ملوك الأول ٣
يُمنح سليمان حكمة عظيمة
أولًا. أعطى الله سليمان حكمة
أ ) الآية (١): سليمان يتزوج من أميرة مصرية.
١وَصَاهَرَ سُلَيْمَانُ فِرْعَوْنَ مَلِكَ مِصْرَ، وَأَخَذَ بِنْتَ فِرْعَوْنَ وَأَتَى بِهَا إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ إِلَى أَنْ أَكْمَلَ بِنَاءَ بَيْتِهِ وَبَيْتِ الرَّبِّ وَسُورِ أُورُشَلِيمَ حَوَالَيْهَا.
١. وَصَاهَرَ سُلَيْمَانُ فِرْعَوْنَ مَلِكَ مِصْرَ، وَأَخَذَ بِنْتَ فِرْعَوْنَ: كان الاقتران بين العائلات الملكية تقليدًا سياسيًا إستراتيجيًا معروفًا في العالم القديم، واستمر حتى العصر الحديث. ولم يكن ذلك لرغبة العائلات الملكية في الاقتران بعائلات ملكية أخرى فحسب، ولكن رغبة منهم في تجنب صراعات كثيرة أيضًا وللحفاظ على الروابط الأسرية.
• كانت تلك الزيجة الأولى لسُليمان. يُخبرنا ١ ملوك ١٤: ٢١ أن ابنه رَحُبْعَام تولى العرش عندما كان عمره ٤١ سنة، ويخبرنا ١ ملوك ١٤: ٤٢ أن سليمان حكم ٤٠ سنة. ويعني هذا أن رَحُبْعَام كان ابن نعمة، زوجة سُليمان الأمونية، وأنه ولد قبل تولي سليمان للعرش وقبل زواجه من ابنة فرعون المذكورة هنا.
• سببت زيجات سليمان الكثيرة من النساء الأجنبيات في كوارث كبيرة طوال حياته. إذ نقرأ لاحقًا في سفر نحميا كيف كان نحميا غاضبًا ومستاءً من زواج شعب إسرائيل من الشعوب العابدة للأوثان. ولكي يدين هذا الذنب، ذكّر الشعب بنموذج سليمان السيئ: فَخَاصَمْتُهُمْ وَلَعَنْتُهُمْ وَضَرَبْتُ مِنْهُمْ أُنَاسًا وَنَتَفْتُ شُعُورَهُمْ، وَاسْتَحْلَفْتُهُمْ بِاللهِ قَائِلاً: «لاَ تُعْطُوا بَنَاتِكُمْ لِبَنِيهِمْ، وَلاَ تَأْخُذُوا مِنْ بَنَاتِهِمْ لِبَنِيكُمْ، وَلاَ لأَنْفُسِكُمْ. أَلَيْسَ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ أَخْطَأَ سُلَيْمَانُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الأُمَمِ الْكَثِيرَةِ مَلِكٌ مِثْلُهُ؟ وَكَانَ مَحْبُوبًا إِلَى إِلهِهِ، فَجَعَلَهُ اللهُ مَلِكًا علَى كُلِّ إِسْرَائِيلَ. هُوَ أَيْضًا جَعَلَتْهُ النِّسَاءُ الأَجْنَبِيَّاتُ يُخْطِئُ. فَهَلْ نَسْكُتُ لَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا كُلَّ هذَا الشَّرِّ الْعَظِيمِ بِالْخِيَانَةِ ضِدَّ إِلهِنَا بِمُسَاكَنَةِ نِسَاءٍ أَجْنَبِيَّاتٍ؟» (نحميا ١٣: ٢٥-٢٧).
