إنجيل متى – الإصحاح ٦
العظة على الجبل (الجزء الثاني)
أولًا. فعل الصلاح لإرضاء الله
أ ) الآية (١): تحذير يسوع من فعل الصلاح ليرانا الآخرون.
١اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.
- اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ: إن كلمة ’صَدَقَة‘ هي في الواقع كلمة ’البر‘ ذاتها. فيخبرنا يسوع أن لا نفعل أمور برٍ أو خيرٍ لتجميل مظهرنا أو صورتنا أمام الناس (لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ).
- لقد أظهر يسوع للتو بوضوح معيار بر الله؛ وربما توقع السؤال التالي: “أليست هذه أفضل طريقة لنوال إعجاب الآخرين؟” إذًا تناول يسوع هنا خطر سيادة صورة من البر الذاتي. ويكاد يكون من المستحيل القيام بأشياء روحية أمام الآخرين دون التفكير في رأيهم فينا ونحن نفعل هذه الأشياء، وكيف يفكرون بشكل أفضل أو أسوأ فينا بينما نفعل ما نفعله.
- هذا لا يتعارض مع أمره السابق “فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ” (متى ١٦:٥). وعلى الرغم من أنه يجب أن يُرى المؤمنون وهم يؤدون أعمالًا صالحة، إلا أنه يجب عليهم ألا يقوموا بأعمال صالحة لمجرد أن يراهم الناس.
- وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ: الفكرة هي عندما نفعل أعمالًا صالحة من أجل الحصول على انتباه الناس وتصفيقهم، فاهتمامهم وتصفيقهم هو مكافأة لنا. ولكن من الأفضل بكثير أن تحصل على أجر من عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.
- هناك من يقول “أهم ما في الأمر هو فِعل الخير والصلاح؛ فكيف أفعل ذلك هو أقل أهمية بكثير من القيام به.” صحيح أنه في بعض الحالات سيكون من الأفضل فعل الشيء الصحيح بطريقة خاطئة أو بدافع الخطأ، من فعل الشيء الخطأ ذاته، ولكن ما يركز عليه يسوع واضح: أن الله يهتم بكيفية قيامنا بأعمالنا الصالحة، وبأي دافع نقوم بها.
- وهكذا يبدأ يسوع في التعامل مع ثلاثة تدريبات روحية: العطاء، والصلاة، والصوم. “هؤلاء الثلاثة كانوا (ولا يزالون) أهم المتطلبات العملية للتقوى الشخصية في اليهودية السائدة. وتشكل هذه الأنشطة الثلاثة نفسها، إلى جانب المتطلبات الإسلامية المحددة للحج وتلاوة العقيدة، الركائز الخمس للإسلام.” فرانس (France)
ب) الآيات (٢-٤): أمثلة على النوع الخاطئ من العطاء والنوع الصحيح من العطاء.
٢فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! ٣وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، ٤لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.”
- فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ: لقد كان من المعتاد بالنسبة للبعض في زمن يسوع أن يسترعوا الانتباه إلى عطائهم بحيث يكونون معروفين بالسخاء. واليوم لا يُصدر الناس بوقًا لتبيان كرمهم، لكنهم لا يزالون يعرفون كيفية لفت الانتباه إلى عطائهم.
- لا توجد أمثلة جيدة في الأدب القديم لأشخاص يعلنون بالفعل عن عطائهم بصوت البوق. وربما ما كان يدور في خلد يسوع هو عروض المواهب التي كانت تُقدم خلال أيام العيد، والتي كان يُعلن عنها بنفخ البوق. “أتاحت هذه المناسبات فرصًا ذهبية للتفاخر.” كارسون (Carson)
- ومع ذلك، فإن فكرة القيام بعمل صالح – تقديم الصدقة والإحسان – كانت راسخة في العقل اليهودي. “أن تقدم الصدقات وأن تكون مستقيمًا، كان الشيء ذاته. وكان تقديم الصدقات هو لكسب الجدارة في عيني الله، وكان حتى للفوز بالكفارة والمغفرة عن خطايا السابقة.” باركلي (Barclay).
- كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ: يُسمى هؤلاء المؤدون بحق الْمُرَاؤُونَ، لأنهم ممثلون يلعبون دور الشخص التقي والقديس، في حين أنهم ليسوا كذلك. فليس الحوز على معيار هو ما يجعل شخص ما مرائيًا؛ بل أن تقول أنك تعيش وفقًا لذلك المعيار، في حين أنك لا تفعل ذلك في الواقع، أو عندما يكون لديك معيار مزدوج، هذا ما يجعل منك مرائيًا.
- “كان مصطلح ’هيبوكريتيس‘ (hypocrites – المُرائي hypocrite) في اليونانية القديمة، يعني الممثل (actor)، ولكن بحلول القرن الأول أصبح هذا المصطلح يستخدم لوصف أولئك الذين يلعبون أدوارًا غير واقعية، ويرون العالم كأنه مسرح لهم.” كارسون (Carson)
- “مازال هناك ممثلون دينيون، يقومون بأدوار جيدة تجذب الجمهور.” بروس (Bruce)
- “دعونا نسعى إلى أن نكون أفضل، بدلًا من أن ندَّعى أننا كذلك.” تراب (Trapp)
- اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ: يخبر يسوع الشخص الذي يعطي حتى يتمكن من سماع التصفيق من الآخرين، بأنه لابد أن يتمتع بالتصفيق، لأن ذلك سيكون كل المكافأة التي سيحصل عليها. فلن تكون هناك مكافأة في السماء لمن يفعل الأمر بدافع الحصول على مكافأة أرضية.
- قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. “سيكون من الأفضل ترجمتها: ’لقد استلموا المبلغ بالكامل.‘ فالكلمة المستخدمة في اليونانية هي الفعل ’أبشين‘ (apechein)، الذي كان عبارة عن المصطلح التجاري والمهني لتلقي المبلغ المدفوع بالكامل.” باركلي (Barclay)
- لاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ: بدلًا من ذلك، فإن عطاءنا لابد أن يكون – إذا كان ذلك ممكنًا – مخفيًا حتى عن أنفسنا. ورغم أننا لا نستطيع حقًا أن نكون جاهلين بشأن عطاءنا، إلا أننا يمكن أن ننكر على أنفسنا أي مدح ذاتي لطيف.
