إنجيل مرقس – الإصحاح ٥
يسوع يُظهر سلطانه
أولاً. يسوع يشفي بسلطانه إنساناً به روح نجس في كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ
أ ) الآيات (١-٨): وصف الرجل الَّذِي كَانَ مَسْكُوناً بِأروَاحٍ شِرِّيرَةٍ
١وَجَاءُوا إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ. ٢وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ اسْتَقْبَلَهُ مِنَ الْقُبُورِ إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، ٣كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْقُبُورِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَرْبِطَهُ وَلاَ بِسَلاَسِلَ، ٤لأَنَّهُ قَدْ رُبِطَ كَثِيرًا بِقُيُودٍ وَسَلاَسِلَ فَقَطَّعَ السَّلاَسِلَ وَكَسَّرَ الْقُيُودَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّلَهُ. ٥وَكَانَ دَائِمًا لَيْلاً وَنَهَارًا فِي الْجِبَالِ وَفِي الْقُبُورِ، يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ بِالْحِجَارَةِ. ٦فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ مِنْ بَعِيدٍ رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ، ٧وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: «مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ الْعَلِيِّ؟ أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!» ٨لأَنَّهُ قَالَ لَهُ: «اخْرُجْ مِنَ الإِنْسَانِ يَا أَيُّهَا الرُّوحُ النَّجِسُ».
- لِلْوَقْتِ اسْتَقْبَلَهُ مِنَ الْقُبُورِ إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْقُبُورِ: لا نرى مثل هذا الوصف الدقيق لرجل تسكنه الأرواح الشريرة في كل الكتاب المقدس. إنه الوصف النموذجي لشخص تملكه الشيطان.
- سكن الشيطان هذا الرجل منذ مدة طويلة جداً (لوقا ٢٧:٨).
- لم يكن الرجل يرتدي ثياباً، وكان يعيش في ظروف لا تليق بالبشر، أو مثل الحيوانات البرية (لوقا ٢٧:٨).
- عاش الرجل بين القبور مع الأموات، وكان هذا مخالفاً للناموس وللغريزة الإنسانية (كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْقُبُورِ).
- كان الرجل قوياً جداً (فَقَطَّعَ السَّلاَسِلَ وَكَسَّرَ الْقُيُودَ).
- كان الرجل معذباً ومؤذياً لنفسه (يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ بِالْحِجَارَةِ).
- لم يتمكن الرجل من السيطرة على نفسه أو تصرفاته (فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّلَهُ). ومن الغريب أن يعتقد بعض المؤمنين أن هذه هي نفس الطريقة التي يعمل بها الروح القدس: يسيطر على جسد الإنسان ويجعله يقوم بأمور غريبة وسخيفة.
- يمكننا أن نتأكد من أن هذا الرجل لم يبدأ حياته بهذا الشكل. ففي وقت من الأوقات عاش بين الناس في القرية. ولكن تصرفاته غير العقلانية والهمجية أقنعت أهل القرية بأنه مسكون أو أنه على الأقل مجنون. فربطوه بالسلاسل لمنعه من إيذاء الآخرين، لكنه كان يكسرها باستمرار. وفي النهاية، طردوه من القرية وعاش في مقبرة القرية، مجنون بين القبور، يُلحق الأذى بالشخص الوحيد الذي يمكنه إيذائه هو نفسه.
- لِلْوَقْتِ اسْتَقْبَلَهُ: عندما جاء هذا الرجل المسكون عند يسوع (لم يسع يسوع وراءه)، خاطب يسوع الروح النجس وقال: اخْرُجْ مِنَ الإِنْسَانِ يَا أَيُّهَا الرُّوحُ النَّجِسُ.
- يَسُوعُ ابْنَ اللهِ الْعَلِيِّ: هذا كان رد الروح النجس عندما أمره يسوع أن يخرج من الإنسان. كانت تلك طريقته في مقاومة عمل يسوع.
- السبب وراء استخدام الروح النجس اسم يسوع الكامل هو الخرافة القديمة القائلة بأنك إن عرفت ونطقت بالاسم الكامل والصحيح للطرف الثاني فأنت تمتلك قوة روحية أعظم منه. لهذا خاطبت الأرواح النجسة يسوع مستخدمة لقبه الكامل: يَسُوعُ ابْنَ اللهِ الْعَلِيِّ. فوفقاً لخرافات تلك الأيام، كان هذا أفضل هجوم يطلقونه على يسوع.
- “إن استخدام لقب يسوع الكامل لا يعني اعترافهم بمكانة يسوع، بل محاولة يائسة منهم للسيطرة عليه تماشياً مع المعتقد الشائع أن استخدام الاسم الدقيق يجعل الخصم يخضع لهم.” لاين (Lane)
- ويعني استخدامهم للقب يسوع أيضاً امتلاكهم الحقائق اللاهوتية الصحيحة عنه، لكن قلبهم لم يكن صحيحاً نحوه. فالشياطين التي كانت تسكنه كانت تؤمن بيسوع بطريقة ما، وكانت تعرفه أفضل بكثير من القادة اليهود. ولكن هذا النوع من الإيمان والمعرفة لن يخلصهم أبداً (يعقوب ١٩:٢).
- مَا لِي وَلَكَ… أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!: كانت هذه كلمات الروح النجس ليس الرجل المسكون. فالروح لم يرغب في ترك مضيفه.
- يعني المس الشيطاني أن يسكن روح شرير جسد إنسان، وفي أحيان كثيرة، تظهر شخصية الروح من خلال جسد المضيف.
- إن المس الشيطاني حقيقة واقعة اليوم، وعلينا أن نحذر سواء من التجاهل التام لعمل الأرواح الشريرة أو من التركيز المفرط عليها.
- أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي: اعتبرت هذه الأرواح خروجها من جسد هذا الرجل عذاب لها. فالأرواح تريد أن تسكن الإنسان للأسباب ذاتها التي تجعل المخرب يريد امتلاك علب رش الدهان أو الرجل العنيف الذي يسعى لامتلاك المسدس. فجسم الإنسان سلاح يمكن للروح أن يستخدمه في هجومه ضد الله.
