تفسير رسالة بطرس الأولى – الإصحاح ١
عيشوا على اعتبار أنَّكم مولودون ثانيةً
أولًا. تحيّة من الرسول بطرس
أ ) الآية (١): الكاتب والقُرّاء المُوجَّهة إليهم هذه الرسالة.
١بُطْرُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى ٱلْمُتَغَرِّبِينَ مِنْ شَتَاتِ بُنْتُسَ وَغَلَاطِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَأَسِيَّا وَبِيثِينِيَّةَ، ٱلْمُخْتَارِينَ.
- بُطْرُسُ: لم يكن بطرس مُجرَّد رَسُول، ولكن يجوز القول إِنَّه كان قائدًا للرسل. فقد كان بطرس رجلًا مهمًّا ومؤثّرًا في الكنيسة الأولى. ونظرًا إلى مكانة الكاتب، لابُدَّ أنَّ المسيحيّين الأوائل عندما تلقّوا هذه الرسالة شعروا بأهمّيتها.
- يُذكَر اسم بطرس في الأناجيل أكثر من أي شخص آخر باستثناء يسوع. ولا يتحدّث أحد في الأناجيل كما تحدّث بطرس. كما أنَّ يسوع خاطب بطرس أكثر من أي شخص آخر.
- انتهر يسوعُ بطرسَ أكثر من أي تلميذ آخر.
- كان بطرس التلميذ الوحيد الذي تجرّأ على توبيخ يسوع.
- اعترف بطرس بيسوع بأكثر جرأة ودقّة من أي تلميذ آخر.
- أنكر بطرس يسوع بشدّة وبشكل علني أكثر من أي تلميذ آخر.
- مدح يسوعُ بطرسَ أكثر من أي تلميذ آخر.
- خاطب يسوعُ بطرسَ باعتباره شيطانًا ولم يفعل هذا مع أي تلميذ آخر.
- بما أنَّ بطرس كان بارزًا جدًا في سجلّات الإنجيل، يجدر بنا أن نذكّر أنفسنا ببعض الإشارات المهمة إلى بطرس في سجلّات تاريخ الكتاب المقدس.
- عندما نهض يسوع في الصباح الباكر ليصلّي قبل مطلع الشمس، قاد سمعانُ بطرسُ التلاميذَ الآخرين في مطاردة للعثور على يسوع وإخباره بما يجب عليه عمله (مرقس ٣٥:١-٣٩).
- أنزل بطرس شباكه بأمر يسوع لصيد كميات هائلة من الأسماك (لوقا ١:٥-١١).
- ذهب بطرس في رحلة كرازية فريدة مع التلاميذ الآخرين (متى ١:١٠-٤٢).
- خرج بطرس من القارب أثناء عاصفة هائجة ومشى على الماء مع يسوع (متى ٢٤:١٤-٣٣).
- بطرس هو الذي قال: ’يَارَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلَامُ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ، وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْحَيِّ‘ (يوحنا ٦٨:٦-٦٩).
- شاهد بطرس يسوع وهو يتجلَّى في المجد مع موسى وإيليا (متى ١:١٧-٩).
- بطرس هو الشخص الذي سأل يسوع كم مَرَّة يجب أن نغفر لأخ يخطئ في حقّنا، مستشهدًا بالعدد ’سبع مرات‘ (متى ٢١:١٨-٣٥).
- بطرس هو الشخص الذي سأل يسوع، بعد مقابلته مع الشاب الغني، عن المكافأة التي سيحصل عليها التلاميذ لتخلّيهم عن كل شيء للسير وراء يسوع (متى ٢٧:١٩-٣٠).
- كان بطرس هو الشخص الذي أصرّ على أَلاَّ يغسل يسوع قدميه؛ ثم أمر يسوع بأن يغسل جسمه كله! (يوحنا ١٦:١٣-٢٠).
- سمع بطرس يسوع يتنبأ بأنه سينكره ثلاث مرات (متى ٣٠:٢٦-٣٥)، فأجاب بطرس: ’وَلَوِ ٱضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لَا أُنْكِرُكَ!‘ (متى ٣٥:٢٦)، ووافقه بقية التلاميذ.
- بطرس هو الشخص الذي قطع الأذن اليمنى لملخُس، عبد رئيس الكهنة، عندما جاء الجنود للقبض على يسوع (يوحنا ١:١٨-١١).
- أنكر بطرس يسوع ثلاث مرات، ولعن وأقسم أنه لم يعرف ’الرجل‘ رافضًا حتّى ذكر يسوع بالاسم (متى ٦٩:٢٦-٧٥).
- بطرس هو الذي ركض مع يوحنا إلى القبر في صباح القيامة بعد سماع تقرير النساء بأن جسد يسوع ليس في قبره (يوحنا ١:٢٠-١٠).
- بطرس هو الشخص الذي تلقّى زيارة شخصيّة من يسوع المُقام في يوم القيامة (لوقا ٣٤:٢٤).
- قام يسوع بردّ وتعضيد إيمان بطرس علنيًّا أمام التلاميذ الآخرين بعد قيامة يسوع (يوحنا ٢١).
