سِفر يونان – الإصحاح ١
هروب يونان من الله
أولًا. محاولة هروب يونان
أ ) الآيات (١-٢): دعوة الله ليونان.
١وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ قَائِلاً: ٢«قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي».
١. وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ: كلَّم الله يونان بأسلوبه القوي والمُتميّز، وطلب منه أمرين: أولًا، اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى؛ ثانيًا، نَادِ عَلَيْهَا – أي وبّخهم على خطيتهم وادعهم إلى التوبة.
٢. اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى: كانت مدينة نِينَوَى عاصمة الإمبراطورية الأشورية، وكانت كبيرة وبارزة في زمانها. لم تكن نينوى من مدن إسرائيل؛ وها هو الله قد دعا يونان ليذهب إلى مدينة وثنية أممية ليدعو شعبها إلى التوبة.
• يذكر المؤرخون القدماء أن نينوى كانت المدينة الأبرز في العالم، وعاصمة شامخة لإمبراطورية جبّارة – ولا ريب أن دخول مدينة كهذه كان أمرًا مُهيبًا.
٣. لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي: طلب الله من يونان أن يذهب لأنه رأى شَرُّهُمْ، فالله لا يُخفى عليه شر الإنسان مهما كان. إنه يراه كلّه. وقد يبلغ الشر أحيانًا الحد الذي يستوجب إنذار الله الخاص ودينونته.
ب) الآية (٣): محاولة يونان للهرب من دعوة الله.
٣فَقَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، فَنَزَلَ إِلَى يَافَا وَوَجَدَ سَفِينَةً ذَاهِبَةً إِلَى تَرْشِيشَ، فَدَفَعَ أُجْرَتَهَا وَنَزَلَ فِيهَا، لِيَذْهَبَ مَعَهُمْ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ.
١. فَقَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ: كان يونان نبيًا متردِّدًا في القيام بما أمره به الرب، ولا يرغب في تنفيذه. وهناك عدة أسباب محتملة لذلك.
• ربما كان السبب أنه قد كُلِّف بمهمة يصعب القيام بها. ويقدّم لنا ناحوم ٣: ١-٤ تصورًا واضحًا عن مدى شرّ أهل نينوى. لذلك، كان لدى يونان كل الأسباب التي تجعله يتوقع، في أفضل الأحوال، أن يُستهزأ به ويُعامل كأحمق. بل كان من المحتمل أن يُهاجم ويُقتل إن فعل ما أمره به الرب.
• كان السبب أيضًا أن يونان لم يُرِد للأشوريين في نينوى أن يفلتوا من دينونة الله. تخيّل شخصًا يهوديًا يعيش في نيويورك خلال الحرب العالمية الثانية يسمع الله يقول: “سأُنزل دينونة رهيبة على ألمانيا، وأريدك أن تذهب إلى برلين وتُخبر الألمان النازيين أن يتوبوا.” لكنه بدلًا من طاعة الأمر، يتجه الشخص إلى سان فرانسيسكو ويستقل سفينة متجهة إلى هونغ كونغ.
• قد نتأمل في الأسباب التي جعلت يونان لا يريد أن يطيع الله في ذلك الأمر، لكن من الأفضل أن نفكّر في الأسباب التي تجعلنا نحن لا نقوم بما يأمرنا الله به. لقد قال الله ليونان أن يذهب ويكرز؛ وكل مؤمن اليوم لديه نفس الوصية في متى ٢٨: ١٩-٢٠. ومع وجود مثال يونان أمامنا، تصبح الأعذار التي لدينا لعصيان أمر الله أقل بكثير من تلك التي كانت لدى يونان.
٢. لِيَهْرُبَ إِلَى تَرْشِيشَ: كان يُعتقد أن مدينة تَرْشِيش البعيدة تقع في أطراف الأرض، ودائمًا ما ارتبطت في الكتاب المقدس بالسفن. أراد يونان أن يبتعد قدر المستطاع ليهرب من محضر الله، لكنها كانت محاولة عقيمة.
• كانت نينوى تقع شرقي إسرائيل، في حين كانت تَرْشِيش في أقصى الغرب تقريبًا، على ساحل ما يُعرف اليوم بإسبانيا، بعد مضيق جبل طارق. وعندما قرّر يونان التوجّه إلى تَرْشِيش، كان يقصد أن يبتعد قدر الإمكان عن نينوى وعن دعوة الله التي أُرسل إليها.