- والسبب الثاني التي تجعل الأرواح الشريرة تهاجم الإنسان هي أنها تكره صورة الله فيه. فتهاجم صورة الله بإذلاله وجعله يتصرف بطريقة غريبة – تماماً كما فعلت مع هذا الرجل في كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ.
- لدى الأرواح الشريرة نفس الهدف نحو المؤمنين: تدمير صورة الله. ولكن خططها ضد المؤمنين مقيدة لأن يسوع جَرَّدَها من أسلحتهم بعمله على الصليب (كولوسي ١٥:٢). ومع ذلك، تستطيع الأرواح الشريرة أن تخدع وترعب المؤمنين وتقيدهم بالخوف والشك.
ب) الآيات (٩-١٣): أظهر يسوع سلطانه على الأرواح الشريرة
٩وَسَأَلَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَأَجَابَ قِائِلاً: «اسْمِي لَجِئُونُ، لأَنَّنَا كَثِيرُونَ». ١٠وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيرًا أَنْ لاَ يُرْسِلَهُمْ إِلَى خَارِجِ الْكُورَةِ. ١١وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الْجِبَالِ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخَنَازِيرِ يَرْعَى، ١٢فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ الشَّيَاطِينِ قَائِلِينَ: «أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا». ١٣فَأَذِنَ لَهُمْ يَسُوعُ لِلْوَقْتِ. فَخَرَجَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ، فَانْدَفَعَ الْقَطِيعُ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبَحْرِ. وَكَانَ نَحْوَ أَلْفَيْنِ، فَاخْتَنَقَ فِي الْبَحْرِ.
- «مَا اسْمُكَ؟»: ربما سأل يسوع عن الاسم لكي نعرف حجم المشكلة ونعرف أنه كان مسكوناً بعدد كبير من الأرواح (لَجِئُونُ) وليس روح واحدة فقط. كانت فرق الجيش الروماني تتكون عادة من ٦٠٠٠ جندي. ولكن هذا لا يعني أنه كان مسكوناً بكل هذا العدد، بل أن عددهم كان كبيراً جداً.
- نرى من السياق أن يسوع لم يصدق تلك الخرافات القديمة، بل أظهر أنه لا يحتاج لمعرفة الاسم. فعندما رد “لَجِئُونُ” على سؤاله، لم يقدم اسماً معيناً، بل حاول تخويفه بإظهار أن عددهم كبير جداً. فقال: “عددنا ضخم ونحن منظمون ومتحدون وأقوياء ومستعدون للمعركة.”
- إن كان من المهم بالنسبة ليسوع معرفة أسمائهم، لأمرهم أن يخبروه في الحال عن اسم ورتبة والرقم المتسلسل لكل منهم. ولكن يسوع لم ينجر إلى خرافاتهم، لأنه يملك سلطاناً وقوة أعظم من جميعهم. فعندما يتعلق الأمر بالشياطين والحرب الروحية، يجب ألا ننجر إلى الخرافات السخيفة وغير المثمرة.
- ولأن المتفرجون كانوا يؤمنون بالخرافات، اعتقدوا أن الأرواح النجسة كانت هي المسيطرة على الموقف. فقد عرفوا وأعلنوا اسم يسوع الكامل، وتهربوا من طلبة يسوع بمعرفة اسمائهم، وأخيراً، كانوا يأملون أن يخيفوا يسوع بعددهم الكبير. ولكن يسوع لم ينجر لتلك الخرافات أبداً، وأخرج الأرواح النجسة بسهولة من الرجل المسكون.
- “قد تكون الإجابة مراوغة، فالأرواح النجسة لا تريد ليسوع أن يعرف اسماءهم الحقيقية في محاولة يائسة للتصدي لسلطانه. ومن الممكن أيضاً أن الاسم الذي اختاروه كان هدفه التخويف.” لاين (Lane)
- وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيرًا أَنْ لاَ يُرْسِلَهُمْ إِلَى خَارِجِ الْكُورَةِ: تخبرنا الآية في لوقا ٣١:٨ أن الروح النجس طَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَأْمُرَهُمْ بِالذَّهَابِ إِلَى الْهَاوِيَةِ. فهو لا يريد أن يكون ’خاملاً وغير عامل.‘ “العجيب أن الخمول بالنسبة للشيطان هو جحيمٌ ثانٍ، وإنه يفضل سكنى البشر.” تراب (Trapp)
- “يفضل الشيطان أن يسبب الأذى للخنازير على أن لا يسبب أي ضرر على الإطلاق. فهو يعشق الشر ومستعد أن يمارسه حتى ضد الحيوانات إن لم يستطع ذلك مع الإنسان.” سبيرجن (Spurgeon)
- تخبرنا الآية في مرقس ٧:٥ أن الأرواح أظهرت معرفتها بهوية يسوع. وها هم هنا يظهرون أنهم قادرون على التوسل إليه (وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيرًا). وهذا يبين أنه بإمكانك أن تعرف من هو يسوع، رغم أنك لم تُسلمه حياتك بالكامل. وأنه يمكنك أن تصلي له، رغم أنك لم تُسلمه حياتك بالكامل.
- «أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا»: أرادت الأرواح النجسة الدخول في الخنازير لأنها مُصَمّمة على إحداث الضرر ولأنها تكره الخمول. “إن الشيطان مغرم بالشر، ويفضل اللعب على فريسة صغيرة على أن يقف متفرجاً.” بوله (Poole)
- لاحظ أن الشياطين لا يمكنها أن تؤذي الخنازير دون سماحٍ من الله. “بما أنه لا يمكن للشيطان أن يدخل حتى في الخنازير دون سماح من الله، فكم هو ضعيف حتى يخافه أولئك الذين نصيبهم وراعيهم الله.” كلارك (Clarke)
- فَأَذِنَ لَهُمْ يَسُوعُ لِلْوَقْتِ: بدلاً من إيقاف الأرواح النجسة عن مهمتها بالكامل، سمح يسوع بهذا لأن وقت إظهار سلطانه الكامل على الشيطان لم يأتِ بعد – سيأتي على الصليب. تخبرنا الآية في الرسالة إلى أهل كولوسي ١٥:٢ أن الصليب جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ فِي العَالَمِ الرُّوحِيِّ مِنْ أسلِحَتِهِمْ ضد المؤمنين وَأظْهَرَ هَزيمَتَهُمْ أمَامَ العَالَمِ، مُنتَصِرًا عَلَيْهِمْ بِعمله على الصَّلِيبِ.