- من اللافت للنظر أنَّ بطرس قدّم نفسه كرَسُول. “تتّضح الأهمّيّة القصوى للرسل في إضافة عبارة «يسوع المسيح» إليها، إذ لا نراها تضاف لأي منصب آخر في العهد الجديد: فنحن لا نقرأ: معلمي يسوع المسيح أو أنبياء يسوع المسيح أو مبشّري يسوع المسيح، بل رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فقط.” غرودِم (Grudem)
- لم يفعل بطرس شيئًا لشرح أو تبرير رسوليّته ولم يضف عبارة مثل ’بمشيئة الله‘ كما فعل بولس في بعض المناسبات (كورنثوس الأولى ١:١،كورنثوس الثانية ١:١،غلاطية ١:١،أفسس ١:١، إلخ). “على عكس بولس، لم تكن مكانة بطرس كرسول موضع شك. وهذه العبارة الموجزة دليل على سلطة بطرس.” هيبرت (Hiebert)
- يُذكَر اسم بطرس في الأناجيل أكثر من أي شخص آخر باستثناء يسوع. ولا يتحدّث أحد في الأناجيل كما تحدّث بطرس. كما أنَّ يسوع خاطب بطرس أكثر من أي شخص آخر.
- إِلَى ٱلْمُتَغَرِّبِينَ: كلمة ’ٱلْمُتَغَرِّبِين‘ تعني الشخص الذي يقيم مؤقتًّا في بلد أجنبي، وٱلْمُتَغَرِّبِين هم المسافرون والأغراب، وٱلْمُتَغَرِّبِين هم الذين يعيشون في وعي دائم بوطنهم الحقيقي.
- تعطينا الرسالة المسيحيّة المبكرة «الرسالة إلى ديوغنيتوس» فكرة عن ماهيّة ٱلْمُتَغَرِّبِينَ. “هم مَن يسكنون بلاد مولدهم، ولكنهم يعيشون كمقيمين مؤقتين فيها؛ يتحمّلون نصيبهم من المسؤوليات كمواطنين، ولكن يتحملون أيضًا كل ما يضايق الغريب. فكل بلد أجنبي هو وطنهم، وكل وطن لهم هو بلد أجنبي… إنهم يقضون أيّامهم على الأرض، ولكن موطنهم الأصلي هو السماء.” نقلًا عن باركلي (Barclay)
- إِلَى ٱلْمُتَغَرِّبِينَ مِنْ شَتَاتِ: واضح أنَّ بطرس كتب إلى الأُمَم والمؤمنين على السواء (راجع بطرس الأولى ١٨:١،١٠:٢،٣:٤). ومع ذلك فقد دعاهم ٱلْمُتَغَرِّبِينَ مِنْ شَتَاتِ، وهو ما كان يقال عن اليهود. وقد دعاهم هكذا لأنَّه رأى المؤمنين في عصره مُشتّتين في جميع أنحاء العالم كما كان الشعب اليهودي في شَتَات بعد سقوط أورشليم عندما غزا البابليون يهوذا.
- بُنْتُسَ وَغَلَاطِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَأَسِيَّا وَبِيثِينِيَّةَ: كانت هذه المناطق المحددة أماكن انتشرت فيها المسيحيّة في العقود القليلة الأولى من بداية الكنيسة. وربما كان ذلك الطريق الذي اتّبعه الحامل الأصلي لرسالة بطرس عند توزيعه الرسالة. فإنها لم تُكتَب إلى جماعة واحدة فقط، بل كُتِبَت عن قصد لجميع المؤمنين.
ب) الآية (٢): وصف بطرس لقرائه وجميع المؤمنين.
٢ٱلْمُخْتَارِينَ بِمُقْتَضَى عِلْمِ ٱللهِ ٱلْآبِ ٱلسَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: لِتُكْثَرْ لَكُمُ ٱلنِّعْمَةُ وَٱلسَّلَامُ.
- ٱلْمُخْتَارِينَ بِمُقْتَضَى عِلْمِ ٱللهِ ٱلْآبِ ٱلسَّابِقِ: وصف بطرس قرّاءه أوَّلًا بأنهم مختارون. وهذا يعني ببساطة أنّهم مختارون من الله بمعنى خاصّ وفريد من نوعه.
- “المقصود بوصف القراء في المقدمة بأنهم مختارون هو تعضيدهم وتشجيعهم في معاناتهم. فعقيدة الاختيار هي ’حقيقة عائلية‘ هدفها تعزيز مصلحة المؤمنين.” هيبرت (Hiebert)
- بِمُقْتَضَى عِلْمِ ٱللهِ ٱلْآبِ ٱلسَّابِقِ: يصف هذا طبيعة اختيارهم. فاختيار الله ليس عشوائيًّا أو جاهلًا، بل هو بِمُقْتَضَى عِلْمِ ٱللهِ ٱلْآبِ ٱلسَّابِقِ، وهو جانب من جوانب معرفته الكلّية. ويتضمّن هذا العلم السابق معرفة تجاوبنا مع الإنجيل، ولكنه لا يعتمد على ذلك فقط.
- رغم أنَّ اختيار الله هو بِمُقْتَضَى عِلْم… سَابِق، إِلَّا أن علمه السابق هو أكثر من مجرد معرفته السابقة لتجاوبي مع يسوع. فالاختيار ليس اختيارًا على الإطلاق إن كان يعتمد على الأسباب والنتيجة ويستند على فكرة أن اختيار الله متوقّفًا على اختيار الإنسان فقط.