• لقد جعلت الزوجات الأجنبيات سليمان أكثر من مجرد نموذج سيئ – فقد دمّرن حياته الروحية. وَأَحَبَّ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كَثِيرَةً مَعَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ: مُوآبِيَّاتٍ وَعَمُّونِيَّاتٍ وَأَدُومِيَّاتٍ وَصِيدُونِيَّاتٍ وَحِثِّيَّاتٍ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمُ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: «لاَ تَدْخُلُونَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ إِلَيْكُمْ، لأَنَّهُمْ يُمِيلُونَ قُلُوبَكُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ». فَالْتَصَقَ سُلَيْمَانُ بِهؤُلاَءِ بِالْمَحَبَّةِ. وَكَانَتْ لَهُ سَبْعُ مِئَةٍ مِنَ النِّسَاءِ السَّيِّدَاتِ، وَثَلاَثُ مِئَةٍ مِنَ السَّرَارِيِّ، فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ. وَكَانَ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّ نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلاً مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ كَقَلْبِ دَاوُدَ أَبِيهِ. (١ ملوك ١١: ١-٤).
• تخبرنا ١ ملوك ١١: ٤ أن هذا حدث عندما تقدم سليمان في الأيام، ولكن هذا النمط تَحَدَّد بزواجه من الأميرة المصرية. لعل هذا الزواج كان منطقيًا من الناحية السياسية، ولكن ليس من الناحية الروحية. “كانت هذه الزيجات المرتبة تثبيتًا شائعًا للمعاهدات الدولية، لكن هذه الزيجة بالتحديد كانت بداية سقوط سليمان روحيًا.” وايزمان (Wiseman)
• تخبرنا ٢ صموئيل ٣: ٣ أن داود تزوج ابنة ملك أجنبي: مَعْكَةَ بِنْتِ تَلْمَايَ مَلِكِ جَشُور. لم يكن الزواج بامرأة أجنبية محظورًا بموجب ناموس موسى – بشرط أن تكون قد اهتدت إلى الإيمان بإله إسرائيل. فالذي لم يدمر داود دمر سليمان.
٢. وَأَتَى بِهَا إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ: لم يكن من الحكمة أن يفعل سليمان ذلك، رغم أن هذا كان مصرحًا في ناموس موسى. وفي وقت لاحق من حياته، أمالت الزوجات الأجنبيات قلبه عن الله (١ملوك ١١: ٤).
• تقول الأساطير القديمة من المعلمين اليهود إن الأميرة المصرية ألقت بتعويذة على سليمان ليلة الزفاف، ووضعت حجابًا على فراشهم يشبه سماء مرصعة بالنجوم والكواكب. وكان هدف التعويذة أنه في كل مرة ينوي فيها سليمان النهوض من السرير، ينظر إلى الأعلى ويعتقد أنه ما زال الوقت ليلًا، فيعود للنوم. وكان نومه يستمر حتى وقت متأخر من اليوم. وحزن الشعب لأنهم لم يتمكنوا من تقديم الذبيحة الصباحية إلى أن قامت أمه بثشبع بإيقاظه أخيرًا (إذ كان يحتفظ بمفتاح الهيكل تحت وسادته). مقتبس في جينزبيرغ (Ginzberg)
ب) الآيات (٢-٤): ذبيحة سليمان العظيمة.
٢إِلاَّ أَنَّ الشَّعْبَ كَانُوا يَذْبَحُونَ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ، لأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ بَيْتٌ لاسْمِ الرَّبِّ إِلَى تِلْكَ الأَيَّامِ. ٣وَأَحَبَّ سُلَيْمَانُ الرَّبَّ سَائِرًا فِي فَرَائِضِ دَاوُدَ أَبِيهِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيُوقِدُ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ. ٤وَذَهَبَ الْمَلِكُ إِلَى جِبْعُونَ لِيَذْبَحَ هُنَاكَ، لأَنَّهَا هِيَ الْمُرْتَفَعَةُ الْعُظْمَى، وَأَصْعَدَ سُلَيْمَانُ أَلْفَ مُحْرَقَةٍ عَلَى ذلِكَ الْمَذْبَحِ.