- “احتفظ بالأمر سريًا حتى لا تدرك أنك تفعل أي شيء يستحق الثناء على الإطلاق. ليكن الله حاضرًا، فحضوره يفوق حضور الآخرين.” سبيرجن (Spurgeon)
- لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ: إذا اكتشف شخص ما أننا قدمنا شيئًا، هل نفقد مكافأتنا تلقائيًا؟ القضية هي حقًا مسألة الدافع. فإن كنا نعطي لمجدنا الشخصي، فلن يهم إذا لم يكتشف أحد، فلن نحصل على مكافأة من الله. لكن إذا أعطينا لمجد الله، فلا يهم من يعرف، لأن المكافأة ستبقى لأنها أعطيت بالدافع الصحيح.
- فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً: لقد أشار يسوع إلى القيمة الكبيرة لفعل الأعمال الصالحة لمجد الله. فمن الأفضل أن نتلقى عائدنا من الله، الذي يجازي بسخاء بطريقة أكبر وأكثر عَلاَنِيَةً مما يفعل البشر.
- الله بحق يَرَى فِي الْخَفَاءِ. “يجب أن نتذكر أن عين الرب علينا، وأنه لا يرى الفعل فحسب، بل يرى أي دافع قد أدى إليه.” كلارك (Clarke)
- لا ينبغي لنا أن نفوت قوة الوعد، إذ أن هذه الأمور التي تم تنفيذها بالطريقة الصحيحة، ستكافأ بالتأكيد. ويمكننا أن نكون متأكدين من ذلك، حتى عندما لا يبدو الأمر كذلك.
ج ) الآيات (٥-٦): أمثلة على النوع الخطأ من الصلاة والنوع الصحيح من الصلاة.
٥وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! ٦وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.
- وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ: افترض يسوع أن تلاميذه سيُعْطون، لذلك أخبرهم عن الطريقة الصحيحة للعطاء (متى ١:٦-٤). وافترض أيضًا أن تلاميذه سيُصلون، وكان من المهم ألا يصلوا بطريقة المرائين ذاتها.
- “لا يوجد أطفال أغبياء في بيت الله؛ فإن أقلهم قدرًا يمكنه أن يطلب منه البركة. جميعهم ليسوا موهوبين على حد سواء، لكن داود يقول في مزمور ٦:٣٢ ’يُصَلِّي لَكَ كُلُّ تَقِيٍّ.‘” تراب (Trapp)
- فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ: كان هناك مكانان رئيسيان قد يصلي فيهما اليهودي بطريقة منافقة في زمن يسوع. قد يصلون في المجمع في وقت الصلاة العامة أو في الشارع في أوقات الصلاة المحددة (في التاسعة صباحًا وفي الظهر وفي الثالثة مساءً).
- “في اثناء العبادة في المجمع، قد يُطلب من شخص أن يصلي علانية، فيقف أمام تابوت العهد.” كارسون (Carson)
- “لم تكن الصلاة تمارس عادة في زوايا الشوارع، ولكن الشخص الذي يراعي بدقة ساعة الصلاة في الظهيرة، يمكنه أن يعمد إلى ضبط تحركاته لكي يصل إلى أكثر الأماكن اكتظاظًا بالناس في الوقت المناسب.” فرانس (France)
- لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ: صلى هؤلاء المنافقون لا لكي يسمعهم الله، بل لكي يراهم الناس. وهذا خطأ شائع في الصلاة العامة اليوم، عندما يصلي الناس ليلقوا استحسان الآخرين أو لتعليمهم بدلًا من سكب قلوبهم بإخلاص أمام الله.
- إن مثل هذه الصلوات هي إهانة لله. فعندما نوجه الكلمات لله، ونحن نحاول حقًا الحصول على استحسان الآخرين، فإننا بذلك نستخدم الله فقط كأداة لإثارة إعجاب الآخرين.
- إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ: مرة أخرى، أولئك الذين يصلون لكي يظهروا أمام الناس، قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ، ويجب أن يستمتعوا به بالكامل، لأنه كل ما سيحصلون عليه. فلا يوجد أجر في السماء لمثل هذه الصلوات.
- أَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ: بدلًا من ذلك، يجب أن نلتقي بالله في مخدعنا (أو غرفتنا الخاصة). والفكرة وراء المكان الخاص هي أنه لا يمكننا إقناع أحد إلا الله.
- تم استخدام كلمة “مخدع” بالتحديد في اليونانية القديمة للإشارة إلى “مخزن لحفظ الكنوز.” وهذا يذكرنا أن هناك كنوز في انتظارنا في المخدع أو في خِزانة صلاتنا.
- من المؤكد أن يسوع لم يحظر الصلاة العامة، ولكن علينا دائمًا توجيه صلواتنا إلى الله وليس تجاه الناس.
د ) الآيات (٧-٨): الطريقة الصحيحة للصلاة.
٧وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلًا كَالأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. ٨فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ.
- وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلًا: إن النوع الصحيح من الصلاة لا يستخدم التكرار الباطل، الذي هو أي وكل صلاة تلك المليئة فقط بالكلمات الجوفاء الخالية من المعنى، التي من الشفتين فقط ولا تمت بصِلة للعقل أو القلب.
- “قال المعلم اليهودي ليفي، ’كل من يُطيل في صلاته يُسْمَع.‘ وهناك قول آخر يقول: ’عندما يُطيل الأبرار صلواتهم، تُسمع صلاتهم.‘” باركلي (Barclay). هناك صلاة يهودية شهيرة تُستهل بالقول: ’مُبارك ومُسبح ومُمجد ومتعالي ومُكرَّم ومُبجل وُمهاب هو اسم القدوس الوحيد.”
