سفر دانيال – الإصحاح ٤
سقوط نبوخذنصّر وقيامه
أولًا. حلم نبوخذنصر بالشجرة
أ ) الآيات (١-٣): افتتاح مرسوم نبوخذنصّر.
١مِنْ نَبُوخَذْنَصَّرَ الْمَلِكِ إِلَى كُلِّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ السَّاكِنِينَ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا: لِيَكْثُرْ سَلاَمُكُمْ. ٢اَلآيَاتُ وَالْعَجَائِبُ الَّتِي صَنَعَهَا مَعِي اللهُ الْعَلِيُّ، حَسُنَ عِنْدِي أَنْ أُخْبِرَ بِهَا. ٣آيَاتُهُ مَا أَعْظَمَهَا، وَعَجَائِبُهُ مَا أَقْوَاهَا! مَلَكُوتُهُ مَلَكُوتٌ أَبَدِيٌّ وَسُلْطَانُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ.
١. نَبُوخَذْنَصَّرَ ٱلْمَلِكِ: يمثّل هذا الإصحاح الفريد شهادة لملك أممي عن الله الحي، وكيف أن قلبه تغيّر. وفي هذا، يمثّل نبوخذنصّر مثلًا جيدًا للشاهد (أي شخص يروي ما رآه واختبره).
٢. حَسُنَ عِنْدِي (استحسنتُ) أَنْ أُخْبِرَ بِهَا: إنه لأمر جيد أن نخبر بما فعله الله من أجلنا. فإبليس مهتم جدًّا بإبقائنا صامتين بشكل طبيعي حول اَلآيَاتُ وَالْعَجَائِبُ الَّتِي صَنَعَهَا الله لأجلنا.
٣. مَلَكُوتُهُ مَلَكُوتٌ أَبَدِيٌّ: كان نبوخذنصّر ملكًا عظيمًا، لكنه أقر بكلامه هذا بأن ملكوت الله أعظم بكثير من مملكته، وأن سلطانه فريد لأن ملكوته أبدي.
ب) الآيات (٤-٩): دانيال وحده قادر على تفسير حلم نبوخذنصّر.
٤أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرُ قَدْ كُنْتُ مُطْمَئِنًّا فِي بَيْتِي وَنَاضِرًا فِي قَصْرِي. ٥رَأَيْتُ حُلْمًا فَرَوَّعَنِي، وَالأَفْكَارُ عَلَى فِرَاشِي وَرُؤَى رَأْسِي أَفْزَعَتْنِي. ٦فَصَدَرَ مِنِّي أَمْرٌ بِإِحْضَارِ جَمِيعِ حُكَمَاءِ بَابِلَ قُدَّامِي لِيُعَرِّفُونِي بِتَعْبِيرِ الْحُلْمِ. ٧حِينَئِذٍ حَضَرَ الْمَجُوسُ وَالسَّحَرَةُ وَالْكَلْدَانِيُّونَ وَالْمُنَجِّمُونَ، وَقَصَصْتُ الْحُلْمَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُعَرِّفُونِي بِتَعْبِيرِهِ. ٨أَخِيرًا دَخَلَ قُدَّامِي دَانِيآلُ الَّذِي اسْمُهُ بَلْطَشَاصَّرُ كَاسْمِ إِلهِي، وَالَّذِي فِيهِ رُوحُ الآلِهَةِ الْقُدُّوسِينَ، فَقَصَصْتُ الْحُلْمَ قُدَّامَهُ: ٩«يَا بَلْطَشَاصَّرُ، كَبِيرُ الْمَجُوسِ، مِنْ حَيْثُ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ فِيكَ رُوحَ الآلِهَةِ الْقُدُّوسِينَ، وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ سِرٌّ، فَأَخْبِرْنِي بِرُؤَى حُلْمِي الَّذِي رَأَيْتُهُ وَبِتَعْبِيرِهِ.
