سفر دانيال – الإصحاح ٥
الكتابة على الحائط
أولًا. رسالة مزعجة من الله
أ ) الآيات (١-٤): وليمة بيلشاصّر العظيمة التجديفية.
١بَيْلْشَاصَّرُ الْمَلِكُ صَنَعَ وَلِيمَةً عَظِيمَةً لِعُظَمَائِهِ الأَلْفِ، وَشَرِبَ خَمْرًا قُدَّامَ الأَلْفِ. ٢وَإِذْ كَانَ بَيْلْشَاصَّرُ يَذُوقُ الْخَمْرَ، أَمَرَ بِإِحْضَارِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا نَبُوخَذْنَصَّرُ أَبُوهُ مِنَ الْهَيْكَلِ الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ، لِيَشْرَبَ بِهَا الْمَلِكُ وَعُظَمَاؤُهُ وَزَوْجَاتُهُ وَسَرَارِيهِ. ٣حِينَئِذٍ أَحْضَرُوا آنِيَةَ الذَّهَبِ الَّتِي أُخْرِجَتْ مِنْ هَيْكَلِ بَيْتِ اللهِ الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ، وَشَرِبَ بِهَا الْمَلِكُ وَعُظَمَاؤُهُ وَزَوْجَاتُهُ وَسَرَارِيهِ. ٤كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيُسَبِّحُونَ آلِهَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ.
١. بَيْلْشَاصَّرُ ٱلْمَلِكُ: مع بداية دانيال ٥، لا يعود نبوخذنصّر ملكًا على بابل. فكيف انتقل الحكم منه إلى بَيْلْشَاصَّر؟ يعطينا المؤرخ القديم بيروسوس الترتيب الزمني للأحداث.
• مات نبوخذنصّر بعد حكم دام ٤٣ سنة.
• حكم ابن نبوخذنصّر، مردوخ الشرير (المذكور في ٢ ملوك ٢٥: ٢٧-٣٠ وإرميا ٥٢: ٣١-٣٤)، مدة سنتين فقط عندما اغتيل على يد صهره نيريجلاسر، لأن حكمه كان استبداديًّا وفاسقًا.
• حكم نيريجلاسر المذكور في إرميا ٣٩: ٣، ١٣ مدة أربع سنوات حتى مات ميتة طبيعية.
• حكم ابنه، لابوروسوارشود، كطفل ذي قدرة عقلية متدنية مدة تسعة شهور فقط عندما تعرض للضرب حتى الموت على أيدي عصابة من المتآمرين.
• عيّنَ المتآمرون نبونيدوس، أحد أفراد عصابتهم، ملكًا حتى غزا كورش الفارسي بابل.
٢. بَيْلْشَاصَّرُ ٱلْمَلِكُ: عرف المؤرخون وعلماء الآثار أنه قيل إن نبونيدوس كان آخر ملك بابلي، لا بيلشاصّر (الذي كان بكر نبونيدوس). وكان حل هذا التناقض المزعوم عندما كُشفت أدلة لا تشير إلى ارتباط بيلشاصّر بننبونيدوس على العرش فحسب، بل تشير أيضًا إلى أنه أثناء الجزء الأخير من حكم نبونيدوس، عاش في شبه الجزيرة العربية، تاركًا إدارة بابل لابنه الأكبر بيلشاصّر.
• لم يعد هنالك أي ذِكر إضافي لبيلشاصّر، البكر والمشارك في الحكم مع نبونيدوس حتى اكتشاف أسطوانة نبونيدوس في هذا القرن. وهي معروضة الآن في المتحف البريطاني.
• حسب السجلات البابلية، صار بيلشاصر ملكًا حاكمًا مشاركًا مع أبيه في السنة الثالثة من حكم أبيه (٥٥٣ ق. م.)، واستمر بهذه الصفة حتى سقوط بابل (٥٣٩ ق. م.).
• من المرجح أنه في زمن دانيال، كان نبونيدوس قد ذهب لمحاربة الجيش المادي ووقع في الأسر. وحاصرت تلك الجيوش بابل الآن باحثة عن طريق إلى المدينة المحصّنة بشدة.
٣. صَنَعَ وَلِيمَةً عَظِيمَةً لِعُظَمَائِهِ ٱلْأَلْفِ: لم يخشَ بيلشاصّر الحصار المفروض على المدينة. إذ كان واثقًا بدفاعات بابل الرائعة وإمداداتها الهائلة.