- فِي تَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ لِلطَّاعَةِ: من النتائج الأساسية للاختيار هي: التقديس والطاعة. وفي حين يروق للبعض الاعتقاد بأنّ الاختيار يتعلّق بالذهاب إلى السماء أو الجحيم فقط، يذكّرنا بطرس أنّه يتعلّق بالأرض أيضًا. فالادعاء بأنك من المختارين مشكوك فيه طالما أنّه لا يوجد أي دليل على التقديس والطاعة.
- وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: حيث أنَّ جميع المختارين عاجزون عن بلوغ التقديس والطاعة الكاملين، فهناك تطهير عن خطاياهم من خلال رَشِّ دَمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.
- كانت هناك ثلاث حالات في العهد القديم يُرَشّ فيها الدم على الشعب.
- عند تأسيس عهد سيناء أو العهد القديم (سفر الخروج ٥:٢٤-٨).
- عند رسامة هارون وأبنائه (سفر الخروج ٢١:٢٩).
- في طقس تطهير الأبرص (سفر اللاويين ٦:١٤-٧).
- إن رَشّ دَمِ يَسُوعَ علينا يحقِّق نفس الأشياء. أوَّلًا، يتأسَّس العهد، ثم تتم رسامتنا كهنةً له، وأخيرًا يتم تطهيرنا من فسادنا وخطيتنا. ونحن ننال كل واحدة من هذه بواسطة عمل يسوع على الصليب.
- كانت هناك ثلاث حالات في العهد القديم يُرَشّ فيها الدم على الشعب.
- ٱللهِ ٱلْآبِ… ٱلرُّوحِ… يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: طريقة بطرس السلسلة في الجمع بين عمل الآب والابن والروح القُدُس في خلاصنا تُبيِّن المنهج الذي يتّبعه العهد الجديد تجاه الثالوث. حيث لا يُفصَّل تفصيلًا كعقيدة محددة، ولكنه منسوج في سدى العهد الجديد ولُحمته.
- يسوع له آب، لكن ليس بمعنى أنه أعلى منه أو أنّه منحه الوجود. فقد كان الآب والابن والروح القُدُس معًا منذ الأزل وكل واحد منهم متساوٍ في الألوهية. فالآب والابن مصطلحان يُستخدَمان لوصف العلاقة بين هذين الأقنومين من الثالوث.
- لِتُكْثَرْ لَكُمُ ٱلنِّعْمَةُ وَٱلسَّلَامُ: قد حيّاهم بطرس بتحية صارت شائعة بين المؤمنين، وهي تجمع بين عناصر من الثقافة اليونانيّة (ٱلنِّعْمَة) والثقافة اليهودية (ٱلسَّلَام).
ثانيًا. معنى نوال الخلاص وممارسة الخلاص
أ ) الآيات (٣-٥): الشكر للآب على عمله الخلاصيّ.
٣مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، ٤لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ، ٥أَنْتُمُ الَّذِينَ بِقُوَّةِ اللهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي الزَّمَانِ الأَخِيرِ.
- مُبَارَكٌ ٱللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: عندما تأمّل بطرس في خلاص الله، كان رد فعله الفوري هو أنْ يسبّح الله بكل بساطة. وذلك لأن الدافع وراء عمل الله قائم في الله ذاته، لا فينا نحن (حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ).
- كتب هيبرت (Hiebert) عن هذا المقطع الطويل من بطرس الأولى ٣:١-١٢ ما يلي: “هذا المقطع الجميل هو سكيب قلب مُفعَم بالعبادة. إذ لا يمكن أن يترنّم بأنشودة التسبيح الرائعة هذه إِلَّا شخص تأمّل بخشوع في عظمة خلاصنا، فهذه الأنشودة تُعِدّ الروح المتألّم وتشجّعه على مواصلة الجهاد الروحيّ بثبات.”
- كل خيره لنا يبدأ بالرحمة. “ما كان بالإمكان لأي صفة إلهية أخرى أنْ تساعدنا لو أنَّ الرحمة مُنِعَت. إذ أنَّ العدل – بطبيعة الحال – يديننا، والقداسة تتبرّأ منا، والقوة تسحقنا، والحقّ يؤكّد على مخالفتنا للشريعة، والغضب يوفّي مطالب عدله. لذلك يبدأ كل رجاؤنا من رحمة إلهنا.” سبيرجن (Spurgeon)
- وَلَدَنَا ثَانِيَةً: تختلف صياغة وَلَدَنَا ثَانِيَةً عن «يُولَدُ مِنْ فَوْقُ» (يوحنا ٣:٣) ولكن المعنى واحد. فقصد بطرس هو أنّه عندما يخلص الإنسان، فإنه يصير خليقة جديدة (كما في كورنثوس الثانية ١٧:٥).
- لِرَجَاءٍ حَيٍّ: لقد وُلدنا ثانيةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ لأنَّ لنا حياة أبدية في مُخلِّص انتصر على الموت. والرجاء حيّ لأنَّه مؤسَّس على مِيرَاثٍ لَا يَفْنَى وَلَا يَتَدَنَّسُ أبدًا لأنَّه مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. وهذا يتناقض مع أي ميراث على وجه الأرض.
