ملوك الأول ٥
الاستعدادات لبناء الهيكل
أولًا. ترتيبات سليمان مع حِيرَام مَلِك صُور
أ ) الآيات (١-٦): رسالة سليمان إلى حِيرَام مَلِك صُور
١وَأَرْسَلَ حِيرَامُ مَلِكُ صُورَ عَبِيدَهُ إِلَى سُلَيْمَانَ، لأَنَّهُ سَمِعَ أَنَّهُمْ مَسَحُوهُ مَلِكًا مَكَانَ أَبِيهِ، لأَنَّ حِيرَامَ كَانَ مُحِبًّا لِدَاوُدَ كُلَّ الأَيَّامِ. ٢فَأَرْسَلَ سُلَيْمَانُ إِلَى حِيرَامَ يَقُولُ: ٣«أَنْتَ تَعْلَمُ دَاوُدَ أَبِي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا لاسْمِ الرَّبِّ إِلهِهِ بِسَبَبِ الْحُرُوبِ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِ، حَتَّى جَعَلَهُمُ الرَّبُّ تَحْتَ بَطْنِ قَدَمَيْهِ. ٤وَالآنَ فَقَدْ أَرَاحَنِيَ الرَّبُّ إِلهِي مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ فَلاَ يُوجَدُ خَصْمٌ وَلاَ حَادِثَةُ شَرّ. ٥وَهأَنَذَا قَائِلٌ عَلَى بِنَاءِ بَيْتٍ لاسْمِ الرَّبِّ إِلهِي كَمَا كَلَّمَ الرَّبُّ دَاوُدَ أَبِي قَائِلاً: إِنَّ ابْنَكَ الَّذِي أَجْعَلُهُ مَكَانَكَ عَلَى كُرْسِيِّكَ هُوَ يَبْنِي الْبَيْتَ لاسْمِي. ٦وَالآنَ فَأْمُرْ أَنْ يَقْطَعُوا لِي أَرْزًا مِنْ لُبْنَانَ، وَيَكُونُ عَبِيدِي مَعَ عَبِيدِكَ، وَأُجْرَةُ عَبِيدِكَ أُعْطِيكَ إِيَّاهَا حَسَبَ كُلِّ مَا تَقُولُ، لأَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَنَا أَحَدٌ يَعْرِفُ قَطْعَ الْخَشَبِ مِثْلَ الصِّيْدُونِيِّينَ».
١. لأَنَّ حِيرَامَ كَانَ مُحِبًّا لِدَاوُدَ كُلَّ الأَيَّامِ: كان داود محاربًا قويًا ضد أعداء إسرائيل. لكنه لم يعُد كل دولة مجاورة عدوًا. فقد بنى داود بحكمة تحالفات وصداقات مع بعض الدول المجاورة، واستفاد سليمان من ذلك أيضًا.
• “اسم حيرام هو اختصار لاسم أحيرام، ويعني ’أخا رام،‘ أو ’أخي مُعَظّمٌ،‘ أو ’أخا ذاك المعظّم.‘ وقد اكتشف علماء الآثار تابوتًا ملكيًا في جبيل التابعة لصُور يعود تاريخه إلى عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، منقوشًا عليه اسم الملك أحيرام. ويبدو أن التابوت يخص الملك المذكور هنا.” ديلداي (Dilday)
• فَأَرْسَلَ سُلَيْمَانُ إِلَى حِيرَامَ: “يقول يوسيفوس إن الرسائل المتبادلة بين حيرام وسليمان كانت محفوظة في أرشيفات عبرية وصورية، وكانت موجودة حتى أيامه.” ديلداي (Dilday)
٢. أَنْتَ تَعْلَمُ دَاوُدَ أَبِي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا لاسْمِ الرَّبِّ إِلهِهِ: يبين هذا أن داود شارك حيرام بأمور روحية، أشياء ربما نعتقد أنه لن يفهمها أو كان مهتمًا بها. ويبدو من جهة أخرى أن داود تكلم مع حيرام وكأنه مؤمن بإله إسرائيل.”
• يتناول هذا الإصحاح جهود سليمان للحصول على المواد اللازمة لبناء الهيكل. كان داود مهتمًا بالفعل بهذا العمل وجمع الكثير من الإمدادات اللازمة لبناء الهيكل (٢ أخبار الأيام ٢٢: ٤).