- فَانْدَفَعَ الْقَطِيعُ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبَحْرِ. وَكَانَ نَحْوَ أَلْفَيْنِ، فَاخْتَنَقَ فِي الْبَحْرِ: ظهرت طبيعة الأرواح الشريرة المدمرة على الخنازير. فهم يشبهون قائدهم الشيطان الذي يريد أن يسرق ويقتل ويدمر (يوحنا ١٠:١٠).
- هناك سبب آخر لسمح يسوع للأرواح الشريرة بدخول الخنازير: لأنه يريد أن يعرف الجميع الهدف الحقيقي لهذه الأرواح. فالأرواح تريد الدمار لهذا الإنسان تماماً كما فعلت مع الخنازير. ولأن الإنسان مخلوق على صورة الله، لم يتمكنوا من فعل ذلك بسهولة معه، ولكن نواياهم واحدة: تدميره بالكامل.
- “لكن رعاة الخنازير فقدوا ممتلكاتهم. نعم، هذا صحيح، ولكننا نتعلم من هذا كيف أن الأمور الزمنية الوقتية غير ثمينة في نظر الله. وأحياناً يسمح أن نخسرها رأفة بنا؛ وأحياناً لتحقيق العدالة، لمعاقبتنا لأننا اكتسبناها أو احتفظنا بها عن طريق الطمع أو الظلم.” كلارك (Clarke)
ج) الآيات (١٤-١٧): رد فعل المتفرجين على تحرر الرجل من الأرواح الشريرة
١٤وَأَمَّا رُعَاةُ الْخَنَازِيرِ فَهَرَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَفِي الضِّيَاعِ. فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. ١٥وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَنَظَرُوا الْمَجْنُونَ الَّذِي كَانَ فِيهِ اللَّجِئُونُ جَالِسًا وَلاَبِسًا وَعَاقِلاً، فَخَافُوا. ١٦فَحَدَّثَهُمُ الَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ جَرَى لِلْمَجْنُونِ وَعَنِ الْخَنَازِيرِ. ١٧فَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ تُخُومِهِمْ.
- فَخَافُوا: خاف الناس من الرجل الطبيعي أكثر من خوفهم من الرجل المسكون بالأرواح الشريرة. فعندما رأوا الرجل عَاقِلاً وجَالِساً عند أقدام يسوع، خَافُوا.
- جزءاً من مخاوفهم كان مصدره خرافاتهم التي تلاشت، ولأنهم لم يجدوا تفسيراً لما حدث. فوفقاً لخرافاتهم، كان ينبغي على الأرواح الشريرة أن تهزم يسوع، لكنها لم تفعل. لقد واجهوا صعوبة في تقبل ذلك.
- فَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ تُخُومِهِمْ: لم ينزعجوا في السابق من وجود رجل مسكون معذب في وسطهم. ولكنهم انزعجوا الآن من وجود يسوع، فطلبوا منه أن يمضي من تخومهم، وهذا ما فعله فعلاً!
- عندما يخشى الناس مما سيفعله يسوع في حياتهم أكثر مما سيفعله الشيطان، غالباً ما يدفعونه بعيداً عنهم.
د ) الآيات (١٨-٢٠): ردة فعل الرجل الذي تحرر من الأرواح الشريرة
١٨وَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ طَلَبَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ مَجْنُونًا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ، ١٩فَلَمْ يَدَعْهُ يَسُوعُ، بَلْ قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ، وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ». ٢٠فَمَضَى وَابْتَدَأَ يُنَادِي فِي الْعَشْرِ الْمُدُنِ كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ. فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ.
- طَلَبَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ مَجْنُونًا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ: أراد الرجل أن يبقى مع يسوع، ولم يكن يبحث عما سيفعله يسوع لأجله. فطلبته بأن يَكُونَ مَعَ يسوع يظهر تغيير قلبه الحقيقي.
- الَّذِي كَانَ مَجْنُونًا: “هذا الاسم اللافت للنظر: ’مجنون أو الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مَسْكُونًا بِأروَاحٍ شِرِّيرَةٍ‘ كان سيلازمه طوال حياته، وسيكون حديث الجميع أينما ذهب، وسيطالبه الجميع بأن يروي قصته: كيف كان وكيف حصل التغيير. ويا لها من قصة يرويها أي إنسان!” سبيرجن (Spurgeon)
- فَلَمْ يَدَعْهُ يَسُوعُ: لم يسمح يسوع بهذا لأنه عرف أن للرجل خدمة أهم بين عائلته ومجتمعه.
- أحياناً كثيرة لا نفهم معاملات وطرق الله. فقد قدم أهل المدينة طلبة شريرة: طلبوا من يَسُوعَ أنْ يَرْحَلَ عَنْ مِنْطَقَتِهِمْ، واستجاب يسوع لطلبتهم. أما الرجل الَّذِي كَانَ مَسْكُونًا بِأروَاحٍ شِرِّيرَةٍ قدم طلبة صالحة: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ، لكن يسوع رفض طلبته.
