحده، فصيغة الجمع تعني أنَّ المبشّرين الثلاثة كانوا يصلّون معًا.” موفات (Moffatt)
ج) الآيات (٣-٤): لماذا شكر بولس الله على مؤمني تسالونيكي.
٣مُتَذَكِّرِينَ بِلاَ انْقِطَاعٍ عَمَلَ إِيمَانِكُمْ، وَتَعَبَ مَحَبَّتِكُمْ، وَصَبْرَ رَجَائِكُمْ، رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ، أَمَامَ اللهِ وَأَبِينَا. ٤عَالِمِينَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمَحْبُوبُونَ مِنَ اللهِ اخْتِيَارَكُمْ.
- مُتَذَكِّرِينَ بِلَا ٱنْقِطَاعٍ عَمَلَ إِيمَانِكُمْ: كانت هناك أشياء في المؤمنين في تسالونيكي لم يقدر بولس أنْ ينساها، وكان يتذكّرها دائمًا. وما كان يتذكّره عنهم، جعله يشعر بالشكر. إنَّ شكر بولس لم ينبع من تقدير جميع المؤمنين في تسالونيكي له. فإنَّ بولس، فيما بعد، أفرد إصحاحًا كاملًا للدفاع عن نفسه وعن خدمته ضد الاتهامات الباطلة ومحاولة تشويه سُمعته. ولم ينبع شكر بولس من كمال مؤمني تسالونيكي أخلاقيًّا. ففي جزء لاحق من الرسالة، يحذّرهم بولس بشدَّة من التقصير في مسألة النجاسة الجنسية.· ولم ينبع شكر بولس من صحّة عقيدة مؤمني تسالونيكي. بل كان عليه تصحيح بعض أفكارهم الخاطئة في ذلك المجال أيضًا.
- عَمَلَ إِيمَانِكُمْ، وَتَعَبَ مَحَبَّتِكُمْ، وَصَبْرَ رَجَائِكُمْ، [في] رَبّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ: رغم المشاكل، كان بولس ممتنًا جدًّا لله من جهة أهل تسالونيكي؛ لأنَّ عمل الروح القُدُس في وسطهم لا يمكن إنكاره ولأنّ التغيير الذي جرى في حياتهم كان رائعًا. فكانت الفضائل المسيحيّة الثلاث الكبرى واضحة: الإيمان والمحبّة والرجاء. “هذه هي المَرَّة الأولى، زمنيًا، في كتابات بولس التي يرد فيها هذا الثلاثي الشهير: الإيمان، المحبّة، الرجاء. لكنَّ تركيز بولس ليس على هذه الفضائل وحدها، بل على ما تنتجه.” هيبرت (Hiebert) فإيمانهم أنتج عملًا – بحكم طبيعة الإيمان الحقيقيّ. ومحبّتهم أنتجت تعبًا. هناك نوعان مختلفان من الكلمات اليونانيّة بمعنى العمل: إرغون (ergon) وكوپُس (kopos). تعني كلمة إرغون: ’شيء ممتع ومنشط،‘ أما كلمة كوپُس فتعني: ’الكدح الشاقّ الذي يسبّب العرق.‘” هيبرت (Hiebert) لقد أنتج رجاؤهم صبرًا، وهو التحمّل مع طول أناة، الذي لا نحتاج إليه للبقاء على قيد الحياة في أوقات الشدّة فقط، بل وللانتصار فيها.
- عَالِمِينَ أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ ٱلْمَحْبُوبُونَ مِنَ ٱللهِ ٱخْتِيَارَكُمْ: ذكَّرهم بولس بأنّ الله أحبّهم (ٱلْمَحْبُوبُونَ) وأنّه اختارهم (ٱخْتِيَارَكُمْ). والاثنان يسيران جنبًا إلى جنب. فعندما نحبّ شخصًا ما، فإننا نختاره بصورة طبيعيّة.