• حدّدت الحسابات المحافِظة أبعاد مدينة بابل هكذا:
كان طول الأسوار الخارجية ١٧ ميلًا (٢٧ كم).
كان سُمْك الأسوار ٢٢ قدمًا (٧ أمتار) وارتفاعها ٩٠ قدمًا (٢٨ مترًا).
كان للأسوار الخارجية أبراج حراسة أخرى بارتفاع ١٠٠ قدم (٣٠ مترًا).
كانت أبواب المدينة مصنوعة من النحاس.
جعل نظام الأسوار والخنادق الداخلية والخارجية المدينة آمنة جدًّا.
٤. الَّتِي أَخْرَجَهَا نَبُوخَذْنَصَّرُ أَبُوهُ مِنَ الْهَيْكَلِ: لم يكن نبوخذنصّر الأب المباشر لبيلشاصّر. فإما أنه كان جده من جهة أمه، أو أنه كان أباه بمعنى أنه سبق أن شغل العرش الذي كان يشغله بيلشاصّر الآن. وقد تمّ قبول استخدام مصطلح الأب هكذا في العصور القديمة.
٥. كَانُوا يَشْرَبُونَ ٱلْخَمْرَ وَيُسَبِّحُونَ آلِهَةَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلنُّحَاسِ وَٱلْحَدِيدِ وَٱلْخَشَبِ وَٱلْحَجَرِ: يذكّرنا مشهد الاحتفال أثناء حصار المدينة بروح العصر الحالي، حيث يعتقد كثيرون أن أفضل رد على الخطر البادي للأزمنة هو نسيانه والسعي وراء المتعة.
• دعا بولس السُّكْر في أفسس ٥: ١٨ ’خلاعة.‘ والمقصود هو التبديد. فالسًّكْر إهدار للموارد التي ينبغي أن تخضع ليسوع. كتب جون تراب (John Trapp) عن الأشياء الثلاثة التي تذهب مع السُّكْر: “الجِعة (البيرة) من البرميل، والمال من المحفظة، والعقل من الرأس.” (تفسير تراب لرسالة غلاطية ٥: ٢١).
٦. أَحْضَرُوا آنِيَةَ ٱلذَّهَبِ ٱلَّتِي أُخْرِجَتْ مِنْ هَيْكَلِ بَيْتِ ٱللهِ ٱلَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ: كان بيلشاصّر من الحماقة بحيث لم يفقد كل مظاهر ضبط النفس في هذه الحفلة فحسب، بل سخر أيضًا من الله علانية. لقد ارتكب خطية تدنيس المقدسات. وهذا أمر لا يهم إلا قلة من الناس اليوم.
• كان الغرض من إحضار الآنية من الهيكل اليهودي تذكير المحتفلين بالنصر السابق. فقد أمِل بيلشاصّر أن يؤدي هذا إلى رفع روحهم المعنوية. “كما لو أن هذه الآلهة التي هي كومة من الروث انتصرت وغنمت إله إسرائيل. فكان هذا تجديفًا على درجة عالية، ولهذا عاقبه الله فورًا.” تراب (Trapp)
• تم اكتشاف ساحة كبيرة في بابل، ٥٦ -١٧٠ قدمًا، مزينة بأعمدة يونانية. وربما كان هذا هو المكان الذي أُقيمت فيه هذه الحفلة في دانيال ٥.
ب) الآية (٥): الله يكتب رسالة على الحائط.
٥فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ ظَهَرَتْ أَصَابِعُ يَدِ إِنْسَانٍ، وَكَتَبَتْ بِإِزَاءِ ٱلنِّبْرَاسِ عَلَى مُكَلَّسِ حَائِطِ قَصْرِ ٱلْمَلِكِ، وَٱلْمَلِكُ يَنْظُرُ طَرَفَ ٱلْيَدِ ٱلْكَاتِبَةِ.
١. ظَهَرَتْ أَصَابِعُ يَدِ إِنْسَانٍ: يمكن لله أن يتواصل مع الإنسان بطرق غير متوقعة وحتى صادمة، وهو يفعل هذا أحيانًا. وهنا ظهرت يد بشكل غامض وكتبت على الحائط.