٣. وَوَجَدَ سَفِينَةً ذَاهِبَةً إِلَى تَرْشِيشَ: لا شك أن يونان شعر برغبة في الذهاب إِلَى تَرْشِيشَ. كان هناك دافع داخلي يقوده إليها، لكنه كان دافعًا خطيرًا. ويمكننا أن نأخذ يونان مثالًا على خطورة القيام بالأشياء بناءً على مجرد دافع أو مشاعر.
• “كثيرًا ما ألتقي بأشخاص يقولون: ’شعرت أنه ينبغي أن أفعل كذا وكذا. جاءني هذا الإحساس فجأة لأفعل كذا وكذا.‘ ولكنني أرتاب كثيرًا من هذه الدوافع المفاجئة، بل وأخشاها. قد يفعل الناس أمرًا صائبًا تحت تأثير الاندفاع، لكنهم يُفسدون ما فعلوه لأنهم لم يفعلوه عن قناعة بأنه صواب، بل فقط لأنهم شعروا باندفاع لفعل ذلك.” سبيرجن (Spurgeon)
قد يبدو الاندفاع جريئًا جدًا، ومع ذلك يظل خطأً (كان يونان شجاعًا جدًا عندما أقدم على مثل هذه الرحلة البحرية الطويلة).
قد يبدو الاندفاع منكرًا للذات، لكنه يظل خطأ (رحلة يونان البحرية الطويلة قد كلّفته الكثير من المال والراحة).
قد يبدو الاندفاع تعبيرًا عن الحرية، لكن في حقيقته قد يكون خطأ (ألم يكن يونان حرًا في اختيار الذهاب إلى ترشيش؟).
قد يجعل الاندفاع الإنسان يفعل ما كان يدينه في غيره (ماذا كان سيقول يونان لنبي آخر يعصي الله؟).
يمكن أن يدفعنا الاندفاع إلى أن نفعل بالله أو بالآخرين ما لا نرضى أبدًا أن يُفعل بنا.
• كثيرون يتحركون باندفاعاتهم ويقولون: ’الرب قال لي هذا أو ذاك.‘ وهذا أمر خطير، حتى وإن لم يبدُ كذلك في الحال. “ما هي علاقتك بأهواء قلبك ورغباته؟ هل تصبح هي الناموس الذي تخضع له؟ أرجوك، لا تكن كالحمقى المَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ هَوًى وَضَلاَلٍ. لتكن صرختك: ’إِلَى الشَّرِيعَةِ وَإِلَى الشَّهَادَةِ‘ ولا تعتمد على المشاعر الداخلية أو الاندفاعات.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. فَدَفَعَ أُجْرَتَهَا: كان الأمر يبدو ميسّرًا. وربما شعر يونان أن الرب هو من قدّم له أُجْرة السفينة! وهذا يبيّن خطورة الانقياد بالظروف المحيطة.
• “سواء لاحظنا دلائل للعناية الإلهية أو لم نلاحظ، تظل كلمة الرب هي دليلنا الثابت، ويجب ألا ننفصل عنها، مهما كانت الحاجة أو الظروف. فمن السهل جدًا أن نختلق شعورًا بالعناية الإلهية عندما نريد ذلك. فإذا حاولت أن تجد في طرق الله معك عذرًا للخطأ الذي تنوي ارتكابه، فسوف يتعاون الشيطان الماكر مع قلبك المخادع سريعًا ليختلق حجة تُبرّر لك الأمر وكأنه من العناية الإلهية.” سبيرجن (Spurgeon)
• لكن، حين تهرب من وجه الرب، لن تصل إلى وجهتك أبدًا، وستدفع الأجرة من جيبك. أما إن سلكت طريق الرب، فستضمن ليس الوصول فقط، بل هو من سيُدبّر لك الأجرة.
٥. مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ: كان على يونان أن يقرأ مزمور ١٣٩: ٧-١٠ “أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ؟ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ الصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ.” لا يمكنك أن تهرب مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ وحضوره.
• “بينما كانت السفينة تُبحر بسلاسة في البحر، نسي يونان إلهه. كان لا يمكنك أن تميزه عن أشرّ الوثنيين الذين على متن السفينة – فقد كان سيئًا مثلهم تمامًا.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. الله يمنع هروب يونان
أ ) الآية (٤): الله يرسل عاصفة.
٤فَأَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحًا شَدِيدَةً إِلَى الْبَحْرِ، فَحَدَثَ نَوْءٌ عَظِيمٌ فِي الْبَحْرِ حَتَّى كَادَتِ السَّفِينَةُ تَنْكَسِرُ.
١. فَأَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحًا شَدِيدَةً: كان الرب هو من أهاج العاصفة. وغالبًا ما نفكر في يسوع وهو يُهدّئ الأمواج، وهو يستطيع ذلك. لكن الله قادر أيضًا أن يهيّج العاصفة.
٢. حَتَّى كَادَتِ السَّفِينَةُ تَنْكَسِرُ: كانت السفينة والبحّارة في خطر، وكل ذلك بسبب وجود يونان على متنها. لم تكن هناك مشكلة في وجود البحّارة على السفينة، لكن لم يكن من المفترض أن يكون يونان هناك – رغم أنه في ظروف أخرى ربما كان ذهابه إلى ترشيش أمرًا مقبولًا.
• ربما فكّر يونان في نفسه: “يمكنني أن أذهب إلى ترشيش إن أردت. لقد دفعتُ الأجرة. أنا لست راكبًا متسللًا.” ومع ذلك، فإن “تبريرات العصيان هي مجرد تغطية للأكاذيب. فإذا سلكت طريقًا مخالفًا لإرادة الرب، حتى وإن فعلت ذلك بأكثر الطرق لياقة، وربما أيضًا بروح تعبّدية، يظل ذلك خطيّة، وسيجلب عليك الدينونة.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٥-٦): بحّارة السفينة يصرخون إلى آلهتهم الباطلة.
٥فَخَافَ الْمَلاَّحُونَ وَصَرَخُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى إِلهِهِ، وَطَرَحُوا الأَمْتِعَةَ الَّتِي فِي السَّفِينَةِ إِلَى الْبَحْرِ لِيُخَفِّفُوا عَنْهُمْ. وَأَمَّا يُونَانُ فَكَانَ قَدْ نَزَلَ إِلَى جَوْفِ السَّفِينَةِ وَاضْطَجَعَ وَنَامَ نَوْمًا ثَقِيلاً. ٦فَجَاءَ إِلَيْهِ رَئِيسُ النُّوتِيَّةِ وَقَالَ لَهُ: «مَا لَكَ نَائِمًا؟ قُمِ اصْرُخْ إِلَى إِلهِكَ عَسَى أَنْ يَفْتَكِرَ الإِلهُ فِينَا فَلاَ نَهْلِكَ».
١. وَصَرَخُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى إِلهِهِ: عندما يقع الإنسان في ضيقة، يبذل قصارى جهده لحلها. في هذه الحالة، ألقى البحّارة الحمولة في البحر. وعندما لا يكون ذلك كافيًا، يلجأ الإنسان أيضًا بفطرته إِلَى إِلهِهِ. وإن لم يكن لنا معرفة بالإله الحقيقي – إله الكتاب المقدس – قبل الوقوع في الضيقة، فقد نتوجّه بإخلاص إلى إله باطل من صنع خيالنا نحن.
• يفترض كثيرون أنهم يستطيعون تأجيل تعاملهم مع الله إلى وقت “أفضل” يختارونه هم بأنفسهم. ومع ذلك، من الحماقة أن نظن أننا في لحظة وقوع الأزمة سنتمكن من الصراخ إلى الإله الحقيقي إن لم نكن قد عرفناه مسبقًا.
٢. وَنَامَ نَوْمًا ثَقِيلاً: بينما كانت العاصفة تعصف بقوة بالخارج، كان يونان نائمًا. ربما كان نومه بسبب أن العاصفة التي في داخله، والناتجة عن عصيانه لأمر الله، كانت أشدّ من التي في الخارج.
• يا له من مشهد غريب ومأساوي! جميع البحّارة كانوا رجالًا متدينين، يصلّون بغيرة لآلهتهم. لكن آلهتهم في الحقيقة لا تساوي شيئًا ولا تقدر أن تفعل شيئًا. أما الرجل الوحيد على متن السفينة الذي كان له علاقة مع الإله الحقيقي، ويعرف كلمته، ويعبده – فقد كان نائمًا!