“كانت عبارة ’ٱلْمَحْبُوبُونَ مِنَ ٱللهِ‘ من العبارات التي يستعملها اليهود بشأن رجال عظام مثل موسى وسليمان فقط، وبشأن شعب إسرائيل نفسه. أمَّا الآن فقد امتدّ أعظم امتياز لأعظم رجال في شعب الله المختار إلى أشدّ الأُمَم اتّضاعًا.” باركلي (Barclay)
تشرح الآيات التالية سبب ثقة بولس الشديدة في علمه باختيار الله إياهم (عَالِمِينَ … مِنَ ٱللهِ ٱخْتِيَارَكُمْ). فقد رأى بولس علامات واضحة على أنّ:
“هؤلاء التسالونيكيين هم من مختارون من الله.” في عظة عن المقطع التالي، وجد تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) أربعة أدلّة على اختيارهم:- كلمة الله تؤدّي عملها بقوّة (أَنَّ إِنْجِيلَنَا لَمْ يَصِرْ لَكُمْ بِٱلْكَلَامِ فَقَطْ، بَلْ بِٱلْقُوَّةِ أَيْضًا).
- استقبال كلمة الله بضمان كبير (وَبِيَقِينٍ شَدِيدٍ).
- الرغبة في أن يكونوا مثل يسوع (وَأَنْتُمْ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِنَا وَ[نحن] بِالرَّبِّ).
- وجود الفرح الروحيّ في الخدمة الروحيّة (فِي ضِيقٍ كَثِيرٍ، بِفَرَحِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ).
ثانيًا. سبب وأثر التغييرات في حياة تسالونيكي.
أ ) الآية (٥): تَسبّب الإنجيل في حدوث تغييرات في حياة أهل تسالونيكي.
٥أَنَّ إِنْجِيلَنَا لَمْ يَصِرْ لَكُمْ بِٱلْكَلَامِ فَقَطْ، بَلْ بِٱلْقُوَّةِ أَيْضًا، وَبِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَبِيَقِينٍ شَدِيدٍ، كَمَا تَعْرِفُونَ أَيَّ رِجَالٍ كُنَّا بَيْنَكُمْ مِنْ أَجْلِكُمْ.
- أَنَّ إِنْجِيلَنَا لَمْ يَصِرْ لَكُمْ بِٱلْكَلَامِ فَقَطْ: الإنجيل ليس مُجرَّد كلام. ففي الثقافة الحديثة، توجد وفرة في المعلومات وكثرة من وسائل الترفيه، وكثيرًا ما تكون مُجرَّد كلام. بَيْدَ أنَّ الإنجيل أكثر من مُجرَّد كلام: إنَّه يملك القوّة أيضًا.
- بَلْ بِٱلْقُوَّةِ أَيْضًا: رسالة يسوع المسيح تملك قوّة. تملك قوّة على عمل المعجزات، وقوّة على إجراء آيات عجيبة من الله. والأفضل من ذلك كله، أنَّها تملك القوة على تغيير الأذهان والقلوب والحياة.
كتب توماس (Thomas) بخصوص القوّة: “لا يجب الخلط بينها وبين ديناميس (أي صيغ الجمع) التي تعني ’المعجزات.‘ (كورنثوس الأولى ١٠:١٢؛ رسالة غلاطية ٥:٣). فصيغة المفرد لا تدلّ على مظاهر خارقة للطبيعة، ولكن لا تستبعدها.”
“يفهم البعض كلمة القوّة بمعنى المعجزات. لكنني أطبّق الكلمة على القوّة الروحيّة للتعليم … إنَّها صوت الله الحي، الذي لا ينفصل عن تأثيره، مقارنةً بفصاحة البشر الفارغة والضعيفة.” كالفين (Calvin) - وَبِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ: إنَّه رسالة من الروح القُدُس، من شخص حي، يعمل في قلوب السامعين، لتبكيتهم، وتعزيتهم، وتعليمهم. فإذا كان الواعظ يتحدّث فقط، لكان الوعظ مسألة كلام فقط، ولكن عندما يعمل الروح القُدُس بواسطة الكلمة، فإنه يُجري عملًا روحيًّا عظيمًا. أحيانًا نستهين بالعمليات الروحيّة التي تُجريها كلمة الله. فهناك عمل روحيّ لكلمة الله يتجاوز القيمة التربوية الأساسيّة من تعلُّم الإنجيل.