٢. وَٱلْمَلِكُ يَنْظُرُ طَرَفَ ٱلْيَدِ ٱلْكَاتِبَةِ: ومن هنا، بطبيعة الحال، نحصل على العبارة الإنجليزية التي يُضرب بها المثل، ’الكتابة على الحائط‘ (بمعنى توقُّع شيء سيئ قريبًا).
ج) الآيات (٦-٩): رد فعل بيلشاصّر للرسالة ودعوته أي شخص لتفسير الرسالة.
٦حِينَئِذٍ تَغَيَّرَتْ هَيْئَةُ الْمَلِكِ وَأَفْزَعَتْهُ أَفْكَارُهُ، وَانْحَلَّتْ خَرَزُ حَقْوَيْهِ، وَاصْطَكَّتْ رُكْبَتَاهُ. ٧فَصَرَخَ الْمَلِكُ بِشِدَّةٍ لإِدْخَالِ السَّحَرَةِ وَالْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمُنَجِّمِينَ، فَأَجَابَ الْمَلِكُ وَقَالَ لِحُكَمَاءِ بَابِلَ: «أَيُّ رَجُل يَقْرَأُ هذِهِ الْكِتَابَةَ وَيُبَيِّنُ لِي تَفْسِيرَهَا فَإِنَّهُ يُلَبَّسُ الأُرْجُوَانَ وَقِلاَدَةً مِنْ ذَهَبٍ فِي عُنُقِهِ، وَيَتَسَلَّطُ ثَالِثًا فِي الْمَمْلَكَةِ». ٨ثُمَّ دَخَلَ كُلُّ حُكَمَاءِ الْمَلِكِ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَقْرَأُوا الْكِتَابَةَ، وَلاَ أَنْ يُعَرِّفُوا الْمَلِكَ بِتَفْسِيرِهَا. ٩فَفَزَعَ الْمَلِكُ بَيْلْشَاصَّرُ جِدًّا وَتَغَيَّرَتْ فِيهِ هَيْئَتُهُ، وَاضْطَرَبَ عُظَمَاؤُهُ.
١. وَٱنْحَلَّتْ خَرَزُ حَقْوَيْهِ، وَٱصْطَكَّتْ رُكْبَتَاهُ: كان وصف دانيال نابضًا بالحياة بحيث دبّ الرعب في نفس الملك. كان احتفالهم الدال على الخلو من الهموم ضحلًا. فقد تحوّل المرح إلى رعب في لحظة. ويبيّن هذا أيضًا أن ضميره كان نشطًا تحت هذا الاحتفال النشط.
• رغم كل شيء، إن لم يستطع بيلشاصّر أن يفهم الكتابة، فلماذا تزعجه إلى هذا الحد؟ لقد أزعجته لأن ضميره كان يشهد عليه.
• “لم يستطع أن يقرأ الكتابة أو أن يفهمها. لكن ضميره كتب أشياء مرة ضده، وقد صارت هذه مقروءة في نار غضب الله.” تراب (Trapp)
٢. أَيُّ رَجُلٍ يَقْرَأُ هَذِهِ ٱلْكِتَابَةَ وَيُبَيِّنُ لِي تَفْسِيرَهَا: “لم تكن الصعوبة بالنسبة للملك في إعطاء تعريف قاموسيٍّ للكلمات، لكن في معرفة الأهمية التي كانت تحملها.” بولدوين (Baldwin)
٣. يَتَسَلَّطُ ثَالِثًا فِي ٱلْمَمْلَكَةِ: اكتشف علماء الآثار سبب عرض بيلشاصّر لمترجم الكتابة المنصب الثالث في المملكة. لقد كان الملك الحقيقي هو نبونيدوس، وحكمَ ابنه بيلشاصّر كثانٍ بعده. ولم يكن بيلشاصّر ليتخلى عن مركزه الثاني في المملكة لأحد. فكان أفضل ما يمكن أن يقدّمه هو المركز الثالث.
٤. فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَقْرَأُوا ٱلْكِتَابَةَ، وَلَا أَنْ يُعَرِّفُوا ٱلْمَلِكَ بِتَفْسِيرِهَا: عندما جاء دانيال لتفسير هذه الكلمات، لم تبدُ صعبة الفهم. فربما تَعَمَّد الله وضع حجاب على عقول هؤلاء الأشخاص لكي يُدعى دانيال. ويفترض بعض المفسرين، مثل آدم كلارك (Adam Clarke)، أن حكماء بابل لم يتمكنوا من قراءة الكتابة لأنها كانت بالعبرية.