١. إِلاَّ أَنَّ الشَّعْبَ كَانُوا يَذْبَحُونَ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ، لأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ بَيْتٌ لاسْمِ الرَّبِّ: في هذا الوقت، سُمِح ببناء المذابح على مرتفعات مختلفة في إسرائيل، طالما كانت تلك المذابح للرب ولم تدنس وتفسد بالأوثان (كما تقول الوصية في سفر التثنية ١٦: ٢١). ولكن عندما بُني الهيكل، تمركزت الذبائح فيه.
٢. وَأَحَبَّ سُلَيْمَانُ الرَّبَّ… إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيُوقِدُ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ: يحتوي هذا التصريح عن سليمان على أمر جيد وأمر سيء. الأمر الجيد هو أن سليمان اتبع أحكام أبيه داود بشكل عام. ولكن كان هنالك شيئًا سيئًا متضمَّنًا في عبارة: ’إِلاَّ أَنَّهُ.‘
• في نفس الوقت، يبدو أن الله اظهر رحمة لمن خالفوا الشريعة قبل بناء الهيكل. ” هل يمكن أن يكون هناك أية خطية في هذا، أو أنه صار مُخالفًا للشريعة بعد بناء الهيكل؟ قدم الأنبياء والقضاة والملوك الذين سبقوا سليمان الذبائح، وسليمان أيضًا، على مرتفعات مثل حبرون وشيلوه والجلجال وجبعون… إلخ. ولكن بعد اكتمال بناء الهيكل كان من الخطأ وغير المقبول تقديم الذبائح في أي مكان آخر” كلارك (Clarke).
• أحب سليمان الرب، ولكنه احب أيضًا الزوجات الأجنبيات اللواتي أملن قلبه بعيدًا عن الرب. (١ملوك ١١: ٤-١٠). “إن مخاطر الدوافع المختلطة والقلب المنقسم مريعة حقًا.” مورغان (Morgan).
٣. وَأَصْعَدَ سُلَيْمَانُ أَلْفَ مُحْرَقَةٍ عَلَى ذلِكَ الْمَذْبَحِ: بيّن هذا القدر الهائل من الذبائح كلًّا من غِنى سليمان العظيم ورغبته القلبية في تمجيد الرب.
• كان هذا حدثًا مهمًا ويُعد البداية الاحتفالية لحكم سليمان. ووفقًا للآيات في ٢ أخبار الأيام ١: ٢-٣، ذهب جميع قادة الشعب مع سليمان لجبعون.
٤. وَذَهَبَ الْمَلِكُ إِلَى جِبْعُونَ: قدّم سليمان هذه الذبائح الخاصة في جبعون لأنها كانت مكانًا مرتفعًا جدًا. وما جعل الأمر مختلفًا وجود خيمة الاجتماع هناك، رغم وجود تابوت العهد في أورشليم.
• مسار خيمة الاجتماع وتابوت العهد في الأرض الموعودة:
جلب يشوع كلًّا من تابوت العهد وخيمة الاجتماع إلى شيلوه (يشوع ١٨).
في زمن الكاهن عالي، أُسِر تابوت العهد وخُرِبت خيمة الاجتماع (١ صموئيل ٤، مزمور ٧٨: ٦٠-٦٤، أرميا ٧: ١٢ و٢٦: ٩).
عاد التابوت إلى قرية يَعَارِيم (١ صموئيل ٧: ١-٢)
نقل شاول خيمة الاجتماع إلى نوب (١ صموئيل ٢١)
نقل شاول خيمة الاجتماع إلى جبعون (١ اخبار الأيام ١٦: ٣٩-٤٠).
جلب داود تابوت العهد إلى أورشليم وبنى خيمة مؤقته له (٢ صموئيل ٦: ١٧، ٢ أخبار الأيام ١: ٤).
• كانت هنالك عدة أسباب ممكنة لتفسير عدم قيام داود بجلب خيمة الاجتماع من جبعون إلى أورشليم:
ربما أعتقد داود أنه لو كانت خيمة الاجتماع موجودة في أورشليم، فسيَقْنع الشعب بها، وسيفقدون شغفهم ورؤيتهم لبناء الهيكل الذي أراد الله أن يُبنى.