١. قَدْ كُنْتُ مُطْمَئِنًّا (مرتاحًا) فِي بَيْتِي وَنَاضِرًا فِي قَصْرِي: كانت طمأنينة نبوخذنصّر، أو راحته، أو سلامه سلام الأشرار. فسرعان ما هزّه الله من أمانه الزائف.
٢. وَقَصَصْتُ ٱلْحُلْمَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُعَرِّفُونِي بِتَعْبِيرِهِ: يختلف هذا عن الحلم في دانيال ٢. ففي هذا الحلم، أخبر الملك مسشتشاريه على الفور بحلمه. لكنهم لم يخبروه بتفسيره. كان الحلم سهل التفسير، لكن يرجح أن الحكماء افتقروا إلى الشجاعة أكثر من البصيرة. إذ لم يقل نبوخذنصّر إنهم لم يقدروا أن يفسروه، بل قال: فَلَمْ يُعَرِّفُونِي بِتَعْبِيرِهِ.
٣. أَخِيرًا دَخَلَ قُدَّامِي دَانِيآلُ: “ولماذا ’أخيرًا‘؟ ألم يُرسل في طلبه قبل ذلك؟ لو حقق السحرة والعرافون الغرض المنشود، لما طُلِب من دانيال ذلك. هذا هو ستار الرجال الحمقى الذين لا يلجؤون إلى الله إلى أن يخذلهم كل ملجأ آخر.” (تراب)
٤. ٱلَّذِي ٱسْمُهُ بَلْطَشَاصَّرُ كَٱسْمِ إِلَهِي: قبل أن يفسّر دانيال الحلم الموصوف في هذا الإصحاح لنبوخذنصّر، عدَّ الملك البابلي الإله البابلي بيل (Bel) إلهه.
• يعني هذا أن ما رآه سابقًا مع دانيال والرجال العبرانيين الثلاثة كافيًا لإثارة إعجابه، لكنه لم يكن كافيًّا للاهتداء إلى الإيمان بالإله العبراني. فالإعجاب بالله لا يعني أن تتجدد أو تولد ثانية.
ج) الآيات (١٠-١٧): مضمون الحلم: قيام شجرة عظيمة وسقوطها.
١٠فَرُؤَى رَأْسِي عَلَى فِرَاشِي هِيَ: أَنِّي كُنْتُ أَرَى فَإِذَا بِشَجَرَةٍ فِي وَسَطِ الأَرْضِ وَطُولُهَا عَظِيمٌ. ١١فَكَبُرَتِ الشَّجَرَةُ وَقَوِيَتْ، فَبَلَغَ عُلُوُّهَا إِلَى السَّمَاءِ وَمَنْظَرُهَا إِلَى أَقْصَى كُلِّ الأَرْضِ. ١٢أَوْرَاقُهَا جَمِيلَةٌ وَثَمَرُهَا كَثِيرٌ وَفِيهَا طَعَامٌ لِلْجَمِيعِ، وَتَحْتَهَا اسْتَظَلَّ حَيَوَانُ الْبَرِّ، وَفِي أَغْصَانِهَا سَكَنَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ، وَطَعِمَ مِنْهَا كُلُّ الْبَشَرِ. ١٣كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى رَأْسِي عَلَى فِرَاشِي وَإِذَا بِسَاهِرٍ وَقُدُّوسٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ١٤فَصَرَخَ بِشِدَّةٍ وَقَالَ هكَذَا: اقْطَعُوا الشَّجَرَةَ، وَاقْضِبُوا أَغْصَانَهَا، وَانْثُرُوا أَوْرَاقَهَا، وَابْذُرُوا ثَمَرَهَا، لِيَهْرُبَ الْحَيَوَانُ مِنْ تَحْتِهَا وَالطُّيُورُ مِنْ أَغْصَانِهَا. ١٥وَلكِنِ اتْرُكُوا سَاقَ أَصْلِهَا فِي الأَرْضِ، وَبِقَيْدٍ مِنْ حَدِيدٍ وَنُحَاسٍ فِي عُشْبِ الْحَقْلِ، وَلْيَبْتَلَّ بِنَدَى السَّمَاءِ، وَلْيَكُنْ نَصِيبُهُ مَعَ الْحَيَوَانِ فِي عُشْبِ الْحَقْلِ. ١٦لِيَتَغَيَّرْ قَلْبُهُ عَنِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَلِيُعْطَ قَلْبَ حَيَوَانٍ، وَلْتَمْضِ عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَزْمِنَةٍ. ١٧هذَا الأَمْرُ بِقَضَاءِ السَّاهِرِينَ، وَالْحُكْمُ بِكَلِمَةِ الْقُدُّوسِينَ، لِكَي تَعْلَمَ الأَحْيَاءُ أَنَّ الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ، فَيُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ، وَيُنَصِّبَ عَلَيْهَا أَدْنَى النَّاسِ.