د ) الآيات (١٠-١٢): التوصية بدانيال كمفسّر للرسالة.
١٠أَمَّا الْمَلِكَةُ فَلِسَبَبِ كَلاَمِ الْمَلِكِ وَعُظَمَائِهِ دَخَلَتْ بَيْتَ الْوَلِيمَةِ، فَأَجَابَتِ الْمَلِكَةُ وَقَالَتْ: «أَيُّهَا الْمَلِكُ، عِشْ إِلَى الأَبَدِ! لاَ تُفَزِّعْكَ أَفْكَارُكَ وَلاَ تَتَغَيَّرُ هَيْئَتُكَ. ١١يُوجَدُ فِي مَمْلَكَتِكَ رَجُلٌ فِيهِ رُوحُ الآلِهَةِ الْقُدُّوسِينَ، وَفِي أَيَّامِ أَبِيكَ وُجِدَتْ فِيهِ نَيِّرَةٌ وَفِطْنَةٌ وَحِكْمَةٌ كَحِكْمَةِ الآلِهَةِ، وَالْمَلِكُ نَبُوخَذْنَصَّرُ أَبُوكَ جَعَلَهُ كَبِيرَ الْمَجُوسِ وَالسَّحَرَةِ وَالْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمُنَجِّمِينَ. أَبُوكَ الْمَلِكُ. ١٢مِنْ حَيْثُ إِنَّ رُوحًا فَاضِلَةً وَمَعْرِفَةً وَفِطْنَةً وَتَعْبِيرَ الأَحْلاَمِ وَتَبْيِينَ أَلْغَازٍ وَحَلَّ عُقَدٍ وُجِدَتْ فِي دَانِيآلَ هذَا، الَّذِي سَمَّاهُ الْمَلِكُ بَلْطَشَاصَّرَ. فَلْيُدْعَ الآنَ دَانِيآلُ فَيُبَيِّنَ التَّفْسِيرَ».
١. أَمَّا ٱلْمَلِكَةُ… دَخَلَتْ بَيْتَ ٱلْوَلِيمَةِ: يصعب تحديد هوية ٱلْمَلِكَة (أو الملكة الأم) على وجه اليقين. لكن من المرجح أنها كانت أم بيلشاصّر، ابنة نبوخذنصّر.
٢. يُوجَدُ فِي مَمْلَكَتِكَ رَجُلٌ: عندما دُعي الحكماء لشرح الكتابة على الحائط، يبدو أن دانيال لم يُدعَ معهم. ويبدو أن دانيال كان شبه متقاعد، مع إشغال منصب حكومي، لكن لم يكن شخصية كبيرة في الإدارة.
٣. دَانِيآلَ هَذَا، ٱلَّذِي سَمَّاهُ ٱلْمَلِكُ بَلْطَشَاصَّرَ: أشارت الملكة إلى دانيال باسمه العبراني، مُظهرة بهذا احترامًا لإيمانه وخلفيته.
هـ) الآيات (١٣-١٦): بيلشاصّر يطلب من دانيال أن يفسر الكتابة.
١٣حِينَئِذٍ أُدْخِلَ دَانِيآلُ إِلَى قُدَّامِ الْمَلِكِ. فَأَجَابَ الْمَلِكُ وَقَالَ لِدَانِيآلَ: «أَأَنْتَ هُوَ دَانِيآلُ مِنْ بَنِي سَبْيِ يَهُوذَا، الَّذِي جَلَبَهُ أَبِي الْمَلِكُ مِنْ يَهُوذَا؟ ١٤قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ أَنَّ فِيكَ رُوحَ الآلِهَةِ، وَأَنَّ فِيكَ نَيِّرَةً وَفِطْنَةً وَحِكْمَةً فَاضِلَةً. ١٥وَالآنَ أُدْخِلَ قُدَّامِي الْحُكَمَاءُ وَالسَّحَرَةُ لِيَقْرَأُوا هذِهِ الْكِتَابَةَ وَيُعَرِّفُونِي بِتَفْسِيرِهَا، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُبَيِّنُوا تَفْسِيرَ الْكَلاَمِ. ١٦وَأَنَا قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُفَسِّرَ تَفْسِيرًا وَتَحُلَّ عُقَدًا. فَإِنِ اسْتَطَعْتَ الآنَ أَنْ تَقْرَأَ الْكِتَابَةَ وَتُعَرِّفَنِي بِتَفْسِيرِهَا فَتُلَبَّسُ الأُرْجُوانَ وَقِلاَدَةً مِنْ ذَهَبٍ فِي عُنُقِكَ وَتَتَسَلَّطُ ثَالِثًا فِي الْمَمْلَكَةِ».