٣. حَتَّى جَعَلَهُمُ الرَّبُّ تَحْتَ بَطْنِ قَدَمَيْهِ: يشير تعبير ’جَعَلَهُمُ الرَّبُّ تَحْتَ بَطْنِ قَدَمَيْهِ‘ إلى فعل رمزي يقصد به إذلال وهزيمة الأعداء. وفي الفن المعاصر، غالبًا ما كان يصور الأعداء تحت قدم المنتصر (كما في مزمور ١١٠: ١).” وايزمان (Wiseman)
٤. فَلاَ يُوجَدُ خَصْمٌ وَلاَ حَادِثَةُ شَرّ: معنى كلمة ’خَصْمٌ‘ حرفيًا الشيطان. وقد استخدمت الترجمة اللاتينية، الفولجاتا، الجملة: ’ولا يوجد شيطان.‘
٥. وَهأَنَذَا قَائِلٌ عَلَى بِنَاءِ بَيْتٍ لاسْمِ الرَّبِّ إِلهِي (أنَا نَوَيتُ أنْ أبنِيَ ذَلِكَ البَيْتَ لِأُكرِمَ اسْمَ إلَهِي): لم يبنِ سليمان الهيكل سعيًا وراء الصيت والشهرة، بل ليُكرم الإله الحي. وهذا مَثَل جيد لتجنب الإشارة المباشرة لاسم الله في الكتابات العبرية وأثناء الكلام. وقد فعلوا هذا تبجيلًا لله.
• استخدم سليمان هذه العبارة أيضًا ليشرح لحيرام أن الهيكل سيكون بيت الله بطريقة تختلف تمامًا عما يعتقده الوثنيون. “تختلف جملة ’بَيْتًا لاسْمِ الرَّبِّ إِلهِي‘ تمامًا عن جملة ’بيتًا للرب.‘ لقد قصد بناؤو المعابد الوثنية أن يكون الهيكل أو المبنى مكان الإقامة الفعلي للإله، ولكن عرف سليمان أن سماء السموات لا يمكن أن تسعه، ناهيك عن هذا المنزل الذي كان على وشك بنائه.” ماكلارين (Maclaren)
٦. أَنْ يَقْطَعُوا لِي أَرْزًا مِنْ لُبْنَانَ: كان شجر الأرز في لبنان مميزًا ومشهورًا جدًا بسبب نوعيته الممتازة. ويعني هذا أن سليمان أراد بناء الهيكل مستخدمًا أفضل المواد الممكنة.
• • “اشتهر سكان صيدا بمهارتهم بقطع الأخشاب في العالم القديم. وهذه حقيقة مثبتة على حجر باليرمو الشهير. وتخبرنا الكتابات على الحجر من عام ٢٢٠٠ قبل الميلاد عن السفن التي أبحرت من جبيل إلى مصر حاملة الأخشاب قبل حوالي أربعمائة عام. أظهر الصيداويون مهارتهم في انتقاء أنسب الأشجار، ومعرفة الوقت المناسب لقطعها، وكيفية إسقاطها بعناية، وممعالجة جذوع الأشجار بشكل صحيح.” ديلداي (Dilday)
• • ويعني هذا أيضًا أن سليمان كان على استعداد لبناء هذا الهيكل العظيم لله باستخدام خشب الأمم وأيديهم العاملة. كان هذا هيكلًا لإله إسرائيل، لكنه لم يكن لإسرائيل فقط. بنى اليهود خيمة الاجتماع بمفردهم، “غير أن الهيكل لم يُبنَ من دون مساعدة من صور الأممية. هم، ونحن معهم، نُشكل كنيسة الله.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٧-١٢): رد حيرام على سليمان.
٧فَلَمَّا سَمِعَ حِيرَامُ كَلاَمَ سُلَيْمَانَ، فَرِحَ جِدًّا وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الْيَوْمَ الرَّبُّ الَّذِي أَعْطَى دَاوُدَ ابْنًا حَكِيمًا عَلَى هذَا الشَّعْبِ الْكَثِيرِ». ٨وَأَرْسَلَ حِيرَامُ إِلَى سُلَيْمَانَ قَائِلاً: «قَدْ سَمِعْتُ مَا أَرْسَلْتَ بِهِ إِلَيَّ. أَنَا أَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِكَ فِي خَشَبِ الأَرْزِ وَخَشَبِ السَّرْوِ. ٩عَبِيدِي يُنْزِلُونَ ذلِكَ مِنْ لُبْنَانَ إِلَى الْبَحْرِ، وَأَنَا أَجْعَلُهُ أَرْمَاثًا فِي الْبَحْرِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُعَرِّفُنِي عَنْهُ وَأَنْقُضُهُ هُنَاكَ، وَأَنْتَ تَحْمِلُهُ، وَأَنْتَ تَعْمَلُ مَرْضَاتِي بِإِعْطَائِكَ طَعَامًا لِبَيْتِي». ١٠فَكَانَ حِيرَامُ يُعْطِي سُلَيْمَانَ خَشَبَ أَرْزٍ وَخَشَبَ سَرْوٍ حَسَبَ كُلِّ مَسَرَّتِهِ. ١١وَأَعْطَى سُلَيْمَانُ حِيرَامَ عِشْرِينَ أَلْفَ كُرِّ حِنْطَةٍ طَعَامًا لِبَيْتِهِ، وَعِشْرِينَ كُرَّ زَيْتِ رَضٍّ. هكَذَا كَانَ سُلَيْمَانُ يُعْطِي حِيرَامَ سَنَةً فَسَنَةً. ١٢وَالرَّبُّ أَعْطَى سُلَيْمَانَ حِكْمَةً كَمَا كَلَّمَهُ. وَكَانَ صُلْحٌ بَيْنَ حِيرَامَ وَسُلَيْمَانَ، وَقَطَعَا كِلاَهُمَا عَهْدًا.