- وَبِيَقِينٍ شَدِيدٍ: إنَّه رسالة تمّ تقديمها بِيَقِينٍ شَدِيدٍ. وهذا يصف الواعظ الذي يؤمن حقًّا بما يعظ به. فلا يوجد بديل لهذا اليقين، وإذا لم يملكه الواعظ، فينبغي له ألاَّ يعتلي المنبر.
ب) الآية (٦): تجاوب أهل تسالونيكي مع الإنجيل بأن صاروا أتباعًا.
٦وَأَنْتُمْ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِنَا وَبِالرَّبِّ، إِذْ قَبِلْتُمُ ٱلْكَلِمَةَ فِي ضِيقٍ كَثِيرٍ، بِفَرَحِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ.
- وَأَنْتُمْ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِنَا وَبِالرَّبِّ: قد توقّف أهل تسالونيكي عن اتّباع أمور أخرى، لكنّهم تبعوا بولس والرب. يقول بولس إنَّه أحسنوا بأن يتبعوه (يتمثّلوا به)، وهو لم يستحِ أنْ يقول: ’اتبعوني‘ لأنَّه كان يعلم إلى أين هو ذاهب. هذا يبيّن أنَّ رسالة بولس تشتمل على عنصر التلمذة الشخصيّة. ويجوز لنا القول إنَّ بولس قاد هؤلاء المؤمنين التسالونيكيين شخصيًّا في حياتهم الروحيّة. فقد كانوا يرون حياته ويتشجّعون للاقتداء به. كـرّر بولس هذه الفكرة عدّة مَرّات: «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي مَعًا أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ، وَلَاحِظُوا ٱلَّذِينَ يَسِيرُونَ هَكَذَا كَمَا نَحْنُ عِنْدَكُمْ قُدْوَةٌ». (رسالة فيلبّي ١٧:٣) «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِٱلْمَسِيحِ». (كورنثوس الأولى ١:١١)
- إِذْ قَبِلْتُمُ ٱلْكَلِمَةَ فِي ضِيقٍ كَثِيرٍ: تميّز مؤمنو تسالونيكي بأنّهم قبلوا الكلمة، حتّى وإن كان ذلك فِي ضِيقٍ كَثِيرٍ. فالرسالة التي سمعوها أتت بشدائد. لكنّهم قبلوها، فشكر بولس الله عليهم. “تشير كلمة ’ضيق‘ خارج الكتاب المُقَدَّس عادةً إلى ضغط حرفيّ من نوع شديد. فالفعل المقابل لها، على سبيل المثال، كان يُستخَدم بمعنى عصر العنب في صناعة النبيذ حتّى ينفجر، ومن ثَمَّ صارت الكلمة تُستَعمل مجازيًّا بمعنى صعوبة كبيرة جدًّا.” موريس (Morris)
- بِفَرَحِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ: عندما تعرّض مؤمنو تسالونيكي للـضيق بسبب قبولهم الكلمة، لم يواجهوه بروح الانكسار والهزيمة، بل واجهوه بِفَرَحِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. قبل مجيء بولس إلى تسالونيكي بوقت قصير، اختبر هو وسيلا شخصيًّا مبدأ التمتّع بفرح الروح القُدُس، حتّى في ضيقات كثيرة – وذلك عندما رنّما في سجن فيلبّي على الرغم من سلاسلهما ومعاناتهما. لقد كانا قدوة لمؤمني تسالونيكي بتحليهم بهذه الروح نفسها.
ج) الآية (٧): تجاوب أهل تسالونيكي مع الإنجيل بأن أصبحوا قدوة.
٧حَتَّى صِرْتُمْ قُدْوَةً لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ فِي مَكِدُونِيَّةَ وَفِي أَخَائِيَةَ.
- حَتَّى صِرْتُمْ قُدْوَةً: أوّلًا، كان بولس قدوة لمؤمني تسالونيكي. ثُمَّ أصبحوا هم قُدْوَةً لغيرهم. وهكذا بالضبط يجب أن يجري عمل الله.
- لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ فِي مَكِدُونِيَّةَ وَفِي أَخَائِيَةَ: كان المؤمنون فِي مَكِدُونِيَّةَ وَفِي أَخَائِيَةَ بحاجة إلى قدوة، فقام أهل تسالونيكي بتسديد هذه الحاجة. رغم أنَّ اتّباعهم ليسوع لم يبدأ إلاَّ منذ زمن قصير. وكمؤمنين، نحتاج دائمًا إلى آخرين لكي يُظهِروا لنا كيفية اتّباع يسوع المسيح، أكثر من حاجتنا إلى السماع عن كيفية اتّباعه.
د ) الآيات (٨-١٠): تجاوب أهل تسالونيكي بالإعلان عن كلمة الربّ للآخرين.
٨لأَنَّهُ مِنْ قِبَلِكُمْ قَدْ أُذِيعَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ، لَيْسَ فِي مَكِدُونِيَّةَ وَأَخَائِيَةَ فَقَطْ، بَلْ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَيْضًا قَدْ ذَاعَ إِيمَانُكُمْ بِاللهِ، حَتَّى لَيْسَ لَنَا حَاجَةٌ أَنْ نَتَكَلَّمَ شَيْئًا. ٩لأَنَّهُمْ هُمْ يُخْبِرُونَ عَنَّا، أَيُّ دُخُول كَانَ لَنَا إِلَيْكُمْ، وَكَيْفَ رَجَعْتُمْ إِلَى اللهِ مِنَ الأَوْثَانِ، لِتَعْبُدُوا اللهَ الْحَيَّ الْحَقِيقِيَّ، ١٠وَتَنْتَظِرُوا ابْنَهُ مِنَ السَّمَاءِ، الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، يَسُوعَ، الَّذِي يُنْقِذُنَا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي.
- لِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِكُمْ قَدْ أُذِيعَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ: لقد كان هذا جزءًا من القدوة الحسنة الذي قدّمها المؤمنون التسالونيكيون. معنى ’أُذِيعَتْ‘: دَوَّت ’بصوت عالٍ رنّان، كصوت انفجار البوق.‘ العمل الحسن الذي أجراه الربّ بين أهل تسالونيكي صار معروفًا في جميع أنحاء المنطقة، فصار الجميع يتحدّثون عن التغييرات التي جرت.
- في مدينة تجارية عالمية مثل تسالونيكي، يمكن للخبر السارة أنْ ينتشر فِي كُلِّ مَكَانٍ ليغطّي الأرض.
- قَدْ ذَاعَ إِيمَانُكُمْ بِٱللهِ، حَتَّى لَيْسَ لَنَا حَاجَةٌ أَنْ نَتَكَلَّمَ شَيْئًا: قال بولس: ’أنتم، يا مؤمني تسالونيكي، تُذيعون كلمة الربّ على نحو فعّال إلى درجة أنّكم جعلتموني بلا عمل! حَتَّى لَيْسَ لَنَا حَاجَةٌ أَنْ نَتَكَلَّمَ شَيْئًا!‘
- يزاوج بولس بين فكّرتين: قَدْ أُذِيعَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ وقَدْ ذَاعَ إِيمَانُكُمْ بِٱللهِ. وهذان الجانبان ضروريّان إن أرادت الكنيسة نشر الإنجيل. أوّلًا، هم يحتاجون إلى رسالة لنشرها، وتلك الرسالة تحتاج أوّلًا إلى التأثير على حياتهم الخاصة. وثانيًا، هم بحاجة إلى أنْ يُذاع الإيمان، حتّى يُذاع إيمانهم بالله في العالم أجمع. “إن مُجرَّد التبشير بالإنجيل قد نجح في إقناع الخطاة وهدايتهم؛ لكنَّ حياة أتباع المسيح المخلصين، كدليل على صحة هذه العقائد، قد نجح في ذلك أكثر بكثير.” كلارك (Clark)
- “قد تساءل الجميع: ’لماذا، ماذا حدث لهؤلاء التسالونيكيين؟ لقد كسر هؤلاء الناس أصنامهم: وصاروا الآن يعبدون الإله الواحد ويثقون في يسوع. فلم يعودوا سِكّيرين، غير صادقين، غير طاهرين، ومثيرين للخصام.‘ لقد كان الجميع يتحدّثون عمّا جرى لهؤلاء الأشخاص الذين آمنوا. آه لو أذيعت اختبارات الإيمان الوفيرة والواضحة والفريدة والمقنعة! آه لو أذيعت كلمة الله! فالمؤمنين الجدد هم أفضل إعلانات وأقوى حجج لدينا.” سبيرجن (Spurgeon)
- كَيْفَ رَجَعْتُمْ إِلَى ٱللهِ مِنَ ٱلْأَوْثَانِ، لِتَعْبُدُوا ٱللهَ ٱلْحَيَّ ٱلْحَقِيقِيَّ، وَتَنْتَظِرُوا ٱبْنَهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ: عندما قبل أهل تسالونيكي كلمة الله من بولس، استجابوا لها بترك ٱلْأَوْثَانِ وبتكريس أنفسهم لعبادة وخدمة ٱللهَ ٱلْحَيَّ ٱلْحَقِيقِيَّ. لقد ثبتت صحة قبولهم للكلمة وإيمانهم بالله لأنهم عملوا شيئًا بكلمة الله.