- “ويُطلَق عليه أيضًا ’رجاء حيّ‘ لأنه لا يفنى، أمَّا الآمال الأخرى فتتلاشى مثل الزهور التي تذبل. فآمال الأغنياء وفخر المتكبّرين، كل هذه سوف تضمحلّ مثل الشمعة الذي تخبو في محجرها. ورجاء أعظم الملوك سُحِق أمام عيوننا؛ رفع راية النصر قبل الأوان، فشاهدها تتلطَّخ في الوحل. فلا يوجد رجاء ثابت تحت القمر المتغيّر؛ إنّما الرجاء الوحيد الذي لا يفنى هو الذي يسمو فوق النجوم ويتأسَّس على عرش الله وشخص يسوع المسيح.” سبيرجن (Spurgeon)
- لِمِيرَاثٍ لَا يَفْنَى وَلَا يَتَدَنَّسُ وَلَا يَضْمَحِلُّ: لم يصف بطرس ميراثنا، لكنه وصف ما هو ليس ميراثنا. فميراثنا الحقيقي أعظم جدًّا من أنْ يوصف. ومع ذلك فنحن نعلم أنَّ ميراثنا لا يفنى ولا يفسد ولا يَضْمَحِلّ.
- ميراثنا يشبه ميراث هارون في سفر العدد ٢٠:١٨ وميراث المرنِّم في مزمور ٥:١٦-٦، الذي هو عطية الله نفسه. وبما أن الله وهبنا نفسه، فميراثنا يبدأ هنا والآن.
- لا يمكننا اختبار هذا الميراث ما لم نولد ثانيةً. فغير المؤمن لا يملك القدرة على التمتّع بهذا الميراث. فالأمر أشبه بمكافأة الأعمى بأجمل غروب شمس أو اصطحابه إلى متحف فنيّ.
- عند التحدُّث مع مَن لا يعرفون يسوع، يجب أَلاَّ نخبرهم عن آلام الجحيم التي سيواجهونها فقط، ولكن عن أمجاد السماء التي ستفوتهم أيضًا.
- مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لِأَجْلِكُمْ… بِإِيمَانٍ: وعد ميراثنا أكيد لأننا بِقُوَّةِ ٱللهِ مَحْرُوسُون. وهذا يُمكّننا من الصبر بِإِيمَانٍ حتّى مجيء يسوع.
- “قوّة الله هي القوة العسكرية التي نجد فيها أمننا.” هيبرت (Hiebert). فنحن محفوظون بقوة الله، لكنَّ ذلك بالإيمان، أي بإيماننا. والشخص المحروس هو الشخص الثابت في علاقة إيمان مستمرّة مع الله. فيجوز القول إنَّ الإيمان ينشّط قوة حفظ الله في حياة المؤمن.
- “القول الذي ورد في الآية السابقة عن أنَّ ميراثنا محفوظ في السماء، لا يقدّم لنا قدرًا كافيًا من التعزية، إِلَّا إذا لحقه وعززه هذا التأكيد، بأنّ الورثة محفوظون أيضًا ليتمتّعوا به بالكامل.” ماير (Meyer)
ب) الآيات (٦-٩): قصد الله من التجارب بالنسبة إلى المُخلَّصين.
٦الَّذِي بِهِ تَبْتَهِجُونَ، مَعَ أَنَّكُمُ الآنَ إِنْ كَانَ يَجِبُ تُحْزَنُونَ يَسِيرًا بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، ٧لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ الذَّهَبِ الْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِالنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَالْكَرَامَةِ وَالْمَجْدِ عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، ٨الَّذِي وَإِنْ لَمْ تَرَوْهُ تُحِبُّونَهُ. ذلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ الآنَ لكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ، ٩نَائِلِينَ غَايَةَ إِيمَانِكُمْ خَلاَصَ النُّفُوسِ.
- ٱلَّذِي بِهِ تَبْتَهِجُونَ: نحن نبتهج بقوة الله الحافظة عندما نُحْزَن… بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عالمين أنّه سيحفظنا حتّى عندما يُمْتَحَنُ إيماننا بِٱلنَّارِ.
- إِنْ كَانَ يَجِبُ… تُحْزَنُونَ: يظنّ البعض أن المؤمن القوي لن يحزن أبدًا في وقت التجربة. والفكرة هي أن عليه أن يكون مثل الرجل الخارق (سوبرمان). فإن أطلقت الرصاص عليه، فسترتد كلها. ولكنَّ يخبرنا بطرس هنا أنّه من الضروري (يَجِبُ) أن نحزن ليس من التَجَارِبَ المُتَنَوِّعَةٍ فقط، بل من أجل الحزن نفسه. فلله قصد ليس فقط من التجارب، ولكن أيضًا من الحزن الشديد الذي نشعر به أثناء التجربة.
- تَجَارِب مُتَنَوِّعَة: “المعنى الحرفي هو ’الألوان المتعدّدة‘ التي كانت تُستَخدم لوصف جلد النمر أو عروق الرخام المختلفة الألوان أو الرداء المطرَّز.” هيبرت (Hiebert)
- إِيمَانِكُمْ… يُمْتَحَنُ بِٱلنَّارِ: لا يُمتَحن إيماننا لأنَّ الله لا يعرف كمّ أو نوع الإيمان الذي لدينا. بل هو يُمْتَحَنُ لأننا كثيرًا ما نجهل كمّ أو نوع الإيمان الذي لدينا. قصد الله في الاختبار هو إظهار قوة احتمال إيماننا.