١. فَإِذَا بِشَجَرَةٍ فِي وَسَطِ ٱلْأَرْضِ: هنالك إشارة إلى حجم الشجرة في حلم نبوخذنصّر، وقوّتها، وبروزها، وجمالها، وكونها ملجأ.
٢. فَصَرَخَ بِشِدَّةٍ وَقَالَ هَكَذَا: قام الساهر (المراقب) السماوي (يرجح أنه كان ملاكًا) بشرح مصير الشجرة. ولاحظ أنها ستُقطع وستفقد حجمها، وقوّتها، وبروزها، وجمالها، وثمرها، وكونها ملجأ. وقال أيضًا إن الشجرة تمثل رجلًا سيتغيّر وْيُعْطَى قَلْبَ حَيَوَانٍ.
• وَبِقَيْدٍ مِنْ حَدِيدٍ وَنُحَاسٍ: كان هذا إما لحجز جذع الشجرة أو حمايته. ولن تكون الشجرة بعد حرة وعظيمة.
٣. لِكَي تَعْلَمَ ٱلْأَحْيَاءُ أَنَّ ٱلْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ ٱلنَّاسِ: سمع نبوخذنصّر هذه الكلمات في حلمه. وفي ضوء ذلك، لم يكن صعبًا تفسير الحلم. إذ من الواضح أنه يدور حول إذلال ملك عظيم. فلا عجب أن أيًّا من مستشاريه لم يقبل أن يفسر الحلم له.
• أراد نبوخذنصّر، شأنه شأن معظم الملوك قديمًا وحديثًا، أن يحكم بدلًا من الله أو أي شخص آخر. “اعتقد كل من ملوك أشور وبابل أنهم حكام فوق كل الأرض، واصفين أنفسهم هكذا في نقوشهم.” وود (Wood)
د ) الآية (١٨): نبوخذنصّر يطلب من دانيال أن يفسر الحلم.
١٨هذَا الْحُلْمُ رَأَيْتُهُ أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرَ الْمَلِكَ. أَمَّا أَنْتَ يَا بَلْطَشَاصَّرُ فَبَيِّنْ تَعْبِيرَهُ، لأَنَّ كُلَّ حُكَمَاءِ مَمْلَكَتِي لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُعَرِّفُونِي بِالتَّعْبِيرِ. أَمَّا أَنْتَ فَتَسْتَطِيعُ، لأَنَّ فِيكَ رُوحَ الآلِهَةِ الْقُدُّوسِينَ».
١. فَبَيِّنْ تَعْبِيرَهُ (أخبرني بتفسيره): عرف نبوخذنصّر أن بإمكانه أن يحصل على إجابة صادقة من دانيال حتى عندما تكون الحقيقة صعبة.
٢. أَمَّا أَنْتَ فَتَسْتَطِيعُ، لِأَنَّ فِيكَ رُوحَ ٱلْآلِهَةِ ٱلْقُدُّوسِينَ: رغم أن نبوخذنصّر أدرك أن دانيال رجل ممتلئ بروح الله القدوس، إلا أنه لم يسلّم نفسه لهذا الإله القدوس.
ثانيًا. دانيال يفسّر حلم نبوخذنصّر
أ ) الآيات (١٩-٢٦): دانيال يشرح صعود نبوخذنصّر وسقوطه القادم.