- يمكن للمرء أن يصلي لفترة طويلة، ولكن إلى الإله الخطأ. في سفر ملوك الأول ٢٦:١٨ صرخ أنبياء البعل: ’يا بَعْل أَجِبْنا‘ لنصف اليوم. وفي سفر أعمال الرسل ٣٤:١٩ صرخ الغوغاء في أفسس: ’عظيمةٌ أرْطاميسُ الأفَسُسيّين‘ لمدة ساعتين. ولكن إلهنا الحي لا يعجب بطول أو ببلاغة صلواتنا، ولكن بقلوبنا. “تتطلب الصلاة من القلب أكثر مما تتطلبه من اللسان. أما بلاغة الصلاة فتتكون من الشوق وبساطة الإيمان.” كلارك (Clarke)
- عندما نحاول نيل استحسان الله (أو الأسوأ من ذلك، استحسان الآخرين) بكلماتنا الكثيرة، فإننا ننكر أن الله آب محب وقدوس. وبدلًا من ذلك، يجب أن نتبع مشورة سفر الجامعة ٢:٥ “اللهَ فِي السَّمَاوَاتِ وَأَنْتَ عَلَى الأَرْضِ، فَلِذلِكَ لِتَكُنْ كَلِمَاتُكَ قَلِيلَةً.”
- “صلوات المؤمنين تقاس بالوزن وليس بالطول. فالعديد من الصلوات السائدة كانت قصيرة بقدر ما كانت قوية.” سبيرجن (Spurgeon)
- ترجمت بعض الترجمات عبارة “الْكَلاَمَ بَاطِلًا” إلى “الاستمرار في الثرثرة.” وقد يكون هذا معنى دقيق للكلمة اليونانية القديمة ’باتالوجيو (battalogeo)‘ والتي قد تبدو مثل ’ثرثرة بلا معنى وغير مفهومة.‘
- لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ: نحن لا نصلي لنخبر الله الأشياء التي لم يعرفها قبل أن نخبره. ولكننا نصلي لكي نتواصل مع الله المُحب الذي يريد منا أن نأتي بكل احتياج وقلق أمام عرشه.
- “إن الصلاة ليست مصممة لإعلام الله، ولكن لإعطاء الإنسان صورة عن بؤسه؛ لكي يتضع قلبه وتُثار عزيمته ويلتهب إيمانه ويحفز رجاءه وترفع نفسيته من الأرض إلى السماء، ولكي يتذكر دائمًا أن السماء هي حيث أبيه موجود وحيث موطنه وميراثه.” كلارك (Clarke)
- في الآيات التالية، سيبدأ يسوع شرحًا لا يُنسى للطريقة الصحيحة للصلاة قائلًا: “فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا.” أعطى يسوع لتلاميذه نموذجًا للصلاة، صلاة تتميز بعلاقة وثيقة وتبجيل وخضوع وثقة واتكال. وبما أن إنجيل لوقا ٢:١١-٤ يحتوي على المادة ذاتها، فمن المعقول الاعتقاد بأن هذه لم تكن المرة الوحيدة التي علَّم فيها يسوع تلاميذه حول هذا الموضوع.
- “على النقيض من صلاة التباهي أو الصلاة الطائشة، يعطي يسوع لتلاميذه نموذجًا. ولكنه نموذج فقط: ’فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا‘ وليس ’فَصَلُّوا أَنْتُمْ هذَا.‘” كارسون (Carson)
- “قد نستخدم مِسْبحة الصلاة الربانية، لكننا لسنا ملزمين باستخدامها. فلا ينبغي أن تصبح بدورها صنمًا. فلا ينهض المصلحون لكسر القيود القديمة من أجل استبدالها بقيود أخرى جديدة.” بروس (Bruce)
هـ) الآيات (٩-١٣): الصلاة النموذجية.
٩أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. ١٠لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. ١١خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. ١٢وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. ١٣وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ.
- أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ: ترفع الصلاة الصحيحة إلى أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فهذا يعترف بحق بمن نصلي إليه، وهذا يحمل عنوانًا متميزًا، موضحًا علاقة مميزة. فكان من غير المعتاد بالنسبة لليهود في ذلك الزمن أن يطلقوا على الله “الآب” لأن هذا كان يعتبر حميميًا جدًا.
- صحيح أن الله هو يملك السلطان المطلق على الكون الذي خلقه، وهو يسود عليه، وسيدين كل شيء، لكنه أيضًا أَبَانَا.
- إنه أَبَانَا، لكنه أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فعندما نقول ’فِي السَّمَاوَاتِ‘ نحن نتذكر قداسة الله ومجده. إنه أَبَانَا، لكنه أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.
- هذه صلاة تركز على المجتمع. قال يسوع ’أَبَانَا‘ وليس ’أبي.‘ “الصلاة كلها اجتماعية. فالضمير المفرد غائِبٌ. فالإنسان يدخل عرش الآب، ومن ثمَّ يصلي كواحد من العائلة الكبيرة.” مورجان (Morgan)
- “لا يوجد أي دليل على أن أي شخص قبل يسوع قد استخدم هذا المصطلح لمخاطبة الله.” كارسون (Carson)
- لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ: النوع الصحيح من الصلاة له شغف بمجد الله وجدول أعماله. اسمه وملكوته ومشيئته لها كلها الأولوية القصوى.
- الكل يريد أن يحفظ اسمه وسمعته، ولكن يجب علينا أن نقاوم الميل إلى حماية أنفسنا وترقيتنا أولًا، وبدلًا من ذلك نضع اسم الله وملكوته ومشيئته أولًا.
- لقد أراد يسوع أن نصلي برغبة أن تكون مشيئة الله كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. فلا يوجد عصيان في السماء ولا عقبات أمام مشيئة الله؛ أما على الأرض، فهناك عصيان وعلى الأقل عقبات واضحة ضد إرادته. لهذا، يريد مواطنو ملكوت يسوع أن يروا مشيئته تعمل بحرية على الأرض كما هي في السماء.
- “من علمنا هذه الصلاة استخدمها بنفسه بحرية بكل معنى الكلمة. فعندما تصبب العرق الدموي على وجهه، وارتجاف وارتعد كإنسان طبيعي بسبب الكرب، لم يُجادل في مرسوم الآب، بل احنى رأسه وصرخ قائلًا ’لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- يستطيع الإنسان أن يقول ’لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ‘ بطرق وأمزجة مختلفة. فقد يُصرح بذلك في حال من القدرية والاستياء قائلًا: ’سوف تفعل مشيئتك، وليس هناك شيء يمكنني القيام به حيال ذلك على أي حال. ستسود إرادتك، لكنني لا ارتضيها،‘ أو قد يعلنها بقلب مليء بالمحبة والثقة التامين قائلًا: ’افعلْ مشيئتك، لأنني أعلم أنها الأفضل. غيرني عندما أكون غير فاهم أو قابل لمشيئتك.‘
- قد يتساءل المرء بحق لماذا يريد الله منا أن نصلي أن تكون مشيئته عاملة وفعالة، كما لو أنه غير قادر على تحقيق ذلك بنفسه. ولكن الله هو أكثر من قادر على فعل مشيئته دون صلاتنا أو تعاوننا؛ ومع ذلك، فهو يدعونا للمشاركة بصلواتنا وقلوبنا وأفعالنا، في رؤية مشيئته على الأرض كما هي في السماء.
- خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ: إن الصلاة الصحيحة سترفع بحرية احتياجات الشخص الخاصة إلى عرش الله. وسيشمل ذلك احتياجات الإمداد اليومي والغفران والقوة لمواجهة التجربة.
- عندما تكلم يسوع عن الخبز، كان يقصد الخبز الفِعلي، كما هو الحال في الإمداد اليومي. وقد علمَّ اللاهوتيون الأوائل بالمجاز عن ذلك، لأنهم لم يستطيعوا تخيل أن يسوع يتحدث عن شيء يومي مثل الخبز في مثل هذه الصلاة الرائعة. لذا ظنوا أن الخبز يشير إلى خبز الشركة، أي عشاء الرب. ولقد اعتقد البعض الآخر أنه يشير إلى يسوع نفسه باعتباره خبز الحياة. واعتقد البعض الآخر أنه يتحدث عن كلمة الله كخبزنا اليومي. وقد قال كالڤن بحق عن هذه التفسيرات التي تفشل في أن ترى اهتمام الله بالأشياء اليومية: “هذا أمر سخيف للغاية.” فالله يهتم بالأمور اليومية، وعلينا أن نصلي لأجلها.
- “إن الصلاة هي لتلبية احتياجاتنا، وليس لإشباع الجشع لدينا. إنها صلاة لتسديد احتياج يوم واحد فقط، وهي تعكس نمط الحياة غير المستقر للعديد من عمال القرن الأول الذين كانوا يتلقون أجرتهم في اليوم والذين يمكن لمرض لبضعة أيام أن يتسبب لهم بمأساة.” كارسون (Carson)
- “الخطيئة ممثلة هنا بمفهوم الدَيْن، وبما أن خطايانا كثيرة، فهي تسمى هنا بالديون (الذنوب). فقد خلق اللهُ الإنسانَ لكي يعيش لمجده، وأعطاه قانونًا ليسلك بموجبه؛ وإذا فعل أي شيء لا يمجد الله، فهو إذًا يوقع اتفاقية يصبح فيها مديون للعدالة الإلهية.” كلارك (Clarke)
- الإغراء (التَجْرِبَة) يعني حرفيًا اختبارًا، وليس دائمًا السعي لفعل الشر. فقد وعد الله أن يحفظنا من أي تجربة أكبر مما يمكننا التعامل معه (كورنثوس الأولى ١٣:١٠).
- “الله، بينما لا يُغري البشر على فعل الشر (يعقوب ١٣:١)، إلا أنه يسمح لأبنائه بالمرور عبر فترات من الاختبار. ولكن التلاميذ، المدركين لضعفهم، يجب ألا يرغبون في مثل هذا الاختبار، ويجب أن يصلوا من أجل تجنب التعرض لمثل هذه الحالات التي يكونون فيها عرضة للخطر.” فرانس (France)
- “إن الإنسان الذي يصلي ’لا تُدخلنا في تجربة‘ ثم ينخرط في تلك التجربة بإرادته، هو كاذب أمام الله. فعبارة ’لا تُدخلنا في تجربة‘ هي بمثابة لفظ مشين عندما تصدر من شفتي إنسان يلجأ إلى أماكن تسلية سيئة.” سبيرجن (Spurgeon)
- إذا كنا نصلي حقًا، قائلين: ’وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ‘ فيجب أن يُعاش ذلك بطرق مختلفة. فهذا يعني:
- أنك لن تتباهى أبدًا بقوتك الخاصة.
- ولن ترغب أبدًا في التجارب.
- ولن تذهب إلى التجربة بإرادتك.
- ولن تقود الآخرين إلى التجربة.
- لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ: النوع الصحيح من الصلاة يمتدح الله ويعطيه الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ.
- هناك بعض الخلاف حول ما إذا كانت هذه المَجْدَلة (الخاتمة) موجودة في المخطوطة الأصلية لإنجيل متى، أو أنها تمت إضافتها في وقت لاحق بواسطة أحد النُساخ. ويعتقد معظم علماء الكتاب المقدس المعاصرين أن هذا السطر قد كان قد أُضيف لاحقًا.
- “إنها مكتوبة بشكل مختلف في العديد من المخطوطات. وتم حذفها من قِبل معظم الآباء، سواء اليونانيين أو اللاتينيين. ونظرًا لأنها مَجْدلة فهي على الأقل قديمة جدًا، وقد كان اليهود يستخدمونها، مثلها مثل جميع الالتماسات الأخرى لهذه الصلاة الممتازة، فلا ينبغي، في رأيي، استبعادها من النص، لمجرد أن بعض المخطوطات قد حذفتها، ولأنها كتبت بطرق متنوعة في مخطوطات أخرى.” كلارك (Clarke)
و ) الآيات (١٤-١٥): المزيد عن أهمية المغفرة.
١٤فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. ١٥وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَّلاَتِكُمْ.
- فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ: المغفرة مطلوبة ممن غُفر له. فليس إسرافًا أن يُطلب منا عدم السلوك بمرارة تجاه الآخرين.
- “بمجرد أن نفتح أعيننا لنرى جسامة جريمتنا ضد الله، فإن الإهانات التي ارتكبها الآخرون في حقنا تظهر تافهة للغاية مقارنة بجريمتنا. فإذا كان لدينا وجهة نظر مبالغ فيها بشأن إهانات الآخرين، فهذا يثبت أننا قللنا من شأن جرائمنا نحن.” ستوت (Stott) ورد ذكره في كارسون (Carson)
- لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَّلاَتِكُمْ: يسوع لديه الكثير ليقوله عن المغفرة (متى ٢:٩-٦، ٢١:١٨-٣٥ و لوقا ٣:١٧-٤). وهنا، يتم التركيز على ضرورة المغفرة؛ وأنها حقيقة وليس خِيارًا.