- والسبب طبعاً لأن هذا الرجل سيكون نوراً وسط شعب تلك المدن الأممية بطريقة لا يستطيعها يسوع أو التلاميذ. بالإضافة لذلك، كان هذا لشفاء الرجل من أي خرافات بداخله. فربما اعتقد أن عليه البقاء مع يسوع ليمنع عودة الأرواح الشريرة. “وربما لم يستجب يسوع له خشية التأكيد على مخاوفه. فإن كان خائفاً، وأنا متأكد أنه كان كذلك، من عودة الأرواح الشريرة، عندها سيتوق بالطبع أن يكون مع المسيح. لكن السيد المسيح نزع تلك المخاوف منه، وقال: ’أنت لست بحاجة لأن تكون بالقرب مني؛ لقد شفيتك بالكامل ولن تمرض أبداً.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ: يا لها من رسالة رائعة، وعلى جميعنا أن نكرز بها. وهذا ما فعله الرجل الذي تحرر من الأرواح الشريرة: مَضَى وَابْتَدَأَ يُنَادِي فِي الْعَشْرِ الْمُدُنِ كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ. قد أظهرت قصته قيمة النفس الواحدة بالنسبة ليسوع، لهذا جاء إلى هذا الجانب من بحر الجليل. كما أظهرت قصته أيضاً أن هناك رجاء للكل في يسوع، فإن كان من الممكن تغيير هذا الرجل فيمكن تغيير أي إنسان مهما كانت حالته.
- وَابْتَدَأَ يُنَادِي فِي الْعَشْرِ الْمُدُنِ: “كانت المدن العشرة مدناً يونانية تقع على الجانب الشرقي من بحر الجليل، وكانت تشمل مدينة دمشق. وهناك أرسل يسوع هذا الرجل ليشهد لهذه المجتمعات الأممية.” ستيدمان (Stedman)
- “يعني الاسم ’ديكابوليس‘ حرفياً: المدن العشر، وتقع هذه المدن على الجانب الشرقي من نهر الأردن، ما عدا واحدة واسمها سيثوبوليس التي تقع على الجانب الغربي من النهر. وكان لهذه المدن أهمية خاصة وامتيازات، فهي في الأساس مدن إغريقية (يونانية). واسماءها هي: بيلا، ديون، جيراسا، فيلادلفيا، جدارا، رافانا، كاناثا، هيبوس، دمشق” (باركلي Barclay). ويمكنك رؤية الآثار حتى يومنا هذا.
- “طلب منه الرب أن يكرز بالأشياء العظيمة التي صنعها له، وهذا ما فعله، فذهب ونادى بالأشياء العظيمة التي صنعها يسوع من أجله. هل ارتكب أي خطأ؟ كلا البتة! إنه مجرد اسم آخر لنفس الشخص: فيسوع هو الرب. وعندما تتحدث عنه بصفته الله، وكما يليق به بصفته الله، فأنت تقول الصواب، لأنه يستحق الحمد والثناء.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانياً. أظهر يسوع سلطانه على المرض والموت
أ ) الآيات (٢١-٢٤): أب يطلب من يسوع أن يشفي ابنته
٢١وَلَمَّا اجْتَازَ يَسُوعُ فِي السَّفِينَةِ أَيْضًا إِلَى الْعَبْرِ، اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ عِنْدَ الْبَحْرِ. ٢٢وَإِذَا وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمَجْمَعِ اسْمُهُ يَايِرُسُ جَاءَ. وَلَمَّا رَآهُ خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ، ٢٣وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيرًا قَائِلاً: «ابْنَتِي الصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا!». ٢٤فَمَضَى مَعَهُ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَكَانُوا يَزْحَمُونَهُ.
- اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ: ترك يسوع منطقة الأمميين حول بحر الجليل، حيث تقابل مع الرجل المسكون بعدد كبير من الأرواح النجسة. وها هو يعود للقرى اليهودية إلى الناحية الأخرى من بحر الجليل (إِلَى الْعَبْرِ)، وللوقت اجتَمَعَ حَوْلَهُ جَمْعٌ كَبِيرٌ.
- وَإِذَا وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمَجْمَعِ اسْمُهُ يَايِرُسُ جَاءَ: يشبه رئيس المجمع إلى حد ما الراعي في عصرنا الحديث. فهو الذي يدير الخدمة الدينية وكل الأمور الإدارية في المجمع. جاء هذا الرجل إلى يسوع يائساً (خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيرًا) لأن ابنته كانت عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ.
- “كونه رئيساً للمجمع كان هو المشرف الرسمي عن المبنى والمسؤول عن ترتيب الخدمات.” لاين (Lane)
- لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا!: كان للرجل ثقة كبيرة في يسوع وآمن بسلطان يسوع على شفاء ابنته. ولكنه آمن أيضاً بأهمية تواجد يسوع في المكان ليشفيها (لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا).
- ربما فكر الرجل بهذه الطريقة لأنه كان يؤمن بخرافة ما، وأن على الشافي أن يكون حاضراً في المكان. وربما اعتاد على التفكير بهذه الطريقة لأنه لم يعتقد أن أي إنسان يمكن أن يشفي بطريقة أخرى. أياً كان السبب، فطريقة تفكيره وضعت حدوداً لسلطان يسوع. وكأنه يقول: “لتتمكن من شفاء ابنتي، عليك أن تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا.”
- عندما جاء قائد المئة إلى يسوع في موقف مماثل (لوقا ١:٧-١٠)، لم يذهب يسوع إلى بيته ليشفي الخادم، بل نطق بشفاءه من بعيد. فنرى هنا أن يسوع لم يطالب أن يُظهر يايرس نفس الإيمان الذي كان عند قائد المئة، لكنه تجاوب مع حجم الإيمان الذي كان يملكه يايرس. وهذا ما يطلبه يسوع منا أيضاً، أن نقدم له كل ما نملك من إيمان.
- “كان إيمان يايرس ضعيفاً بالمقارنة مع بإيمان قائد المئة، مع أنه كان جندياً رومانياً، بينما يايرس يهودي متعلم. فالمعرفة إذاً شيء والإيمان شيء آخر. وأعظم المفكرين ليسو بالضرورة قديسين.” تراب (Trapp)
- لاحظ آدم كلارك (Adam Clarke) أربعة أشياء ضرورية للصلوات المستجابة أظهرها يايرس:
- علينا أن نتواجد في محضر يسوع (وَإِذَا وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمَجْمَعِ اسْمُهُ يَايِرُسُ جَاءَ).