١. مُبَارَكٌ الْيَوْمَ الرَّبُّ: لا نستطيع أن نجزم إن كان حيرام رجلًا مخلَّصًا أم لا. لكن من المؤكد أنه كان يوقّر إله إسرائيل. ولا شك أن هذا يعود إلى تأثير داود التقي في حيرام.
٢. وَأَنْتَ تَعْمَلُ مَرْضَاتِي بِإِعْطَائِكَ طَعَامًا لِبَيْتِي: عرض سليمان على حيرام أن يعطيه ما يشاء مقابل الأخشاب التي أخذها لبناء الهيكل (١ ملوك ٥: ٦). لم يستغل حيرام الموقف، وطلب فقط الطعام لبيته.
• في الوقت ذاته، توقع حيرام أن يتقاضى أجره. فلم تكن خدمته وخدمة شعبه هبة أو تضحية. “يشارك عدد كبير من الأشخاص في أعمال دينية، ويتحدثون عنها وكأنها شيء يخصهم، ولكنهم يفكرون أيضًا في مصلحتهم. ولكن الرجل الذي يخدم الله ليتقاضى أجرًا فقط لا يخدم الله حقًا.” ماكلارين (Maclaren)
٣. وَكَانَ صُلْحٌ بَيْنَ حِيرَامَ وَسُلَيْمَانَ: سليمان بحكمته – المعطاة له من الله – حافظ على علاقة ودية بين اسرائيل ولبنان.
ثانيًا. القوى العاملة
أ ) الآيات (١٣-١٤): القوى العاملة المكونة من بني إسرائيل.
١٣وَسَخَّرَ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ مِنْ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ، وَكَانَتِ السُّخَرُ ثَلاَثِينَ أَلْفَ رَجُل. ١٤فَأَرْسَلَهُمْ إِلَى لُبْنَانَ عَشْرَةَ آلاَفٍ فِي الشَّهْرِ بِالنَّوْبَةِ. يَكُونُونَ شَهْرًا فِي لُبْنَانَ وَشَهْرَيْنِ فِي بُيُوتِهِمْ. وَكَانَ أَدُونِيرَامُ عَلَى التَّسْخِيرِ.
١. وَكَانَتِ السُّخَرُ ثَلاَثِينَ أَلْفَ رَجُل: يُظهر العدد الضخم من العُمال بأنه لا يمكن بناء الهيكل إلا عندما تكون إسرائيل قادرة على توفير القوى العاملة والمواد. وأنه لا يمكن بناء الهيكل إلا في ظل السلام والازدهار اللذين حاز عليهما داود وتمتع بهما سليمان.
٢. وَكَانَ أَدُونِيرَامُ عَلَى التَّسْخِيرِ: كانت حكمة سليمان واضحة في الطريقة التي أدار بها هذا العدد الهائل من العُمال. أولًا، فوض المسؤولية بحكمة إلى رجال مثل أَدُونِيرَام. ثانيًا، بدلًا من العمل من دون توقف وبعيدًا عن موطنهم وعائلاتهم، جعلهم يعملون في مناوبات.
ب) الآيات (١٥-١٨): القوى العاملة المكونة من العبيد.