١٩حِينَئِذٍ تَحَيَّرَ دَانِيآلُ الَّذِي اسْمُهُ بَلْطَشَاصَّرُ سَاعَةً وَاحِدَةً وَأَفْزَعَتْهُ أَفْكَارُهُ. أَجَابَ الْمَلِكُ وَقَالَ: «يَا بَلْطَشَاصَّرُ، لاَ يُفْزِعُكَ الْحُلْمُ وَلاَ تَعْبِيرُهُ». فَأَجَابَ بَلْطَشَاصَّرُ وَقَالَ: «يَا سَيِّدِي، الْحُلْمُ لِمُبْغِضِيكَ وَتَعْبِيرُهُ لأَعَادِيكَ. ٢٠اَلشَّجَرَةُ الَّتِي رَأَيْتَهَا، الَّتِي كَبُرَتْ وَقَوِيَتْ وَبَلَغَ عُلُوُّهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَمَنْظَرُهَا إِلَى كُلِّ الأَرْضِ، ٢١وَأَوْرَاقُهَا جَمِيلَةٌ وَثَمَرُهَا كَثِيرٌ وَفِيهَا طَعَامٌ لِلْجَمِيعِ، وَتَحْتَهَا سَكَنَ حَيَوَانُ الْبَرِّ، وَفِي أَغْصَانِهَا سَكَنَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ، ٢٢إِنَّمَا هِيَ أَنْتَ يَاأَيُّهَا الْمَلِكُ، الَّذِي كَبُرْتَ وَتَقَوَّيْتَ، وَعَظَمَتُكَ قَدْ زَادَتْ وَبَلَغَتْ إِلَى السَّمَاءِ، وَسُلْطَانُكَ إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ. ٢٣وَحَيْثُ رَأَى الْمَلِكُ سَاهِرًا وَقُدُّوسًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ: اقْطَعُوا الشَّجَرَةَ وَأَهْلِكُوهَا، وَلكِنِ اتْرُكُوا سَاقَ أَصْلِهَا فِي الأَرْضِ، وَبِقَيْدٍ مِنْ حَدِيدٍ وَنُحَاسٍ فِي عُشْبِ الْحَقْلِ، وَلْيَبْتَلَّ بِنَدَى السَّمَاءِ، وَلْيَكُنْ نَصِيبُهُ مَعَ حَيَوَانِ الْبَرِّ، حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَزْمِنَةٍ. ٢٤فَهذَا هُوَ التَّعْبِيرُ أَيُّهَا الْمَلِكُ، وَهذَا هُوَ قَضَاءُ الْعَلِيِّ الَّذِي يَأْتِي عَلَى سَيِّدِي الْمَلِكِ: ٢٥يَطْرُدُونَكَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَتَكُونُ سُكْنَاكَ مَعَ حَيَوَانِ الْبَرِّ وَيُطْعِمُونَكَ الْعُشْبَ كَالثِّيرَانِ، وَيَبُلُّونَكَ بِنَدَى السَّمَاءِ، فَتَمْضِي عَلَيْكَ سَبْعَةُ أَزْمِنَةٍ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ وَيُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ. ٢٦وَحَيْثُ أَمَرُوا بِتَرْكِ سَاقِ أُصُولِ الشَّجَرَةِ، فَإِنَّ مَمْلَكَتَكَ تَثْبُتُ لَكَ عِنْدَمَا تَعْلَمُ أَنَّ السَّمَاءَ سُلْطَانٌ.
١. أَفْزَعَتْهُ أَفْكَارُهُ: كان دانيال مهتمًّا لأمر نبوخذنصّر بصدق. ومن الواضح أنه تأثّر بمعنى الحلم. لم يُرِد أن يكون هذا الحلم صحيحًا بالنسبة لصديقه نبوخذنصّر.
٢. إِنَّمَا هِيَ أَنْتَ يَا أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ: طبّق دانيال النقطة من دون غموض. فبدلًا من الوصول إلى نقطة عامّة (مثل القول، ’نحتاج جميعًا إلى مزيد من التواضع.‘) جلب له الحق بمحبة. ويشبه هذا ما قاله النبي ناثان للملك داود: ’أنت هو الرجل‘ (٢ صموئيل ١٢: ٧).