- علينا أن نتواضع بصدق أمام يسوع (خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ).
- علينا أن نرفع صلواتنا بلجاجة (وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيرًا).
- علينا أن نثق بسلطان وصلاح يسوع (لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا).
ب) الآيات (٢٥-٣٤): شفاء نازقة الدم
٢٥وَامْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ٢٦وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيرًا مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ، وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئًا، بَلْ صَارَتْ إِلَى حَال أَرْدَأَ. ٢٧لَمَّا سَمِعَتْ بِيَسُوعَ، جَاءَتْ فِي الْجَمْعِ مِنْ وَرَاءٍ، وَمَسَّتْ ثَوْبَهُ، ٢٨لأَنَّهَا قَالَتْ: «إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ». ٢٩فَلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا، وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الدَّاءِ. ٣٠فَلِلْوَقْتِ الْتَفَتَ يَسُوعُ بَيْنَ الْجَمْعِ شَاعِرًا فِي نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ، وَقَالَ: «مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟» ٣١فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «أَنْتَ تَنْظُرُ الْجَمْعَ يَزْحَمُكَ، وَتَقُولُ: مَنْ لَمَسَنِي؟» ٣٢وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لِيَرَى الَّتِي فَعَلَتْ هذَا. ٣٣وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ وَهِيَ خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ، عَالِمَةً بِمَا حَصَلَ لَهَا، فَخَرَّتْ وَقَالَتْ لَهُ الْحَقَّ كُلَّهُ. ٣٤فَقَالَ لَهَا: «يَا ابْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ، اذْهَبِي بِسَلاَمٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ».
- وَامْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً: عاشت المرأة في بؤس. فبحسب الشريعة والمجتمع كانت نازفة الدم تعتبر نجسة، وهذا عبء كبير يتحمله أي إنسان كل هذه المدة
- وفقاً للتقاليد اليهودية في تلك الأيام، فإن كل من يلمس نازفة دم يعتبر نجساً حسب شريعة التطهير. فلم يسمح لأي نجس أن يشترك بالعبادة مع باقي الشعب اليهودي.” (سفر اللاويين ١٩:١٥-٣١).
- “بسبب تقاليد شعبها، طُلقت من زوجها، ولم تتمكن من العيش في بيتها، وعزلت من المجتمع، وكان غير مسموحاً لها بالتواصل مع أصدقائها، كما حرمت من خدمات المجمع، ومنعت من دخول الساحة المخصصة للنساء.” مورغان (Morgan)
- وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيرًا مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ: ذهبت إلى الأطباء للعلاج، لكنها تَأَلَّمَتْ كَثِيراً بَلْ صَارَتْ إِلَى حَال أَرْدَأَ وأصبحت معدمة فقيرة. يخبرنا لوقا الطبيب أنها قَدْ أَنْفَقَتْ كُلَّ مَعِيشَتِهَا لِلأَطِبَّاءِ (لوقا ٤٣:٨). فقد عرف لوقا كيف يمكن لتكاليف الأطباء أن تستنفذ كل المال الذي تملكه الأسرة.
- كان معلمو اليهود يملكون وصفات عديدة لمساعدة امرأة تعاني مثل هذا المرض. “قال المعلم يوشانان: ’ضع كمية قليلة من صمغ شجرة الاسكندرية وحجر الشب ونوع آخر من النباتات يدعى (corcus hortensis) واخلطها معاً، ثم ضع المسحوق في النبيذ لتشربه نازفة الدم. إن لم ينجح ذلك، قم بغلي ٩ عيدان من البصل الفارسي مع النبيذ وأعطيها لتشربه، وقل: توقف أيها النزيف. وإن فشل هذا أيضاً، دعها تقف عند مفترق طرق وبيدها كأس من النبيذ، ودع شخص يخيفها من الخلف ويقول: توقف أيها النزيف. وإن لم يفيد هذا….” كلارك (Clarke)
- النفوس المتألمة في يومنا هذا تلجأ إلى أطباء مختلفين وتنفق الوقت والمال دون أي فائدة، بل تتألم كَثِيراً مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ. فالنفس المتألمة قد تلجأ إلى طبيب ’المتعة‘ دون أن تجد فيها العلاج، وقد تلجأ إلى ’النجاح‘ ولكن هذا لن يفيد على المدى الطويل. وكذلك لن تتمكن ’المتع والشهوات‘ أو ’المساعدة الذاتية‘ أو ’التدين‘ من أن تقدم العلاج. فالوحيد القادر أن يمنح تلك النفس العلاج هو الطبيب يسوع.
- «إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ»: ولأن حالة المرأة كانت محرجة، ولأنها كانت نجسة وفقاً للشريعة، ولأنها حتماً ستدان لأنها لمست يسوع أو لمجرد تواجدها وسط الجمع، أرادت أن تفعل هذا سراً. لن تطلب صراحة الشفاء من يسوع، لهذا فكرت: «إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ».
- ونظراً لعدم وجود دليل في الكتاب المقدس يوحي أن يسوع شفى بهذه الطريقة من قبل، يبدو أن المرأة قررت أن تفعل هذا، ولو جزئياً على الأقل، بناءاً على الخرافات التي كانت تؤمن بها. فإيمانها كان مليئاً بالأخطاء والخرافات، ومع ذلك آمنت بقدرة يسوع على الشفاء، وكان هدب ثوبه كافياً للتعبير عن هذا الإيمان. وهناك العديد من العيوب في إيمان هذه المرأة يمكننا تحديدها. ومع ذلك، كان موضوع إيمانها هو يسوع، وموضوع الإيمان يعتبر أكثر أهمية من نوعية الإيمان.