ربما يكون الأمر أن خيمة الاجتماع لم تكن تُنقل إلاّ للضرورة القصوى، كما حدث عندما حلت كارثة في شيلوه أو نوب.
ربما انصب تركيز داود على الهيكل، لا على خيمة الاجتماع.
ج) الآيات (٥-٩): تقدمة الله وتجاوب سليمان.
٥فِي جِبْعُونَ تَرَاءَى الرَّبُّ لِسُلَيْمَانَ فِي حُلْمٍ لَيْلاً، وَقَالَ اللهُ: «اسْأَلْ مَاذَا أُعْطِيكَ». ٦فَقَالَ سُلَيْمَانُ: «إِنَّكَ قَدْ فَعَلْتَ مَعَ عَبْدِكَ دَاوُدَ أَبِي رَحْمَةً عَظِيمَةً حَسْبَمَا سَارَ أَمَامَكَ بِأَمَانَةٍ وَبِرّ وَاسْتِقَامَةِ قَلْبٍ مَعَكَ، فَحَفِظْتَ لَهُ هذِهِ الرَّحْمَةَ الْعَظِيمَةَ وَأَعْطَيْتَهُ ابْنًا يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّهِ كَهذَا الْيَوْمِ. ٧وَالآنَ أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي، أَنْتَ مَلَّكْتَ عَبْدَكَ مَكَانَ دَاوُدَ أَبِي، وَأَنَا فَتىً صَغِيرٌ لاَ أَعْلَمُ الْخُرُوجَ وَالدُّخُولَ. ٨وَعَبْدُكَ فِي وَسَطِ شَعْبِكَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ، شَعْبٌ كَثِيرٌ لاَ يُحْصَى وَلاَ يُعَدُّ مِنَ الْكَثْرَةِ. ٩فَأَعْطِ عَبْدَكَ قَلْبًا فَهِيمًا لأَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ وَأُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، لأَنَّهُ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ الْعَظِيمِ هذَا؟»
١. تَرَاءَى الرَّبُّ لِسُلَيْمَانَ فِي حُلْمٍ: جاء هذا الافتقاد الإلهي المذهل في حلم. وهذا واحد من الأحلام المهمة في الكتاب المقدس.
٢. «اسْأَلْ مَاذَا أُعْطِيكَ»: كان هذا وعدًا رائعًا. إذ بدا أن الله يعرض على سليمان أن يحقق له ما يشاء. وليس هذا لأن سليمان قّدم ألف ذبيحة حيوانية لله، بل لأن قلبه كان مستسلمًا بالكامل لله. فأراد الله أن يصنع شيئًا في سليمان من خلال هذا العرض واستجابته له.
• إن رد الفعل الطبيعي لقراءة وعد الله لسليمان أن نتمنى أنه لو كان لدينا مثل هذه الوعود. وبالفعل، فإن لدينا وعودًا كهذه.
اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. (متى ٧: ٧)
إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كَلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ. (يوحنا ١٥: ٧)
وَهذِهِ هِيَ الثِّقَةُ الَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئًا حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا. (١ يوحنا ٥: ١٤-١٥)
٣. إِنَّكَ قَدْ فَعَلْتَ مَعَ عَبْدِكَ دَاوُدَ أَبِي رَحْمَةً عَظِيمَةً: قبل أن يستجيب سليمان لعرض الله ويطلب شيئًا، تَذكَّر أمانة الرب لداود وله شخصيًا الآن.
٤. وَأَنَا فَتىً صَغِيرٌ: لم يكن سليمان حقًا في سن الطفولة. ولكنه جاء أمام الرب بتواضع كبير، وخصوصًا بسبب المهمة الموضوعة أمامه.