• “غالبًا ما يمثَّل الرجال العظماء والرؤساء تحت تشابيه الأشجار. انظر حزقيال ١٧: ٥-٦؛٣١: ٣ فصاعدًا؛ إرميا ٢٢: ١٥؛ مزمور ١: ٣؛ ٣٧: ٣٥.” كلارك (Clarke)
٣. يَطْرُدُونَكَ مِنْ بَيْنِ ٱلنَّاسِ، وَتَكُونُ سُكْنَاكَ مَعَ حَيَوَانِ ٱلْبَرِّ وَيُطْعِمُونَكَ ٱلْعُشْبَ كَٱلثِّيرَانِ، وَيَبُلُّونَكَ بِنَدَى ٱلسَّمَاءِ: عندما شرح دانيال هذا لنبوخذنصّر، ربما لم يستطع الملك أن يخمّن كيف يمكن أن يتحقق هذا حرفيًّا.
٤. عِنْدَمَا تَعْلَمُ أَنَّ ٱلسَّمَاءَ سُلْطَانٌ: كان هذا قصد الله لنبوخذنصّر. وكان بإمكان الملك أن يتجنب هذا المصير المذل لو أنه تواضع بصدق.
ب) الآية (٢٧): دانيال، كواعظ ماهر، يطبّق الرسالة: تُبْ، فربما لم يفت الأوان.
٢٧لِذَلِكَ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ، فَلْتَكُنْ مَشُورَتِي مَقْبُولَةً لَدَيْكَ، وَفَارِقْ خَطَايَاكَ بِٱلْبِرِّ وَآثَامَكَ بِٱلرَّحْمَةِ لِلْمَسَاكِينِ، لَعَلَّهُ يُطَالُ ٱطْمِئْنَانُكَ.
١. فَارِقْ خَطَايَاكَ: رد الفعل السليم للتهديد بالدينونة هو التواضع والتوبة. ولسوء الحظ، فإن نبوخذنصر لم يفعل هذا. وكان عليه أن يتبع نموذج توبة نينوى عندما استمعت إلى كرازة يونان (يونان ٣).
• ربما نعتقد أنه كان لنبوخذنصّر سبب وجيه ليكون متفاخرًا متكبرًا. إذ كان ملكًا عظيمًا. ومع ذلك، كان عليه أن يتذكر المبدأ الذي طرحه بنيامين فرانكلين في أحد أمثاله: “إن أعظم ملك على أكثر عرش افتخارًا ملزم بالجلوس على مؤخرته.”
٢. فَارِقْ خَطَايَاكَ بِٱلْبِرِّ وَآثَامَكَ بِٱلرَّحْمَةِ لِلْمَسَاكِينِ: لم ينصح دانيال الملك بأن يتوقف عن الخطية كلّيًّا فحسب، بل أن يمارس البر والكرم أيضًا.
ثالثًا. تحقيق الحلم
أ ) الآيات (٢٨-٣٣): نبوخذنصّر يصاب بالجنون ويُذَل.