• “كان يونان نائمًا وسط كل ذلك الاضطراب والضجيج. ويا أخي المؤمن، أن تكون غير مبالٍ بكل ما يحدث في عالم كهذا، أو تكون متهاونًا في عمل الله في زمن كهذا، هو أمر غريب تمامًا. إن الشيطان وحده يُحدث من الضجيج ما يكفي لإيقاظ أمثال يونان إن أرادوا أن يستيقظوا… ففي كل مكان حولنا هناك اضطراب وعواصف، ومع ذلك يستطيع بعض المؤمنين، مثل يونان، أن يناموا بعمق في جوف السفينة.” سبيرجن (Spurgeon)
• تحمل طبيعة نوم يونان أيضًا درسًا، وهي تشبه كثيرًا نوم المؤمن المُتَقَاعِس:
نام يونان في مكان يأمل ألا يراه فيه أحد أو يزعجه. وهكذا “المؤمنون النائمون” يفضلون “الاختباء” داخل الكنيسة.
نام يونان في مكان لا يمكنه فيه أن يشارك في العمل المطلوب. وهكذا “المؤمنون النائمون” يتجنبون خدمة الرب.
نام يونان بينما كان هناك اجتماع صلاة يُعقد على سطح السفينة. وهكذا “المؤمنون النائمون” لا يحبّون اجتماعات الصلاة!
نام يونان وهو لا يدرك ما يجري حوله من مصاعب. وهكذا “المؤمنون النائمون” لا يعلمون حقيقة ما يجري.
نام يونان بينما كان في خطر شديد. وهكذا “المؤمنون النائمون” في خطر، لكنهم لا يدركون ذلك.
نام يونان في وقت كان فيه الأممي الوثني بحاجة إليه. وهكذا “المؤمنون النائمون” في سبات بينما يحتاج العالم إلى رسالتهم وشهادتهم.
• بعض المؤمنين النائمين يعترضون قائلين إنهم يقظون.
“نحن نتكلّم عن يسوع” – لكنك تستطيع أن تتكلّم أثناء نومك.
“نحن نسير مع يسوع” – لكنك تستطيع أن تسير أثناء نومك.
“نحن نحب يسوع – فقد بكيت مؤخرًا بشدة أثناء العبادة” – لكنك تستطيع أن تبكي أثناء نومك.
“نحن نفرح بيسوع ونبتهج” – لكنك تستطيع أن تضحك أثناء نومك.
“نحن نفكّر في يسوع طوال الوقت” – لكنك تستطيع أن تفكّر أثناء نومك، وهذا نُسميه حلمًا.
• وصف تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) كيف يمكن للمؤمن أن يعرف أنه ليس نائمًا، فقال: “ماذا تقصد بكون الإنسان يقظًا حقًا؟ أعني بذلك أمرين أو ثلاثة. أولًا، امتلاكه وعيًا تامًا بحقيقة الأمور الروحية. فعندما أتكلم عن رجل يَقِظ، أعني رجلًا لا يعتبر النفس خيالًا، ولا السماء أسطورة، ولا الجحيم حكاية وهمية، بل يتصرف بين الناس كما لو أن هذه هي الحقائق الوحيدة، وكل ما عداها مجرد ظلال. أُريد رجالًا ذوي عزيمة صارمة، لأنه لا يُعَدُّ أحدٌ من المؤمنين مستيقظًا ما لم يكن قد عزم بثبات على خدمة إلهه، سواء جرت الأمور كما يشتهي، أو ساءت كما لا يُريد.”
٣. مَا لَكَ نَائِمًا؟ قُمِ اصْرُخْ إِلَى إِلهِكَ: عرف الربّان أن صراخ البحّارة لآلهتهم لم يُحدث فرقًا. فلعلّ إله يونان يصنع شيئًا في هذه الضيقة.
• لا بدّ أنّ طلب البحّارة من يونان أن يدعو إلهه بدا ساخرًا بالنسبة له. فسبب وجوده الوحيد على متن تلك السفينة إنما كان هو الهرب من وجه إلهه.
ج) الآيات (٧-٨): البحّارة يكتشفون أن يونان هو أَصْل الْبَلِيَّة.
٧وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «هَلُمَّ نُلْقِي قُرَعًا لِنَعْرِفَ بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْبَلِيَّةُ». فَأَلْقَوا قُرَعًا، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونَانَ. ٨فَقَالُوا لَهُ: «أَخْبِرْنَا بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْمُصِيبَةُ عَلَيْنَا؟ مَا هُوَ عَمَلُكَ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ؟ مَا هِيَ أَرْضُكَ؟ وَمِنْ أَيِّ شَعْبٍ أَنْتَ؟»
١. لِنَعْرِفَ بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْبَلِيَّةُ: من الصعب أن نعرف سبب اعتقاد البحّارة أن العاصفة وقعت لأن أحدهم أخطأ إلى إلهه. لعلّهم أدركوا ذلك ببصيرة روحية، فشعروا بقوة روحية غير عادية في العاصفة. أو لعلّها مجرد خرافة تزامنت مع هذه الحقيقة بمحض الصدفة.