١٥وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا يَحْمِلُونَ أَحْمَالاً، وَثَمَانُونَ أَلْفًا يَقْطَعُونَ فِي الْجَبَلِ، ١٦مَا عَدَا رُؤَسَاءَ الْوُكَلاَءِ لِسُلَيْمَانَ الَّذِينَ عَلَى الْعَمَلِ ثَلاَثَةَ آلاَفٍ وَثَلاَثَ مِئَةٍ، الْمُتَسَلِّطِينَ عَلَى الشَّعْبِ الْعَامِلِينَ الْعَمَلَ. ١٧وَأَمَرَ الْمَلِكُ أَنْ يَقْلَعُوا حِجَارَةً كَبِيرَةً، حِجَارَةً كَرِيمَةً لِتَأْسِيسِ الْبَيْتِ، حِجَارَة مُرَبَّعَةً. ١٨فَنَحَتَهَا بَنَّاؤُو سُلَيْمَانَ، وَبَنَّاؤُو حِيرَامَ وَالْجِبْلِيُّونَ، وَهَيَّأُوا الأَخْشَابَ وَالْحِجَارَةَ لِبِنَاءِ الْبَيْتِ.
١. سَبْعُونَ أَلْفًا يَحْمِلُونَ أَحْمَالاً، وَثَمَانُونَ أَلْفًا يَقْطَعُونَ فِي الْجَبَلِ: يبدو أن هذا يصف عدد العبيد الكنعانيين الذين استخدمهم سليمان.
• يروي جينزبيرغ (Ginzberg) بعض الأساطير المتعلقة ببناء الهيكل: “أثناء السبع سنوات التي استغرقها بناء الهيكل، لم يمت عامل واحد كان يعمل فيه، بل لم يمرض أحد منهم. فكان العمال معافين وأقوياء من البداية حتى النهاية. وبقيت حتى أدواتهم سليمة حتى اكتمال المبنى. وهكذا لم يتعطل العمل بأي شكل من الأشكال.”
٢. مَا عَدَا رُؤَسَاءَ الْوُكَلاَءِ لِسُلَيْمَانَ الَّذِينَ عَلَى الْعَمَلِ ثَلاَثَةَ آلاَفٍ وَثَلاَثَ مِئَةٍ: كان هؤلاء هم المشرفين على سير عملية البناء.
٣. حِجَارَةً كَرِيمَةً: يعني هذا حرفيًا حجارة عالية الجودة وثمينة، ما يدل على أن سليمان استخدم أثمن المواد حتى في الأساس الذي لا يمكن لأحد أن يراه.
• يشير هذا إلى الطريقة التي يجب أن نخدم بها في ملكوت الله. فنحن لا نعمل من أجل المظهر فقط، بل لنتميز في الأشياء العميقة والمخفية. “أيها الأصدقاء الأعزاء، نريد أن نقوم بخدمتنا من أجل الله بكل دقة، ولا سيما الأمور الخفية التي لا يلاحظها البشر.” سبيرجن (Spurgeon)
• تتكلم هذه الآيات عن طريقة عمل الله فينا. يهتم الله بالأمور الدفينة، بينما يهتم الإنسان بالمظاهر. “لقد كنا موضوع عمل عظيم سري غير منظور. أغْدَقَ الله علينا برعاية فائقة. ألا ترغب يا أخي العزيز في الكشف عن عمليات البحث العظيمة التي أجراها الله في قلبك؟ لقد أُكرمتَ علنًا. إن حدث ذلك فعلًا، لا بد أنك تعرضت للجلد في الخفاء لئلا تفتخر بجسدك… كان كل تأديب، وإذلال، وفحص للقلب بمثابة حجر أساس لأشياء أسمى.” سبيرجن (Spurgeon)
• تشير هذه الآيات إلى الطريقة التي يبني بها الله الكنيسة. يريد الله أن يعمل على أساسات عميقة قوية بدلًا من العمل على عمل ضخم بعمق ضعيف. “للحفاظ على الحق الثابت، تحتاج إلى أشخاص ثابتين وراسخين روحيًا. ولهذا علينا أن نسعى وراء التقوى الواضحة في الآخرين. يجاهر عشرون ألف شخصًا بالإيمان مجاهرة فقط، لكنهم يعيشون كأموات، وربما لا يملكون النعمة الكافية ليشكلوا عشرين ألف مؤمنًا راسخًا قويًا. يحول المؤمنون الضعفاء روحيًا الكنيسة إلى مستشفى بدلًا من معسكر.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. وَالْجِبْلِيُّونَ… هَيَّأُوا الأَخْشَابَ وَالْحِجَارَةَ لِبِنَاءِ الْبَيْتِ: “يفترض بعضهم أن هؤلاء الجبليين كانوا من سكان جبيل، عند سفح جبل لبنان، شمال صيدا، على ساحل البحر الأبيض المتوسط.” كلارك (Clarke)