- “لم يكن هناك سحر في ثوب يسوع. بل ربما كانت الخرافات تملأ عقل المرأة، ومع ذلك، احترم يسوع إيمانها المشوش كما في حالة ظل بطرس ومنديل بولس.” روبرتسون (Robertson)
- تخبرنا الآية في متى ٢٠:٩ أنها مَسَّتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ، ويعني هذا العباءة الخارجية التي اعتاد اليهود ارتدائها. “كان كل يهودي تقي يلبس الرداء ويعمل به أربعة أهداب على كل زاوية، وذلك إطاعة للوصية الموجودة في سفر العدد ٣٨:١٥-٤٠ ليبين للآخرين، وليذكر نفسه أنه عضو في شعب الله المختار.” باركلي (Barclay)
- فَلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا: وفقاً لمعتقدات ذلك اليوم، كان يفترض أن يتنجس يسوع لأن المرأة النجسة قد لمسته. ولكن بسبب طبيعة يسوع وبسبب قوة الله، لم يحدث هذا. فما حدث كان العكس تماماً، فعندما لمست ثوب يسوع، لم يتنجس يسوع، بل هي التي شُفيت. وهكذا الحال عندما نأتي إلى يسوع بخطايانا ونضعها عليه، فخطايانا لن تجعله آثماً، بل تطهرنا وتنقينا.
- وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الدَّاءِ. فَلِلْوَقْتِ الْتَفَتَ يَسُوعُ بَيْنَ الْجَمْعِ شَاعِرًا فِي نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ: عندما نالت المرأة الشفاء، عرف كليهما أن شيئاً قد حدث. وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أنه حدث، وكذلك يسوع الْتَفَتَ … شَاعِرًا فِي نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ.
- ومن المثير للاهتمام معرفة ما تعنيه جملة: “الْقُوَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ.” فهذه الجملة لم تستخدم من قبل في أي شفاء أو معجزة صنعها يسوع أو أي شخص آخر في الكتاب المقدس. فلا نرى في الكتاب المقدس في أي معجزة أو شفاء خلال خدمة يسوع أن قوة الله تدفقت عبر يسوع إلى شخص آخر. لكننا نرى في هذه المناسبة أن شيئاً شبيهاً لهذا قد حدث، حتى لو لم نكن نعرف الطريقة التي حدث بها هذا.
- «مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟»: يقول روبرتسون (Roberston) إن يسوع قال حرفياً: “’من لمسني.‘ فهدفها لم يكن لمس ثوب يسوع، بل لمس يسوع نفسه. فكان الثوب مجرد جزء من يسوع يمكنها لمسه.”
- حاولت المرأة أن تفعل ذلك سراً لأنها شعرت بالحرج ولأنها عرفت أن لا أحد سيسمح لها بلمس يسوع. ولكن الله في معظم الأحيان يكشف عن عمله للجميع، حتى لو بدأ سراً.
- وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لِيَرَى الَّتِي فَعَلَتْ هذَا: حدث هذا قبل أن تعترف المرأة بفعلتها. فقد عرف يسوع منذ البداية من الذي لمسه ونال الشفاء. لكنه سأل: مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟ لمصلحة المرأة، ليس لأنه لم يعرف من كانت.
- تعجب التلاميذ من سؤال يسوع. وفي ضوء الوضع الذي كانوا به، قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «أَنْتَ تَنْظُرُ الْجَمْعَ يَزْحَمُكَ، وَتَقُولُ: مَنْ لَمَسَنِي؟» ولكن التلاميذ لم يفهموا الفرق بين لمسة الزحام العادية وبين لمسه بالإيمان.
- نستطيع أن نتخيل بسهولة شخص يصطدم بيسوع أو يحتك به أو يلامسه بسبب الازدحام. فعندما أُعلن عن شفاء المرأة، ربما قال أحدهم: “لقد اصطدمت بيسوع ولمسته ولكني لم أشفى.” ولكن هناك فرق شاسع بين أن تصطدم بيسوع هنا وهناك وأن تمد يدك وتلمسه بالإيمان. فبإمكانك الذهاب إلى الكنيسة بانتظام كل أسبوع وأن ’تصطدم‘ بيسوع، ولكن هذا لا يشبه أبداً لمسه بالإيمان.
- “ليس كل تواصل أو اتصال أو تلامس مع المسيح يخلص الإنسان؛ الذي سيخلصك هو أن تدفع نفسك وتقترب من يسوع وتلمسه بالإيمان وبكل عزيمة وتصميم ومن الأعماق.” سبيرجن (Spurgeon)
- “قال أوغسطينوس منذ زمن بعيد هذا التعليق على هذه القصة: “تَلاحَمَ العَظْمُ، وتلامس الإيمان.” كان بإمكانه دائماً أن يميز بين غوغاء الغاضبين، ولمسة الروح المتألمة المحتاجة.” مورغان (Morgan)
- أَمَّا الْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ وَهِيَ خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ، عَالِمَةً بِمَا حَصَلَ لَهَا، فَخَرَّتْ وَقَالَتْ لَهُ الْحَقَّ كُلَّهُ: سمح يسوع لها بأن تمر بكل هذه المشاعر رغم أنه عرف من هي، وهي كانت تعرف من تكون. قد يبدو أن هدفه الوحيد هو إحراج هذه المرأة المسكينة أمام الجميع، لكن ذلك لم يكن الهدف على الإطلاق.
- لقد فعل يسوع هذا لكي تعرف المرأة أنها قد شُفيت تماماً. صحيح أن مرقس يخبرنا أنها عَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الدَّاءِ، ولكنها كانت مثل أي شخص آخر. سرعان ما تبدأ في الشك والخوف وفي التساؤل عما إذا كانت قد شُفيت فعلاً، وإن كان المرض سيصيبها ثانية. لهذا قال لها يسوع: “اذْهَبِي بِسَلاَمٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ.” فقد دعاهم يسوع أمام الجميع لتتأكد من أنها قد شُفيت تماماً.