ز ) الآيات (١٦-١٨): الطريقة الصحيحة للصوم.
١٦وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. ١٧وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ،١٨لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.
- وَمَتَى صُمْتُمْ: تكلم يسوع عن هذه الممارسات الأساسية للحياة الروحية في ملكوته: العطاء، الصلاة، والآن يتحدث عن الصوم. ومن الواضح أن يسوع قد افترض أن أتباعه سيصومون.
- كان العهد القديم يأمر بالصوم في يوم الكفارة (سفر اللاويين ٢٩:١٦-٣١؛ ٣٢:٢٣-٣٧؛ سفر العدد ٧:٢٩). وخلال السبي، ضاعفَ الشعب اليهودي ممارسة الصوم (زكريا ٣:٧-٥؛ ١٩:٨).
- “إن مصطلح الصوم عند الإغريق هو ’نتسڤ (nhstiv)‘ ويعني الامتناع التام عن الطعام لفترة معينة. الامتناع عن اللحم، والعيش على الأسماك والخضروات، وما إلى ذلك، هذا ليس صومًا، بل بالحري هو صوم هزلي. ويدعي الكثيرون أنهم يأخذون التعريف الحقيقي للصيام من خلال (إشعياء ٣:٥٨) ويقولون إنه يعني الصيام من الخطيئة. وهذا خطأ؛ فلا يوجد مصطلح في الكتاب المقدس مثل الصوم عن الخطيئة. إن الفكرة ذاتها سخيفة وهزلية، كما لو أن الخطيئة كانت جزءًا من غذائنا اليومي.” كلارك (Clarke)
- الصوم أمر جيد أفسده نفاق المرائيين في زمن يسوع. فطبيعتنا الفاسدة يمكن أن تفسد شيئًا جيدًا وتحوله إلى شيء سيء. ومن الأمثلة الحديثة على شيء جيد وقد أصبح سيئًا، يتعلق بطريقة ارتداء الملابس الأنيقة يوم الاحد. لا حرج في هذا في حد ذاته، فيمكن أن تكون جيدة كتعبير عن التوقير؛ ومع ذلك، إذا تم استخدامها للتنافس مع الآخرين أو لفت الانتباه إلى الذات، فإنه بالتالي كان شيئًا جيدًا وتحول إلى سيء.
- “أخذ الصوم مكانة رائدة في التفاني بموجب الناموس، وقد يكون من الأجود أن يصبح أكثر ممارسة حتى الآن في ظِل الإنجيل. أطلق عليه المتطهرون (Puritans) صوم تسمين الروح، وهكذا قد وجده الكثيرون.” سبيرجن (Spurgeon)
- فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ: أراد الكتّاب والفريسيون المنافقون أن يتأكدوا من أن الجميع يعلمون أنهم صائمون، لذلك قد تبنوا شعورًا حزينًا وعبوسًا على وجوههم، حتى تكون معاناتهم من الصوم واضحة للجميع.
- كانت عادة الفريسيين الصوم مرتين في الأسبوع (لوقا ١٢:١٨). “اعتاد الفريسيون الصوم مرتين في الأسبوع؛ أيام الخميس والإثنين (صعود ونزول موسى على جبل سيناء).” بروس (Bruce)
- اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ: عندما يحصل المنافقون على إعجاب الناس بهذه الجهود ’الروحية‘ فإنهم يحصلون على كل المكافأة التي من الممكن أن يحصلوا عليها.
- إن المشكلة الحقيقية في المنافق هي المصلحة الذاتية. “في نهاية المطاف، السبب الوحيد لإرضاء الناس من حولنا هو أننا قد نكون سعداء من خلال فعل ذلك.” د. مارتن لويد جونز (D. Martin Lloyd-Jones)
- وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا: على النقيض من ذلك، أمرنا يسوع أن نعتني بأنفسنا كالمعتاد وأن نجعل من الصوم سرًا أمام الله.
- “الزيت هنا لا يرمز إلى البهجة الباهظة بل إلى العناية الطبيعية بالجسم.” كارسون (Carson)
ثانيًا. مكان الأشياء المادية: تحذير ضد الطمع
أ ) الآيات (١٩-٢١): الاختيار بين كَنْزَيْن.
١٩لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. ٢٠بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ،٢١لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا.
- لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ: كان الأغنياء اليونانيون القدماء يقولون حرفيًا ’لا تكنز لنفسك كنوزًا على الأرض.‘ والفكرة هي أن الكنز الدنيوي مؤقت ويتلاشى (حَيْثُ يُفْسِدُ سُوسٌ وَصَدَأٌ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَ يَسْرِقُونَ)، لكن الكنز السماوي محفوظ.
- المشكلة ليست أن الكنوز الأرضية سيئة في جوهرها، لكنها ليست ذات قيمة نهائية أيضًا. إذا كانت هذه هي الحال، فمن الخطأ أن يكرس تلميذ يسوع حياته لتوسيع كنوزه الأرضية باستمرار.
- أن ’تَكْنِز لَك كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ‘ يعني أيضًا أن تدمر نفسك بحياة من الإحباط والفراغ. ففيما يتعلق بالأشياء المادية، فإن سر السعادة ليس ’الأكثر‘ بل ’القناعة.‘ في استطلاع عام ١٩٩٢، سُئل الناس عن مقدار المال الذي يجب أن يُجنى من أجل تحقيق حياة مريحة. أولئك الذين يكسبون ٢٥٠٠٠ دولارًا أو أقل في السنة اعتقدوا أنهم سيحتاجون إلى حوالي ٥٤٠٠٠ دولارًا. وقال المشاركون في شريحة الدخل السنوية البالغة ١٠٠ ألف دولار أن بإمكانهم شراء الحلم بمتوسط ١٩٢ ألف دولار في السنة. تشير هذه الأرقام إلى أننا نعتقد أنه يتعين علينا مضاعفة دخلنا من أجل العثور على حياة جيدة. ولكن الرسول بولس كان لديه الفكرة الصحيحة في رسالته الأولى إلى تيموثاوس ٦:٦ حينما قال: وَأَمَّا التَّقْوَى مَعَ الْقَنَاعَةِ فَهِيَ تِجَارَةٌ عَظِيمَةٌ.