- “في الواقع، إنَّ لإيماننا الشرف في أن يُمتَحن. قد يقول إنسان: ’عندي إيمان، لكنني لم اضطر أبدًا إلى الإيمان تحت ضغط الصعوبات؟‘ فما أدرانا أنه يملك إيمانًا؟ وقد يقول إنسان: ’عندي إيمان كبير بالله، لكنني لم أضطر أبدًا إلى استخدامه في أي شيء سوى شؤون الحياة العادية، التي أستطيع في الغالب مباشرتها بدونه وبه؟‘ فهل لإيمانه أي شرف وفضل؟ وهل تظنّ أن مثل هذا الإيمان يمجّد الله أو يعود على صاحبه بمكافأة كبيرة؟ إذا كان الأمر كذلك، فأنت مخطئ بشدة.” سبيرجن (Spurgeon)
- وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ ٱلذَّهَبِ ٱلْفَانِي: إن كان ٱلذَّهَبِ يصلح لامتحانه وتنقيته بالنار، فكم بالحري إيماننا، وهو أَثْمَنُ مِنَ ٱلذَّهَبِ ٱلْفَانِي؟ الله له قصد عظيم ومهمّ من امتحان إيماننا.
- الإيمان يُمتَحن لإثبات أنه إيمان صادق أو إيمان حقيقي.
- الإيمان يُمتَحن لإثبات قوة الإيمان.
- الإيمان يُمتَحن لتنقيته، لإبعاد الزغل عنه.
- ٱلذَّهَبِ من أكثر المعادن المتينة. ومع ذلك، فإنه سوف يفنى يومًا ما، أمَّا إيماننا فلا يفنى.
- نَائِلِينَ غَايَةَ إِيمَانِكُمْ: ’غَايَةَ إِيمَانِكُمْ‘ هي عودة يسوع والخلاص النهائي لنفوسكم (خَلاَصَ النُّفُوسِ). فالامتحانات والتجارب أمر لا مفرّ منه طالما نحن على هذا الجانب من غَايَة الإِيمَانِ. فطالما أننا لم نرَ الله بعد، يجب أن نتحمّل التجارب ونواجهها بالإيمان والفرح.
- وَإِنْ لَمْ تَرَوْهُ تُحِبُّونَهُ: عرف بطرس أنّه رغم رؤيته ليسوع (قبل القيامة وبعدها)، إلا أن معظم المؤمنين في الكنيسة الأولى لم يروا يسوع. ومع ذلك، فقد أحبّوه. لم يكن يسوع أقل واقعية بسبب عدم رؤيتهم إياه.
- “باختصار، هناك مساواة بين المؤمنين في الوقت الحاضر وأولئك الذين عاشوا في زمن التجسد؛ فالمسيح بالنسبة للمؤمن، هو هو أمس واليوم وإلى الأبد.” كلارك (Clarke)
- بِفَرَحٍ لَا يُنْطَقُ بِهِ: “لا ترد هذه العبارة إِلَّا هنا فقط في العهد الجديد، وهي تصف فرحًا عميقًا تفوق قدرة اللسان على التعبير عنه.” غرودم (Grudem). “لم يكن فرحهم فرحًا أرضيًّا عاديًا.” هيبرت (Hiebert)
ج ) الآيات (١٠-١٢): الإعلان المُسبَق للخلاص الذي يختبره المؤمنون.
١٠الْخَلاَصَ الَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ، الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأَجْلِكُمْ، ١١بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ، وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا. ١٢الَّذِينَ أُعْلِنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لَنَا كَانُوا يَخْدِمُونَ بِهذِهِ الأُمُورِ الَّتِي أُخْبِرْتُمْ بِهَا أَنْتُمُ الآنَ، بِوَاسِطَةِ الَّذِينَ بَشَّرُوكُمْ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُرْسَلِ مِنَ السَّمَاءِ. الَّتِي تَشْتَهِي الْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا.
- ٱلْخَلَاصَ ٱلَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ: كان من المهم لبطرس – ولكل كُتّاب العهد الجديد – إثبات أنَّ تعاليمهم ليست بدعة، بل فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ. واستيعاب هذه الحقيقة جعل للخلاص قيمة أعظم بكثير في أذهان قُرّاء بطرس المُجرَّبين بالألم.
- “لم يسعَ بطرس إلى إثبات صحّة تعاليمه عن الخلاص بإظهار اتفاقها مع الأنبياء؛ بل سعى إلى تشجيع قرائه المُجرَّبين بإظهار أهمّيّة وعظمة الخلاص الشامل الذي كانوا يتألّموا بسببه.” هيبرت (Hiebert)
- الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأَجْلِكُمْ: قد اشتاق أنبياء العهد القديم أنْ يختبروا نعمة العهد الجديد. فلما تنبّأوا بـرُوح ٱلْمَسِيحِ، عرفوا شيئًا عن آلامه وأمجاده، ولكن أقل بكثير مِمّا كانوا يتوقون إلى معرفته.