١. حِينَئِذٍ أُدْخِلَ دَانِيآلُ إِلَى قُدَّامِ ٱلْمَلِكِ: عندما يبدو كل شيء رائعًا – وتكون الحياة عبارة عن حفلة تدوم بلا توقف – يُهزأ بالله وخدامه ويُهمَلون ويُخفَون. لكن عندما كتبت يد الله رسالة مُصَحِّية، صرخ أهل العالم مذعورين طالبين ذاك الممتلئ بروح الله.
٢. قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ: بما أن بيلشاصّر لم يفكر في استدعاء دانيال، يبدو أنه تذكّره من بعيد، أو من خلال الملكة الأم الآن.
• “ليس لهذا الحاكم السخيف الضحل ما يقوله سوى ما وضعته أمه الأكثر حكمة على فمه.” تراب (Trapp)
ثانيًا. معنى الرسالة
أ ) الآيات (١٧-٢٣): مقدمة: دانيال يصف كبرياء بيلشاصّر الآثمة.
١٧فَأَجَابَ دَانِيآلُ وَقَالَ قُدَّامَ الْمَلِكِ: «لِتَكُنْ عَطَايَاكَ لِنَفْسِكَ وَهَبْ هِبَاتِكَ لِغَيْرِي. لكِنِّي أَقْرَأُ الْكِتَابَةَ لِلْمَلِكِ وَأُعَرِّفُهُ بِالتَّفْسِيرِ. ١٨أَنْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، فَاللهُ الْعَلِيُّ أَعْطَى أَبَاكَ نَبُوخَذْنَصَّرَ مَلَكُوتًا وَعَظَمَةً وَجَلاَلاً وَبَهَاءً. ١٩وَلِلْعَظَمَةِ الَّتِي أَعْطَاهُ إِيَّاهَا كَانَتْ تَرْتَعِدُ وَتَفْزَعُ قُدَّامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. فَأَيًّا شَاءَ قَتَلَ، وَأَيًّا شَاءَ اسْتَحْيَا، وَأَيًّا شَاءَ رَفَعَ، وَأَيًّا شَاءَ وَضَعَ. ٢٠فَلَمَّا ارْتَفَعَ قَلْبُهُ وَقَسَتْ رُوحُهُ تَجَبُّرًا، انْحَطَّ عَنْ كُرْسِيِّ مُلْكِهِ، وَنَزَعُوا عَنْهُ جَلاَلَهُ، ٢١وَطُرِدَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَتَسَاوَى قَلْبُهُ بِالْحَيَوَانِ، وَكَانَتْ سُكْنَاهُ مَعَ الْحَمِيرِ الْوَحْشِيَّةِ، فَأَطْعَمُوهُ الْعُشْبَ كَالثِّيرَانِ، وَابْتَلَّ جِسْمُهُ بِنَدَى السَّمَاءِ، حَتَّى عَلِمَ أَنَّ اللهَ الْعَلِيَّ سُلْطَانٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهَا مَنْ يَشَاءُ. ٢٢وَأَنْتَ يَا بَيْلْشَاصَّرُ ابْنَهُ لَمْ تَضَعْ قَلْبَكَ، مَعَ أَنَّكَ عَرَفْتَ كُلَّ هذَا، ٢٣بَلْ تَعَظَّمْتَ عَلَى رَبِّ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرُوا قُدَّامَكَ آنِيَةَ بَيْتِهِ، وَأَنْتَ وَعُظَمَاؤُكَ وَزَوْجَاتُكَ وَسَرَارِيكَ شَرِبْتُمْ بِهَا الْخَمْرَ، وَسَبَّحْتَ آلِهَةَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالنِّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ الَّتِي لاَ تُبْصِرُ وَلاَ تَسْمَعُ وَلاَ تَعْرِفُ. أَمَّا اللهُ الَّذِي بِيَدِهِ نَسَمَتُكَ، وَلَهُ كُلُّ طُرُقِكَ فَلَمْ تُمَجِّدْهُ.