- “لا يقول المعلم إنه من الخطأ امتلاك كنز أرضي. إنه يقول أنه من الخطأ أن نكنزها لأنفسنا. فيجب أن نحتفظ بها كوكلاء عليها.” مورجان (Morgan)
- بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ: في المقابل، الكنوز السماوية أبدية وغير قابلة للفساد. فالكنوز السمائية تمنح المتعة الآن، من خلال القناعة والشعور بالسعادة الذي يأتي من كوننا كرماء. ولكن التمتع النهائي يأتي على الجانب الآخر في الخلود.
- لقد لوحظ بحكمة أن الشاحنة المتحركة المليئة بالممتلكات لا تجر ورائها نعشًا. فكل ما يمكن للمرء أن يأخذ معه إلى الأبدية يتركه وراءه. تم دفن فراعنة مصر مع الذهب والكنوز ليأخذوها معهم في الحياة الآخرة، لكنهم تركوها وراءهم. والأكثر من ذلك، على الرغم من أن الذهب هو شيء ثمين على الأرض، إلا أن الله يستخدمه لرَصْف شوارع السماء.
- قال يسوع ذات مرة مثلًا أزعج البعض. ففي إنجيل لوقا ١:١٦-١٤ تحدث عن وكيل غير أمين، كان على وشك أن يتم استدعاؤه للمحاسبة. وهو على علم أنه سيتم فصله، بدأ في تسوية الحسابات مع مَدينيّ سيده بشروط مواتية للمدينين، حتى يعاملوه بلطف عندما يقوم السيد بطرده. ولكن قام السيد بمدحه في النهاية بسبب تكتيكاته الداهية. هذا الوكيل غير الأمين كان يستحق الثناء لسببين: أولًا، كان يعلم أنه سيتم استدعاؤه للمحاسبة على حياته وأخذ الأمر على محمل الجد. ثانيًا، استغل منصبه الحالي لترتيب مستقبل مريح، ويمكننا استخدام مواردنا المادية الآن من أجل الخير الأبدي؛ على الرغم من أننا لا نستطيع جلب هذه الموارد معنا.
- لن تنتقل كنوزنا المادية من هذه الحياة إلى الحياة الآتية؛ لكن الخير الذي تم فعله لملكوت الله من خلال استخدام كنوزنا يدوم إلى الأبد، والعمل الذي يعمله الله فينا من خلال العطاء الأمين سيستمر إلى الأبد.
- لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا: استخلص يسوع أنه لا يمكنك أن تملك إلا كنزك (وقلبك) في مكان واحد؛ فلا يمكننا تخزين الكنز على الأرض والسماء في الوقت ذاته.
- “ليست ثروة التلميذ هي التي يهتم بها يسوع بقدر ما يهتم بولاءه. وكما توضح الآية في متى ٢٤:٦ فإن المادية هي في صراع مباشر ضد الإخلاص لله.” فرانس (France)
ب) الآيات (٢٢-٢٣): الاختيار بين رؤيتين.
٢٢سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا،٢٣وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!
- سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ: ببساطة، الفكرة هي أن ’الضوء‘ يأتي إلى الجسم من خلال العين. فإذا كانت أعيننا عمياء، فإننا نعيش في عالم ’مظلم.‘
- فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا: إن الفكرة وراء وجود عين جيدة (بَسِيطَةً) هي إما أن تكون كريمة أو أن تكون عاقلة. ينطبق كلا المبدأين على موقف التلميذ تجاه الأشياء المادية.
- “يبدو أن هناك تورية متعمدة هنا، فالأمر منوط هنا ليس فقط في تبني فكرة الإخلاص غير المُجّزأ، بل أيضًا في الانفصال عن الاهتمام المادي، وبالتالي تبني الكرم.” فرانس (France)
- أن تكون كريمًا يجلب النور إلى حياتنا. فنحن نكون أكثر سعادة وأكثر رضىً عندما يكون لدينا كرمُ قلب الله. ولكن إذا لم نكن كرماء، فإن الأمر يبدو كما لو أن جَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا. فطرقنا الأنانية البائسة تلقي ظلامًا على كل ما نفكر فيه أو نفعله.
- إن كونك عاقلًا يجلب الضوء إلى حياتك، فنحن نصبح أكثر سعادة ورضىً عندما نركز على ملكوت الله وبره، مع العلم أن كل الأشياء المادية ستضاف إلينا (متى ٣٣:٦). ولكن عندما نملك عقلية مزدوجة، يبدو الأمر كما لو أن جَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا. فنحاول أن نعيش لسيدين في الوقت ذاته، وهذا يُلقي ظلًا مظلمًا على كل شيء في حياتنا.
- نَيِّرًا… مُظْلِمًا: على أي حال، يخبرنا يسوع أنه إما أن تكون أعيننا موجهة نحو الأشياء السماوية (وبالتالي تكون مليئة بالنور) أو أنها موجهة إلى أشياء أرضية (وبالتالي تكون مليئة بالظلام).
- “كانت العين الشريرة عبارة تستخدم بين اليهود القدماء، للإشارة إلى شخص مليء بالحسد والجشع وله نزعة التمَلُك ويتبرم من ازدهار جاره ويحب ماله الخاص، ولا يفعل شيئًا في سبيل صُنع الخير مجانًا.” كلارك (Clarke)
- فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!: بناءً على تشبيه العين، يذكرنا يسوع أنه إذا كنا عُميان، فإن الجسم كله يكون في ظلام. والأمر ذاته ينطبق على موقفنا من الكنز المادي، فإما أن يجلب إلى حياتنا النورَ العظيم أو الظلامَ العظيم.
- غالبًا ما يبرر المسيحي الماديّ الأنانيّ الشحيحُ خطيئته بقوله: “إنه مجرد جانب واحد من حياتي.” ولكن حتى عندما يؤثر ظلام العين على كل شيء في الجسد، فإن الموقف الخاطئ تجاه الأشياء المادية يجلب ظلامًا للحياة كلها.
ج ) الآية (٢٤): الاختيار بين سيدين.