٢٨كُلُّ هذَا جَاءَ عَلَى نَبُوخَذْنَصَّرَ الْمَلِكِ. ٢٩عِنْدَ نِهَايَةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا كَانَ يَتَمَشَّى عَلَى قَصْرِ مَمْلَكَةِ بَابِلَ. ٣٠وَأَجَابَ الْمَلِكُ فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ هذِهِ بَابِلَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي بَنَيْتُهَا لِبَيْتِ الْمُلْكِ بِقُوَّةِ اقْتِدَارِي، وَلِجَلاَلِ مَجْدِي؟» ٣١وَالْكَلِمَةُ بَعْدُ بِفَمِ الْمَلِكِ، وَقَعَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: «لَكَ يَقُولُونَ يَا نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلِكُ: إِنَّ الْمُلْكَ قَدْ زَالَ عَنْكَ. ٣٢وَيَطْرُدُونَكَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَتَكُونُ سُكْنَاكَ مَعَ حَيَوَانِ الْبَرِّ، وَيُطْعِمُونَكَ الْعُشْبَ كَالثِّيرَانِ، فَتَمْضِي عَلَيْكَ سَبْعَةُ أَزْمِنَةٍ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ وَأَنَّهُ يُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ». ٣٣فِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَمَّ الأَمْرُ عَلَى نَبُوخَذْنَصَّرَ، فَطُرِدَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَأَكَلَ الْعُشْبَ كَالثِّيرَانِ، وَابْتَلَّ جِسْمُهُ بِنَدَى السَّمَاءِ حَتَّى طَالَ شَعْرُهُ مِثْلَ النُّسُورِ، وَأَظْفَارُهُ مِثْلَ الطُّيُورِ.
١. عِنْدَ نِهَايَةِ ٱثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا: أعطى الله نبوخذنصّر ١٢ شهرًا ليتوب. وربما نسي الملك الحلم الذي رآه، لكن الله لم ينسَ.
٢. أَلَيْسَتْ هَذِهِ بَابِلَ ٱلْعَظِيمَةَ ٱلَّتِي بَنَيْتُهَا: كانت بابل بالفعل واحدة من المدن الرائعة في العالم القديم. وقد ضمّت الحدائق المعلّقة الشهيرة التي بناها نبوخذنصّر.
• عرف دانيال أن بابل الجديدة كانت من صنع نبوخذنصّر (دانيال ٤: ٣٠)، وهو أمر كان يُعتقد سابقًا أنه غير صحيح. ولم يتم التحقق من هذا الأمر إلا بالحفريات الأثرية الحديثة. فلم يعتقد أحد في العصر المكابي (القرن الثاني ق. م.) أن نبوخذنصر هو الذي بنى بابل الجديدة.
• توجد في المتحف البريطاني ستة أعمدة من الكتابة عُثر عليها في بابل تصوّر مشروعات البناء الضخمة لنبوخذنصّر وحماسته لتوسيع المدينة وتجميلها.
• تحمل معظم اللبنات التي عُثِر عليها في بابل هذا الطابع: “نبوخذنصّر، ملك بابل، ناصر إيساجيلا وإيزيدا، والبكر المعظم لنبوبولاصّر، ملك بابل.”
• لا يستطيع أن يشرح الذين ينسبون كتابة سفر دانيال إلى تاريخ متأخر (الذين يقولون إنه كُتِب في زمن المكابيين حوالي ١٦٧ ق. م.) كيف أن كاتبًا متأخرًا يمكن أن ينسب بدقة أبنية بابل المذهلة إلى نبوخذنصّر. ولهذا قال أحد المفسرين الليبراليين للكتاب المقدس، ر. ه. آرتشر، عن هذه المشكلة: “سنفترض أننا لن نعلم أبدًا.”
٣. وَيَطْرُدُونَكَ مِنْ بَيْنِ ٱلنَّاسِ… وَيُطْعِمُونَكَ ٱلْعُشْبَ كَٱلثِّيرَانِ: جاء الإعلان إلى نبوخذنصّر بنفس الكلمات التي سمعها في الحلم. ويدل هذا على أن حلمه كان على وشك التحقق، وأن الملك سيتحول ويعيش لفترة كحيوان، وعلى نحو التحديد، كثور.
• لوحظ وجود شكل للجنون يعتقد فيه الأشخاص أنهم حيوانات ويقلدون سلوك حيوان. وهو يسمّى (insania zoanthropica) بشكل عام. وهو يُدعى على نحو محدد في حالة نبوخذنصّر (boanthropy) وهو وهم المريض بأنه ثور.
• يقتبس والفورد (Walvoord) كلامًا من طبيب إنجليزي اسمه ريموند هاريسون الذي كان لديه مريض يعاني من حالة (boanthropy) وهو نفس المرض الذي عانى منه نبوخذنصّر.