- لنا أنْ نتخيّل كيف كان إشعياء ليتحمّس إذ قرأ إنجيل يوحنا. قد عرف أنبياء العهد القديم الكثير؛ لكنَّ ما خفي عنهم كان أكثر، بما في ذلك طبيعة الكنيسة (أفسس ٤:٣-٦) وجوهر الحياة والخلود (رسالة تيموثاوس الثانية ١٠:١).
- ٱلَّذِينَ أُعْلِنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسَ لِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لَنَا كَانُوا يَخْدِمُونَ: قد فهم الأنبياء أنّهم كَانُوا يَخْدِمُونَ أشخاصًا بعيدين عنهم وكذلك أشخاصًا في أيّامهم. فهذه الأمور التي تنبّأ بها الأنبياء، ذكرها الرسل كحقائق (هَذِهِ ٱلْأُمُورِ ٱلَّتِي أُخْبِرْتُمْ بِهَا أَنْتُمُ ٱلْآنَ، بِوَاسِطَةِ ٱلَّذِينَ بَشَّرُوكُمْ).
- لأننا نعرف الشخص (يسوع) والزمان (يوم يسوع) المقصود في نبوَّات العهد القديم، فلا بُدَّ أن تكون أكثر أهمّيّة لنا مِمّا كانت في أيّام الأنبياء.
- ٱلَّتِي تَشْتَهِي ٱلْمَلَائِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا: الكشف عن خطة الله الأبديّة هو شيء تَشْتَهِي ٱلْمَلَائِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْه. فالملائكة تراقب سلوكنا (رسالة كورنثوس الأولى ٩:٤)، مِمّا يحتّم على المؤمنين التصرف بشكل لائق (رسالة كورنثوس الأولى ١٠:١١).
- جزء من قصد الله الأبديّ أنْ يُظهِر حكمته للكائنات الملائكية من خلال عمله مع الكنيسة (أفسس ١٠:٣-١١). فيريد الله من الملائكة أن تَطَّلِعَ على ما يفعله في الكنيسة، والمقصود هو أنَّ الملائكة تنحني باهتمام شديد وتَشْتَهِي أن تعرف هذه الأمور.
- لذلك، تَشْتَهِي الملائكة أنْ تطلع وتتعلم. وهذه الكلمة “تشير إلى اهتمام أو شغف قوي. أمَّا زمن المضارع فيصّور شوقًا حاضرًا داخليًّا ومستمرًّا للفهم. والمصطلح لا يعني أنَّ هذه شهوة لا يمكن أو لا ينبغي أن تتحقّق، بل يدلّ على مواصلة الجهد من جانب الملائكة لفهم المزيد من سر خلاص البشر.” هيبرت (Hiebert)
- “لذلك يجب أن يشتمل الشوق على فضول مقدّس لمشاهدة أمجاد ملكوت المسيح تتحقق في حياة المؤمنين على مدى تاريخ الكنيسة.” غرودِم (Grudem)
- “وبالمثل تصوّر لنا رسالة كورنثوس الأولى ٩:٤ ورسالة أفسس ١٠:٣ ورسالة تيموثاوس الأولى ١٦:٣ العالم الفائق للطبيعة وهو يراقب بفارغ الصبر خطة الله لفداء البشر. يبدو أنَّ هذا المفهوم يعود بأصوله إلى قول يسوع في إنجيل لوقا ٧:١٥،١٠ حيث صرّح بأنَّ الملائكة تفرح بخاطئ واحد يتوب.” هيبرت (Hiebert)
د ) الآيات (١٣-١٧): سلوك المُخلَّصين.
١٣لِذلِكَ مَنْطِقُوا أَحْقَاءَ ذِهْنِكُمْ صَاحِينَ، فَأَلْقُوا رَجَاءَكُمْ بِالتَّمَامِ عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا إِلَيْكُمْ عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. ١٤كَأَوْلاَدِ الطَّاعَةِ، لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ السَّابِقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ، ١٥بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ. ١٦لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ». ١٧وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَبًا الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ.
- لِذَلِكَ مَنْطِقُوا أَحْقَاءَ ذِهْنِكُمْ صَاحِينَ: العيش بالطريقة التي يريدنا الله أن نحيا بها تعني أننا يجب أن نمنطق أَحْقَاءَ ذهننا. المقصود بهذه العبارة الاستعداد للعمل، مَثَلها مَثَل عبارة ’شمِّروا عن سواعدكم.‘ ثم يجب علينا أيضًا أن نكون صَاحِينَ، أي قادرين على إلقاء نظرة جادّة على حياتنا.
- مَنْطِقُوا أَحْقَاءَ ذِهْنِكُمْ معناها التخلُّص من التفكير الرخو والمليء بالشكوك، والتحكُّم في قدرات ذهننا المنطقية والتأمّلية. إنها تعني التحكمّ فيما نفكر فيه، أي الأشياء التي قرّرنا الاهتمام بها.