٢٤لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ.
- لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ: وجود سَيِّدَيْنِ ليس مثل العمل في وظيفتين. فقد وضع السيد المسيح علاقة السيد والعبد في الاعتبار، ولم يكن بإمكان العبد أن يخدم سيدين.
- يقول يسوع أن خدمة السيدين هي ببساطة استحالة. فإذا كنت تعتقد أنك تستطيع أن تخدم سيدين بنجاح، فأنت مخدوع؛ إذ لا يمكن القيام بذلك. وكما صارعت إسرائيل القديمة مع عبادة الأصنام، ظنوا أنه يمكنهم أن يعبدوا الرب والبَعل. لهذا ذكّرهم الله دائمًا أن عبادة البعل كانت تعني التخلي عن الرب الإله. فأن تكون مخلصًا للواحد (يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ) يعني أنك تحتقر الآخر (يَحْتَقِرَ الآخَرَ).
- “في المجال الطبيعي، يستحيل على العبد أن يخدم سيدين، لأن كل منهم يدعي أن العبدَ مُلكًا له، ويجب على العبد أن يستجيب لواحد أو آخر بتكريس كامل، إما بدافع الحب أو المصلحة.” بروس (Bruce)
- يمكن القول ببساطة: لا تخدم أموالك، بل دع أموالك تخدم الرب، وسوف تخدمك.
- لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ (تستخدم بعض النسخ الإنجليزية مصطلح المامون بدلًا من المال): هناك آراء مختلفة فيما يتعلق بأصل الكلمة. فيعتقد البعض أنه كان اسم إله وثني. ويعتقد آخرون أن الاسم “يأتي من الكلمة العبرية ’أمان،‘ التي تعني ’الثقة أو الائتمان‘ لأن الناس مستعدون للثقة في الثروات. كلارك (Clarke). أيًا كان أصل الكلمة، فإن المعنى واضح: “المامون هو المادية، أو الثروة المتجسدة.” بروس (Bruce)
- وفقًا لفرانس (France)، كانت فكرة المامون نفسها محايدة أخلاقيًا. وقد استُخدمت الكلمة في بعض النصوص اليهودية القديمة كما جاء في سفر الأمثال ٩:٣ “أَكْرِمِ الرَّبَّ مِنْ مَالِكَ (مامون)؛ وفي سفر التثنية ٥:٦ “مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ.” ولذلك فإن “المامون” نفسه يمثل الأشياء المادية التي نمتلكها أو نريدها، ويمكن استخدام تلك الأشياء في ملكوت الله ومجده أو استخدامها كأوثان.
- بالتأكيد، يسوع يتحدث عن القلب هنا. قد يقول كثير من الناس أنهم يحبون الله، لكن خدمتهم للأموال تظهر أنهم في الحقيقة لا يفعلون ذلك. كيف يمكننا أن نعرف من أو ماذا نخدم؟ إحدى الطرق هي أن نتَذكر هذا المبدأ: سوف تضحي من أجل إلهك. إذا كنت ستضحي من أجل المال، ولكنك لن تضحي من أجل يسوع، فلا تخدع نفسك، فإن المال في هذه الحالة هو إلهك.
- يجب أن نتذكر أنه لا يتعين علينا أن نكون أغنياء لخدمة “المامون (mammon)” (المال والأشياء المادية)؛ يمكن للفقراء أن يكونوا جشعين نهمين مثلما يمكن أن يكون الأغنياء.
ثالثًا. مكان الأشياء المادية: القلق على الأشياء المادية
أ ) الآية (٢٥): لأن ملكوت الله يفوق جدًا المساعي الأرضية، فهو يستحق اهتمامنا.
٢٥لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟
- لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ: لا ينبغي لنا أن نعيش في تشويش بسبب القلق بشأن أمور هذا العالم، لأن حياتنا هي أعظم من تلك الأشياء.
- “يمكنك أن تكون غير مخلص لله من خلال القلق كما من خلال الطمع.” بروس (Bruce)
- بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ: “هذه الاستفسارات الثلاثة تشغل الانتباه الكامل لأولئك الذين يعيشون بدون الله في العالم. إن بطن وظهر المهتمين بأمور العالم هي آلهتهم المركبة؛ وتلك هي معبوداتهم في شهوة الجسد وفي شهوة العين وفي تعظم المعيشة.” كلارك (Clarke)
- وقد يضيف آدم كلارك (Adam Clarke) عن عصرنا: “ما ستفعله للترفيه عن نفسك.”
- لاَ تَهْتَمُّوا: هناك فرق بين الشعور التقي بالمسؤولية، ومصدر قلق غير تقي أو قلق معدوم الإيمان. ومع ذلك، عادة ما يتنكر الشعور بالقلق غير التقي في صورة قلق الشعور بالمسؤولية.
- “لا يمكنك القول أن يسوع المسيح قد أزعج نفسه مرة واحدة بشأن ما سيأكله أو ما سيشربه؛ فأكله وشرابه كانا صُنع مشيئة أبيه.” سبيرجن (Spurgeon)
- يجب أن نهتم بالأمور الصحيحة؛ القضايا المُطلَقة للحياة، ومن ثمَّ نترك الإدارة (والقلق) على الأشياء المادية لأبينا السماوي.
- أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ: إن القلق الذي تحدث عنه يسوع يُحط الإنسان إلى مستوى الحيوان، الذي يهتم فقط بالاحتياجات المادية. ولكن حياتك أفضل، ولديك أمور أبدية لتسعى ورائها.
ب) الآيات (٢٦-٣٠): مِثال وحجج ضد القلق.
٢٦اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ ٢٧وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟٢٨وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ.٢٩وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا.٣٠فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟
- اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ… أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا: الله يهبها، وهو يعتني بها. لذلك، يجب أن نتوقع أن يهتم الله بنا.
- مع ذلك، لاحظ جيدًا: الطيور لا تقلق، لكنها تعمل. لا تجلس الطيور بأفواه مفتوحة، وتتوقع أن يملأها الله لها.