١. لِتَكُنْ عَطَايَاكَ لِنَفْسِكَ: نتذكّر أن دانيال انزعج عندما اضطر لإبلاغ نبوخذنصّر أخبارًا سيئة (دانيال ٤: ١٩). ولم يكن هذا هو الحال هنا. إذ لم يُعجَب دانيال بخليفة نبوخذنصّر هذا.
٢. وَأَنْتَ يَا بَيْلْشَاصَّرُ ٱبْنَهُ لَمْ تَضَعْ قَلْبَكَ، مَعَ أَنَّكَ عَرَفْتَ كُلَّ هَذَا: كان دانيال قاسيًا جدًّا لأنه كان على بيلشاصّر أن يعرف أفضل، حتى لو لم ينشأ في بيت تقي. وتذكّرنا رومية ١ بأن كل البشر يعرفون الله من خلال الخليقة. وكان على بيلشاصّر أن يعرف أفضل أيضًا من خلال تعاملات الله مع دانيال ومن خلاله. ونحن مسؤولون جميعًا عن إكرام الله وفقًا لما أعلنه لنا.
٣. أَمَّا ٱللهُ ٱلَّذِي بِيَدِهِ نَسَمَتُكَ، وَلَهُ كُلُّ طُرُقِكَ فَلَمْ تُمَجِّدْهُ: سيكون سهلًا على بيلشاصّر أن يعتقد أنه لم يفعل أي شيء ضد إله إسرائيل – على الأقل أي شيء سيئ للغاية حتى الآن. ومع ذلك، وعلى أقل تقدير، لم يمجد الإله الحقيقي. وكل مخلوق ملزم بإعطاء المجد لخالقه.
• ينبغي أن يحمد كل نفَس لمخلوق الخالق. لكن بيلشاصّر جدّف على الله بنفَسه. وينبغي لطرق المخلوق أن تمجد الخالق، لكن بيلشاصّر استخدم طرقه للسخرية من الله وإهانته. وكل مخلوق مدين بشيء للخالق.
• “يا صديقي، إن كان الله قد حمّل بيلشاصّر المسؤولية على شعاع من نور سطع عبْر طريقه، فماذا يمكن أن يقال عن الأشخاص الذين يعيشون في لهيب النور الذي ينير العالم اليوم؟ فلكل رجل غير مجدَّد في هذا البلد نور أكثر مما كان لدى بيلشاصّر.” تالبوت (Talbot)
ب) الآيات (٢٤-٢٨): دانيال يخبر بيلشاصّر أن دينونة الله على الأبواب.
٢٤حِينَئِذٍ أُرْسِلَ مِنْ قِبَلِهِ طَرَفُ الْيَدِ، فَكُتِبَتْ هذِهِ الْكِتَابَةُ. ٢٥وَهذِهِ هِيَ الْكِتَابَةُ الَّتِي سُطِّرَتْ: مَنَا مَنَا تَقَيْلُ وَفَرْسِينُ. ٢٦وَهذَا تَفْسِيرُ الْكَلاَمِ: مَنَا، أَحْصَى اللهُ مَلَكُوتَكَ وَأَنْهَاهُ. ٢٧تَقَيْلُ، وُزِنْتَ بِالْمَوَازِينِ فَوُجِدْتَ نَاقِصًا. ٢٨فَرْسِ، قُسِمَتْ مَمْلَكَتُكَ وَأُعْطِيَتْ لِمَادِي وَفَارِسَ».
١. مَنَا مَنَا تَقَيْلُ وَفَرْسِينُ. وَهَذَا تَفْسِيرُ ٱلْكَلَامِ (كل كلمة): “ينبغي أن نلاحظ أن كل كلمة هنا تمثّل عبارة قصيرة. وتدل كلمة ’مَنا‘ على ’الإحصاء‘ أو الترقيم. وتدل كلمة ’تقيل‘ على ’الثِّقل‘ أو الوزن. وتدل كلمة ’فرْس‘ على ’التقسيم.‘” كلارك (Clarke)
• لدى الله رقم بيلشاصّر، وقد قصَّر.
• وزّن الله بيلشاصّر، فكانت النتيجة أنه كان خفيفًا.
• ولهذا، سيقسّم الله مملكة بيلشاصّر على الماديين والفُرس.