- لقد فعل يسوع هذا لكي يعرف الجميع أنها قد شُفيت. فمع أن مرضها شخصي للغاية، لكنه جعلها منبوذة من الجميع. فحتماً سيبدو الأمر مريباً للكثيرين إن أعلنت أنها قد شُفيت فجأة، وربما يظنون أنها أختلقت الأمر لكي يقبلوها في المجتمع ثانية كإمرة غير نجسة. لهذا دعاها يسوع أمام الجميع ليعرفوا أنها شُفيت تماماً.
- لقد فعل يسوع هذا لكي تعرف لماذا شفاها. فقد أظهر يسوع للمرأة عندما قال لها: “يَا ابْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ” أن هدب الثوب لا شأن له بشفائها، الذي شفاها هو إيمانها بيسوع وما يمكنه أن يفعل لأجلها.
- لقد فعل يسوع هذا لأنه لا يريد للمرأة أن تفكر أنها قد سرقت البركة وأنها لا تستطيع النظر إليه ثانية. هي لم تسرق شيئاً، بل حصلت عليه بالإيمان، لذا أرادها يسوع أن تعرف ذلك.
- لقد فعل يسوع هذا حتى يرى يايروس إيمان هذه المرأة ويتشجع بشأن ابنته. فدعوة يسوع لها كان لتشجع إيمان شخص آخر.
- لقد فعل يسوع هذا لأنه أراد أن يباركها بطريقة خاصة. فقد دعاها ’ابنة.‘ لم يسبق ليسوع وأن دعا أحد هكذا. أرادها يسوع أن تعترف لتسمع هذه الكلمات الرقيقة الخاصة. فعندما يطلب منا يسوع الاعتراف، فهذا لأن لديه شيئاً خاصاً لنا.
- “بدا كلامه قاسياً، لكنه في الواقع كان لطيفاً للغاية، وجعلها ترجع إلى بيتها بأفكار رائعة عنه. فمن الآن وصاعداً، لن تتكلم أبداً عن هدب الثوب العجيب الذي شفاها، بل ستتكلم عن عجائب الرب. فإن سمح لها يسوع بالابتعاد دون الاعتراف، لقالت ببساطة: ’لقد وجدت علاجاً،‘ ولكن بسبب اعترافها، استطاعت أن تصرخ وتقول: ’لقد وجدت صديقاً.‘” موريسون (Morrisson)
- قد يطلب منا يسوع أحياناً أن نقوم بأشياء تبدو محرجة، ولكنه لا يطلبها لأنه يريد إحراجنا، بل لا بد من وجود هدف أسمى حتى لو لم نتمكن من رؤيته. ولكن إن كان تجنب الحرج هو أهم شيء في حياتنا، إذن الكبرياء هو إلهنا، ونحن نحب أنفسنا وصورتنا أمام الآخرين أكثر من محبتنا ليسوع.
- فَخَرَّتْ وَقَالَتْ لَهُ الْحَقَّ كُلَّهُ: عندما نقف أمام يسوع، علينا أن نخبره الْحَقَّ كُلَّهُ.
- علينا أن نخبره الْحَقَّ كُلَّهُ عن خطايانا. فعندما نأتي إليه كطبيبنا الأعظم ويسألنا: “ما هي المشكلة؟” علينا ألا نخفي شيئاً عنه.
- علينا أن نخبره الْحَقَّ كُلَّهُ عن ألمنا ومعاناتنا. أخبره عن ألمك، فهو يريد أن يعرف.
- علينا أن نخبره الْحَقَّ كُلَّهُ عن الأطباء والأدوية التي جربناها من قبل.
- علينا أن نخبره الْحَقَّ كُلَّهُ عن كل آمالنا وأحلامنا لأنه يريد أن يعرف ما يمكن أن يفعله لأجلنا.
- «يَا ابْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ، اذْهَبِي بِسَلاَمٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ»: لأنها قصة رائعة لم يمنع المؤمنون أنفسنا من أن يزينوها ويضيفوا عليها من خيالهم. فقال البعض أن اسم المرأة كان بيرنيس، وقال آخرون إنها فيرونيكا. وقال أحدهم أنها أقامت تمثالاً خارج بيتها وهي تنحني أمام يسوع، وعند أسفل التمثال خرجت نبتة غريبة يمكن أن تشفي الأمراض بأعجوبة.
- يا ليايرس المسكين! أثناء هذا كله، كانت ابنته طريحة الفراش في البيت، وعَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. كما كان مؤلماً بالنسبة له أن يرى يسوع يأخذ وقته في خدمة هذه المرأة بينما ابنته في البيت تعاني. ولكن الله لا يتباطأ أبداً، لكنه يبدو هكذا للشخص المتألم.
ج ) الآيات (٣٥-٣٦): طلب يسوع من يايرس أن يظهر إيماناً كبيراً بوعد كبير.
٣٥وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جَاءُوا مِنْ دَارِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ قَائِلِينَ: «ابْنَتُكَ مَاتَتْ. لِمَاذَا تُتْعِبُ الْمُعَلِّمَ بَعْدُ؟» ٣٦فَسَمِعَ يَسُوعُ لِوَقْتِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي قِيلَتْ، فَقَالَ لِرَئِيسِ الْمَجْمَعِ: «لاَ تَخَفْ! آمِنْ فَقَطْ».
- ابْنَتُكَ مَاتَتْ: لا بد وأن قلب يايرس اعتصر من الألم عندما سمع هذه الكلمات. وربما فكر: “كنت متأكد أن الأمر أخذ وقتاً طويلاً، ما كان يجب على يسوع أن يضيع وقته على إمرأة سخيفة كهذه. لقد ضاع الأمل تماماً الآن.”
- «لاَ تَخَفْ! آمِنْ فَقَطْ»: طلب يسوع من يايرس أن يفعل شيئين: أولاً، توقف عن الخوف (لاَ تَخَفْ!). تبدو الكلمات قاسية لشخص فقد ابنته للتو، ولكن يسوع عرف أن الإيمان والخوف لا يتفقا. وقبل أن يتمكن يايرس من وضع ثقته بالكامل في يسوع، عليه أن يقرر أن يطرح الخوف جانباً. ثانياً، قال يسوع ليايروس: آمِنْ فَقَطْ. لا تحاول أن تؤمن وتكون خائفاً في نفس الوقت. ولا تحاول أن تؤمن وأنت تبحث عن إجابات. ولا تحاول أن تؤمن وأنت تحاول أن تفهم سبب التأخير…. آمِنْ فَقَطْ.