• “هذا التصريح هو في واقع الأمر تعبير سليمان الشعري، حيث يعبر عن عدم كفايته وهو يواجه مهام القيادة الكبيرة.” ديلداي (Dilday)
• لم يتكلّف سليمان التواضع، “لا أستطيع عمل هذا، أو لن افكر حتى في المحاولة.” ولكن توجهه القلبي كان: “إن هذا العمل أكبر بكثير مني ومن قُدراتي، ولا بد أن أتكل على الله.”
٥. فَأَعْطِ عَبْدَكَ قَلْبًا فَهِيمًا: طلب سليمان ما هو أكثر بكثير من المعرفة العظيمة. إذ أراد الفهم، وأراد أن يسكن هذا الفهم في قلبه، لا في رأسه فقط. تُرجمت الكلمة العبرية القديمة ’فهم‘ بطريقة مجردة ’الإستماع.‘ أراد سليمان قلبًا يستمع إلى الله.
• في أفسس ١: ١٨، كانت صلاة بولس الرسول من أجل المؤمنين أن تستنير عيون أذهانهم أو فهمهم.
٦. لأَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ وَأُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ: لقد أدرك سليمان بالفعل أن عنصرًا أساسيًّا للقيادة هو الحكمة وحسن التمييز. لا يمتلك الكثير من القادة هذا التمييز أو الشجاعة.
د ) الآيات (١٠-١٥): وعد الله العظيم لسليمان.
١٠فَحَسُنَ الْكَلاَمُ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، لأَنَّ سُلَيْمَانَ سَأَلَ هذَا الأَمْرَ. ١١فَقَالَ لَهُ اللهُ: «مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ قَدْ سَأَلْتَ هذَا الأَمْرَ، وَلَمْ تَسْأَلْ لِنَفْسِكَ أَيَّامًا كَثِيرَةً وَلاَ سَأَلْتَ لِنَفْسِكَ غِنًى، وَلاَ سَأَلْتَ أَنْفُسَ أَعْدَائِكَ، بَلْ سَأَلْتَ لِنَفْسِكَ تَمْيِيزًا لِتَفْهَمَ الْحُكْمَ، ١٢هُوَذَا قَدْ فَعَلْتُ حَسَبَ كَلاَمِكَ. هُوَذَا أَعْطَيْتُكَ قَلْبًا حَكِيمًا وَمُمَيِّزًا حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِثْلُكَ قَبْلَكَ وَلاَ يَقُومُ بَعْدَكَ نَظِيرُكَ. ١٣وَقَدْ أَعْطَيْتُكَ أَيْضًا مَا لَمْ تَسْأَلْهُ، غِنًى وَكَرَامَةً حَتَّى إِنَّهُ لاَ يَكُونُ رَجُلٌ مِثْلَكَ فِي الْمُلُوكِ كُلَّ أَيَّامِكَ. ١٤فَإِنْ سَلَكْتَ فِي طَرِيقِي وَحَفِظْتَ فَرَائِضِي وَوَصَايَايَ، كَمَا سَلَكَ دَاوُدُ أَبُوكَ، فَإِنِّي أُطِيلُ أَيَّامَكَ». ١٥فَاسْتَيْقَظَ سُلَيْمَانُ وَإِذَا هُوَ حُلْمٌ. وَجَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَوَقَفَ أَمَامَ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ وَقَرَّبَ ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ، وَعَمِلَ وَلِيمَةً لِكُلِّ عَبِيدِهِ.
١. فَحَسُنَ الْكَلاَمُ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ: سُرَّ الله بما طلبه سليمان، إذ عرف حاجته الشديدة إلى الحكمة والتمييز والفهم. وسُرَّ أيضًا بما لم يطلبه سليمان. فلم يطلب غنىً، أو صيتًا، أو نفوذًا.