- لِتَعْبُدُوا ٱللهَ ٱلْحَيَّ ٱلْحَقِيقِيَّ: يبدو أن الفعل douleuo (تَعْبُدُوا أو تخدموا) لم يستخدم قط بالمعنى الدينيّ في الأدب الوثني. ويقتبس هيبرت (Hiebert) كلام ديني (Denney) فيقول: “لم يكن ممكنًا لليونانيّ أو الرومانيّ أنْ يستوعب فكّرة ’خدمة‘ إله … فلم يكن لها مجال في دينه. إنَّ تصوّره للآلهة لم يسمح بذلك. وإن كان المقصود أنْ تكون الحياة خدمة أخلاقية تُقدَّم إلى الله، فيجب أن تكون لإله مختلف تمامًا عن أي إله ورثه عن أجداده.”
- وَتَنْتَظِرُوا ٱبْنَهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ: “علامة من علامات النعمة السامية هي عندما يتوقّع المؤمن أن يأتي ربّه، فيعيش في كل لحظة وفقًا لِمَا يتوقّعه منه. إذا علمنا أنا وأنت الليلة أنَّ الربّ آتٍ قبل انتهاء هذه الخدمة، فبأي حالة قلبية سنجلس في هذه المقاعد؟ هذه هي الحالة القلبية التي يجب أن نكون عليها دومًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- يَسُوعَ، ٱلَّذِي يُنْقِذُنَا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلْآتِي: أشار بولس إلى جوهر الخلاص بقوله إنَّ يسوع يُنْقِذُنَا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلْآتِي. فنحن مُخلِّصون من شيءٍ ما، وهذا الشيء هو الغضب العادل لله القدّوس. في مكان لاحق في هذه الرسالة، استخدم بولس تعبير ’لِأَنَّ ٱللهَ لَمْ يَجْعَلْنَا لِلْغَضَبِ‘ (رسالة تسالونيكي الأولى ٩:٥) للإشارة إلى خلاص الله لشعبه في سياق الغضب القادم على العالم في الأيام الأخيرة. فربَّما كان يفكّر في نفس الفكّرة هنا. “عند استخدام ’الغضب‘ (أورغِس) كاصطلاح فنّي، كما هو الحال دائمًا في العهد الجديد، يكون بمعنى الفترة التي تسبق حكم المسيح في مملكته على الأرض مباشرةً، عندما يبتلي الله سكان الأرض بسلسلة لا مثيل لها من الضربات عقابًا على رفضهم لمشيئته.” توماس (Thomas) يجب تجنب هذا الغضب بأي حال، سواء كان يعني غضب الضيقة العظيمة أو غضب الأبديّة. “يمكن أن يتخيّل الرجل الجبان مخاوف هائلة ورهيبة؛ نارًا، سيفًا، آلات تعذيب، رصاصًا ذائبًا، قطرانًا يغلي، ونحاسًا مُحمًّى. بَيْدَ أنَّ هذا كله لا شيء مُقارنةً بالغضب الآتي، بالعذاب الأبديّ، الذي لن يستطيع رافضو النعمة أنْ يتجنّبوه أو يتحمّلوه.” تراب (Trapp)