٢. فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونَانَ: وبمجرد أن وقعت القرعة على يونان، أراد البحّارة أن يعرفوا من يونان بقدر المستطاع، لكي يحلّوا المشكلة ويخلّصوا أنفسهم.
٣. مَا هُوَ عَمَلُكَ؟: يُخبرنا سفر الملوك الثاني ١٤: ٢٥ أن يونان كان نبيًا معروفًا. فلما سُئل: مَا هُوَ عَمَلُكَ؟ وقال: “أنا نبيّ،” ارتعب البحّارة أكثر.
د ) الآيات (٩-١٠): يونان يخبر عن هويته وما فعله.
٩فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا عِبْرَانِيٌّ، وَأَنَا خَائِفٌ مِنَ الرَّبِّ إِلهِ السَّمَاءِ الَّذِي صَنَعَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ». ١٠فَخَافَ الرِّجَالُ خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا لَهُ: «لِمَاذَا فَعَلْتَ هذَا؟» فَإِنَّ الرِّجَالَ عَرَفُوا أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، لأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ.
١. إِلهِ السَّمَاءِ الَّذِي صَنَعَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ: كانَ يونان يَعلَمُ الحَقَّ عن الله، مع أن ادِّعاءَهُ مخافة الرب لم يكن صادقًا بالكامل، لأنه كان هاربًا من وجه الربّ.
• حتى المؤمن الذي يعيش في حالة تمرّد يمكنه أن يُمجّد الله إن نطق بالحقّ عنه. لكنّ مأساة يونان أنّ حياته كانت تناقض معرفته بالله.
• ومع ذلك، ففي اللحظة التي قال فيها يونان: “أَنَا خَائِفٌ مِنَ الرَّبِّ،” لعلّه كان قد تاب عن هروبه، وبدأ يرجع إلى الله تحت وطأة الظروف الحالية.
٢. لِمَاذَا فَعَلْتَ هذَا؟: حتى غير المؤمن الذي يعرف قليلًا عن الحق الإلهي، يحق له أن يوبّخ مؤمنًا يقاوم الله. إن سؤال: لِمَاذَا فَعَلْتَ هذَا؟ هو من أكثر الأسئلة منطقًا على وجه الأرض، حتى وإن سأله شخص غير مؤمن لشخص مؤمن.
هـ) الآيات (١١-١٦): طلب يونان أن يُلقَى في البحر، فوافق البحّارة على مضض.
١١فَقَالُوا لَهُ: «مَاذَا نَصْنَعُ بِكَ لِيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنَّا؟» لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا. ١٢فَقَالَ لَهُمْ: «خُذُونِي وَاطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ فَيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنْكُمْ، لأَنَّنِي عَالِمٌ أَنَّهُ بِسَبَبِي هذَا النَّوْءُ الْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ». ١٣وَلكِنَّ الرِّجَالَ جَذَفُوا لِيُرَجِّعُوا السَّفِينَةَ إِلَى الْبَرِّ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا عَلَيْهِمْ. ١٤فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ وَقَالُوا: «آهِ يَا رَبُّ، لاَ نَهْلِكْ مِنْ أَجْلِ نَفْسِ هذَا الرَّجُلِ، وَلاَ تَجْعَلْ عَلَيْنَا دَمًا بَرِيئًا، لأَنَّكَ يَا رَبُّ فَعَلْتَ كَمَا شِئْتَ». ١٥ثُمَّ أَخَذُوا يُونَانَ وَطَرَحُوهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَقَفَ الْبَحْرُ عَنْ هَيَجَانِهِ. ١٦فَخَافَ الرِّجَالُ مِنَ الرَّبِّ خَوْفًا عَظِيمًا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَةً لِلرَّبِّ وَنَذَرُوا نُذُورًا.
١. مَاذَا نَصْنَعُ بِكَ لِيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنَّا؟ وكلّما سمع البحّارة أكثر، ازداد الأمر سوءًا – الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا.
٢. خُذُونِي وَاطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ: أبدى يونان استعدادًا للتضحية بنفسه لأجل سلامة كلّ من كان في السفينة. ولعلّنا نتساءل عن دافعه وراء ذلك.