• لم يكن طلب سليمان رديئًا. إذ يقال على وجه التحديد إن كلامه سرَّ الرب. ومع ذلك، يمكننا أن نسأل إن كان هذا أفضل شيء ممكن أن يطلبه سليمان. “هل كانت هذه أعظم عطية كان يمكن أن تُطلب وتُمنح؟ من المؤكد أن أشواق أبيه العميقة للشركة مع الله كانت أفضل.” ماكلارين (Maclaren)
• كان أداء سليمان جيدًا، مثل أي أداء شخص آخر أو أفضل. غير أن ارتداده في النهاية (١ ملوك ١١: ١-١١) بيّن أن هنالكشيئًا ناقصًا في حياته الروحية. “لا يوجد في سيرته ما يشير إلى أنه كان لديه تكريس أبيه. فبعد المرنم الشاعر – صاحب المزامير، جاء رجل الأعمال الداهية والدنيوي.” ماكلارين (Maclaren)
٢. هُوَذَا قَدْ فَعَلْتُ حَسَبَ كَلاَمِكَ… وَقَدْ أَعْطَيْتُكَ أَيْضًا مَا لَمْ تَسْأَلْهُ: لم يستجب الله لصلاة سليمان فحسب، بل استجاب لها بما يتجاوز كل التوقعات. إذ لم يطلب سليمان غنى، أو ثروات، أو كرامة، أو أيامًا كثيرة، لكن الله أعطاها له كلها أيضًا.
• في أفسس ٣: ٢٠ كرّمَ بولس الله قائلًا: “وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا.” اختبر سليمان أن الله قادر فعلًا أن يفعل أكثر جدًا مما نطلب أو نفتكر.
• سأل سليمان من الله بحكمة في ما يتعلق بشخصيته وليس بممتلكاته. فما نحن عليه أهم بكثير مما نمتلك.
٣. فَاسْتَيْقَظَ سُلَيْمَانُ: كان حلمًا بالفعل، ولكنه كان رسالة أيضًا. استجاب الله لصلاة سليمان وجعله حكيمًا وقويًا وغنيًا ومؤثرًا. عاد حُكمه بالفائدة على كل إسرائيل.
• غير أن نهايته كانت مأساوية. ويمكننا القول إن سليمان بدّد الهبات التي أعطاها الله له. ورغم أنه أنجز الكثير، إلا أنه كان بإمكانه أن ينجز ما هو أكثر. وفي النهاية، ابتعد قلبه عن الله (١ ملوك ١١: ٤-١١).
• “وبدلًا من أن يكون أحكم إنسان، ألم يصبح أكثر حماقة من أي إنسان؟ ألم يفقد حتى معرفة خالقه، وعبد رجاسات الموآبيين والصيدونيين وما إلى ذلك؟ ألم تكن عبادة الأصنام دليلًا على غباء مطلق؟ كم من البراهين كشفت حياته على أن قصد الله قد تحقق فيه؟ لقد حصل على الكثير، ولكن كان بإمكانه أن يحصل على ما هو أكثر لو كان أمينًا للنعمة التي منحت له. لا توجد شخصية في الكُتب المقدسة مخيبة للآمال من شخصية سليمان.” كلارك (Clarke)
ثانيًا. مثال على حكمة سليمان العظيمة
أ ) الآيات (١٦-٢٢): امرأتان تشاجرتا بشأن طفل.