٢. وُزِنْتَ بِٱلْمَوَازِينِ فَوُجِدْتَ نَاقِصًا: تغلّب جيش جبار، باستخدام تكتيكات ذكية، على الإمبراطورية البابلية. ومع ذلك، فإن بابل سقطت من الداخل. فلم تستطع جيوش مادي وفارس أن تقهر بابل إلاّ لأن بيلشاصّر ومملكته وُجِدا ناقصين من حيث القيم الروحية والأخلاقية.
٣. أُعْطِيَتْ لِمَادِي وَفَارِسَ: ويقول المؤرخ القديم هيرودوتوس إنه بينما كان ملك بابل بيلشاصر يقيم حفلة طائشة، قام كورش بغزو المدينة بتحويل مجرى الفرات إلى مستنقع قريب، فانخفض منسوب النهر لتتمكن قواته من السير عبر الماء وتحت بوابات النهر. لكن ما كان لهم أن يتمكنوا من الدخول لولا أن البوابات النحاسية للأسوار الداخلية تُركت غير مقفلة لسبب غير مفهوم. وهذا هو بالضبط ما تنبّا به الله في إشعياء ٤٥: ٧ وإرميا ٥١: ٥٧-٥٨. لقد فتح الله أبواب مدينة بابل أمام كورش، ودوّن هذا قبل مئتي سنة من حدوث ذلك.
• “في تشرين الأول من عام ٥٣٩ قبل الميلاد، تقدَّم كورش إلى المنطقة المنخفضة من بلاد ما بين النهرين، تاركًا بابل حتى النهاية، قاهرًا ومحتلًّا كل المناطق المحيطة بها. وعندما رأى الملك نبونيدوس أن الرياح لا تميل إلى صالحه، هجر مدينته تاركًا إياها تحت عُهدة ابنه بيلشاصر… وكان الاستيلاء على بابل بلا دم وبلا جهد، كما يشير دانيال ٥.” موتير (Motyer) في تفسيره لسفر إشعياء.
• سيكون سقوط بابل الرمزية مثل، سقوط بابل الحقيقية، مفاجئًا، ويقينيًّا، وفي وسط تجديفاتها. “لا تقوم الإمبراطوريات بالقوة البشرية، والآلات المصنوعة من البشر، والصواريخ. ولا يوجد سور عالٍ بما يكفي لمنع أُمة من السقوط عندما يعلن الله هلاكها.” شتراوس (Strauss)
ج) الآية (٢٩): ترقية دانيال.
٢٩حِينَئِذٍ أَمَرَ بَيْلْشَاصَّرُ أَنْ يُلْبِسُوا دَانِيآلَ ٱلْأَرْجُوانَ وَقِلَادَةً مِنْ ذَهَبٍ فِي عُنُقِهِ، وَيُنَادُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَسَلِّطًا ثَالِثًا فِي ٱلْمَمْلَكَةِ.
١. أَنْ يُلْبِسُوا دَانِيآلَ ٱلْأَرْجُوانَ: رغم قسوة كلمات دانيال، إلا أنه كوفئ سريعًا حسب وعد الملك. فإمّا أن بيلشاصّر عرف أن دانيال على حق وأنه حاول بشجاعة أن يفعل الأفضل في هذه الظروف المحتومة، وإما أنه لم يصدّق الأمر، وصدّق دانيال في عرض فكاهي لتسلية الحضور.
٢. يَكُونُ مُتَسَلِّطًا ثَالِثًا فِي ٱلْمَمْلَكَةِ: شغل دانيال هذا المنصب لساعات قليلة. ويوضّح هذا الأمر أن المكافآت والأوسمة في هذا العالم مؤقتة. وفي المملكة التي أعقبت مملكة بيلشاصّر، رُقّي دانيال، لكن ليس بفضل بيلشاصّر، بل بفضل الله.
د ) الآيات (٣٠-٣١): موت بيلشاصّر وصعود داريوس المادي.
٣٠فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قُتِلَ بَيْلْشَاصَّرُ مَلِكُ الْكَلْدَانِيِّينَ، ٣١فَأَخَذَ الْمَمْلَكَةَ دَارِيُّوسُ الْمَادِيُّ وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً.
١. فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ: تحققت الرسالة تمامًا كما قال دانيال. فكلمة الله جديرة بالثقة دائمًا وصحيحة.
٢. فَأَخَذَ ٱلْمَمْلَكَةَ دَارِيُّوسُ ٱلْمَادِيُّ: كان داريوس ملكًا تحت كورش الفارسي. ويشار إليه في التاريخ العلماني اسم جوبارو.