- صَاحِينَ: “تدلّ الكلمة على حالة خالية من فقدان السيطرة العقلية والروحيّة على النفس؛ إنه موقف الانضباط الذاتي الذي يبتعد عن التطرف.” هيبرت (Hiebert)
- فَأَلْقُوا رَجَاءَكُمْ بِٱلتَّمَامِ عَلَى ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي يُؤْتَى بِهَا إِلَيْكُمْ عِنْدَ ٱسْتِعْلَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: لقد أخبرنا بطرس الكثير عن نعمة الله. فقد رحبّ بنا بالنعمة (بطرس الأولى ٢:١). وأخبرنا عن النعمة التي جاءت لنا في يسوع، وتنبّأ بها أنبياء العهد القديم (بطرس الأولى ١٠:١). أمَّا الآن فيتخطّى هذا الحد ويكتب عن ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي يُؤْتَى بِهَا إِلَيْكُمْ عندما يعود يسوع. فالسبيل الوحيد للوقوف أمام يسوع في ذلك اليوم هو بفضل النعمة غير المُستحقَّة التي وهبها لنا، وسوف يهبها لنا.
- ٱلنِّعْمَةِ ليست للماضي فقط، عندما سلّمنا حياتنا ليسوع. وهي ليست للحاضر فقط، حيث نعيش كل لحظة ثابتين في نعمته (رومية ٢:٥). بل هي للمستقبل أيضًا، عندما تُعطى لنا عندما يُعلن يسوع المسيح (ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي يُؤْتَى بِهَا إِلَيْكُمْ). فالله قد بدأ الآن فقط يُظهِر لنا غنى نعمته.
- “النعمة هي محبّة الله غير المُستحقَّة التي تنازلت لتخلّص وتبارك؛ ومصدر كل تلك العطايا الباهرة والمقدَّسة تنبع من قلبه غير المحدود.” ماير (Meyer)
- كَأَوْلَادِ ٱلطَّاعَةِ، لَا تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ ٱلسَّابِقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ: تلبية دعوة الله إلى القداسة تتطلّب منا، كَأَوْلَادِ ٱلطَّاعَةِ، أنْ ننفصل عن أسلوب حياة العالم (الذي يتميّز بالشهوات والجهل).
- بَلْ نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ. لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «كُونُوا قِدِّيسِينَ لِأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ»: الفكرة الرئيسية وراء القداسة ليست الطهارة الأخلاقيّة، بل’الانفصال.‘ والفكرة هي أنَّ الله منفصل ومختلف عن خليقته، سواء في طبيعته الجوهرية أو في كمال صفاته. ولكن بدلًا من بناء جدار حول انفصاله، يدعونا الله أنْ نأتي إليه ونشاركه. فيقول لنا: ’كُونُوا قِدِّيسِينَ لِأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ.‘
- عندما نعجز عن رؤية انفصال الله، نبدأ نعتقد أنّه مُجرَّد ’رجل خارق.‘ فلا نرى أن محبته محبة مقدَّسة، وأن عدله عدل مقدَّس، وهكذا مع باقي صفاته. فالقداسة ليست شيئًا نمتلكه، بل هي شيء يمتلكنا.
- يختلف إله الكتاب المقدس في هذا اختلافًا جذريًا عن الآلهة الوثنيّة التي كانت تُعبد في أزمنة العهد الجديد. “الوثنيّة لم تُنتِج إِلَّا آلهة شنيعة في سلوكها وتصرّفاتها؛ وأعظم آلهتهم كانوا أمثلة على النجاسة.” كلارك (Clarke)
- وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَبًا: إن كنا كمؤمنين ندعو الله القدوس (طلبًا للمساعدة)، فيجب أن نفهم أننا ندعو الله الذي لا يُظهِر أية مُحَابَاةٍ – وسوف يحكم بدون تحيز على سلوكنا. مما يزيد من أهمية السلوك الواعي والمقدَّس.
هـ) الآيات (١٨-٢١): الدافع للحياة التقية.
١٨عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، ١٩بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، ٢٠مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ، ٢١أَنْتُمُ الَّذِينَ بِهِ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَأَعْطَاهُ مَجْدًا، حَتَّى إِنَّ إِيمَانَكُمْ وَرَجَاءَكُمْ هُمَا فِي اللهِ.
- عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لَا بِأَشْيَاءَ تَفْنَى: إنَّ الدعوة السامية لممارسة حياة تقية أمر منطقي، على ضوء الثمن الذي دُفِع نظير فدائنا. فدم يسوع الثمين لم يخلّصنا لكي نعود فنحيا في القذارة والوحل.
- مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلْآبَاءِ: وصف بطرس الحالة الذهنية التي تسعى إلى تبرير ذاتها بالناموس بأنها أُسلُوب حياة عقيم وبلا هدف (سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ). فتبدو في الظاهر وكأن هناك هدف – أي كسب الاستحقاق أمام الله بالأعمال – لكنّها في الحقيقة بَاطِلَة (بلا هدف)، لأنها لا يمكن أن تُفلِح.
- حَمَلٍ بِلَا عَيْبٍ وَلَا دَنَسٍ: تحدّث بطرس هنا فيما يتعلّق بشخص يسوع المُنزَّه تمامًا عن الخطية. فلو لم يكن بِلَا عَيْبٍ وَلَا دَنَسٍ، لَما كان مؤهّلًا ليكون فادينا.
- مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ: عمل يسوع على الصليب لفداء البشرية لم يكن خطّة تم تطويرها في وقت لاحق، بل كان مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، ولم يُستَعلَن إِلَّا فِي هذه ٱلْأَزْمِنَةِ ٱلْأَخِيرَةِ.
- أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِهِ (من خلاله) تُؤْمِنُونَ بِٱللهِ: خطّة الفداء بأكملها هي لصالح الذين يؤمنون بالله، أي الذين يؤمنون به من خلال يسوع. فأولئك الذين يؤمنون بالله لا يشعرون بخيبة الأمل لأنَّ إيمانهم ورجاءهم قد تأكَّد بقيامة يسوع مِن بين ٱلْأَمْوَاتِ.
و ) الآيات (٢٢-٢٥): ضرورة المحبّة بين المُخلَّصين.
٢٢طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ الْحَقِّ بِالرُّوحِ لِلْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ الْعَدِيمَةِ الرِّيَاءِ، فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ. ٢٣مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ. ٢٤لأَنَّ: «كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، ٢٥وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ». وَهذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا.
- فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا… بِشِدَّةٍ: الحياة المقدَّسة لا تكتمل إذا لم تصاحبها محبّة. فمعنى أن تكون مسيحيًّا هو أن تتمتّع بالمَحَبَّة ٱلْأَخَوِيَّةِ ٱلْعَدِيمَةِ ٱلرِّيَاءِ، ولكّن الرسول يشجّعنا كذلك على ممارسة هذه المحبّة بِشِدَّةٍ (وَليُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مَحَبَّةً شَدِيدَةً مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ).
- فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ. مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً: مثل هذه المحبّة ليست ممكنة (أو مُتوقَّعة) إِلَّا عند الـمَوْلُودِينَ ثَانِيَةً بكلمة الله الأبديّة.
- مَرَّة أخرى، لم يستخدم بطرس نفس صيغة الولادة ثَانِيَةً الواردة في إنجيل يوحنا الإصحاح ٣، ولكنه استخدم نفس الفكرة عينها.
- بِكَلِمَةِ ٱللهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلْأَبَدِ: نحن نولد ثَانِيَةً … بِكَلِمَةِ ٱللهِ. لكن كلمة الله لا تهبنا حياة جديدة فقط، بل تأمرنا أيضًا أن نحب بعضنا البعض. وإذا كانت كلمة الله كما يقول عنها سفر إشعياء ٨:٤٠ “كَلِمَة ٱللهِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلْأَبَدِ،” فنحن، إذًا، مُلزَمون ومدعومون بها لنعيش هذا النوع من المحبّة والقداسة الذي يتحدّث عنه بطرس.
- ٱلْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلْأَبَدِ: يقتبس بطرس هنا من إشعياء ٦:٤٠-٨. كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ قد ثبتت بالتأكيد. فهي قائمة بعد مرور قرون من النسخ اليدوي، والاضطهاد، والفلسفات المتغيّرة، وجميع أنواع النقّاد، والإهمال من المنابر والمقاعد، والشك والكفر – إنَّها لم تزل كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ ٱلْبَاقِيَة إِلَى ٱلْأَبَدِ!
- في سنة ٣٠٣ ميلادية أمر الإمبراطور الروماني دقلديانوس بحرق كل نسخ الكتاب المقدس في الإمبراطورية الرومانية، ولكنه فشل. إذ بعد ٢٥ سنة كلّف الإمبراطور الروماني قسطنطين عالمًا يُدعَى يوسابيوس بإعداد ٥٠ نسخة من الكتاب المقدس على نفقة الدولة.
- “ألف مَرَّة ومرّة، دقّوا النواقيس إيذانًا بموت الكتاب المقدس، وبدأوا يصطفّون لتشييع جنازته. وضعوا النقش على شاهد قبره، وألقوا خطبة وداعه. لكن جثته – بطريقة أو بأخرى – لا تبقى حبيسة النعش.” بيرنارد رَم (Bernard Ramm): الأدلة المسيحيّة البروتستانتية.
- “كلمة الله لا تموت أبدًا. كلمة الله لا تتغير أبدًا. هناك من يظنّون أنّه يجب علينا الحصول على إنجيل جديد كل بضع سنوات أو حتّى كل بضعة أسابيع، لكنَّ بطرس لم يشاركهم الرأي. فقد كتب تحت تأثير الوحي أنَّ ’كلمة الله باقية وثابتة إلى الأبد.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- وحيث أنَّ هذا الزرع (البذرة) الأبديّ، المثمر قائم فينا، فمن واجبنا وباستطاعتنا التمتُّع بالمحبّة ٱلْأَخَوِيَّةِ ٱلْعَدِيمَةِ ٱلرِّيَاءِ. وربما يجوز لنا القول إننا إذا كنا نحتاج إلى المزيد من المحبّة نحو الآخرين، فإنّ ذلك يبدأ بالحصول على المزيد من الزَرْع الذي لا يَفْنَى في قلوبنا والسماح له بالنموّ.
- بِكَلِمَةِ ٱللهِ… وَهَذِهِ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ: يحاول البعض التفرقة بين كلمتين يونانيّتين تُتَرجمان بالـكلمة، أي الكلمتان اليونانيّتان ريما rhema ولوغُس logos. ولكنَّ بطرس استخدم كلتا الكلمتين هنا (لوغُس في ٢٣:١ وريما في ٢٥:١) للإشارة إلى نفس الفكرة عينها. وتتمتّع الكلمتان في بعض الأحيان باختلافات طفيفة، ولكن في الكثير من الأحيان لا توجد اختلافات كبيرة.