• ربّما كان الدافع هو الشفقة على البحّارة.
• ربّما كان هو الرغبة في أن يُجبَر على الاتّكال الكامل على الله وحده. ففي النهاية، ليس ثمّة موضع أكثر أمانًا من أن تُلقي نفسك بالكلّيّة على الله.
• ربّما كان شعورًا بأنّ أيّ شيءٍ كان أفضل من مقاومته المستمرّة لله وهروبه منه.
• ربّما لأنّه كان قد تاب توبة صادقة. وإن كان الأمر كذلك، فإنّه يوضّح أنّ التوبة لا تتعلّق بالقلب والفكر فقط، بل لا بُدّ أن تُترجم إلى عمل.
في كلّ هذا، يُمثّل يونان صورة رائعة للمسيّا الآتي بعده، يسوع المسيح. فقد ألقى يسوع نفسه في عاصفة غضب الله ليُخلّص البعيدين عنه. ومع ذلك، ثمة فروقات كثيرة بين يونان ويسوع، وأعظمها أنّ يونان كان عاصيًا ومذنبًا، أمّا يسوع فكان طائعًا وبريئًا.
٣. وَلكِنَّ الرِّجَالَ جَذَفُوا لِيُرَجِّعُوا السَّفِينَةَ إِلَى الْبَرِّ: لم يكن البحّارة يرغبون في طرح يونان في البحر، لأنهم آمنوا بأن إلهه موجود حقًا، وخافوا من عواقب إلقاء نبيّ في البحر، حتى وإن كان نبيًّا عاصيًا. ومع ذلك، لما بدا أن كلّ رجاء قد فُقِد، أخذوا احتياطاتهم اللازمة (آهِ يَا رَبُّ، لاَ نَهْلِكْ مِنْ أَجْلِ نَفْسِ هذَا الرَّجُلِ، وَلاَ تَجْعَلْ عَلَيْنَا دَمًا بَرِيئًا) وطرحوا يونان في البحر.
٤. فَوَقَفَ الْبَحْرُ عَنْ هَيَجَانِهِ: النهاية الفورية للعاصفة أثبتت أن إله يونان كان موجودًا حقًا، وأن مقاومة يونان لله كانت هي المشكلة الحقيقية. وفي ردّ فعل منطقي، خَافَ الرِّجَالُ مِنَ الرَّبِّ خَوْفًا عَظِيمًا، وذبحوا له وقطعوا عهودًا لعبادته.
• تحوّل خوف البحّارة من العاصفة إلى مهابة للرَّبِّ، تمامًا كما حدث مع التلاميذ عندما أسكت يسوع العاصفة (مرقس ٤: ٣٥-٤١).
• “أيها الإخوة، ليتني أملك من الكلام ما يليق لوصف السلام الذي يملأ قلب الإنسان حين يتعلّم أن يرى يسوع مطروحًا في بحر الغضب الإلهي بديلًا عنه. لا يعد الضمير يشتكي ثانية عليه. صار الحُكم الآن في صفّ الخاطئ وليس ضدّه. والذاكرة إن نظرت إلى الخطايا الماضية بحزن فإنها لا ترتعد خوفًا من عقابٍ آتٍ. يا له من أمر مبارك أن يعرف الإنسان أنّه لا يمكن أن يُعاقَب، وأنّ السماء والأرض قد تتزعزعان، لكنه هو لا يُعاقَب على خطيّته.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. وَنَذَرُوا نُذُورًا: لاحظ أن نُذُور البحّارة جاءت بعد أن نالوا النجاة. وبناءً على ذلك، يرى كثير من المفسّرين أن البحّارة بلغوا إلى إيمانٍ حقيقيّ بالله.
• ألقى سبيرجن (Spurgeon) عظة تضمّنت أربع نقاط رائعة استندت إلى تصرفات البحارة في هذا الإصحاح.
عندما تُلاطم أمواج التبكيت الخطاة، فهم يسعون إلى خلاص أنفسهم في محاولات يائسة.
لا بد أن تفشل المحاولات الجسدية التي يقوم بها الخطاة الذين أيقظهم التبكيت.
ستبقى النفس في حزنها طالما ظلّت متّكلة على اجتهادها الشخصي.
طريق النجاة والأمان للخطاة هو فقط من خلال ذبيحةٍ تُقدَّم نيابةً عنهم.
يتم تناول يونان ١: ١٧ بالتفصيل في تفسير الإصحاح الثاني من سفر يونان.