٤. فَطُرِدَ مِنْ بَيْنِ ٱلنَّاسِ، وَأَكَلَ ٱلْعُشْبَ كَٱلثِّيرَانِ: “لا يوجد سجل مماثل لفترة السنوات السبعة (سَبْعَةُ أَزْمِنَةٍ) من الجنون في السجلات التاريخية العلمانية لبابل، وهو أمر متوقع تمامًا، مع الأخذ بالاعتبار عادات ذلك الزمان. ومع ذلك، ذكر المؤرخ اليوناني أبدينوس عام ٢٦٨ ق. م. قد ’مُسَّ نبوخذنصر من إله ما‘ وأنه ’اختفى فورًا.‘” وود (Wood)
• يرفض بعضهم رواية نبوخذنصّر على أنها غير تاريخية. لكن لا يوجد أي سجل تاريخي لنشاطه الإداري بين ٥٨٢ و ٥٧٥ ق. م. ويصمّ هذا الصمت هذا الآذان، لاسيما عندما نضع في اعتبارنا كيف أن قادة الشرق الأدنى القديم كانوا يصرخون بإنجازاتهم بشكل أناني، ويخفون كل ما يُحرجهم.
• “رغم أن النقاد تخيلوا سلسلة من الاعتراضات المذهلة على قبول هذا الإصحاح على أنه أصلي ودقيق بشكل معقول، إلا أن الرواية تسير بشكل معقول جدًّا، وأن الاعتراضات تبدو تافهة وغير مدعومة.” والفورد (Walvoord)
• أُعطي لنبوخذنصّر الفرصة ليتواضع، لكنه لم يفعل ذلك. وها قد أذلَّه الله. فكانت هذه خبرة أشد بكثير مما كان يمكن أن يختبره لو أنه تواضع (أذلّ نفسه بنفسه).
ب) الآيات (٣٤-٣٧): استرداد نبوخذنصّر وتسبيحه لله.
٣٤وَعِنْدَ انْتِهَاءِ الأَيَّامِ، أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، رَفَعْتُ عَيْنَيَّ إِلَى السَّمَاءِ، فَرَجَعَ إِلَيَّ عَقْلِي، وَبَارَكْتُ الْعَلِيَّ وَسَبَّحْتُ وَحَمَدْتُ الْحَيَّ إِلَى الأَبَدِ، الَّذِي سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ، وَمَلَكُوتُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ٣٥وَحُسِبَتْ جَمِيعُ سُكَّانِ الأَرْضِ كَلاَ شَيْءَ، وَهُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أَوْ يَقُولُ لَهُ: «مَاذَا تَفْعَلُ؟». ٣٦فِي ذلِكَ الْوَقْتِ رَجَعَ إِلَيَّ عَقْلِي، وَعَادَ إِلَيَّ جَلاَلُ مَمْلَكَتِي وَمَجْدِي وَبَهَائِي، وَطَلَبَنِي مُشِيرِيَّ وَعُظَمَائِي، وَتَثَبَّتُّ عَلَى مَمْلَكَتِي وَازْدَادَتْ لِي عَظَمَةٌ كَثِيرَةٌ. ٣٧فَالآنَ، أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، أُسَبِّحُ وَأُعَظِّمُ وَأَحْمَدُ مَلِكَ السَّمَاءِ، الَّذِي كُلُّ أَعْمَالِهِ حَقٌّ وَطُرُقِهِ عَدْلٌ، وَمَنْ يَسْلُكُ بِالْكِبْرِيَاءِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُذِلَّهُ.
١. وَعِنْدَ ٱنْتِهَاءِ ٱلْأَيَّامِ: لم يستطع نبوخذنصّر أن يتحرر من جنونه إلى أن حدد الله نهاية الوقت لذلك. ثمّ سُمحت له الفرصة ليتواضع ويرفع عينيه إلى السماء.
• عرف نبوخذنصّر المبدأ الذي شرحه سبيرجن (Spurgeon) لاحقًا: “الإله الذي نعبده غير موجود فحسب، لكنه يملك أيضًا. فلا يوجد منصب يلائمه سوى السيادة غير المحدودة على كل خلائقه.”