- “هذه الحجة تفترض مسبقًا علم الكونيات الكتابي الذي بدونه لا معنى للإيمان. فالله يتمتع بالسيادة على الكون لدرجة أنه حتى تغذية الطيور تقع ضمن اهتمامه.” كارسون (Carson)
- أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟: إن القلق الذي لدى الكثير من الناس حول الأشياء المادية في الحياة يتجذر في فهم متدني لقيمة هذه الأشياء أمام الله. فهؤلاء الناس لا يفهمون كم يحبهم الله ويهتم بهم.
- مَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟: القلق لا ينجز شيئًا؛ فلا يمكننا إضافة شيء إلى حياتنا عن طريق القلق. فقد يكون هناك خطايا أكبر من القلق، ولكن لا يوجد ما هو أكثر إذلالًا للنفس وعدم فائدة، جراء القلق.
- يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ: اليونانية القديمة قد تعني إضافة إلى الحياة بدلًا من الإضافة إلى الطول، ولكن الفكرة هي نفسها. وفي الواقع، بدلًا من الإضافة إلى حياتنا، يمكننا في الواقع أن نؤذي أنفسنا من خلال القلق. فالضغوط هي واحدة من أكبر المساهمين في المرض وسوء الحالة الصحية.
- يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا: الله يعتني بعُشْبُ الْحَقْلِ، لذلك سيعتني بك بالتأكيد. نحن واثقون من قوة ورعاية الآب السماوي المُحب.
- يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ: “إن الإيمان القليل ليس خطًأ بسيطًا؛ لأنه يهين الرب جدًا، وللأسف يُحزن العقل القلوق. والاعتقاد بأن الرب، الذي يلبس الزنابق سوف يترك أبنائه عُراة، هو اعتقاد مُخزي. فيا قليل الإيمان، فلتكن أخلاقك أفضل من ذلك!” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (٣١-٣٢): لديك أب سماوي يعرف احتياجاتك.
٣١فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ ٣٢فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا.
- فَلاَ تَهْتَمُّوا: نحن مدعوون إلى معرفة الحرية من القلق والاهتمام الذي يأتي من قلق لا مبرر له بشأن الأشياء المادية. ويمكننا أن نعكس النوع ذاته من القلب الذي أظهره ماثيو هنري (Matthew Henry) عندما قال ما يلي بعد تعرضه للسرقة: “يا رب، أشكرك؛ لم يسبق لي أن تعرضت للسرقة من قبل. هذا وعلى الرغم من أنهم أخذوا أموالي، إلا أنهم لم يسرقوا حياتي. هذا وعلى الرغم من أنهم أخذوا كل شيء، فلم يكن الأمر مهولًا. أشكرك لأني كنت المسروق وليس السارق.”
- فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ: قارن يسوع حياة أولئك الذين لا يعرفون الله، المنفصلين عنه، بأولئك الذين يعرفون الله ويتلقون رعايته المحبة. فأولئك الذين يعرفون الله يجب أن يسعوا نحو أمور أخرى.
د ) الآية (٣٣): المُلخَّص: ضع ملكوت الله أولًا، وسوف يهتم هو بهذه الأمور!
٣٣لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ.
- لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللهِ: هذا يجب أن يكون قاعدة حياتنا عند ترتيب أولوياتنا. ومع ذلك، فمن الخطأ الاعتقاد بأن هذه مجرد أولوية أخرى تندرج في قائمة أولوياتنا، وأن نضعها في القمة. وبدلًا من ذلك، ينبغي أن يكون كل ما نفعله هو أن نطلب أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللهِ.
- على سبيل المثال، نادرًا ما يتعين علينا أن نختار بين إكرام الله وحب زوجاتنا أو أن نكون عاملين صالحين. فنحن نكرم الله ونطلب أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللهِ من خلال كوننا أزواج صالحين وعاملين صالحين.
- يجب أن نتذكر هذه العبارة في سياقها المباشر. يذكرنا يسوع أن رفاهيتنا المادية ليست من الأمور الجديرة بتكريس حياتنا لها. فإذا كنت تعتقد أنه من الجدير أن يكون إلهك المال (المامون mammon) فعندئذ تكون حياتك ملعونة بالقلق، وتعيش حياة تشبه كثيرًا تلك التي للحيوان، تهتم في الغالب بالاحتياجات المادية.
- لم يخبرهم يسوع بالتوقف عن القلق فحسب؛ بل أخبرهم أن يحلوا محل القلق بالاهتمام بملكوت الله. فالعادة أو الدافع لأمر ما لا يمكن التخلي عنه إلا بعادة أو دافع أكبر.
- “إذًا ما تطلبه هذه الآية هو الالتزام بمعرفة مشيئة الله والقيام بها والتحالف معها تمامًا. ولكن يجب أن يأتي هذا الالتزام أولًا.” فرانس (France)
- وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ: إذا وضعت ملكوت الله أولًا، ولا تعتقد أن رفاهيتك المادية الجسدية هي أمر لا يستحق أن تعيش حياتك من أجله، فإنك قد تستمتع بكل تلك الأمور. فقد وعد الله بالكنز السماوي والراحة في تدبير إلهي، وتحقيق غرض الله المُطلق للإنسان، ألا وهو الشَرِكة معه، وكونه جزءًا من ملكوته.
- هذا الخِيار – اطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللهِ – هو الخيار الأساسي الذي يتخذه الجميع عندما يتوبون أولًا ويؤمنون. ومع ذلك، كل يوم بعد ذلك، فإن حياتنا المسيحية إما أن تعزز هذا القرار أو تنكره.
هـ) الآية (٣٤): خاتمة بمنطق سليم.
٣٤فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ.
- فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ: إذا كان يجب عليك القلق، فلا تقلق إلا على أمور اليوم. فإن أكثر ما يقلقنا هو الأمور التي ليس لدينا أي سيطرة عليها على أي حال، وبالتالي القلق بشأنها يعتبر حماقة ويتسبب بضرر كبير.
- يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ: يذكرنا يسوع بأهمية العيش لهذا الْيَوْم. فليس من الخطأ تذكُر الماضي أو التخطيط للمستقبل؛ فإلى حد ما كلاهما جيد. ومع ذلك، من السهل التركيز بشكل كبير على الماضي أو المستقبل وتجاهل الْيَوْمَ وشَرُّهُ. ولهذا يريدنا الله أن نتذكر الماضي ونخطط للمستقبل، ولكن أن نعيش في الوقت الحاضر.