١٦حِينَئِذٍ أَتَتِ امْرَأَتَانِ زَانِيَتَانِ إِلَى الْمَلِكِ وَوَقَفَتَا بَيْنَ يَدَيْهِ. ١٧فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ: «اسْتَمِعْ يَا سَيِّدِي. إِنِّي أَنَا وَهذِهِ الْمَرْأَةُ سَاكِنَتَانِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ وَلَدْتُ مَعَهَا فِي الْبَيْتِ. ١٨وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ بَعْدَ وِلاَدَتِي وَلَدَتْ هذِهِ الْمَرْأَةُ أَيْضًا، وَكُنَّا مَعًا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَنَا غَرِيبٌ فِي الْبَيْتِ غَيْرَنَا نَحْنُ كِلْتَيْنَا فِي الْبَيْتِ. ١٩فَمَاتَ ابْنُ هذِهِ فِي اللَّيْلِ، لأَنَّهَا اضْطَجَعَتْ عَلَيْهِ. ٢٠فَقَامَتْ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ وَأَخَذَتِ ابْنِي مِنْ جَانِبِي وَأَمَتُكَ نَائِمَةٌ، وَأَضْجَعَتْهُ فِي حِضْنِهَا، وَأَضْجَعَتِ ابْنَهَا الْمَيْتَ فِي حِضْنِي. ٢١فَلَمَّا قُمْتُ صَبَاحًا لأُرَضِّعَ ابْنِي، إِذَا هُوَ مَيْتٌ. وَلَمَّا تَأَمَّلْتُ فِيهِ فِي الصَّبَاحِ، إِذَا هُوَ لَيْسَ ابْنِيَ الَّذِي وَلَدْتُهُ». ٢٢وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ الأُخْرَى تَقُولُ: «كَلاَّ، بَلِ ابْنِيَ الْحَيُّ وَابْنُكِ الْمَيْتُ». وَهذِهِ تَقُولُ: «لاَ، بَلِ ابْنُكِ الْمَيْتُ وَابْنِيَ الْحَيُّ». وَتَكَلَّمَتَا أَمَامَ الْمَلِكِ.
١. حِينَئِذٍ أَتَتِ امْرَأَتَانِ زَانِيَتَانِ إِلَى الْمَلِكِ وَوَقَفَتَا بَيْنَ يَدَيْهِ: يُعد هذا الموقف شهادة رائعة عن صلاح سليمان وكرمه. فلا نرى الكثير من الملوك يقضون أوقاتهم في تسوية نزاع بين زانيتين.
• ومع ذلك، يعتقد بعضهم أن الزانيتين لم تكونا زانيتين على الإطلاق. ” يمكن أن تُشير كلمة ’زنت‘ بالعبرية إلى صاحبة خان.” وايزمان (Wiseman).
٢. «ابْنُكِ الْمَيْتُ وَابْنِيَ الْحَيُّ»: تبدو هذه مشكلة صعبة للغاية يصعب حلها. فكانت المسألة كلمة زانية ضد أخرى، إذ لم يكن هناك شاهد على الأحداث (وَلَمْ يَكُنْ مَعَنَا غَرِيبٌ فِي الْبَيْتِ غَيْرَنَا).
ب) الآيات (٢٣-٢٧): حل سليمان الحكيم.
٢٣فَقَالَ الْمَلِكُ: «هذِهِ تَقُولُ: هذَا ابْنِيَ الْحَيُّ وَابْنُكِ الْمَيْتُ، وَتِلْكَ تَقُولُ: لاَ، بَلِ ابْنُكِ الْمَيْتُ وَابْنِيَ الْحَيُّ». ٢٤فَقَالَ الْمَلِكُ: «اِيتُونِي بِسَيْفٍ». فَأَتَوْا بِسَيْفٍ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ. ٢٥فَقَالَ الْمَلِكُ: «اشْطُرُوا الْوَلَدَ الْحَيَّ اثْنَيْنِ، وَأَعْطُوا نِصْفًا لِلْوَاحِدَةِ وَنِصْفًا لِلأُخْرَى». ٢٦فَتَكَلَّمَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي ابْنُهَا الْحَيُّ لِلْمَلِكِ، لأَنَّ أَحْشَاءَهَا اضْطَرَمَتْ عَلَى ابْنِهَا، وَقَالَتِ: «اسْتَمِعْ يَا سَيِّدِي. أَعْطُوهَا الْوَلَدَ الْحَيَّ وَلاَ تُمِيتُوهُ». وَأَمَّا تِلْكَ فَقَالَتْ: «لاَ يَكُونُ لِي وَلاَ لَكِ. اُشْطُرُوهُ». ٢٧فَأَجَابَ الْمَلِكُ وَقَالَ: «أَعْطُوهَا الْوَلَدَ الْحَيَّ وَلاَ تُمِيتُوهُ فَإِنَّهَا أُمُّهُ».