٢. بَارَكْتُ ٱلْعَلِيَّ وَسَبَّحْتُ وَحَمَدْتُ ٱلْحَيَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ: رأى نبوخذنصّر حقيقته عندما رأى حقيقة الله. إذ رأى الملك البابلي هوية الله، وامتدح سيادته ببلاغة. وبعد ذلك، رجع إلى رشده (رَجَعَ إِلَيَّ عَقْلِي).
• تثمر العودة إلى الرشد، أو عودة العقل، عن العبادة. “نحن لا نعبد بما يكفي، أيها الإخوة. حتى في اجتماعاتنا العامة، ليست عبادتنا كافية. فاعبدوا الملك! احنوا رؤوسكم الآن. وبالأحرى، احنوا أرواحكم، واعبدوا ذاك الحيّ إلى الأبد. إذ أفكاركم وعواطفكم أفضل من عجول وتيوس تقدَّم على المذبح. وسيقبلها الله. اعبدوه بتوقير وتواضع عميقين، لأنكم لا شيء، وهو الكل في الكل.” سبيرجن (Spurgeon)
• تثمر العودة إلى الرشد عن الصلاة. فإذا ما صدّقنا ما آمن به نبوخذنصّر عن الله، فمن المؤكد أن هذا سينعكس على حياة صلاتنا. إذ سنعرف أن الله يستطيع أن يغيّر قلب الإنسان وعقله، ومسار الأنهار، وتدفق المحيطات، وتوزيع الموارد، ووظائف الملائكة.
• اقترح سبيرجن (Spurgeon) الاستجابة الملائمة للمؤمن لعظمة الله وسيادته.
ليكن لك قلب عبادة متواضع.
أَظهِر قلب قبول لا يشك.
مارس روح المحبة الوقور.
دع روحك تتمتع بسرور عميق.
٣. وَعَادَ إِلَيَّ جَلَالُ مَمْلَكَتِي وَمَجْدِي وَبَهَائِي: أراد الله أن يسترد نبوخذنصّر. كان الهدف هو أن يذل كبرياءه ليوصله إلى مكانه الملائم أمام الله وبين الناس. وبالفعل، تعلَّم أن الله قادر على إذلال الذين يسلكون بكبرياء.
• الدرس الدائم الذي لا يتغير، واضح جدًا: ’يُقَاوِمُ ٱللهُ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا ٱلْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً‘ (يعقوب ٤: ٦). كان هنالك كثيرون ممن ارتقوا من أصول متواضعة إلى مجد عظيم، ثم سقطوا. وقد سقط معظمهم، إن لم يكونوا كلهم، من خلال الكبرياء. فالنظرة المستعلية أو المتكبرة هي الرقم واحد في قائمة الخطايا التي يكرهها الله بشدة (أمثال ٦: ١٦-١٩).
• نرى أيضًا أن الله سيمجد نفسه بين الشعوب. فعندما أخذ نبوخذنصّر بعض كنوز هيكل أورشليم ووضعها في معابد آلهته، اعتقد أن آلهته أقوى من إله إبراهيم وإسحق ويعقوب. وبنهاية دانيال ٤، عرف نبوخذنصّر من هو الإله الحقيقي. وعندما عرف ذلك، لم يخجل من إخبار الناس بما تَعلَّمه. لقد كان شاهدًا حقيقيًّا لأعمال الله العظيمة.
• يجد بعضهم أهمية نبوية في هذه الرواية. فبما أن بابل تُذكر في الكتاب المقدس كرمز للنظام العالمي بشكل عام، يمكننا القول إن:
جنون نبوخذنصر يُنذر (كصورة رمزية مسبقة) بجنون الشعوب الأممية في رفضها لله.
سقوط نبوخذنصّر يصوّر دينونة يسوع للشعوب.
استرداد نبوخذنصّر يُنذِر باسترداد بعض هذه الأمم في المُلك الألفي.