- كان على يايرس أن يؤمن بكلمات يسوع. كل شيء حوله أخبره أن الوضع ميؤوس منه، لكن كلمة يسوع أعطته الأمل.
د ) الآيات (٣٧-٤٣): إقامة ابنة يايرس من الأموات
٣٧وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَتْبَعُهُ إِلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ، وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ. ٣٨فَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ وَرَأَى ضَجِيجًا. يَبْكُونَ وَيُوَلْوِلُونَ كَثِيرًا. ٣٩فَدَخَلَ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تَضِجُّونَ وَتَبْكُونَ؟ لَمْ تَمُتِ الصَّبِيَّةُ لكِنَّهَا نَائِمَةٌ». ٤٠فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. أَمَّا هُوَ فَأَخْرَجَ الْجَمِيعَ، وَأَخَذَ أَبَا الصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا وَالَّذِينَ مَعَهُ وَدَخَلَ حَيْثُ كَانَتِ الصَّبِيَّةُ مُضْطَجِعَةً، ٤١وَأَمْسَكَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: «طَلِيثَا، قُومِي!». الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ، لَكِ أَقُولُ: قُومِي! ٤٢وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ الصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ، لأَنَّهَا كَانَتِ ابْنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتًا عَظِيمًا. ٤٣فَأَوْصَاهُمْ كَثِيرًا أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ بِذلِكَ. وَقَالَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ.
- وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَتْبَعُهُ إِلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ، وَيُوحَنَّا: صحيح أن هؤلاء الثلاثة كانوا من ’الدائرة المقربة‘ ليسوع، ولكن قد يكون صحيحاً أن يسوع أراد أن يبقيهم تحت ناظريه لمنعهم من الوقوع في المشاكل.
- لَمْ تَمُتِ الصَّبِيَّةُ لكِنَّهَا نَائِمَةٌ: لم يكن يسوع بعيداً (منفصلاً) عن الواقع عندما قال هذه الكلمات. ولم يكن يلعب لعبة التقليد والتظاهر (make-believe). بل قال هذا لأنه عرف حقيقة أسمى، حقيقة روحية أقوى من الموت نفسه.
- ضَجِيجًا. يَبْكُونَ وَيُوَلْوِلُونَ كَثِيرًا: جرت العادة في تلك الأيام استئجار باكين نادبين ليضيفوا المزيد من الحزن والألم إلى جو الجنازة. ولكن حزن هؤلاء كان سطحياً. لاحظوا كيف تحولوا بسرعة من البكاء إلى الضحك والسخرية (فَضَحِكُوا عَلَيْهِ).
- فَضَحِكُوا عَلَيْهِ: “لاحظوا صيغة الماضي الناقص. استمروا في الضحك.” روبرتسون (Robertson)
- “بما أن أفقر الناس كانوا مطالبين باستئجار عازفين للناي على الأقل ونادب واحد في حالة موت الزوجة، فعلى الأرجح شخص في منزلة رئيس المجمع سيكون متوقعاً منه أن يستأجر عدداً كبيراً من المعزين المحترفين.” لاين (Lane)
- أَمَّا هُوَ فَأَخْرَجَ الْجَمِيعَ: لا يتعامل يسوع مع الذين لا يؤمنون بوعوده. لذا أخرجهم خارجاً حتى لا يعيقوا إيمان يايرس.
- يَا صَبِيَّةُ، لَكِ أَقُولُ: قُومِي!: تكلم يسوع مع الصبية ميتة وكأنها حية، فعل ذلك لكونه الله. تخبرنا الآية في رومية ١٧:٤ أن الله هو الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيَدْعُو الأَشْيَاءَ غَيْرَ الْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ. تكلم يسوع مع الصبية بسلطان الله فقامت في الحال.
- فَبُهِتُوا بَهَتًا عَظِيمًا: لم يخذل يسوع يايرس، كما لم يخدل المرأة التي احتاجت للشفاء، فقد خدم كليهما. ولكنه أراد أن يزيد إيمان ياريرس أكثر.
- نرى في كل هذا كيف يعمل يسوع في حياة الأفراد بطرق مختلفة ولكن النتيجة واحدة. إن تعامل يسوع مع كل احتياج هكذا بصورة شخصية، فإنه قادر أن يسدد احتياجاتنا بنفس الطريقة.
- تمتع يايرس باثنتي عشر سنة من أشعة الشمس ولكنها على وشك أن تنطفئ. عانت المرأة اثنتي عشرة سنة وكان أملها في الشفاء ضعيفاً.
- كان يايرس رجلاً مهماً للغاية، واحدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمَجْمَعِ. أما المرأة فكانت نكرة، حتى أننا لا نعرف اسمها.
- على الأرجح كان يايرس ثرياً كونه رجلاً مهماً. كانت المرأة فقيرة معدمة لأنها أنفقت كل أموالها على الأطباء.
- جاء يايرس أمام الجميع. جاءت المرأة سراً.
- اعتقد يايرس أن على يسوع أن يفعل الكثير ليشفي ابنته. اعتقدت المرأة أن كل ما تحتاجه هو لمس هدب ثوب يسوع.
- استجاب يسوع للمرأة على الفور. لم يستجب يسوع ليايرس على الفور، بل أخذ وقته.
- شُفيت ابنة يايروس سراً، أما المرأة فشفيت علانية أمام الجميع.
- نرى في كل هذا كيف يعمل يسوع في حياة الأفراد بطرق مختلفة ولكن النتيجة واحدة. إن تعامل يسوع مع كل احتياج هكذا بصورة شخصية، فإنه قادر أن يسدد احتياجاتنا بنفس الطريقة.