١. «اِيتُونِي بِسَيْفٍ»: بدا حل سليمان في البداية حلًا غبيًا، بل خطيرًا. لم تُفهم حكمة منهجه إلا عندما تمت تسوية الأمر.
• وبنفس الطريقة، غالبًا ما تبدو أعمال الله – حتى أحكامه – غريبة أو خطيرة أو حتى غير معقولة. إلا أن مرور الوقت يُظهر أنها حكمة كاملة.
• كتب تراب (Trapp) تعليقًا على جملة ’احضر لي السيف‘: “لأي سبب طلب السيف؟ ربما هكذا فكر الواقفون هناك وتساءلوا وربما ضحكوا ما بينهم. إذ تشبه تصرفات الأمراء الحكماء الألغاز للعامة البسطاء. ولا يمكن لقدرات الجماهير الضحلة أن تفهم أفكار السلطة العميقة.”
٢. لأَنَّ أَحْشَاءَهَا اضْطَرَمَتْ عَلَى ابْنِهَا: تبرهنت مشاعر الأمومة الحقيقية بالحب. فالأم الحقيقة تُفضّل أن يعيش الطفل من دونها على أن يموت معها. فهي تضع مصلحة طفلها وسعادته فوق مصلحتها الشخصية.
٣. فَإِنَّهَا أُمُّهُ: عَلِم سليمان أن فكرة قطع الطفل نصفين سيكشف عن الأم الحقيقية، وقد كافأ محبة الأم الحقيقة وفقاً لذلك.
ج) الآية (٢٨): يحظى سليمان بتقدير كبير بين الشعب.
٢٨وَلَمَّا سَمِعَ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ بِالْحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْمَلِكُ خَافُوا الْمَلِكَ، لأَنَّهُمْ رَأَوْا حِكْمَةَ اللهِ فِيهِ لإِجْرَاءِ الْحُكْمِ.
١. وَلَمَّا سَمِعَ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ: لا يمكن إخفاء قرار حكيم مثل هذا. فسرعان ما عُرِف الأمر في جميع أنحاء المملكة.
٢. خَافُوا الْمَلِكَ، لأَنَّهُمْ رَأَوْا حِكْمَةَ اللهِ فِيهِ لإِجْرَاءِ الْحُكْمِ: رأى شعب إسرائيل أن سليمان كان يملك الحكمة والشجاعة لفعل الشيء الصحيح كقائد، ما جعلهم يترددون في عصيان قوانين الملك.
• أحب المعلمون اليهود تجاوز ما تقوله الكتب المقدسة عن حكمة سليمان وكانوا يخلقون الأساطير. يقتبس جينزبيرغ (Ginzberg) قصة عن حكمة سليمان عندما أظهر روح شرير له شيئًا لم يرَه من قبل. أحضر الشيطان شخصًا من نسل قايين من الأرض، ورأى سليمان على الفور أن لديه رأسين. وعندما أراد العودة إلى مسكنه في أعماق الأرض، لم يتمكن من ذلك. فتزوج وأنجب سبعة أبناء، كان لأحدهم رأسان أيضًا. وعند موت الأب – ذي الرأسين، طالب الابن ذو الرأسين بنصيب مضاعف من الميراث، لكن اعتقد إخوته الستة أنه يجب أن يحصل على نصيب واحد فقط. لم يستطع السنهدريم أن يحكموا في القضية، فصَلّى سليمان من أجل الحكمة وأخيرًا سكب الماء الساخن على أحدى الراسين. وعندما فعل ذلك، انكمش الرأسان وصرخا، ومن هذا استنتج سليمان أنهما شخص واحد، وليسا اثنين، وينبغ أن يكون لهما نصيب واحد فقط من الميراث.